أقلام حرة

التسامح ـ مرجعيـة حـي شعبي

من بين إيدينا في غفلات من أزماننا بسرعة لم نكد نلحظها .. وكما للأشخاص روائح مختلفة فإن للمدن والأحياء هي الأخرى روائح خاصة تميزها عن غيرها، فما تطأ رجلاك أرض مدينة أو حي سبق أن عرفته حتى تستعيد رائحة تلك المدينة أو ذاك الحي الذي يبدو أن لمناخات الناس وطقوسات حياتهم دخلا في تشكيله.

كلما زرت حي " فاس الجديد المشور " الحي الشعبي البسيط الذي درجت على أرضه صبيا، وعشت أحلى مراحل شبابي بين تلاحم أناسه و تعاطف أهله الذين يحسدون عليه، إلا وشممت رائحة الإنتماء العفوي، الذي أفرزته الممارسات الإنسانية الممتدة عميقا في مخيال وأحلام ساكنته، وتنسمت عبق التسامح الفطري في تحيزهم المطلق لمبادئ الخير والصدق والعدالة والمساواة، دون إلقائهم بالا إلى لون أو عرق أو جنس، صادقين حتى الوجع، يأكلون من خير أناملهم، ويسخرون من غدر إيامهم، لاهم لهم إلا كرامة من ينتمي إلى حيهم ويحمل صفة الإنتساب إليه بزهو وإفتخار. كان إنتماؤهم مقدسا، وكان هدفهم واحدا، يجمعهم دين واحد سهل وواضح لا تعقيد ولا طائفية فيه، ما كانوا في يوم من الأيام يشعرون بالتوجس أو الخوف أو الريبة من بعضهم. فدروب الحي تداخلت وازقته وتشابكت، وبيوته تجاورت والتصقت ــــــــسطوحها وامتدت على بعضها، فكانت عامل ثبات للمجتمع وأمنه واستقراره، فشعر السكان بالحميمية والألفة والمحبة والغيرة على الجيران، الأبواب مفتوحة والأولاد يمرحون بسلام، آمنين مطمئنين. لم يكن معها الآباء والأمهات مأخوذين بهاجس الخوف والخشية، فكل بيت في الحي هو بيت لجميع، الناس سواسية في التعامل اليومي مهما اختلفت مقدراتهم المالية وتباينت أنسابهم العرقية؛ ولشدة حاجة الناس لبعضهم بعضاً زالت الفوارق الطبقية، وتبادل الناس المنافع، وعلى ضوء ذلك عم الاحترام والتقدير والتبجيل.. فكبير الحي محترم وله منزلة وتقدير، و الشيخ له فيه مكانة وهو مقدر، كما أن الصغير هو الآخر محبوب ومراعى وله وضعه بين الساكنة التي تفاعلت وانسجمت مع تراتبية المجتمع وتقسيماته التي سار عليها الآباء والأجداد بقناعة ورضا، دون خوف أو وجل.

     

رب سائل يتساءل، لماذا الكتابة عن حي لا يعرفه معظم من يقرأون هذا المكتوب؟ عفوا أيها الماسلئل الكريم، ولا تستغرب هذه المقالة ولا تستنكرها لأنها تتحدث عن كل الأحياء الشعبية لأنها شبيهة بهذا الحي. وليس هنا الحي هو المقصود بذاته، بدوره وأسواره ودروبه وأزقته وحوانيته، بل المقصود وأساسي، هو تلك الأجواء و الفضاءات النقية التي عشنا فيها أبهى خصوصياتنا، والتي بها إحتمينا من كل المنغصات والطبائع الغريبة التي إبتلعت الدنيا من حولنا، والتي لاشك طمست نفحات الخير في الكثير من الأحياء الشعبية المتشابهة ببلادنا، ولوتث روائح حينا وغيرت مرجعياته التاريخية والإنسانية، بعدما أن إجتاحه دعاة مغالون، وإنتشرت بين أهله الطيبين، فرق وجمعيات مشبوهة متعددة الأقطاب والإتجاهات، يحملون بضراوة، ويشنون بعداوة على كل جميل فيه.. يزرعون بذور الشقاق والنفاق بين أهاليه، ويبثون الضغينة والفرقة بين أسره، حتى إنشقت الصفوف، وتصدعت العرى التى كانت إلى حين ثابتة في النفوس ثبوت الرواسي، وقضت تلك التكتلات الطائفية المغلفة بالدين، وهو براء منها، على ما كان معروفا بين الساكنة من تعايش وتساكن وتقارب وتسامح وتكافل اجتماعي، ودفعت بهم إلى التناحر والإقتتال الذي لم يسلم من تأثيره حتى أفراد الأسرة الواحدة ..

