أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: هل الزمكان مفهوم حقيقي ومادي أم هو مجرد أداة حسابية؟

حينما جاءت نسبية اينشتاين أسقطت فكرة الزمان والمكان المطلقين، واستبدلتهما بنسيج من الزمكان. لكن هل الزمكان حقا له وجود مادي؟

الأفكار الأساسية:

1- لكي يكون الشيء واقعيا وفيزيقيا يحتاج ان يكون ماديا وقابل للقياس مباشرة، وليس فقط وسيلة للقياس لأجل عمل تنبؤات صحيحة.

2- وفق هذا المعنى، الذرات والجسيمات التي يمكن ملاحظتها هي بالتأكيد واقعية، لكن الجسيمات الافتراضية التي لا يمكن ملاحظتها هي حتما غير واقعية.

3- وفيما يتعلق بالزمكان هل هو واقعي مثل الذرات ام انه فقط اداة للقياس؟ هذا هو الموضوع الملفت والذي يستحق الإستطلاع .

عندما يفكر أغلبنا حول الكون، نفكر حول الأشياء المادية التي تمتد هناك عبر المسافات الكونية الهائلة. المادة تنهار تحت جاذبيتها الخاصة لتشكل هياكلا كونية مثل المجرات، بينما سُحب الغاز تتقلص لتشكل النجوم والكواكب. النجوم تطلق الضوء عبر احتراق وقودها من خلال الانصهار النووي ليسافر ذلك الضوء على طول الكون مضيئا كل شيء يأتي في تماس معه. لكن هناك ما هو اكثر للكون من الاشياء التي في داخله. هناك نسيج الزمكان الذي له قواعده الخاصة التي يعمل بواسطتها وهي: النسبية العامة.

ان نسيج الزمكان ينحني بفعل وجود المادة والطاقة، والزمكان المنحني ذاته يخبرنا كيف تتحرك المادة والطاقة فيه. ولكن بالضبط ما هي الطبيعة المادية للزمكان؟ هل هو واقعي كالذرات ام انه مجرد اداة نستعملها لإعطاء الأجوبة لحركة وسلوك المادة ضمن الكون؟ انه سؤال مثير وصعب الفهم.

قبل ان يأتي آينشتاين، كان تصورنا للكون مختلف جدا عن التصور الذي لدينا اليوم. لنعود الآن للخلف الى الكون قبل ان يكون لدينا مفهوم عن الزمكان ومن ثم نتحرك للامام الى حيث نحن اليوم.

على المستوى الأساسي، نحن لطالما افترضنا انك لو تأخذ كل شيء في الكون وتقطعه الى أجزاء أصغر فأصغر، انت بالنهاية ستصل الى شيء ما غير قابل للتجزئة. هذا بالضبط ما تعنيه كلمة "ذرة": من الكلمة اليونانية atomoc، بمعنى غير قابلة للقطع. أول سجل لهذه الفكرة يعود الى ما يقرب من 2400 سنة الى ديمقريطس، ولكن من الجائز انها تعود الى أبعد من ذلك التاريخ. هذه الوجودات "غير القابلة للقطع" توجد بالفعل، وكل واحدة منها تُعرف كـ جسيمات كمومية. وعلى الرغم من حقيقة اننا أطلقنا اسم "ذرة" على عناصر القائمة الدورية، فان ما لا يتجزأ حقا هو الجسيمات دون الذرة مثل الكورك quarks (وهو جسيم اساسي في المادة)، والغلونس gluons (وهو جسيم افتراضي بلا كتلة يشد الكورك الى بعضه)، والألكترونات (بالاضافة للجسيمات التي لا توجد في الذرات ابدا).

هذه الوحدات المادية للتفاعل (quanta) ترتبط مجتمعة لتبني كل الهياكل المعقدة التي نعرفها في الكون، من البروتونات الى الذرات وصولا الى جزيئات الكائن البشري. ومع ذلك، لا يهم أي نوع نتعامل معه من السمات المادية المطلوبة للتفاعل سواء كان ماديا او ضد المادة، ضخم او بلا كتلة، أساسي او هياكل مركبة، على مقاييس كونية او دون الذرة، هذه الوحدات من الخصائص المادية توجد فقط ضمن نفس الكون الذي نحن فيه.

