أقلام فكرية

علي محمد اليوسف: الزمكان الفلسفي ولعبة القط والفأر

لعل من المثير ان يكون هنري برجسون الفيلسوف الفرنسي الحائز على جائزة نوبل بالادب هو اول من اشار الى اننا ندرك المكان بسلسلة منظومة العقل الادراكية بدءا بالحواس وشبكة الاعصاب انتهاءا بالدماغ او الجزء منه المخ ولا ندرك ملازمة الزمن له لا متصلا به في ثنائية موحدة غير قابلة للانفكاك ولا مستقلا عن المكان موضوعا يدركه العقل..

ادراكنا المكان على افتراض زمن يلازمه خطأ فلسفي متناقل لم تثبت واقعيته المدركة. اننا ندرك المكان بدلالة زمانية تشكلان وحدة ثنائية زمكانية لا انفكاك بينهما.. وبهذا المعنى يكون هنري برجسون ألغى الزمكان كوحدة ثنائية لا يمكن تفكيكها الى زمان مستقل ومكان منفصل. وقال ادراك المكان وحده لا يلزمنا القول بادراك زمن يلازمه ...

برجسون الغى الزمكان ايضا على صعيدين آخرين انه ليس مادة مستقلة الوجود بابعاد هندسية فيزيائية يدركها العقل وليس الزمكان فراغا احتوائيا استيعابيا خارج العقل كما تذهب له العلوم المعاصرة المرتبطة بفيزياء انشتاين والنسبية العامة.

السؤال هل الزمكان وجود قبلي على الادراك العقلي ام هو وجود مستقل خارج العقل بعدي عليه هو من ابتداع العقل كوسيلة التفتيش عن كيفية الادراك العقلي للاشياء فلسفيا وليس علميا فيزيائيا كما فعل كانط دوجماطيقيا في تقديمه افتعاليا النتيجة على السبب حين قال الادراك هو زمكان فطري يمتلكه العقل في ادراكه موجودات الوجود؟.

الزمن والوعي

الزمن يسبق الوعي ويزامنه فرضية فلسفية صحيحة. اما ان يسبق الوجود المكاني للطبيعة الزمن كما يجد ذلك افلاطون فهو امر مشكوك به في تحديد الاسبقية الوجودية للزمن ام للطبيعة؟ علاقة الوعي بالزمن تجمع تجريدين غير متجانسين مختلفين في الماهية  والصفات. يمكننا القول الزمن يستبق الوعي من حيث الوعي لا يكون ملزما بحاجة الزمن في تحققه مدركات العقل. ما يترتب عليه ان مدركاتنا المكانية في الوجود هي ادراك لزمكان ثنائي يحضر الزمن فيه افتراضا وربما حضورا وهميا لا وجود له يفتقد اثباته.

ادراكاتنا المكان لا علاقة زمنية لها بها الا في حال كانت رغبتنا توثيق زمن تلك الادراكات المكانية في انتقالاتها الحركية من حيث علاقة المكان بالمسافة والسرعة والجاذبية والكتلة وغيرها. لا يوجد تمظهر زماني يلازم المكان ولا يدركه العقل يتم بارادة ذاتية للزمن لا يمتلكها  او بحضور استدعائي افتراضي للزمن لا ندركه نحن ايضا لا متداخلا مع ادراكنا المكان ولا مستقلا محايدا عنه..

حين اراد فرويد صياغة علاقة الوعي بالزمن قال (اللاوعي – وليس الوعي – لا يحتاج الزمن) بمعنى اللاشعور حتى غير المرضي الانفصامي كما هو في احلام الانسان الطبيعية اثناء النوم, فهو يرى تداعيات الامكنة والانتقالات الزمانية بالاحلام وتداخلهما لا تحدّها سطوة شعور العقل لوقائع تلك الاحلام منتظمة ضمن سياق منطقي مترابط كما يجري مع العقل في تنظيمه عشوائية المكان في قدرات الشعور بحياة اليقظة.

ولا سطوة للزمن على احلام اللاشعور اثناء النوم الطبيعي. فالزمن لا يمتلك قابلية تنظيمه عشوائية مدركات اللاشعور الحلمي.كما لا سطوة للعقل تلازم احلام اللاشعور في تداعياتها الاعتباطية الانتقالية العشوائية ولا قدرة التدخل القيام بتنظيمها اثناء النوم.