إن ما وصل إليه حال هذا الحي الأمين وحال سكانه من طائفية باسم الدين، واختصار وجودهم الجوهري والإنساني في جزئية الإنتماء المذهبي، لأمر يحز في النفس . لقد استكثر دعاته المشبوهون مجرد هدوء العيش وصفاء الضمير الذي يتمتع به أهل الحي، رغم الفقر الذي يطحنهم والظروف التي ترهقهم وتنهكهم... لكنهم مع ذلك متجلدون صابرون يضحكون وصدورهم مشحونة بالحزن على أيام الصفاء التي عرفها حيهم... فما رأيك أيها القارئ الكريم ألا يستحق أن نكتب عن هذا الحي وأمثاله حتى ولو كان مغمورا ؟؟؟... فمدن هذا الوطن وأحياؤه تتشابه في هموم ومشاكل أهاليه الاجتماعية ومناطقه البيئية والخدماتية، وتعاني التخبط والعشوائية وقلة التخطيط، ومع ذلك يبقى قدرها الجميل والرائع هو أن تتعايش وتتسامح.. و أروع فترات ازدهارها هي التي سادت فيها قيم التسامح والانفتاح والتعايش بين الأديان والألوان والطوائف والملل والنحل والمذاهب. فمن يقرأ تاريخ المغرب يلاحظ ذلك بغير عناء كبير، ويكتشف بسهولة وبساطة، أنه شعب فطر على التعايش والمتسامح بين مكوناته... وأن أزهى فترات تاريخه، عطاء وإبداعاً، والتي أضاءت ذاكرته، واحتلت شطرا مهما من ذكرياته، هي تلك الفترات الأكثر انفتاحا والأكثر تسامحا والأكثر تعايشا.

 ففي الحكايات البسيطة التي يحكيها ساكنة حي فاس الجديد لأعمق الدلالات وأروع الأمثلة على روح التسامح، وثقافة التعايش، التي سادت المغرب وجعلت مجتمعه البسيط آنذاك يتحلى فعلا وعملا بسلوكيات التعايش، وآيات التسامح، كأجمل وأرقى ما تكون عليه السلوكيات التسامحية الحقيقية المعبرة بتلقائيتها عن خلفية ثقافية مهمة لشعب بكامله، وهي ثقافة حضارية قادرة على الانفتاح، وعلى تفهم شرط التعايش في أبعاده الإنسانية الأرقى، التي نتمنى استعادتها في وقتنا الحالي كما كانت لنا ثقافة اصلية ومظلة واسعة تميز بها تاريخ ووجدان مجتمعنا في بواكر الزمن المتقدم التي يحاول الطارؤون في العقود الأخيرة تشويهها وتزييفها بثقافة الكراهية والتفريق الخارجة عن سياقات تاريخ وثقافة المغاربة التي لا تمت لهم بصلة ..

ولو عدنا إلى فاس الجديد رغم بساطته، لوجدناه بأحيائه القديمة يرحب بشكل لافت بكل الملل والنحل التي سكنته، حيث كان أبناء الطائفة اليهودية والمسيحية منسجمين مع مسلمي فاس الجديد بطريقة مبهرة، وما زالت الفرق تحمل الكثير من الحنان إلى تلك الأيام الرائعة والدافئة التي يتذكرون بشيء من الاشتياق والنوستالجيا.

فمن يبحث عن شواهد التعايش، وثقافة التسامح الحضاري المتجسد في المسلكيات العامة البسيطة من دون تعقيدات أكاديمية صعبة على الذهن العام والعادي.. فليعد إلى القصص التي يحكيها شيوخ الحي، وليقف أمام أكثر من حكاية وشهادة تحيل على الوعي الشعبي الاجتماعي العام ومفهوم التعايش الذي يتمظهر في الوعي والممارسات الشعبية لساكنة هذه الأحياء، وعلاقتهم مع " سوليكا " أشهر تاجرة في الملاح أنذاك، أو في تعاملهم مع " جيجي" الطبيب اليهودي، و"الألماني" الطبيب المسيحي، وبوطبول المطرب اليهودي الشهير..

 قصص تروي في سردياتها مشاهد العلاقة الاجتماعية المتسامحة التي ربطت بين اليهود والمسيحيين والمسلمين، وهي في دلالاتها تقدم ابسط وأعمق مفاهيم التعايش التلقائي قبل أن تخترق ثقافة الكراهية مساحات مهمة من الوعي الشعبي الذي كان ضاربا في أعمق أعماق وعيه.. فما أحوجنا اليوم إلى استنهاضه من جديد..

 

حميد طولست

[email protected] 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1434 الاثنين 21/06/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم