أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: كوجيتو ديكارت.. هل فشل في العثور على اسس مطلقة للمعرفة؟

كوجيتو ديكارت (أنا أفكر، لذا أنا موجود)، هو ربما أشهر عبارة قيلت في الفلسفة. انها تلخص حجته بان وجود المرء هو الشيء الوحيد الذي لا يمكن ابداً ان يخطئ فيه ذلك المرء. في رسالته (تأملات في الفلسفة الاولى،1641)، يجادل ديكارت بانه في كل الافتراضات الاخرى – حتى المتعلقة بالرياضيات الاساسية –  في كل مرة أفكر في تلك، هناك شيطان ذو قدرة هائلة يتدخل في ذهني ويخدعني، يقودني لأكون مخطئا. فمثلا، في كل مرة افكر في مجموع 2+3، هذا الشيطان يتدخل ليجعلني أعتقد ان المجموع الكلي هو 5، بينما في الحقيقة هو شيء آخر. في الحقيقة، انا خُدعت من جانب هذا الشيطان في كل شيء أظن اني أعرفه.

اعتقادي باني ذهبت للحانوت الاسبوع الماضي ربما كان مرتكزا على ذاكرة جرى فبركتها كليا من جانب الشيطان.

لكن الأمر مختلف بالنسبة لمقترح "انا موجود" . هذا بسبب اني لايمكن خداعي حول شيء مالم أكن موجودا – وبتحديد اكثر، مالم اكن موجودا كشيء يمكن ان ينخدع، بكلمة اخرى، شيء مفكر. لكن اذا كان يتحتم عليّ ان أكون موجودا لكي اُخدع في أي شيء، لابد لي ان أكون موجودا لكي اُخدع في الافتراض "أنا موجود" ايضا.

لكي اُخدع في هذا الافتراض ذلك يتطلب أمرين اثنين: اولاً ان اكون موجودا لكي اكون شيئا يمكن خداعه، وثانياً، ان لا اكون موجودا لكي يمكن للافتراض "انا موجود" ان يكون خادعا. وكما يجادل ديكارت، ان هذا التناقض يبيّن انه من المستحيل ان اُخدع في الافتراض "انا موجود". ولذلك، فأن أي شخص يعتقد "هو موجود"، يجب ان يكون صائبا. لذلك: انا افكر، اذاً انا موجود.

في هذه الحجة، إعتقد ديكارت انه وجد التصريح او البيان الذي يمكن معرفته بدون أي معرفة او افتراضات قبلية، والذي يمكن استعماله كـ أساس "مؤكد ولايتزعزع" لإفتراضات اخرى حول العالم، ولمعرفة الانسان عموما. غير ان محاولات ديكارت لإشتقاق أي شيء آخر من الكوجيتو فشلت بشكل واضح، وانحسرت بسرعة لتصبح معتمدة على خيرية الله، حيث أحاط الشك بحججه لهذه الفكرة فتزعزع اليقين بما نتج عنها من افتراضات. مع ذلك، نريد الآن باختصار التساؤل فيما اذا كان ديكارت حقق اليقين الذي سعى اليه حتى في اقتراحه الأول.

حجة "شيطان الشر" لديكارت تهدف للذهاب قدر الإمكان في التحقق من عقائدنا، تسمح بإمكانية ان يكون هذا الشيطان يخدعنا في معظم الحقائق الرياضية الأساسية. لكن فقط عبر إعتماد الشك الى حده المطلق يستطيع ديكارت شرعيا الادّعاء انه وجد شيئا وراء السؤال وبشكل مطلق. لكن ديكارت لم يذهب للحد المطلق. هذا بسبب ان حجة ديكارت لاتزال تعتمد على قوانين المنطق. بدون هذه القوانين، الكوجيتو ذاته سوف يتدهور فورا. لكي نُخدع في الافتراض "انا موجود" ذلك يتطلب تناقضا، ولكن ذلك لن يكون متاحا الاّ اذا تجاهلنا قانون عدم التناقض (هذا هو احد قوانين المنطق ويؤكد ان الشيء لايمكن ان يكون موجودا وغير موجود في وقت واحد). في الحقيقة، بدون قانون عدم التناقض، نحن يمكن ان نتفق مع حجة ديكارت على طول الطريق وصولا الى استنتاجه،ومع ذلك نفضل الإستنتاج المضاد.

