أقلام فكرية

سامي عبد العال: أنماط المثقفين (1)

نظراً لأنَّ طبيعةَ الثقافةِ قد تغيرتْ دون رجعةٍ، فكانَ لابد أنْ تتغير وظيفةَ المثقفِ بالتبعية. وبخاصة أنَّ المثقف كان بمثابة الكائن الذي لا يخلُّو من التلون بحسب الوسط الموجود فيه. ولكن الآن: إذا لم يكن المثقفُ قادراً على الإبداع والتطور الخلاّق، فسيسقط من غربال عصرنا الراهن الذي لم يعُدْ هو الضمان للأوضاع الثقافية كما جرت. إنَّه عصر التعرية، أي عصرُ العراء المفتوح، عصر التحولات الجذرية بإمتياز تاريخي. ودائماً في عصر التحولات لا نتحسس رقابنا فقط، بل نتحسّس كلَّ شيءٍ آخر، ولو كان مُهملاً. والمثقفُ الفاعل يقعُ ضمن دائرة الكائنات المهملة (عن قصد)، ولاسيما في دهاليز بيئاتنا العربية. وهذا ما وَضعَ المثقفَ أمام خيارٍ وحيدٍ (أي ضرورة لا بد منها): أنْ يكون حُراً وخارج القوالب الجاهزة، وإلاَّ فسيكون كالعصف المأكول لا محالة، وسيقع في جوف أيديولوجيا حائرةٍ أو نزعة استبدادية قميئة.

كانت وظيفةُ المثقف سابقاً الترويج لما يراه ويمارسه، وأنْ يتكتل بجوار السلطة تحت عناوين مختلفة منافحاً وحارساً لظلالها. بينما الآن جاء دورُ المثقف باعتباره الكائن المبدع والكوني بالضرورة. أي أنَّ طبيعة الثقافة غدت كونيةً مفتوحةً دون إملاءٍ على فاعليها بالحدود القصوى لوجودهم المادي والروحي. أقول غدت عمليةً اختزلت القيم العُليا التي هي محط عناية البشر والتي تتجاوز الحدود المقيدة للإنسان، كما أنَّ وسائل التواصل أعطتها قدرةً مهُولةً على التداول والانتشار.

المُلاحظ أنَّ الثقافة باتت ذات طابع فلسفي- افتراضي أعمق من ذي قبل، ولم يعد ممكناً استيعابها في قوالب محليةٍ أو محدودةٍ جغرافياً ودلالياً. كما أنَّ التطورات المعرفية والتقنيات الديجيتال التي غذّت الخيال والعقول لم تترك الثقافةَ وشأنَّها، لكنها قد تركت بصمتها الكونية على كل شيءٍ، ولم تستطع الثقافةُ أنْ تقف بمنأى عن حركة المعارف والتقنيات. إنَّ الثقافة الراهنة غدت مرعبةً لكل النزعات والمذاهب الماضوية، وشكلت لُّجة غائرة الأعماق لمن يجيدون فقط السباحة على سطح العالم وأحداثه وحيواته. والتقنيات ليست مجرد أدوات، لكنها عوالم تسير في فلكها مفاهيمٌ وأفكارٌ تواكبُ ثوريتها وقدراتها المُذهلة.

وليس هذا فقط، بل اختلطت التقنيات ثقافياً بكل أبعادنا المكانية والزمانية والأنطولوجية والرمزية وجوانب الماوراء، لقد شكلت الثقافة الراهنة كوناً مذهلاً (داخل / بجانب) الكون الأصلي لحياتنا الإنسانية. وشئنا أم أبينا، سنكون نحن جزءاً من محيط عالمي يُلقي إلينا بموجاتٍ عاصفةٍ من المعارف والوسائط الجديدة. لقد فقدت الثقافة تباعاً وظيفتها الأساسية في كونها تشكل هويةَ الجماعات ورؤاها الحدية للحياة والتاريخ. بسبب أنَّ ماهية الثقافة تعدُّ وهماً خاصاً بـ" العقل الجمعي" المُغلق أكثر من اعتبارها شيئاً أصيلاً في غالبِ الأحيان. لقد تفكّك كلُّ ذلك، وبقي الإنسانُ كإنسانٍ وظلت الثقافةُ تُحلّق بعيداً نحو آفاق الحرية الإنسانية في شخصيتنا القريبة. ولم تعد ترضَ بديلاً عن إدماج الفردي والكوني، الخاص والكلي، المادي والمتخيل في آفاق واحدة.