اذن لماذا بعد انكار حقيقة وجود الزمن في اللاشعورلا ننكره في الشعور اي في الوعي ايضا؟ كما ذهب له برجسون ويتداوله حاليا بعض فلاسفة وعلماء الفيزياء. لا علاقة ادراكية عقلية تجمع الزمكان في ثنائية واحدة على اعتبار ادراكنا المكان لا يقوم على مزامنة ثابتة مع حضور الزمان كدلالة وليس موضوعا. مشروطية ادراكنا المكان لا يلزم عنها مشروطية ملازمة الزمان له وهذا طرح مخالف مناقض لما اعتادته الفلسفة عبر قرون ويتمسك به علم الفيزياء المعاصرين منذ سنين ايضا.. بأن ثنائية الزمكان وحدة ادراكية للعقل.

لقد سبق لافلاطون في محاولته الخلاص من ازدواجية تعالق المكان بالزمان انه اعتبرهما ثنائية ليست موحدة كما ولا توجد علاقة سببية تجمع بينهما اننا بدلالة المكان ندرك الزمان وبالعكس بدلالة الزمن ندرك المكان.

كان افلاطون وضّح علاقة الزمن بالطبيعة (المكان) بمفهوم تحده الطبيعة وليس علاقة ادراكانا مفهوم الوجود الارضي في توزّع وتنوّع موجوداته. الوجود مفهوم ميتافيزيقي لا معنى له من غير معرفة محتوياته المدركة داخله.

افلاطون اعتبر اسبقية المكان اي الطبيعة كمعطى اسبق وجودا على الزمان من دون اثبات فلسفي ولا اثبات علمي فيزيائي لم يكن متوفرا في عصره لما ذهب له. اذن لماذا لا يكون العكس الزمن الازلي اقدم من الوجود والطبيعة جزء من ذلك الوجود الكوني وهو ايضا لا اثبات عليه ؟ ازلية كلا من الزمن اللانهائي تلتقي ازلية الوجود اللانهائي وكلاهما غير مدركين لا بالاثبات الفيزيائي ولا بتفكير العقل المجرد المحدود القدرة.

لذا سبق لافلاطون قوله اننا بدلالة انتظام المكان ننّظم عشوائية الزمان. وكان يقصد افلاطون بالمكان الطبيعة التي تحكمها قوانين ثابتة لم يكن قد اكتشفها عصره بعد ولا يعرف آلية عملها عصر افلاطون وقتذاك. افلاطون اعتبر خلود المكان مطلقا وجوهرا يسبق خلوده التفكير بخلود الزمن وهذه اشكالية ايضا تحتاج البرهنة على صحتها فلسفيا على الاقل رغم أن كلا الخلودين للطبيعة او للزمان امر مشكوك به  يحتاج البرهنة عليه بغير وسائل الميتافيزيقا التي تستبعد العقل وتبقى الامور متارجحة بين التصديق الغيبي والرفض المنطقي العقلي لها..

ايضا قال ديكارت بعد افلاطون الى ان العقل والنفس جوهران خالدان وهو استنتاج فلسفي ميتافيزيقي لا يستحق الوقوف عنده باستثناء انه كان يقصد بالعقل هو التفكير غير الفيزيائي اي غير العضوي الذي ماهيته المعرفة والافكار يكون عندها ديكارت مصيبا ان العقل جوهر خالد لايفنى لانه فكر معرفي لا يطاله العدم بالفناء لانه خلوده ليس بيولوجيا..

كما كان ديكارت يتعمّد عدم التفريق فلسفيا ولا نفسيا ولا بيولوجيا بين الروح والنفس. والعديد من الفلاسفة اقتفوا اثره بهذه القناعة الخاطئة التي سبق لي اوضحتها بمقال منشور لي لا مجال تكراره.

فرويد كان يرى في المكان هو المادة المتعيّنة بابعاد هندسية فيزيائية ثلاثة متفق عليها قبل اضافة انشتاين لها البعد الرابع الزمن. والمكان ثابت من دون سبب خارجي يحركه. رغم ان علم الفيزياء المتطور حديثا اكد ان الحركة الدائبة تحكم المادة في كل اشكال وجودها وتحولاتها وانتقالاتها الا انها اي المادة تفتقد قدرة الانتقال من حالة الثبات الحسي الى حالة اخرى بقواها الحركية الذاتية الداخلية.

اي لا بد من وجود محرك خارجي يحركها. كان يرى افلاطون في الزمان عشوائية لا يحكمها انتظام لذا قال بدلالة انتظامية الطبيعة بقوانينها الثابتة التي كان يجهلها عصره هي التي تقوم بتخليص الزمان من عشوائيته غير النظامية. واعتبر افلاطون الطبيعة اقدم على الزمن.