هنا يجب الاشارة الى ان أي محاولة لإتباع خطة ديكارت-  لنكتشف ان ما نعرف هو مؤكد وخال من الافتراضات المسبقة – هي محكوم عليها اما بالفشل او انها تبيّن اننا لا نعرف شيئا. نحن لا يمكننا الذهاب على الاطلاق الى أي مكان في الحجة بدون قوانين المنطق. لكن هذه القوانين ذاتها لايمكن إثباتها، لأننا يجب ان نفترضها سلفا لكي نؤسس حجة لها. ولذلك لايمكن ان نعرف اطلاقا بشكل مستقل عن أي شيء.هذا الفشل مصيري لمشروع ديكارت لأن خوفه كان انه مالم تكن اسس تفكيره مؤكدة وبدون افتراضات مسبقة، فان كل شيء  بناه عليها "سيكون مشكوك فيه جدا" (ص13). لذا فان التحقق من كل شيء عدا قوانين المنطق يقوّض مشروعه ليس في الجزء الأخير وانما في الأول.

ربما لايزال هناك شيء ما نستطيع استخلاصه من حجته. حتى لو فشلت تأملاته في تحقيق هدفه المحدد في التشكيك بكل  شيء، قد يجادل احد ان ديكارت عمل سرا خطة اكثر تواضعا – تكون فيها مسائلة كل شيء ممكنة عمليا . لو هو استجوب بشكل مطلق أي شيء، بما فيه المنطق، فان تأملاته لا تفشل فقط  في كشف أي حقائق معينة، وانما تنتهي الى مجموعة من الثرثرة.  ذلك ربما قرره ديكارت او افترضه، ليفترض سلفا الحد الادنى من قوانين المنطق، لكي يكشف تلك الافتراضات الاكثر يقينية – التي هي يقينية كقوانين المنطق ذاتها.

لذلك، فان الكوجيتو، ليس الافتراض المؤكد اطلاقا، وانما هو الافتراض الآخر المؤكد مثل قوانين المنطق. هذا ربما يكون مفيدا في تحسين اسس افتراضاتنا مستقبلا. محاولات ديكارت تشير الى ان الكوجيتو وقوانين المنطق وحدهما ربما غير كافيين لاشتقاق أي افتراضات اخرى مؤكدة، ولكن كوننا قبلنا النقص في اليقينية المطلقة في افتراضاتنا، نكون على الاقل نتحرك الى الامام عبر ترتيب اليقينية لإفتراضات اخرى عبر النظر في ماهية الشيء الآخر الذي يجب افتراضه لكل واحدة من درجات اليقين ليكون صحيحا.

الكوجيتو يأخذ أعلى مرتبة، ويتطلب لصحته فقط قوانين المنطق . لا شك ان هذا الترتيب سيكون مهمة طويلة ومعقدة لكنه يحمل وعدا اكثر بكثير من محاولة اشتقاق مجموعة كاملة من المعرفة من مقدمة واحدة بأن أحدا موجود.

هدف ديكارت كان تطهير أذهاننا من كل شيء عدى المؤكد المطلق. هيكل تراتبي من العقائد hierarchy سوف لن يلبّي ذلك، وانما سيبيّن لنا خطوط التفكير وتأكيدات غير مباشرة تكمن خلف عقائدنا، وبالتالي تكون مهمته ابلاغية وليست ازالة لعملية القرار. هذا كما يبدو هو اكثر شيء نأخذه من كوجيتو ديكارت.

***

حاتم حميد محسن

..................

Descartes Ergoing Nowhere, Descartes failed to find absolute foundations for knowledge. philosophy Now, March/April 2023 

في المثقف اليوم