هذا يُعتبر هاما لأننا اذا أردنا من الأشياء الموجودة في عالمنا ان تقوم بأشياء مع بعضها البعض – تتفاعل، تترابط مع بعضها، تكوّن هياكل، تحوّل طاقة وغيرها – يجب ان تكون هناك طريقة لمختلف الأشياء الموجودة ضمن الكون تؤثر فيها على بعضها البعض. انه يشبه ان تكون لديك مسرحية فيها جميع الشخصيات مجسدة، جميع الممثلين مستعدون لتمثيل دور الشخصيات، جميع الأزياء الخاصة بالتمثيل جاهزة للإرتداء، وجميع الأسطر تُكتب وتُتذكر. الشيء الوحيد المفقود والمهم جدا للتمثيل كي يحدث هو المنصة (stage) . ما هي المنصة في الفيزياء؟

قبل اينشتاين كانت المنصة وُضعت من جانب نيوتن. جميع "الممثلين" في الكون يمكن وصفهم بمجموع من الأحداثيات: موقع بثلاثة أبعاد بالاضافة الى لحظة من الزمن. انت تستطيع رؤية انها تشبه شبكة ديكارتية : بناء من ثلاثة ابعاد بمحاور X,Y,Z، حيث كل كمية يمكن ايضا ان تمتلك زخما، يصف حركتها خلال الفضاء كدالة للزمن. الزمن ذاته افتُرض ان يكون خطيا، دائما يمر بنفس السرعة. في صورة نيوتن، كل من المكان والزمان كانا مطلقين. لكن اكتشاف النشاط الاشعاعي في أواخر القرن التاسع عشر بدأ بإثارة الشك بصورة نيوتن. حقيقة ان الذرات يمكنها اطلاق جسيمات دون الذرة تتحرك بسرعة قريبة من سرعة الضوء علّمنا شيئا مثيرا وهو، عندما يتحرك جسيم قريب من سرعة الضوء، فهو يعمل في زمان ومكان مختلفان جدا عن شيء كان اما بطيء الحركة او في سكون.

الجسيمات غير المستقرة التي تتآكل بسرعة عند السكون تعيش أطول كلما تحركت أقرب الى سرعة الضوء. هذه الجسيمات نفسها قطعت مسافات اكبر مما تشير اليه سرعتها وأعمارها قبل ان تتحلل. واذا حاولت حساب الطاقة او زخم الجسيم في الحركة، فان مختلف المراقبين (بمعنى الناس الذين يشاهدون الجسيم ويتحركون في سرعات مختلفة بالنسبة له) سوف يحسبون قيما كانت غير منسجمة مع بعضها.

هناك شيء ما يجب ان يكون معيبا في تصور نيوتن للزمان والمكان. في السرعة القريبة من سرعة الضوء، يتسع الزمن، ويكون طول الشيء المتحرك أقصر من طوله المناسب، والطاقة والزخم هما في الحقيقة معتمدان على الموقف (frame-dependent). باختصار، الطريقة التي انت تتعامل بها مع الكون تعتمد على حركتك خلاله. اينشتاين كان مسؤولا عن إختراق هام في مفهوم النسبية، هو حدد أي الكميات كانت غير متغيرة ولا تتغير مع حركة المراقب، وأي الكميات معتمدة على الموقف. سرعة الضوء مثلا، هي ذاتها لجميع المراقبين، مثلما هي الكتلة الساكنة rest mass لأي كمية من المادة(1). لكن المسافة المكانية التي انت تلاحظها بين نقطتين تعتمد بقوة على حركتك على طول الاتجاه الرابط لتلك النقاط. ونفس الشيء، السرعة التي تدور بها ساعتك عندما تسافر من نقطة الى اخرى ايضا تعتمد على حركتك. المكان والزمان لم يكونا مطلقين، كما كان يظن نيوتن وانما كانا يُلاحظان بطريقة مختلفة من جانب مختلف المراقبين: هما كانا نسبيين وهو الاسم الذي تأتي منه النسبية. كذلك، هناك علاقات خاصة بين الكيفية التي يلاحظ بها أي مراقب للمكان والكيفية التي يلاحظ بها الزمن: شيئان وُضعا مجتمعين من جانب استاذ اينشتاين السابق البروفيسور هيرمان مينكووسكي Hermann Minkowski بعد سنتين من طرح اينشتاين لنظرية النسبية الخاصة، حيث وضع مينكوويسكي بناءً رياضيا موحدا يدمج الزمان والمكان مجتمعين: الزمكان. وكما أشار مينكوويسكي ذاته:

"من الآن فصاعدا، المكان بذاته والزمن بذاته محكوم عليهما بالتلاشي الى مجرد ظلال، فقط نوع من الاتحاد بين الاثنين سيحفظ الواقع المستقل".