كما وجد افلاطون نظام الطبيعة مصنوعا بقدرة عجائبية خارقة محكومة بقوانين ثابتة لا يدركها العقل جميعها فلابد لهذه القوانين الطبيعية ان تحكم تنظيم عشوائية الزمن غير المدركة عقليا ايضا. نهائية الطبيعة المدركة عقليا لا تمنح مطلق الزمان اللانهائي احتمالية الادراك له. ثم لا يتوفر الدليل على ان الزمن جوهر مطلق تسوده العشوائية اللانظامية.

لو نحن اخذنا هذا التفسير الافلاطوني اسقاطيا ميكانيكيا على تفكيرنا لخرجنا بنتيجة احتمالية لا برهان يؤكدها ان الزمان مطلق حركي لا تدركه عقولنا والمكان مدرك عقلي بابعاده المادية الهنسية الفيزيائية الثلاث الطول , العرض, الارتفاع وليس في مشروطية ملازمة الزمن له كما اثبت انشتاين في النسبية العامة..

اسبينوزا واشكالية الزمكان

ذهب اسبينوزا في منحى اكثر غرابة فلسفية قوله اننا بدلالة ازلية الجوهر الخالق الذي لا يتقدمه مخلوق ولا تدركه عقولنا المحدودة انما هو وسيلة ادراك بدلالته ندرك جواهر الاشياء بالطبيعة. وكلا الجوهرين الجوهر الالهي الازلي المطلق الذي لا يتقدمه جوهر, والجوهر النسبي المادي المتعيّن بابعاد ومظاهر تتوزعها موجودات الطبيعة كلاهما جوهران لا يدركهما العقل. هنا اقصد (الجوهر) ولا اقصد (الوجود) فالمفهومين يختلفان ادراكيا..

اسبينوزا لم يتعامل مع الزمكان فيزيائيا بل تعامل معه ميتافيزيقيا فلسفيا. كذلك ركّز جلّ اهتمامه حول علاقة الوعي بمذهب وحدة الوجود بعيدا عن العلم والصوفية الدينية القائمة على المعجزات التي ادانها. فيورباخ كان صوفيا لا دينيا ليس على الطريقة الاسبينوزية بل على طريقة المنهج الصوفي المادي التأملي فقد كان مأخوذا بالطبيعة بحب لا نظير له حسب ما كتبه برسالة لابيه يعلمه بها تركه دراسة اللاهوت لانه يذوب عشقا بالطبيعة علما انه شاعرله كتابات شعرية ذات طابع فلسفي. كما كان افلاطون شاعرا ايضا ومصارعا وعديد من الفلاسفة كانوا شعراء..

كما لم ياخذ فيورباخ بمذهب وحدة الوجود في الطبيعة عن اسبينوزا بل اخذ المنحى المادي عن ديالكتيك هيجل المثالي في مركزية الانسان والطبيعة والاله فقد اعتبرهم ثلاثتهم جوهرا واحدا من اختراع علاقة الانسان بالطبيعة.  واصدر ثلاثة كتب بهذا المنحى لعل اهمها كتابيه اصل الدين وكتاب جوهر المسيحية ما اثار حفيظة ماركس وانجلز زميلاه عليه واصدرا كتابا ينددان بافكار فيورباخ الصوفية الطبيعية خاصة حول كتابه الثاني المثير للجدل الفلسفي اصل الدين.., كان فيورباخ فيلسوفا ماديا يمزج ما بين مادية الطبيعة والدين. فاخذ ماركس عنه النزعة المادية الفلسفية وترك له الدين. وبقي فيورباخ فيلسوفا صوفيا بمنهج مادي لا ديني لاهوتي. واعتبر الانسان والطبيعة والدين جوهرا واحدا مركزه الانسان الروحاني في علاقته بالطبيعة والميتافيزيقا.

سورين كيركجورد والعقل

اثرّت الخلفية اللاهوتية العميقة التي وقع في براثنها سورين كيركجورد الفيلسوف الدنماركي الذي توفي في الثلاثينيات من عمره ذو الميول والنزعة الوجودية قبل ظهور وجودية هوسرل وسارتر وهيدجر ومارسيل جبريل وغيرهم. وقف كيركجارد نتيجة تزمته الديني معارضا شديدا رافضا العلم والعقل معا. في رغبته التبشير بما كان يشغل نزعته الفلسفية الايمانية الدينية التي تهاجم اللاهوت والمعجزات ولا تكفر بجوهر الدين على انه منظومة روحية اخلاقية لا تحتاج وسيطا بين الخالق والمخلوق في تنظيم الحياة على اسس من الحرية والاختيار في ضمان الحقوق الانسانية الاساسية للفرد والمجتمع..