المثقف المعنى:

إنّه إنسان مُتحرر بكل كيانه من وراء الكواليس المعقدة في المجتمعات الإنسانية. هو مثقف من نوع أصيل أصالة الفكر والحكمة، حيث يجمعُ التعدُد في شخصه الثري، تاركاً الأفكار تصلُّ إلى درجة الاختمار، واضعاً الواقع في إطار معانٍ تعيد الثقافةَ اكتشافها في الأشياء والموجودات والمجتمعات. إنَّ الثقافة – من تلك الزاوية - تغدوُ ثريةً بالنسبة إليه بقدر ما تُشكل جوهر الإنسان وحياته، لأنَّ الثقافة تجعلُّ لجميع الموضوعات والكائنات قيمةً. تُشعرنا بالإمتلاء الرمزي نفسياً وحياتياً طوال الوقت. والمثقف المعنى هو كذلك مثقف يلتزم بالعيش في إطار كهذا ويوسّع آفاقه كلما استطاع أنْ يُوجّه المعاني، ويعيد صياغتها وفقاً للرؤى القيمية والفكرية. وليس هناك مثل هذا النمط الإنساني من جهة تمثله لقدرات الأنبياء والحكماء والشخصيات الرمزية أمام الشعوب المتطلعة للخلاص.

كل الشخصيات المُلهمة في تاريخ الشعوب تنتمي إلى هذا الصنف من المثقفين، هي شخصيات ثقافية دالة بالمقام الأول. وليس هناك أكثر اختزالاً لأصالة البشر والحياة من هذه الشخصيات التي جاءت مصدراً للحماس الفكري والإرادة الحرة وإنطلاقة الحياة. على سبيل المثال: كونفوشيوس وبوذا وسقراط وغاندي ونيلسون ماندلا وشعراء الإنسانية والمتصوفة والأدباء الكبار، أي هؤلاء الذين وضعوا الإنسان في فوهة الحياة والأقدار منتصرين له تحديداً. حيث أعادوا إكتشاف فكرة الإنسانية من جديدٍ بعدما أُهيلت عليها تلالٌ من الغبار والرمال. هؤلاء كانوا ومازالوا يعيشون في المعنى بالنسبة لشعوبهم. فهم نماذج إنسانية حُرة اختاروا أنْ يكونوا معنى معبراً عن  حياتهم. وأنْ ينتجوا المعاني من خلال وجودهم في صور قشيبةٍ وعاليةِ المكانة، ورفيعة التأثير.

إنّهم عندئذ ليسوا أفراداً مشتتين، لكنهم يتمثلُون الجمع بلغة المفرد، يعبرون عن الحقائق الكلية بلغة الأشياء، وعن الأزمنة داخل اللحظات المختلفة، وعن وحدة الكون ضمن يما يتداعي ويزول، وعن قوانين المجتمعات فيما يمارسيه الناس من حماقات أو أحكام بسيطة. إنهم يتحركون بصحبة معاني الإنسانية جيئةً وذهاباً دون عناءٍ، يسيرون في حراسة المجهول الذي يعرفونة جيداً بين الأشياء والركام الحي من الحياة. ولهذا سنجدُ كلَّ إنسانٍ قد عثر لديهم على شيء يخصه، شيء يذهب إليه رأساً من غير إلتواء، أي العثور على معنى كان يبحث عنه أو يود أن يكونه ذات مرةٍ.

وجميع هؤلاء المثقفين بالمغزى السابق كانوا حريصين أنْ تكون حياتهم سرداً رمزياً وطقوسياً لدى الناس. والسرد شكل من أشكال الوعي الشعبي العميق بالحياة والعلاقات والمصير وأبرز الأحداث والأخطار التي تكتنف أوضاع البشر. وإذا كانت الأحداث قابلةً للتكرار لدى غالبية البشر، فقد أخذ المثقف معناه من المكانة ذاتها. إنه علامة تاريخية لا تقل دلالةً عن تلقائية الأحداث، ويبدو المثقف من فوره بمثابة حكمةِ الحياة وخلاصتها. إن ما يلفت انتباهنا فيما يمارس(المثقف - المعنى) هو خلاصةُ ما قام به إزاء الآخرين.