ولكن في كوننا الواقعي، نحن بالفعل لدينا جاذبية. الجاذبية ليست قوة تعمل فورا عبر أقصى الفضاء، وانما هي فقط تنتشر بنفس السرعة التي تتحرك بها جميع الكميات الخالية من الكتلة: سرعة الضوء. (نعم سرعة الجاذبية مساوية لسرعة الضوء). كل القواعد التي صيغت في النسبية الخاصة لا تزال تنطبق على الكون، ولكن لكي نعترف بالجاذبية فان شيئا اضافيا كان مطلوبا: فكرة ان الزمكان ذاته له انحناء باطني يعتمد على وجود المادة والطاقة ضمنه. انه ببساطة : عندما تضع مجموعة من الممثلين على المنصة، تلك المنصة تحتاج ان تتحمل وزن الممثلين أنفسهم. اذا كان الممثلون بحجم هائل والمنصة ليست جامدة تماما، فان المنصة ذاتها ستتشوه نتيجة لوجود الممثلين. نفس الظاهرة عند حضور الزمكان: وجود المادة والطاقة يحنيه، وذلك الإنحناء يؤثر عل كل من المسافات (الفضاء) والسرعة التي تدور بها الساعة (الزمن). كذلك، انه يؤثر على الاثنين بطريقة معقدة، حيث اذا كنت تحسب التأثير الذي تمتلكه المادة والطاقة على الزمكان، فان التأثير "المكاني" و"الزماني" هما مترابطان. بدلا من خطوط شبكية بثلاثة أبعاد التي رأيناها في النسبية الخاصة، تلك الخطوط الشبكية هي الآن منحنية في النسبية العامة.

انت تستطيع، ان كنت ترغب، تصوّر الزمكان كوسيلة قياس خالصة وليس أعمق من ذلك ابدا. رياضيا، كل زمكان يمكن وصفه بقياس رياضي metric tensor، وهو صياغة رياضية تسمح لك لحساب كيف يمكن لأي مجال، خط، قوس، مسافة ان يوجد بطريقة محددة جيدا. الفضاء يمكن ان يكون مستويا او منحنيا بطريقة عشوائية، الفضاء يمكن ان يكون متناهيا او لامتناهيا، منفتحا او مغلقا، الفضاء يمكن ان يحتوي على أي عدد من الأبعاد. في النسبية العامة، القياس الرياضي هو أربعة أبعاد (ثلاثة أبعاد مكانية وبُعد واحد زماني)، وان الشيء الذي يقرر إنحناء الزمكان هو المادة والطاقة والضغوط الموجودة فيهما. محتويات كوننا تقرر كيفية إنحناء الزمكان. انت تستطيع اعتبار الزمكان منحنيا وتستعمله للتنبؤ بالكيفية التي تتحرك بها وتتطور كل وحدة من المادة والطاقة في الكون. قواعد النسبية العامة تمكّننا من التنبؤ بالكيفية التي تتحرك بها المادة، الضوء، المضاد للمادة، النيوترونات، وحتى موجات الجاذبية في الكون، وان تلك التنبؤات تنسجم بشكل رائع مع ما نلاحظ ونقيس.

مع ذلك، ما لا نقيسه، هو الزمكان ذاته. نحن نستطيع قياس مسافات وقياس الفواصل الزمنية لكن ذلك هو فقط فهم غير مباشر للزمكان الأساسي. نحن نستطيع قياس أي شيء يتفاعل معنا – أجسامنا، أدواتنا، كاشفاتنا – لكن التفاعل يحدث فقط عندما تشغل كميتان اثنان نفس النقطة في الزمكان: عندما يلتقيان في "حدث".

نحن نستطيع قياس أي من تأثيرات إنحناء الزمكان على المادة والطاقة في الكون بما في ذلك:

1- إنزياح الإشعاع الأحمر نتيجة لتوسّع الكون.

2- تأثير مرونة الفضاء frame dragging على جسم دوار (2).

3- البطء الإضافي لحركة المدارات نتيجة لتأثيرات الجاذبية التي تتعدى ما تنبأ به نيوتن.

4- كيفية حصول الضوء على الطاقة عندما يسقط عميقا في مجال الجاذبية ويفقد الطاقة عندما يخرج منها.

