أقلام حرة

مقارنة بين الانتخابات البرلمانية في العراق وانتخابات المناطق في فرنسا

 الفرنسي بتجديد الثقة بنوابه السابقين أو تبديلهم بمرشحين جدد تقدموا للجماهير بحملات انتخابية موضوعية يحاولون من خلالها إقناعهم بالمؤهلات التي يمتلكونها وبالبرامج السياسية التي تهدف أحزابهم تحقيقها في فرنسا طوال السبعة أعوام القادمة.لم نشاهد حملات تسقيط ولا تخوين ولا تفسيق ولا تكفير ولا كذب ولا نفاق ولا دجل ولا غسل لأدمغة الناس، لم يقم المرشحون بتقديم الرشاوى للناخبين ولم يرغموهم على القسم أو اليمين، لم يستخدم حزب ساركوزي صلاحية الحكومة التي يديرها في حملته الانتخابية ولم نشاهد مؤتمرات صحفية للهيئة المشرفة على الانتخابات كالتي تجري كل يوم في العراق، لم نسمع أن احد الأحزاب يتهم حزب آخر بالعمالة للجارة ألمانيا من الشرق أو للجارة أسبانيا من الغرب، لم نشاهد حفلات وأغاني ونقاشات وحوارات وعراك وخصومات كالذي حدث ولا زال يحث لدينا، لم نشاهد شيوخ عشائر ولا شيوخ دين يتدخلون بالضغط على الناخبين في التصويت لحزب دون آخر، ولم نشاهد أي اصطفاف طائفي أو ديني أو مذهبي أو عنصري، ولم نشاهد كذلك أن ناخبا من باريس يرشح في ليون مثلا ولم نشاهد أي ضجيج لمواكب المسؤولين وهي تجوب الأقاليم الفرنسية وهم يبحثون عن سرادق مئآتم لكي يحطوا ركابهم فيها ويقدموا ظرف بواجب الفاتحة يحتوي على مليون دينار مع رجاء ضمني بالتصويت (للمرشح قارئ الفاتحة) كما كان يحدث في مناطقنا طوال الأسابيع الثلاثة التي سبقت الانتخابات.

لقد ذهب الفرنسيون إلى الانتخابات وهم ليس لديهم أية عقد ماضوية تتعلق بمقاطعتي الالزاس و اللورين،  أو بالاحتلال النازي لبلادهم في الحرب العالمية الثانية،  أو باحتلالهم لنصف أفريقيا طوال أكثر من قرن .ذهب الفرنسيون وليس لديهم أية مشكلات تتعلق بالفقر أو ألامية أو انحراف الأحداث بسبب التسرب من المدارس، وليس لديهم مشكلات كذلك بالكهرباء أو بالماء الصالح للشرب أو بتعبيد الطرق.ذهب الفرنسيون للانتخاب وبلدهم لا يعاني من مظاهر فاضحة في الفساد المالي أو الإداري,وبلدهم لا يعاني من ديون تقصم ظهره،  وبلدهم لا يعاني من تضخم ولا من فوضى اقتصادية.ذهب الفرنسيون للانتخابات وليس في قراهم أية مدرسة مبنية من الطين أو منزل مبني من الجينكو .ذهب الفرنسيون لانتخاباتهم وهم مطمئنون لأداء أنظمتهم السياسية والاقتصادية والمالية والرقابية، ذهبوا للانتخابات وليس هناك فقرة في مخصصات مسؤوليهم اسمها منافع اجتماعية تتيح للمسؤول كيفية استخدامها كيفما يشاء.ربما يقال أن المقارنة غير منطقية بين بلد انتفض في وجه السلطة الظالمة في الربع الأخير من القرن الثامن عشر مثل فرنسا وبنى نظامه الديمقراطي منذ ذلك الحين وبين العراق الذي لم يستطع تغيير حاكمه السيئ والظالم إلا بمساعدة قوة خارجية، وأنا أقول نعم قد تبدو المقارنة غير منطقية ولكن الم يصرخ الشعب العراقي طوال الأربعة أعوام الماضية بسبب سوء عمل البرلمان والحكومة فلماذا يعيد هذا الشعب تجديد ثقته بأكثر من ثمانين بالمائة من رموز السلطة ذاتها.

بقي أن اشير إلى أن الانتخابات الفرنسية أفرزت حزب يهتم بالبيئة إلى الواجهة وبقوة وفي هذا إشارة إلى أن الناخبين الفرنسيين بدأوا يستشعرون بخطر ما يهدد بيئتهم مما حدا بهم إلى التصويت لمرشحي هذا الحزب ، وطبعاً لا يمكن مقارنة البيئة الفرنسية النقية والخضراء بالبيئة في العراق التي تجوبها أفواج الذباب نهاراً والبعوض ليلاً وتغطيها الأتربة على مر فصول السنة، بيئة تزداد فيها نسب التصحر وتهرب الألوان الخضراء منها بشكل مخيف، بيئة بلد كان يسمى بلد السواد فأصبح اليوم يسمى بلد الغبار والأتربة.أيضاً ما يمكن الإشارة إليه أن الفرنسيين صوتوا لصالح أحزاب المعارضة ضد حزب السلطة ولم يردعهم عن ذلك الخوف من أن ساركوزي سوف يقطع البطاقة التموينية عنهم أو أنه سوف يحرم أبنائهم من التعيين في دوائر الدولة.لم يصوت الفرنسيين لحزب ساركوزي لأنهم لا ينظرون للحاكم على انه نصف آله بل هو مجرد موظف حكومي يعتلي هرم الدولة وفق عقد لا يستطيع تجاوز بنوده في أية حالة من الأحوال.ومما تجدر الإشارة إليه أيضاً أن ساركوزي وأثناء قدومه للاقتراع برفقة قالب الشهد (زوجته) لم نشاهده يغمس أصبعه في الحبر البنفسجي ولم يقف أمام الكاميرا رافعا هذا الإصبع لكي تتناقله الفضائيات مع أهزوجة بالروح بالدم نفديك يا نيكولاي، حينها اكتشفت أننا وعلى الرغم من تبجحنا بأننا أفضل الأمم في المعمورة فأننا نستخدم الحبر لتأشير أنفسنا خوفا من أن يغوينا الشيطان ونقوم بالتصويت أكثر من مرة بينما الفرنسيون وهم شعب غالبا ما ننعتهم بعديمي الأخلاق لا يستخدمون هذه الطريقة لإيمانهم بان التصويت لمرتين هو غش وخيانة وكلا الأمران مستنكران لتعارضهما مع الأخلاق الفاضلة التي يتعلمون مبادئها منذ الصغر في العائلة ثم في المدرسة.

والسؤال متى نستطيع ممارسة الاقتراع على الطريقة الفرنسية بدون رشاوى ولا خداع ولا غش ولا تزوير ولا تهافت المرشحين على (جوادر الفواتح )، وبلا تسقيط ولا تخوين ولا عمالة ولا انجرار لمخططات خارجية، متى نصل إلى انتخابات بدون (عزايم أم 300 ذبيحة) وبدون تقديم هدايا تبلغ قيمة الواحدة منها 60000$، متى نتخلص من ظاهرة شراء الأصوات بالبطانية والصوبة وكارتات تعبئة الموبايل، متى نصل إلى الوقت الذي نذهب به إلى صندوق الاقتراع ونحن نستطيع قراءة ورقة الاقتراع والتأشيرة على الاختيار دون مساعدة مدير المحطة، متى نصل إلى اليوم الذي نصوت فيه لمرشح على أساس برنامجه الانتخابي ومؤهلاته التي تساعده على تحقيق هذا البرنامج وليس التصويت لرئيس القائمة الذي لا يوجد لديه اسم بين مرشحي مناطقنا، متى نصل إلى اليوم الذي نذهب فيه إلى صندوق الاقتراع بدون عقد ماضوية وبلا أفكار ضبابية ليس لها في الواقع وجود ، متى نصل إلى اليوم الذي نتجرد فيه من عبئ انتماءاتنا المتعددة والمتضادة ونتحرر فيه من ربقة الماضي الميت والمستقبل المجهول حتى نستطيع التصويت فيه للحاضر المعاش.متى سوف نصل إلى الحالة التي نرى فيها رئيس الوزراء أو الجمهورية أو الوزير مجرد موظف في سلك الدولة حاله كحال أي فراش مدرسة.

للإجابة على هذه المتيات فإننا لا بد من حساب عمر فرنسا الديمقراطي،  التي نطمح للوصول إلى حالتها، وإذا ما علمنا أن تاريخ الديمقراطية في هذا البلد يتجاوز القرنين فأن هذا يعني أننا سوف لا نصل إلى حالة فرنسا على ما هي عليه في 2010، إلا بعد مرور مائتي عام أي في انتخابات2210، ولان العراقيين قد اعتادوا على إطلاق عبارات مثل (تخلص) (وما بقى شي) و(جا شتسوي هاذي قسمتنا) عندما تواجههم مشكلة مستعصية على الحل وما أكثرها في العراق على مر التاريخ، فأننا نقول (هم تخلص هاذي الميتين سنة).

 

محمد حمود إبراهيم

باحث في علم الاجتماع والانثروبولوجيا

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1346 الثلاثاء 16/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم