أقلام حرة

ثقافة الابتسام / حميد طولست

 الامتثال أو الإتباع أو التكيف التلقائي. وقد تلقينا الكثير منها في المدارس الابتدائية والثانوية والجامعية، وتكلم الناس، ولازالوا يتحدثون بإسهاب، في مختلف مجالسهم وندواتهم ومناسباتهم، عن مزاياها، ويتناولون آثارها الطيبة التي تنعكس إيجابا على الفرد والمجتمع ومؤسساته، وحث الدين الإسلامي، على التحلي بها، ووهب فاعلها أجراً عليها كما وحذر المرء من التمرد عليها حتى لا يكون المتمرد عرضة للجزاءات والعقاب وفقاً للمنظومة الأخلاقية والعرفية لمجتمع ومع كل هذا وذاك، فإنك لن تجد للكثير من هذه الأخلاقيات رصيدا على أرض واقع المجتمعات العربية التي تعلو فيها الثقافة المثالية النظرية على الممارسة العملية التطبيقية لتلك المقولات التي تمجد قيمًا إيجابية معينة في الحياة، فلا تلامس الواقع، وتظل ضمن المحفوظات المدرسية التي تظهر في الأشعار والخطب والأمنيات.. ومن بين السلوكيات التي تمثل قيمة أخلاقية إيجابية اهتمت بها كل الثقافات، وأبرزت سماتها المميزة كوسيلة قمينة بإقامة مجتمع إنساني راقي ومعافى، "ثقافة الابتسام" التي لا تقل عن باقي القيم الأخرى التي حثت عليها الديانات والشرائع، والتي تتسلل في يسر ودون حواجز أو قيود إلى قلوب الناس ، فتكسبها راحة وطمأنينة، وتملأها  فرحا وتفاؤلا وصداقة ومحبة ورضا.

إلا أن الثقافة الشعبية في المجتمعات العربية، لا تخفي مواقفها السلبية من الابتسامة التي تخلط بينها وبين الضحك الذي تعتبره نوعا من الإخلال بالرجولة، ونقصا في الشخصية، وتربط دلالته بإهانة الغير أو السخرية منه أو الاستهتار به أو عدم المبالاة به، فتبرم منها الإنسان العربي، ورفض التشبع بها، وضن بها على نفسه وعلى الناس، وأصر على العبوس في وجه الحياة؛ ما يكشف بالملموس، وجود تناقض أو صراع صارخ بين القيم (النظرية) وبين السلوك (العملي) في حياتنا التي أصبح من الصعب على أي متجول في أسواقنا وشوارعنا، وفي مؤسساتنا الحكومية وغير الحكومية، أن يرى وجها باشا متهللا، أو نواجذ مبتسم، فلا يشاهد، إلا العبوس والكآبة، التجهم، والبؤس غير المبرر يرصع ملامح الوجوه، حتى حسب البعض أن هناك خصومة بين الإسلام والفرح والابتسامة، تدعو المسلمين إلى التهجم و إدارة الظهر إلى ما في الكون من آيات البهجة و السعادة و الحبور، والذي استغل بعض خصوم الإسلام هذا المسلك سبيلا للطعن فيه.

فلماذا يا ترى تختفي الابتسامة بقيمتها وقيمها في مجتمعنا؟ ولماذا لا تنتشر الابتسامة في بيئتنا، في شوارعنا وطرقنا العامة وأماكن عملنا، كما يفعل غيرنا من عموم الغربيين الذين عرفوا قيمة الابتسامة وقيمها وقدرتها الخارقة على بناء جسور التواصل والعلاقات الإنسانية؟ فأجلوها وجعلوها واجهة الإنسان المتحضر، وسبيله إلى قلوب الآخرين لإشاعة السلام والاحترام المتبادل، دون تمييز أو مقد مع كل من يصادفونه في الشارع أو عند المصعد، فيبتسمون إليه دون تمييز أو مقدمات، وكأنه من أقرب الأقربين أو أعز الأصدقاء حتى أضحى من العسير أن يلحظ المتفحص، فيهم وفي أغلب أقطارهم، أثار التوتر أو التجهم والانقباض التي تجلل وجوه البشر عندنا... وكأنهم يطبقون قوله صلى الله عليه وسلم: "تبسمك في وجه أخيك صدقة"، وقوله: "لا تحقِرَنَّ من المعروفِ شيئاً ولو أن تلقى أخاكَ بوجه طَلق".

 فإذا ما أردنا أن نسبر أغوار أسباب اختفاء ثقافة الابتسام والتسامح عن مجتمعاتنا، ونخوض غمار التعرف على دوافع انتشار العبوس والتجهم، فإننا سنجد بدون شك، أننا مصابون بظاهرة اجتماعية سيئة-إلا من رحم ربي- يمكن أن نسميها ظاهرة "التجهم والعبوس"، الذي يعود سبب انتشاره بالدرجة الأولى إلى أثر بيئتنا الجافة والقاسية على التكوين النفسي، والتنشئة غير السليمة التي اضطربت معانيها في خلطة مفاهيم وممارسات الدنيا والدين، إلى جانب أساليب التربية الصارمة ، التي يتبناها الآباء، و أولياء الأمور، المفرطة في الجدية إلى درجة الإسفاف؛ حتى أن من يولد بين أبوين غضوبين تقل الابتسامة على محياة، ولا يبتسم أبدا. وتعود بالدرجة الثانية إلى الموروث الثقافي السلبي من شعر وحكم وأمثلة شعبية وسواها، مما يعيب الابتسامة والتبسم، ويعتبرها تنقص من هيبة الإنسان، وتحط من قدره ومكانته الاجتماعية. وقد تعود أسباب ذلك إلى الظروف الاقتصادية السيئة، وواقع الحياة المزدحمة بالمطالب المعيشية المتزايدة للأسر المضغوطة، التي يعيشها عدد غير قليل من أفراد المجتمع والذي أصبح يُبحث فيه عن الإنسان المبتسم المشبع بالسعادة، فلا يُعتر عليه بدعوى قسوة الزمان، كما قال الشاعر: 

كن بلسماً إن صار دهرك أرقما     وحلاوةً إن كان غيرك علقما.

وإذا ما نحن ناقشنا مصداقية الأسباب السالفة والمؤدية إلى نذرة الابتسامة، وشيوع العبوس وديوع التجهم في مجتمعنا، فإنها  سرعان ما تتهاوى أمام تجربة وواقع حال الأمم الغربية، التي آمنت أنه لا مبرر هناك أبدا للعبوس والتجهم في وجه الغير والحياة، الأمر الذي جعلهم يتخلصون من الكآبة والعبوس واستبدلونه بالابتسامة البريئة من الغايات النفعية الانفعالية المنافقة.

 وبالمناسبة أذكر أن الصين أقامت في السنوات القليلة الماضية، سلسلة من النشاطات الكبيرة لتجسيد مشاعر ومعنويات سكان العاصمة بكين المتناغمة، وكان موضوع الأنشطة الرئيسي هو "البحث عن أجمل ابتسامة في بكين تعرض الروح الإيجابية التي يتمتع بها الصينيون" وذلك لنشرها في أرجاء الصين، ليتعلم الصينيين التعبير عن مشاعرهم ونقل الصداقة ونشر الحضارة وإقامة التناغم بالتبسم.

فكم نحن في حاجة ماسة إلى نشر ثقافة الابتسام بيننا، ونبذ الإرث المتراكم من ثقافة التجهم، والإضراب عن العبوس المفتعل واستبداله بابتسامة صادقة صافية تعكس ما في القلب من محبة وتآلف.

فلنتخلى جميعا عن "عبس وتولى" وأختها الابتسامة الزائفة التي تخفي وراءها الأحقاد وتنفر الناس حتى من الفقهاء والشيوخ ولو بلغوا في الدين ما بلغوا.

 

حميد طولست

 [email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1547 السبت 16/10/2010)

 

 

في المثقف اليوم