المثقف المؤدِي:

هو الشخص المؤدي واللاعب لمهام ثقافية وفكرية بعينها عكس النمط السابق، إنه الممثل البارع لما يقال له من سيناريوهات. وأحياناً هو(الفرد- الشكلي) الذي يهتم بصورته فقط خلال المواقف ويجيد خطف الأنظار. وهذا الصنف يظل تحت تأثير الأمر والطلب من حين لآخر. الأمر يعني وجودَ سلطةٍ أعلى مُقتنصاً فرص إرضائها والذود عن حياضها. ويبقى طوال مهامه في حالة إنتظار ليس أكثر، لأنَّ الأمر بالنسبة لمكانته نوعٌ من الانتظار النفسي والجسدي. والطلب يعني المهمةَ الموكولة إليه. ونحن وجدنا مثقفين في واقع العرب يبتكرون في تأديّة المهام، يصنعون هذه المهام صناعةً دون تراجع.

المثقف  intellectualعندئذ شخص مؤدٍ performator مثل الكومبارس، ألقته الأحداث في طريق السلطة أو في مسارات الأحداث، ثم اهتبل الفرصة تعبيراً عن سطوتها وقوتها في الواقع. ولذلك سيكون هذا المثقفُ شخصاً يعيش عبر الظلال القاتمة لكل سلطة ممكنةٍ، إنَّه بخلاف جوهر الثقافة يلتزم بأدوار التابع والخانع. والمؤدي دائماً لا يأتي بجديدٍ، لكنه يتقمص الأدوارَ دون نقصان، إنه يتحرك في هذا الإطار المحكُّوم بمركزية خارج فكره أو ذاته، وتجده موهوباً حين يُمارسها كأنَّ الأدوار قد خُلقت له خصيصاً. والموهبة أن يفكر المثقف السابق ويمثل بطريقة المؤدي المسرحي الذي ينهمك في السيناريو والحوار على خشبة المسرح.

الممثل المؤدي شخص لديه قدرة على التقمص، لكنه في الثقافة يتمثل ما يقال له بشكل حرفي، يتلقاه بكل سلبية ممكنةٍ وغير ممكنةٍ، ولعلَّ ذلك نتيجةُ دوره المرسوم منذ البداية وبفضل مكانته التي يعرفها أصحاب السلطة. وأغلب مثقفي العرب ينخرطون في هذا النوع من الأدوار، لأن المثقف في مجتمعاتنا مجرد وظيفة يلتصق بها، ولا يستطيع التحرر منها. وحتى أكثر المثقفين العرب تمرُداً إنما يمارسون هذا الأداء دون وعي. ولنتذكر أن الاتجاهات الفكرية والثقافية التي اهتم بها مثقفو العرب قد تحولت على أيديهم إلى قوالب فارغةٍ وإلى شعارات وعبارات دالة على التقديس والتبجيل.

الماركسيون العرب تمركسوا - إلى أشواطهم الأخيرة - من غير أصالةٍ، وكانوا حريصين على الماركسية حرفياً أكثر من حرص ماركس نفسه. بل ربما لو عاش كارل ماركس حتى يرى مثقفي العرب، لكان قد استنكر النسخةَ العربية من أفكاره وفلسفته. وهي نسخةٌ تحمل كل تشوهات (الأداء الباهت والتمثيل الثوري) في سياق عابر للثقافات. ورغم كون الماركسية في بيئتها الثقافية مبررةً وقادرة على تفجير الطاقات الثورية وتحريك صورة المجتمع بدرجةٍ أو أخرى، غير أنها في بيئتنا الإجتماعية كانت صورةً دون معالم، وربما كانت – لمن لديه رؤية – محل تندُر وسخرية!!

والمدهش أنَّ المثقف الماركسي المؤدي ينطبقُ عليه نقد الماركسية ذاتها لنوع من الوعي المزيف الذي يخادع الجماهير، ويثقب جدار عقولهم ويقودهم نحو آمال خائبةٍ وتجاه مستقبل يجتر القهر والهيمنة مرة ثانيةً. والأكثر إدهاشاً، أنَّ المثقفين الماركسيين العرب أنفسهم- بعد خُفوت بريق الماركسية- أخذوا يتجهون إلى الأصوليات الدينية والانغماس في الخطابات السياسية المؤدلجة أوالقومية الزاعقة بالتطرف والشوفينية. وبخاصة عندما يدركون أنَّ الماركسية قد فقدت صلاحيتها لتفسير التاريخ والأوضاع الإجتماعية المُركبة!!

وما حدث مع (ماركسيي العرب) ينطبق على وجوديي العرب أيضاً (أي متبني الفكر الوجودي)، إذ يبحث هؤلاء الوجوديون عن نسخة من الوجودية في أشعار العرب وفلاسفتهم القدماء أو بعض المفكرين المحدثين المتمردين على واقعهم الإجتماعي. ولذلك لم يُفلحوا في تقديم شيء وجودي حقيقي إلاَّ بعض المقولات القابلة للتوظيف في أي سياق، طالما تنادي بالتحرر وخلاص الإنسانية على حساب أية فكرة ميتافيزيقيةٍ أو نعرات ثقافيةٍ عرقيةٍ. إنَّ الوجوديين العرب هم أصداء عابرة للبحار والقارات بين الغرب والشرق، أصداء لم تجد أيَّ تواصل أو أيّة أصالةٍ في الطرح، لأنَّ تاريخ الوجودية  لا جذور له بمعناها الفلسفي في ثقافتنا التي تعبدُ العنتريات وتمجد أبطال الديكتاتوريات والغوغاء. إنه تحت الناس والجماهير تكمن حالات القهر وعبادة الأوثان بأسماء متواترة. إنَّ وجودية العرب إنْ جاز التعبير باعثة على الغثيان، وهي نتاج الحرمان من الحرية الأصيلة. هي رد فعل لضياع الوجود لا نتيجة الامتلاء بالحياة.

والفكرة ذاتها موجودةٌ عند من يسموا بمثقفي الإسلام السياسي، وهؤلاء يسلمون كيانهم لأدوار الترويج والتداول غير النقدي للأفكار والأقوال والنصوص الموروثة. حيث يعملون على نشر خطابهم المسيَّس، وهذا هو الهدف الأقصى مستغلين التعاطف الديني والمسكنة من الأتباع والجماهير على السواء. كل مثقفي الجماعات الدينية يسقطون حتى من دلالة مثقف بالمعنى الحداثي، لأنَّ المثقف معناه صاحب الرأي والعقل الحر الذي يقاوم مظاهر الإستلاب والإحتواء والتسلط. بينما يوجد ذلك في تلك الجماعات تحت مظلة الدعوة من ناحيةٍ والسمع والطاعة من ناحيةٍ أخرى. هذان هما وجها الرحي للثقافة(إنْ وجدت معناها الحديث) وليس يملك المثقف بهذا المضون سوى التمثيل والأداء.

وطبعاً أُصيب بعدوى فيروس (المثقف المؤدي) رجال الإعلام وحملة ألقاب الفكر والمعرفة والعلوم، فهؤلاء لم يفلحوا الخروج من قمقم الأدوار التي رُسمت لهم، حتى باتوا نهباً لكل من يستطيع توظيفهم لمآربه الخاصة. إن المثقف الراهن ليس شخصاً يرتاد بيوت ومؤسسات السلطة والأنظمة السياسية وحسب، لكنه ينادي- يصدر الأصوات تلو الأصوات- على بضاعته مثل بائعي البضائع في الحارات والشوارع والأزقة. هل من متبنٍ لما أقول؟ هل من صاحب سلطة يأخذ ما أطرحه؟ وكأنه يتحدث إلى الحاكم وصاحب الصولجان كي يوظفا أفكاره، ويستعملانه في أغراضهما الخاصة. هذا المثقف يعيش بلغة المنادي ومثل الندّاه طوال الوقت.

ولم يخرج المثقفُ السابقُ عن كونه صاحبَ حرفةٍ مثل باقي الحرفيين، كالحدادين والوراقين والسقايين والزراع والتجار والحرف اليدوية التي تعيش بهذا الحال والموروثة في مجتمعاتنا العربية. الفارق بين هذا المثقف وبين الآخرين أنه يضع عقله وكيانه تحت تصرف من يستغل ويستثمر. وفجأة بين يوم وليلة سنجده مثقفاً ملء السمع والبصر، ويدخل من فوره عجلة الثقافة اليومية والمعرفة السطحية الرائجة وأخبار السلطة والتداولات اليومية في بورصة الثقافة الشعبية. ويشار إليه بالبنان كأنه مثقف لا يشق له غبار ويتوارى تدريجياً خلف كمٍ مهولٍّ من المساحيق الثقافية وخلف الأخيلة السياسية والاجتماعية.

***

د. سامي عبد العال

في المثقف اليوم