أقلام حرة

يوم جئت حاملا دفاتر حبي لزيارة وطني، نقمت على سراب مشاعري

 ذلك المتعلق بمحاسن ريبورتجات قديمة، تضمنتها تواريخ شخصيات، لو تم إستعراض بطولاتهم، لأستلزم أن نرتدي ثوب الحداد بلا إنقطاع،

 

لهذا كما إضطرابا، عرفت أن صفة الحنين الى الوطن لم يكن معناها، إلا ما يطوقني من أنفاس، تلك التي تشدها نبضات أوردتي المتداخلة مع دقات قلبٍ تستهويه رابطة الزمكان وما يحتويهما وما يؤثر فيهما،

 

المشاعر هنا، مقدمة مشروطة تحتاج الى منطق صوري، بغية إستكشاف حقيقتها الحسية وعظمتها الإنسانية، هذه التي تتداخل أصلا مع صيرورة العلاقات ألإجتماعية وإرتباطاتها المتآلفة مع قيود المعايير، تلك التي تنظم علاقة الفرد بأقاربه وأهله وجيرانه وتشرف على دستورها السامي، فيصبح لمعنى ال(أهل) عناوين هائلة في إحتواء مفاهيم المثل والإخلاقيات تلك التي منها تتكون لغة الحياة الإجتماعية  .

 

هي بالأحرى هكذا لغة القيم، حيث أنه عندما كنت تسمع يمرض جارك، ترى أن ألآخرين قد إجتمعوا لزيارته، وعندما يحل عليك ضيف قديم، يتفرغ ألآخرون لإستقباله، وهكذا أمثلة شتى تؤكد ما يسمى إلتزامات إجتماعية، أو ثوابت ذلك ما نشأنا عليه وتعلمناه، لنحكي عنه أولنتبجح به، بإعتباره سلوك ثابت، إلتصق بطبيعة هوية أوشخصية مجتمعنا الشرقي، ما يميز ثقافتا ألإجتماعية عن ثقافة المجتمع الغربي  .

 

إذن كما تقرر، عزمت على السفر رغم إجراءاته المملة وعواقبه المخيفة  بعض الإحيان، لإرافق أسمى آيات حبي حاملا عطر ورود مدينتي المبجلة،

لكل من صادفني في مشوار حياتي، بغية التحليق بزهو ذلك الشوق الطهور، لإستدرك فجأة أن ثمة عبارة وهمية أنفقتها على توهمي ولإستشعر لاحقا كيانها المدبلج،لذلك كانت المشاعر تترى، لتسجل ذلك المقياس من التراجع،

 

لقد أدركت لاحقا أن (معادلة ألأقارب والأصدقاء) مقولة تحتاج الى إعادة تأمل، بعد أن أيقنت أنها صارت أوتحولت الى كلمة خادعة، أو أكذوبة تحيط بها الوان الطيف الشمسي، لتبرقع بعض زواياها، ببريق لمعانها ألأخاذ  .

 

ولكن بعد أن أتيح لي أن أرى إحداثيات ذلك، أيقنت أن خارطة الحس ألإنساني قد تبدلت تماما، إذ تلوثت تلك التفاصيل، لتبدو أشبه بعوق مستديم أصاب خارطة الترابط الإجتماعي وألإنساني فأتلف وثائق ملفاتها المهمة  .

 

وبهذا لم يعد يهمني إلا النادرالقليل القليل من الطيبين، أقصد من فصيلة السبعينات وما تلاها، ممن أجادوا في ميادين ألإبداع الصامت والترابط الأصيل، بعيدا عن أضافات الزيف وألإعلام، بعيدا عن بهرجة المؤتمرات والندوات المقنعة،

 

ذلك ما صادفته منذ زمن سبعيني، تم إستبعاده، رغم أنه كان يحمل معان راقية من الإبداع والدلالات، القاص الشهيد عبد الحميد كاظم  وروايته طيور سنونو بيضاء،كما يحضرني، والتي لم تنشر لإسباب تتعلق بمضايقة الثقافات الرصينة   .

 

مكتبة جبر غفوري أنذاك، والذي صادفني قبره في النجف ألأشرف، أبان مراسيم زيارتي لإهلي وأقاربي الموتى لقراءة الفاتحة على أرواحهم، شاهدا حيا على تفاصيل مشاهد سجلها الطيبون،

 

حسين طعمة، صلاح مشرف، قيس عبد الكاظم، أبو تحسين، أبو زينب، صباح، كريم، حبيب، علي، وغيرهم ممن لا أريد أن أغور في بحور روعتهم،

لهذا لم تكن صفة ألأمس إلا قبة شامخة تجمعها حلقات الأدب والثقافة، مضافا إليها (عدم الإنتماء الى البعث الحاكم) تلك الموصومة بالخيانة في بعض مقاطعها بناءا على ثقافة الحزب المذكور، إذ الطالب في مرحلة الإعدادية تراه مشغولا بقصة جديدة ورواية جديدة وريبورتاج جديد، ما يمنحه الحق لإن يكون أحد ألأعضاء المهمين في رابطة المثقفين، دون حاجة منه الى عضوية إتحاد الأدباء الحالي والسابق  .

 

انذاك كنت أستنشق معنى الوفاء والأفياء، و كانت تحالفات الأشياء تمشي بلا رتوش،

 

هنا، لم أكن بعد أ قوى لإن أزف تراب مدينتي، التي أتعبتها أسراب الخفافيش، فوق أروقة راحتي، حين تقرنت إثرها أصابع الوجع المضمخ بصمت الأرض وأوجاع شناشيلها البالية، لإمشي بعد ردح من الزمان طويل على نبض امتدادات موصولة بأنين العالم الغارق بأشواط الهجرة،

معفر الجبين أطوي أورام الصبر صوب قبابها، التي أتكأت عند نحيب مئذنة منخورة راحت تزهو رغم ذلك، تتدفق عند إنحناءات مساحات القلب الفائض بالغفران، لتتبنى جرحها السماوي ترنيمة جنوبية تختلف تماما عن ترنيمات التبشيرية الجديدة، هذه التي تستهدف اليوم ثقافة الإسلام وفق أيديولوجيتها الجديدة  .

 

ابو الحسنين (ع) وزيارة النجف ألأشرف هنا بناءا على ما تقدم، إسم معجون بحب ملائكة الله البشرية على أرضه الحزينة، تلك التي أتشحت بسواد قلوب أستنزفتها آكلة الفراق، لتنصت مرة أخرى، لتواشيح زمن مقفلة أبوابه، وفقا لقوافل المتبجحين أولئك الذين صاروا يحرسون قصوراً لا علاقة لها بما يراد له، لتبقى أذيالهم تحرس قصور المتملقين والمنافقين وباعة الضمائر  .

 

الحقيقة كما هي إذن، لغة مبتورة إرتبطت بوسائل ألإعلام المقنع، لترفع من تشاء وَتُدَنيَ من تشاء  .

 

ومجمل الحكاية بإيجاز شديد، هو أنني لا أعرف إن كنت منتصرا هنا أم خائبا حين حملت حقائبي المتعثرة بعطر الأسرار وافدا من أقصى بقعة في أطراف ألأرض، ألملم أوجاع الروح الملبد بالدموع، ليتها لغة الفراق تقدر أن ترمم مساحاتها الضمأى، تلك المعبأة بأشواط قطارات الليل وصفير محطاتها المكتظة بالوافدين،

 

أما امتعتي فما أنفكت واقفة تتطلع إلى أرصفة المارة، تبحث عن وجوه جديدة، لكأنها تلملم قيود غربتها، لتستقبل القادمين وفقا لشهادات الحضور،

 

الفراق بيني وبين(أحبتي) عبثا، صورة مكتومة لا أقدر أن أبوح بتفاصيلها، لئلا تستحي خجلا وثيقة الصبر، تلك التي علقتها في دموع صدري،

 

وبهذا وبإسف شديد تغيرت فكرتي عن رابطة الأقارب وعلاقاتي القديمة، إلا تلك ألأنفار القليلة، ممن لم تهزمهم لغة العولمة وتكنولوجياتها المتشعبة، ممن لم يغيروا ثيابهم، أو ممن لم يغيروا بطاقات مشاعرهم، تلك التي راودتني نصوصها، مذ رحلت بالأمس خطاي،

 

القصة، أنني حين وقفت على أبواب وطني المضمخ برائحة الدم، رحت أتنفس فقط معنى المسافات تلك التي دفنت، فأستعرضت مع نفسي صور من توهمت بشوقي اليهم، هنالك منذ أن ودعت أسراب العصافير وأنين النخيلات، منذ أقفلت آخر حقيبة رافقتني مع بعض ضجيج الليل، مذ سَئِمت مساءلة الجلادين وألأجهزة الأمنية أنذاك، لإودع كل شيء،لإودع كل أمنية أستهوتني، لتعصف بي أشواط الليل المحمومة بالغربة بعيدا عن حتى زوجتي وأطفالي،

 

أقصد رابطة النسغ الصاعد من الروح، تلك التي أتحدت منذ ولادتها مع مطلع الشمس ومواعيد الصبح وأرصفة الباعة المكتظة بمقالات الصحف اليومية وروايات ألأدب العالمي، لنتقابل أنا وما تبقى من الطيبين في بقعة أخرى من بقاع ألأرض ...

 

في المثقف اليوم