أقلام حرة

سائق الطاكسي سفير فوق العادة / حميد طولست

 والعامة هنا، كلمة تشمل أجناسا مختلفة من الناس، وأمزاج تختلف باختلاف السياق الثقافي والاجتماعي، والحالة المناخية من حيث ارتفاع أو انخفاض درجة الحرارة، وفي اختلاف اشهر السنة، و لربما يذهب البعض إلى أن الأمزجة تختلف باختلاف الليل والنهار و حسب الحالة القمرية، كما تختلف أيضا باختلاف الحالة الأيكولوجية للمجتمع، بمعنى أن اختلاف حالة التضاريس هي الأخرى تعكس نمطا من المزاج المختلف عند الفرد، فأهل الحضر يختلفون في ذلك عن أهل البوادي، وأهل الجبل يختلفون عن أهل البحر والسهل.

ومزاج الفرد في فصل الصيف من العاملين تحت حرارة الشمس يختلف عن أولئك الذين يؤدون عملهم خلف مكاتب وفيرة و"مبردين" بالمكيفات. كما أن أمزجة بعض الناس هي في شهر معين، غيرها في أشهر أخرى، كما هو حال أمزجة الناس في شهر رمضان، نتيجة لعاملي الجوع والسهر. الناس على العموم كثيرون وهم معادنهم مختلفة كما قال عنهم العزابي" الناس معادن ومن أغلى المعادن بتلاقي ناس.. أو ناس موش ناس"، تماما كما قال ميخائيل نعيمة "ما أكثر الناس وما أندر الإنسان"! أو كما يقول جاك بول "الإنسان كائن عجيب في تناقضه انه مزيج من ضعف وعظمة، في وسعه أن يسمو إلى أعلى درجات الكمال، وفي استطاعته أن ينحط إلى أسفل درك الشر إذا ما ركبه شيطان التمرد والعصيان".

 هذه حال مزاج الإنسان عامة، لكن مزاج سائق الطاكسي صلب موضوعنا اليوم ومزاجه المتوتر دائما رغم ما يتصف به من إنسانية وطيبة، -وهو توتر لا نقره - ولكن طبيعة المهنة وظروف العمل، تتسبب فيه وتفرضه أحيانا. تقول السيدة العبدلاوي معن أول إمرأة عملت سائقة طاكسي صغير بمدينة فاس، في حديث لها لجريدة الوطن العدد56 لشهر يونيو 2008 "أنا أول إمرأة جربت المهنة ومنذ ولجت عالم الطاكسيات حز في نفسي الوضع القاتم الذي يعيش فيه هؤلاء من إهدار للحقوق، وقد آليت على نفسي أن أقود المعركة من أجل هؤلاء المواطنين الذين يعيشون بلا حقوق ولا ضمانات، حيث لا تغطية صحية ولا ضمان اجتماعي ولاشيء..إن الواحد من هؤلاء إذا تعرض لحادث لا قدر الله أو أصابه مرض فإننا نلجأ إلى التسول نيابة عنه لكي نجمع له فاتورة الدواء أو مصاريف المستشفى بالإضافة إلى متطلبات أولاده وعائلته..

 بالإضافة إلى ذلك انعدام قيم الإنسانية في تعامل بعض الزبناء مع السائقين، وتدهور أخلاقيات الكثيرين تجاهه، سلوكات تجعل من حال عملهم وتعاملهم مع مستعملي هذا النوع من النقل، أقرب إلى ساحات حرب. فقيادة الطاكسي كما يبدو لا تخلو من متاعب، وفي نفس الوقت لا تخلو من المتعة والنُكت.. شأنها في ذلك شأن سائر الأعمال الأخرى، إلا أن وفرة متعها وكثرة نكتها تجعل المشتغلين بها ينسون كل تلك المتاعب، ويتفكهون بنوادرها الغريبة، مع حيل الزبون و مكره، و ابتزازته الخبيثة التي يتعرض لها الكثير من السائقين.

ويصور سائقو الطاكسي وبكثير من الحسرة والامتعاض، مالكي "لاجريمات" أصحاب رخص الاستغلال، وهم جالسون في مكاتبهم الفخمة بالوزارات وامصالح الحكومية، أو في المقاهي أو في البيوت يحتسون أكواب الشاي، منتظرين عودة السائق المسكين كل مساء، ليسلمهم المدخول محتفظا بالفتات..!

وقد كتب الأستاذ هشام حراك قصة قصيرة وطريفة عن سائق الطاكسي تحمل الكثير من المعاناة، عنونها ب" ميكة كحلة" يقول فيها:

))"لأنني كنت أحمل في يدي اليمنى (ميكة كحلة)، صدني سائق سيارة الأجرة، قبل أن أجلس على الكرسي الأمامي المجانب لكرسيه حيث كان جالسا ويداه تتحكمان في المقود، بعد أن كنت قد فتحت باب السيارة:

* اسمح لي آخويا، آش هاز معاك، بعدة، في ذيك الميكة الكحلة ؟

أجبته بذهول بالغ:  علاش آخاي ؟ … واش الأخ بوليسي ؟؟؟

* تقرييييييا .

رددت، على التو، وأنا أقفل باب سيارة الأجرة الأمامي، بهدوء تااااام:

    اسمح لي.. كان يسحاب لي سائق طاكسي !!!!!!"(( انتهت القصة..