لكن حقيقة اننا نستطيع فقط قياس تأثيرات الزمكان على المادة والطاقة في الكون، وليس الزمكان ذاته، يشير الى ان الزمكان يتصرف بشكل لايمكن تمييزه بواسطة أداة قياس خالصة. لكن ذلك لا يعني ان الزمكان ذاته ليس كينونة فيزيائية واقعية. لو كان لديك ممثلون يمثلون مسرحية، انت تستطيع ان تسمي الموقع الذي تحدث به المسرحية "منصة"، حتى عندما يكون الموقع مجال بسيط، سطح مستوي، ارض خالية وغيرها. في العالم المادي، على الأقل كما نفهمه، انت لا تستطيع امتلاك وحدات مادية او تفاعلات بينها بدون زمكان توجد فيه. حيثما يوجد الزمكان، كذلك توجد قوانين الفيزياء وكذلك مجالات الكوانتم الاساسية التي تؤطر كل الطبيعة. بمعنى ما، العدم هو فراغ الزمكان والحديث عما يحدث في غياب الزمكان هو لامعنى له – على الاقل من منظور الفيزياء – كالحديث عن "أين" خارج حدود المكان او "متى" خارج حدود الزمان. مثل هذا الشيء يوجد لكننا ليس لدينا تصور مادي عنه.

ربما الأكثر إثارة للإهتمام، عندما نأتي الى طبيعة الزمكان، هو ان هناك العديد من الأسئلة التي تبقى بلا إجابة. هل الزمان والمكان بطبيعتهما كوانتميان ومنفصلان، هل هما ذاتهما يقسمان الى اجزاء غير قابلة للقسمة، او هل هما مستمران؟ هل الجاذبية بطبيعها كوانتمية في الطبيعة مثل القوى المعروفة الاخرى، او هل هي بطريقة ما غير كوانتمية - نسيج كلاسيكي مستمرعلى طول الطريق حتى حدود الكون الحالية؟ واذا كان الزمكان أي شيء غير ما تشير له النسبية العامة، اذاً كيف يكون مختلفا وبأي طريقة سنكون قادرين على اكتشاف ذلك؟

لكن بالرغم من جميع الأشياء التي يمكّننا الزمكان من التنبؤ بها ومعرفتها، لكنه ليس واقعيا بنفس الطريقة التي تكون فيها الذرات واقعية. لا شيء هناك نستطيع عمله لإكتشاف الزمكان مباشرة، انت فقط تستطيع إكتشاف وحدة انفرادية للمادة والطاقة توجد ضمن زمكانك. نحن وجدنا وصفا للزمكان في شكل النسبية العامة لآينشتاين الذي يمكن ان يوضح ويتنبأ بنجاح لـ ظاهرة مادية لاحظناها او قسناها في اي وقت مضى، ولكن ماذا بالضبط هو وما اذا كان "واقعيا" ام لا، ذلك السؤال الذي لم يستطيع العلم اكتشاف جواب له حتى الان.  

***

حاتم حميد محسن

..............................

Spacetime: is it real and physical, or just a calculation tool? bigthink.com, May4, 2023

هوامش توضيحية :

(1) الكتلة الساكنة مفهوم من نظرية النسبية. احدى نتائج نظرية النسبية الخاصة لاينشتاين (1905) هي ان كتلة اي جسم تزداد مع سرعته بالنسبة للمراقب. عندما يكون الجسم في استقرار (قياسا للمراقب)، اي عندما يكون لديه ميل لمقاومة القوة المطبقة، تكون لديه كتلة عادية مألوفة لدى الجميع تسمى الكتلة الساكنة للشيء. اما عندما تكون للجسم سرعة قياسا بالمراقب، فان المراقب سيلاحظ كتلة أقل من الكتلة الساكنة.

(2) وهي نظرية تعني ان الفضاء مرن والجسيمات التي فيه تستبدل الطاقة معه. كلمة مرن elastic تعني علميا انك عندما تطبق مقدار من القوة على شيء(وهو ما يجعله ينحني) ومن ثم تزيل القوة، فان الشيء سيعود الى شكله الأصلي والى حالة الطاقة. مفهوم مرونة الفضاء يوفر أجوبة للسؤال القديم جدا حول الجاذبية وازدواجية الجسيم الموجي (كيف يمكن لـ أشياء مثل الالكترونات ان تعمل مثل الموجات والجسيمات في وقت واحد).

في المثقف اليوم