أقلام فكرية

علي محمد اليوسف: المادة وخاصية قابلية الادراك

مهمة الباحثين بالفلسفة مراجعة ونقد افكار الفلاسفة وليس مهمتهم الغوص في تفرعات مباحث فلسفة اللغة وتبعاتها في منهجية البناء التجريدي اللغوي المنفصل عن حركة الواقع ومجرى الحياة المتجددة.

بيركلي وقابلية ادراك الوجود

من مقولات جورج بيركلي الفيلسوف المثالي (وجود الشيء هو قابليته ان يكون موضوعا لادراك).ناقشت المقولة في غير هذا المقال سابقا. وتكررت المقولة على لسان جورج مور فوجدت فيها اهمية توضيح ربما فاتني سابقا.

في البدء المادة موضوع للادراك في وجودها المتعيّن بابعاد لا خلاف عليها ضمن عالم الاشياء والطبيعة. ولا تمتلك المادة في وجودها الانطولوجي المستقل قابلية ادراك ذاتية متموضعة فيها تجلب اليها من يدركها (الحس والعقل).

وجود الشيء كموضوع للادراك الحسي والعقلي ليست خاصية موجوديته المادية في كينونة انطولوجية مستقلة تمتلك قابلية الادراك. وليس خاصية امتلاك الموجود صفة ليست له ولا متموضعة تكوينيا فيه تسمى (قابلية الادراك) تجعل منه موضوعا يكافيء الموجود الملازم له كما يذهب له جورج مور.

قابلية الادراك ليست موضوعا بل هي علاقة ترابطية تجمع بين سيرورة قائمة بين موضوع من جهة والوعي بالموضوع من جهة اخرى. ولا يمكن ان تتحول الصفة الكيفية قابلية الادراك الى موضوع لادراك حسّي او عقلي كمثل إدراك وجود الشيء المادي في واقعيته الكينونية ضمن عالم. السيرورة ونقصد بها هنا قابلية الادراك هي علاقة متغيرة لا تصلح ان تكون موضوعا ثابتا لادراك حسي – عقلي.

نقطة اخرى خاصية قابلية الادراك هي خاصية الحس والعقل فقط وليست خاصية تلازم المادة لا في ثباتها ولا في انتقالاتها كي يتم ادراكها وتصبح موضوعا يثبت موجوديته. وهي خاصية فعالة ايجابية في عملية الادراك العقلي وليس في المادة والاشياء ., ولو افترضنا خطأ أن خاصّية قابلية الادراك موجودة في تكوينات الموجودات الشيئية المادية بالفطرة الطبيعية والتكوينية الموجودية للمادة لكانت صفة ذاتية سلبية تستمد قيمتها من الموجود الشيئي التي هي جزءا متموضعا فيه وليس أهميتها في مرجعية إدراكها كموضوع مستقل لإدراك افتراضي يكون خارج إدراك الحس والعقل للموجود الشيئي في كينونته التامة الذي لا تنتسب له قابلية الادراك التي هي من خصائص الحس والعقل.

النقطة الاخرى من الذي يحدد ان يكون الموجود المادي أو أي شيء موضوعا لادراك؟ هل يحدد موضوعيته مضمونه المادي فيه ام يحدده شكله (الصفات الخارجية) المدركة له؟. نحن علينا قبل الاجابة عن التساؤل ضرورة التفريق بين الشيء كموجود مادي تدركه الحواس والعقل كمتعيّن انطولوجي بابعاد مادية بديهية وهو ما يهمنا هنا. والتفريق بين الموضوع الذي هو من تخليق العقل (خياليا) وليس موضوعا ادراكيا ماديا. وهذا الموضوع الخيالي الذي يبتدعه الخيال لا يتحول الى موجود مادي بل يعبّر عنه العقل بتجريد لغوي تعبيري تصوري غير موجود في عالم الواقع غير الافتراضي.