ورغم المنحى الصوفي الايماني فقد كان سورين كيركجورد وجوديا مؤمنا دينيا لا ماديا رغم انه عاصر هيجل وماركس. حاول كيركجورد جعل الدين لا يقاطع المادية ولا يتخلى عن اهمية ما اطلق عليه القفزة الايمانية التي مصدرها القلب وليس العقل..كما هو الذي جعل هيجل يؤمن بالقطوعات النوعية التي تغيّر المسار الاحادي في حركة تطور التاريخ نحو حتمية ضرورية ملزمة للتاريخ ان يصلها.  نسب ذلك الانجاز الفلسفي لهيجل والماركسية وليس لكيركجورد.

سورين كيركجورد كان يقر بالقطوعات التاريخية النوعية او ما يسمى بالادبيات الماركسية الطفرات التي اطلق عليها التحولات النوعية في المسار التاريخي لكنه لم يأخذ بالمقولة الماركسية الى ان مسار التاريخ ملزم الوصول الى حتمية مرسومة له سلفا. رغم اعتبار دارسي تاريخ الفلسفة كيركجورد الاب الروحي للوجودية الحديثة الا اننا نفاجأ بشطحات اسبينوزا الفلسفية فلاول مرة في تاريخ الفلسفة قال بدلالة الجوهر غير المدرك عقليا نفهم الوجود المادي. وبهذه المقولة قصم ظهر الوجودية قبل ظهورها  واصابها بمقتل استطاعت تجاوزه حيث أكدت الوجود يسبق الماهية او الجوهر.

ما يجعلنا اليوم ننظر الى فلسفة اسبينوزا حول مذهب وحدة الوجود انها صوفية ميتافيزيقية لم يستطع التخلص من يوتوبيتها الفلسفية. نجد سورين كيركجورد لم ياخذ بمذهب وحدة الوجود القائم على صوفية الجوهر الالهي. كما ولم ياخذ بمقولة اسبينوزا(بدلالة الجوهر ندرك الوجود) التي هزت اركان الوجودية قبل انبثاقها وهو اي سورين كيركجورد المتمسك بارهاصات الوجودية الاولى لم يلتفت لاربعة ركائز كان الاهتمام بها يزلزل مباحث الفلسفة هي:

- اهمل العقل ومعه العلم اهمالا تاما بل وحاربهما كونهما يعارضان الايمان الديني الروحي. (حارب فيما بعد العقل وانكروا وجوده الاسكتلندي ديفيد هيوم والانكليزي جلبرت رايل وآخرين فلاسفة اميركان).

- اهمل كيركجورد مقولة اسبينوزا المجلجلة الجوهر يسبق الوجود وبدلالة الجوهر ندرك الطبيعة في موجوداتها.( لاول مرة في تاريخ الفلسفة لم يسبق اسبينوزا فيلسوفا واحدا يجرؤ البوح بمثل هذا التناقض الميتافيزيقي المعكوس الذي اغاظ فلاسفة الوجودية فيما بعد والفلسفة المادية الماركسية عموما).

- اهمل اللاهوت الكنسي السائد لوجود ثغرات فيه لاتعارض العقل وحسب بل وتعارض الدين باصالته ايضا. كيركجورد لم ياخذ على الدين معارضته العقل والعلم بمصادرتهما فكريا دونما اعطاء بدائل لهذا الرفض كما فعل هو بما اطلق عليه القفزة الايمانية القلبية في مجهول تركن تفكير العقل والعلم جانبا.

- اعتبر كيركجورد صوفية وحدة الوجود مبحثا ميتافيزيقا يحاول اثبات ما ينفيه في علاقة الذات الانسانية بذات الخالق.( تاثر فيورباخ بهذا الطرح واخذ به وهو اكبر إشكال جدالي ادخل الصوفية في نفق تهمة الالحاد والشرك بالوحدانية الالهية). عالجت هذه الاشكالية الصوفية في مقالة لي حول مذهب وحدة الوجود . نشرت المقالة على اربعة مواقع عربية الكترونية ويضمها احد مؤلفاتي الفلسفية.