و يحكي أحدهم معاناته مع الكل، الزبائن من جهة، ورجال الشرطة من جهة أخرى. حيث يقول: رغم حرصي الشديد على تجنب المخالفات المرورية، إلا أن شيئا أعتبره نحسا قد حصل خلال الفترة السابقة. حيث سجلت عليّ مخالفة مرورية أعتبرتها ظلما لا يغتفر. فقبل بضعة أيام كان عليّ أن انقل شخصا عجوزا إلى طبيب ما بأحد الشوارع المزدحمة، وحيث أنه لا وجود لموقف  مخصص للتاكسي الصغير قرب عيادة الطبيب، وبما أن المهنية والعرف والإنسانية والقانون، يحتم علي مساعدة المعوق والعاجز والمريض و إلا تعرضت للعقاب أو وخز الضمير، وبعد لف ودوران لمحت مكانا خاليا، توقفت مطمئنا أن مكروها لن يحدث، ساعدت الزبون المسن المريض على النزولوصحبته إلى باب العيادة، إلا أنني وفور عودتي لسيارتي فوجئت بشرطي يحرر لي مخالفة الوقوف في غير الماكن المخصصة لتاكسي، كم حاولت إقناعه بأني لا أبرر خطئي إلا أنني ربما كنت مضطرا للوقوف هنا للقيام بواجبي المهني بسبب حالة الزبون وكبر سنه ومرضه والطقس وبعد المواقف عن عيادة الأطباء، و أني لم أربك بوقوفي هذا انسياب السيارات في هذا الشارع، إلا أن كلامي لم يكنُ مؤثرا..

 فكيف لمزاج سائقي الطاكسي المساكين ألا يتكدر مع كل هذه المشاكل والمضايقات، والتي ليست إلا نقطة في بحر مما يكابدونه بحكم عملهم الذي  يتعرضون خلاله لضغط الوقوف الساعات الطوال في الشمس. وقد يكون الأمر هينا في فصل الشتاء إلا أن أمرهم يبدو لي صعبا في فصل الصيف. فهم يقفون ساعات طوال تحت حرارة الشمس وضوضاء الشارع الكبيرة، بالإضافة لتعرضهم لدرجة عالية من التلوث المنبعث من عوادم السيارات وغبار الأزقة المتربة، في المواقف التي تختفي عنهم فيها سبل الراحة ، بل لا يوجد ما يخفف عنهم شدة الحر. فطبيعة العمل الذي يقومون به بالإضافة لحالة الطقس الذي لا يطاق في مدينة مثل فاس في فصل الصيف والذي تفوق فيه درجة الحرارة الأربعين درجة، تجعل منه سياقا يحكم دون شك مزاجهم العام الذي يحكم هو بدوره طبيعة تعاملهم وعلاقتهم بزبائنهم..

وهذا لا يعني أني التمس العذر لسائقي الطاكسي وأنهم جميعهم حملان أو ملائكة، فبينهم من لا يصلح لهذه المهنة البتة، ويسيء لشرفائها، و يخالف كل القوانين ويخرقها " بالعلالي" فيرفض تلبية طلبات الزبائن ورغباتهم، ويسوق في الممرات المزدحمة بالسرعة الجنونية، ومنهم من يزاول المهنة وهو مخمور ثمل، لا يفرق بين حمرة أوخضرة إشارات المرور. ناهيك عن ابتزاز وسرقة الزبناء الغرباء عن المدينة وعلى رأسهم السياح مثلا.. ولا دخل للأمزجة في تصرفاتهم تلك. ومن هنا تبنت بعض الدول إجراءات صارمة ومكثفة بحق مخالفي قوانين المرور من متجاوزي السرعة المسموح بها أو الوقوف في غير الأماكن المسموح فيها أو تجاوز إشارات المرور الحمراء أو عدم التوقف النهائي بعلامة " قف " وخاصة منهم هذه الفئة..

وأعتقد أن سائقي الطاكسيات بشكل عام بحاجة لقدر من التدريب والتعليم في مسائل الثقافة وعلم النفس والاجتماع وفي دراسة عادات الناس وأمزجتهم، فإنه وإن كان البعض منهم  مدركا لفروقاتها عند الناس، فإن أكثرهم غير مدركين لها.

وكلنا يعرف أن سائقي الطاكسي الفرنسي والبريطاني تحديدا هم من الحاصلين على الدرجات الجامعية ليس في مجال السياقة فحسب، وإنما في المعارف الاجتماعية والانسانية الأخرى. وهي معارف تتيح لهم دليلا معياريا مهما للتعامل مع الآخرين. 

فهم بشكل عام سفراء في حالة اتصال مع المجتمع أكثر من القطاعات الأخرى، الأمر الذي يتطلب أن يُخضعوا لقدر من التدريب في المعارف المجتمعية المختلفة بالإضافة لفن السياقة وتاريخ البلاد وسياستها وهي دون شك تجربة ستتيح لهم فرص اكتساب مهارات أكبر في التعامل مع الناس بأوضاعهم المجتمعية المختلفة كما هو في أوضاعهم المزاجية ولربما المسلكية المختلفة.

وأختم كتابي بما قالته السيدة العبدلاوي: "في الحقيقة يجب على الكثير من هؤلاء أن يتحصنوا بالوعي والمسئولية أكثر مما هم عليه الآن، ورغبتي أن يتفهم المواطن ظروف السائق على اعتبار أنه إنسان بالدرجة الأولى، تم يجب على هذا السائق أن يكون متخلقا أمينا وصادقا في عمله، حتى يتمكن من تقديم صورة جميلة عن بلده بالنسبة للمواطن وبالنسبة للزائر والسائح على حد سواء...

 

حميد طولست فاس المغرب

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1542 الاثنين 11/10/2010)

 

في المثقف اليوم