وتعبير اللغة التجريدي لا يخلق المادة ولا المواضيع في واقعيتها الانطولوجية الا بالاستعانة بتقنية آلية تصنيعية تتوسط بين تنظير الخيال بوسيلة لغوية وموضوعه كي تحوله الى واقع يدركه الوعي كما هو الحال في السينما او المسرح او الفنون وضروب الاجناس الادبية. فاللغة التخيلية المكتوبة لا تتحول فيها الاحداث والوقائع الى عالم مادي ما لم تتوسطه آلية تقنية تنجز تلك المهمة.

بالعودة الى السؤال هل الصفات الخارجية للموجودات المادية تجعل منها موضوعا تدركه الحواس ويتمّثله العقل. وهذه الصفات الخارجية تجعل من المدركات العقلية مواضيع لها صفات مادية. هذا يدخلنا في تساؤل اجدى منه  كيف لنا حل معضلة علاقة الصفات الخارجية للاشياء او اشكالها المادية الموجودية مع الجوهر او الماهية التي يقول بها فلاسفة ماديون وفلاسفة مثاليون بوجهات نظر فلسفية مختلفة نعرض بعضها:

الفلاسفة الماديون وأبرزهم فلاسفة الماركسية وفلاسفة الوجودية يقولون ان ادراك الشيء في موجوديته الواقعية الكليّة كاف لأن يكون ادراك ذلك الشيء كاملا لكينونة مادية مستقلة الوجود. ولا يؤمنون بوجوب تقسيم كل موجود مدرك الى شكل هي صفاته الخارجية والى مضمون يدّخره داخله ليس من المؤكد إثبات موجوديته في المواضيع التي ندركها خارجيا بصفاتها ولا حاجة ضرورية لمعرفة هل تخفي مضامين جوهرية او ماهيات هي غير صفاتها الخارجية بداخلها ام لا..؟

الفلاسفة المثاليون من امثال ديكارت وكانط وبيركلي وديفيد هيوم وجون لوك يؤمنون بوجود ماهية او جوهر في كل شيء. لكن يجدون من العبث صرف الاهتمام عن اهمية اسبقية كيف نعرف الوجود موجود من عدم وجوده قبل الدخول بتفرعات جانبية في تجزئة الموجود إدراكيا الى شكل ومضمون او الى صفات وجوهر.

فلاسفة آخرون يتعاطف معهم الماركسيون والوجوديون قالوا لا توجد جواهر داخل الاشياء موجودة محتجبة خلف الصفات الخارجية لها التي هي الجوهر مثال ذلك الحيوانات هي بلا جواهر تميزها عن الصفات الخارجية لها. فصفاتها الخارجية هي جواهرها.

بعض الفلاسفة ذهبوا الى ان جوهر الشيء يسبق صفاته التكوينية الخارجية مثال ذلك ان النجار وقتما يصنع الكرسي يعرف ماهيته انه مقعد للجلوس عليه قبل ان يصنع مكوناته الشكلية ومن اي المواد يصنعه. وهذا يخلخل المقولة الفلسفية القارة في الماركسية والوجودية ان وجود الشيء يسبق ماهيته اولا بالمطلق.

عندما اجمعت الفلسفة الوجودية بزعامة هوسرل ابو الظاهراتية(الفينامينالوجيا) نقلا عن كانط قوله يمكننا تقسيم الوجود المدرك الى (نومين) بذاته غير مدرك والى (فينومين) لاجل ذاته ندركه كموضوع في ادراكنا صفاته الخارجية فقط ولا ندرك جوهره. وحين سئل كانط كيف تسنى لك اثبات امتلاك الموجودات جواهر او ماهيات لا ندركها لا بالحس الاولي ولا بالوعي العقلي بعديا تحتجب خلف صفات الموجودات الخارجية؟ كانت إجابته في وجوب التغاضي عن الجواهر واهمالها وعدم جدوى البحث بها واعتبارها من قضايا الميتافيزيقا العصيّة على ان تكون موضوعا ادراكيا للعقل والاكتفاء بادراك الصفات الخارجية فقط.. على خلاف فريد بتاريخ الفلسفة قال اسبينوزا بدلالة اسبقية الجوهر على الموجود ندرك الوجود.

امام هذه الاشكالية كانت الريادة مع سارتر في مقولتين اوقفتا الفلسفة على راسها بدلا من قدميها . مقولته الاولى (جوهر الانسان الحقيقي انه بلا جوهر) ومقولته الثانية (جوهر الانسان تخليق ذاتي يصنعه الانسان بنفسه لحظة يولد ونهايته بالموت ) ولا يستقبل الانسان جوهره لا معطى يلازم وجوده الكينوني ولا جوهر مكتسب  بالفطرة كموروث. (سبق لي في مقال غيرهذا مناقشتي وتوضيحي للمقولتين).

ليس من خاصية الادراك كوسيلة ان يتخلق عنها قيصريا مولودا يكون موضوعا لموجود خارج مدركه المادي. ولا ان يكون مضمونا منفصلا عن موجوديته غير مدرك حسب افتراضية جورج مور. ان يكون مضمون الشيء المدرك موضوعا مدركا منفصلا عن ذلك الشيء معناه لا يبقى لدينا كينونة موجودية يدركها العقل. الادراك لا يتجزأ في عملية إدراكه لموضوعه كما الموجود المدرك لا يتجزأ نتيجة إدراكه الى شكل ومحتوى منفصلين في استحالة تلغي حقيقة انهما  متلازمين..

وخلاصة القول ان مقولة لماذا لا يكون مضمون الشيء منفصلا عن قابلية ادراكه التي يمتلكها الموجود المادي الشيئي؟ مقولة خاطئة وفرضية تعسفية تحاول وضع العربة امام الحصان لاسباب اوضحتها سابقا واوجزها بكلمات:

اولا قابلية الادراك هي كيفية وسيرورة تجمع بين المادة وادراكها كما هي وسيلة معرفية لا تمتلكها المدركات لاتموضعا ماديا فيها ولا تجريدا تعبيريا يصدر عنها. بل يمتلكها الحس والوعي العقلي لها فقط.

ثانيا مضمون الشيء لا يكون موضوعا لادراك قائم لوحده منفصلا عن موجوديته المادية الموحدة شكلا ومحتوى. المضمون يحتاج دائما لشكل يحتويه وبغير هذه الملازمة لا يمكننا تصور مضمون بلا شكل يحتويه. كما ولا يمكننا تصور شكلا خاليا من مضمون او محتوى دلالي عليه كما في مثال الرسوم الهندسية المجردة فالخطوط التي يتشكل منها الشكل الهندسي تحدد مضمونه الهندسي الذي ندركه للوهلة الاولى فارغا ما عدا محدداته المستقيمة. في أن يكون دلالة على مثلث او مستطيل او دائرة وهكذا. اي ان ابعاد اشكال الخطوط الهندسية المجردة اعطت للحيّز المكاني الذي احتوته مضمونا متفردا هندسيا. المثلث نقصده ادراكيا بالتسمية على اساس خطوطه الثلاث ونحن لا ندرك من الوهلة الاولى الادراكية ان للمثلث ثلاثة زوايا مقدارها 180 درجة احدها زاوية قائمة الا بمعرفة مضمون المثلث واستعمالاته وليس في ادركنا شكله التخطيطي كخطوط مجردة.

ثالثا الادراك لا يجزيء موضوع ادراكه الى شكل هو الصفات الخارجية والى مضمون او محتوى هو جوهره وماهيته. فالادراك هو وعي كينونة الشيء الموحد في كليته الكينونية الموجودية البائنة للادراك. ويكون معنا اعجاز عقلي ادراكي ان نتصور مضمونا لا يحتويه شكل يدركه العقل. وبالعكس ايضا استحالة ادراكية ان تجد شكلا مجردا بلا مضمون يحتويه يمكن للعقل ادراكه كموضوع.

***

علي محمد اليوسف

 

في المثقف اليوم