مطلق الزمان ونسبيته

لو نحن عدنا الى ما قبل اثبات انشتاين في النظرية النسبية العامة 1915 ان الزمن بخلاف نيوتن ليس مطلقا بل نسبيا لوجدنا انفسنا امام حقيقة ان مطلقية الزمن ونسبيته الذي يثبتهما العلم الفيزيائي الكوني مختلفين بمحكومية كلاهما بقوانين ارضية تجعل من الزمان مطلقا حسب نيوتن اكثر مقبولية لطبيعة الحياة على الارض.

اما نسبية الزمن فيزيائيا كونيا على وفق قوانين نسبية انشتاين ونظرية الكوانتم الذرية فهي يجب تحييد نسبيها عن التاثير في مطلق الزمن الارضي الذي قال به نيوتن مكتشف قانون الجاذبية على الارض قبل اكتشافها فيزيائيا علميا معاصرا انها تحكم الفضاء الكوني ايضا.. فنسبية الزمن على الارض لا تحكمها قوانين انشتاين الكونية مقاسة بسرعة الضوء. بينما مطلق الزمن بحسب نيوتن انما تحكمه قوانين ارضية اهمها قانون الجاذبية وسرعة الصوت لا سرعة الضوء التي تعمل في المطلق الكوني الذي اعتمده انشتاين.

لكنهما الزمن المطلق والزمن النسبي حسب الضرورة البراجماتية الارضية لا يوجد غير زمن مطلق واحد لا يدركه العقل لا بالماهية ولا بالصفات وانما بدلالة التوسّل في التوظيف المحايد له في الادراك للمكان والطبيعة وموجودات العالم من حولنا. اشار له نيوتن في اكتشافه قانون الجاذبية. وهذا المطلق الزماني الارضي لا يدركه العقل الا بدلالة تلازمه مع حركة الارض ودوران كواكب المجموعة الشمسية والعلاقات التجاذبية بينها..

الموضعة الشيئية زمكانيا

الموضعة اللغوية بالاشياء هي موضعة تعريف تجريدي وليس موضعة تكوينية لها. اي اللغة في تعبيرها عن موضوع الادراك لا تدخل تموضعيا جزءا من تكوين ذلك الشيء انما تكون وعيا تجريديا في معرفته. هناك نظرية فلسفية يروّج لها البعض مفادها ان العقل عاجز عن ادراك أي شيئ ولا موضوع مالم يكن لديه مخزونات قبلية فطرية عن ذلك الشيء او الموضوع. ويضربون لذلك مثلا فانت لو وضعت امام شاب جهاز حاسوب والشاب كان وضع تحت تجربة حرمانه من معرفة اي شيء سنين طويلة عما يسمى الحاسوب وبعد سنوات تضع امامه جهاز حاسوب وتساله ما هذا؟ وكيف يعمل؟ ولماذا ولأي شيء يستخدم؟ حتما سيكون الصمت سيد الموقف بعبارة تخرج من فمه لا اعرف وسيدهش به مهما امتلك من معارف لا صلة لها بالحاسوب..

حسب هذه النظرية الاحساسات الخارجية التي تنقلها الحواس للذهن ومن ثم العقل لنفس هذا الشخص لا تكفي العقل ان يخرج عن صمته دليل عدم معرفته ما هذا الجهاز وما فائدته وكيفية استعماله فعقل ذاك الشاب هو الاخر لا يمتلك ذخيرة خبراتية مخزنّة تؤهله الكلام عن ما هو جهاز الحاسوب.. اذن لا بد من وجود ذخيرة معلواتية مكتنزة موجودة بالذاكرة فطرية وليست مكتسبة حسب ما يذهب له اصحاب فلسفة الفطرة تستخدم وقت الحاجة لمعرفة كل شيء يدركه العقل.. نظرية السلوك اللفظي حول تعلم اللغة تؤمن بهذه النظرية على يد جماعة سكنر الذي لقيت عند نعوم جومسكي اهتماما كبيرا في نظريته التوليدية اللغوية حول الاستعداد الفطري الانساني لتعلم اللغة.(ناقشت الموضوع بمقالتين لا مجال شرحهما)

اقول هذه النظرية خاطئة للاسباب التالية:

- افتراض وجود خبرة فطرية تكتنزها الذاكرة والدماغ خرافة لا اثبات برهاني يؤكدها. بدليل لوكان الدماغ يمتلك مثل هذه القدرة الخبراتية المكتنزة بالفطرة كان لا يحتاج منع الشاب لسنوات عن معرفة اي شيء عما يسمى حاسوبا. اذ كانت مخزونات الفطرة بالذاكرة بالمعارف القبلية تجعله يعرف عن الحاسوب قبل اكتسابه المعلومات المعرفية المكتسبة عنه.

- كل شيء بحياة الانسان خبرة مكتسبة لا يمكن توريثها بالفطرة باستثناء الموّرثات الجينية التي تتعلق بشكل الجسم والطول واليدين ولون العينين وتقاسيم الوجه ولون البشرة وهكذا. اما المعرفة العقلية العلمية فهي جوهر مكتسب بالحياة لا بفطرة المورّثات.

- موضعة المعرفة تجريدا في التعبير اللغوي عن الاشياء  هي الاخرى وعي مكتسب يفصح عنه تجريد اللغة. بمعنى الموضعة اللغوية عن الشيء لا تغني عن الحاجة المعرفية المكتسبة كخبرة تراكمية وليست الفطرية عنه. اي الادراك الشيئي يحتاج بعض الذخيرة المخزنة عن ذلك الشيء قبل محاولة استكمال معرفته والاضافة له بالتعديل او بالتغيير..

معنى الزمكان الاحتوائي

الزمكان فراغ احتوائي للاشياء مستقل عن العقل كما ولا يدركه ايضا حسب فيزياء انشتاين. فهو أي الزمكان يحتوي كل شيء يقع ضمن نطاق فاعليته بقانون الجاذبية الذي تصل قدرته منافسة سرعة الضوء في ابتلاعه الاشياء او النفايات الكونية وحتى الغازات والابخرة والجسيمات الذرية المتناهية الصغر مثل النيوترونات والالكترونات وحتى الامواج الكرومغناطيسية.. وهذه العملية حسب قوانين الفيزياء غير مدركة لذات الزمكان الاحتوائي وبما تقوم به كما ولا يدرك العقل عملها.فالزمكان الكوني يمتلك جاذبية تفوق سرعة الضوء في ابتلاعها كل شيء.

اذن يصبح الزمكان فراغ اجتذابي ابتلاعي علاقته بالجاذبية الكونية وليس بالادراك العقلي. لكن السؤال الذي يتعلق بعلم الفيزياء الكوني كيف يتم رصد عمليات فيزيائية تجري بالفضاء لا توجد وسيلة عقلية لادراكها سوى بدلالة سرعة الجاذبية والمسافة والزمن. ثم ماهي اوجه الشبه المقارن بين ما يقوم به الزمكان وما تقوم به الثقوب السوداء في نفس الوظيفة الآلية على انها مقبرة نفايات الفضاء.

هنا لا بد لي ختاما  من العودة الى التلفيقية الذكية التي قام بها كانط في عبقرية كتابه نقد العقل الخالص الذي لم يكن يتوقع ان يقول العلم الفيزيائي كلمته يوما بعد قرون من وفاته ان ما جاء به كانط حول الزمكان تلفيق هرائي لاقيمة له. كانط قال منذ القرن الثامن عشر ان الزمكان قالبي ادراك للعقل مركوزان بالدماغ فطريا وهما ليسا موضوعين يدركهما العقل لا في ثنائيتهما الموحدة ولا في امكانية انفصالهما الى زمان مستقل عن مكان مستقل.

رغم كل هذا التفلسف الميتافيزيقي انا اعتبر كانط فيلسوفا تلفيقيا عبقريا لانه كان يتكلم عن زمكان ارضي تحكمه علاقة الوعي الادراكي العقلي للاشياء ولم يكن يتكلم عما جاء به علم الفيزياء من بعده ان نسبية انشتاين العامة كانت تتحدث عن زمكان كوني تحكمه فيزياء الجاذبية والزمن والسرعة والمسافة وكتلة الجسم فقط.

اخيرا ما يحسب للقديس اوغسطين في فلسفته انه كان اول من فصل الزمكان الارضي عن الزمكان الفضائي الكوني باختلاف ان الاول الارضي محكوم بقانون الجاذبية وسرعة الصوت وليس سرعة الضوء كما في الفضاء وعليه نحن نعرف السنة على الارض 364 يوما وليس سنة ضوئية. تحكمها الجاذبية وسرعة الضوء بالثانية 375 الف كيلو متر /ثانية على ما اعتقد.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

................

ملاحظة: المقالة فلسفية وليست فيزيائية علمية.

في المثقف اليوم