أقلام حرة

صلاح محاميد ... ايطاليتي

وهو يوميات يصف فيها احداث خلاف مع مواطنين وتداعياته القضائية .  بيد ان اليوميات تتطور من مسألة شخصية الى تمحيص الكاتب في جذور التناقضات التي تعشش في العقلية السياسية الإجتماعية الحالية لا بل يذهب في تحديد اسباب الأزمة العالمية. يغوص بعيداَ في التاريخ ويحدد بعض أشكال التواصل بين الغرب والشرق في الأندلس والمغرب العربي ( ولايات شمال افريقيا) قبل عشرة قرون مع بلورته لإسقاطات عوامل الأزمة . ويعين تفاصيل المنطق ويطرح حلولاّ.

تبدأ اليوميات في منتصف حزيران 2007 وتنتهي في اواخر تشرين الاول من نفس السنة. وتشمل مقارعات وتنكيلات ومرافعات مستمرة منذ إثنى عشر عام .

-هل هو نقد للنظام القضائي ؟

-أبداَ!خلال معظم المرافعات كان يحثني شعور بالتضامن مع القُضاء وضابطي الأمن حيث كان يبدو منهم وكأنهم مقيدي الأيادي في تفسير توجهاتي كشرقي . يعود هذا بإعتقادي إلى الأحكام المسبقة السلبية حول الشرق والعرب والإسلام. كتابي هذا مساهمة مني في التوضيح . لقد خمرت المواد المطروحة.احب إيطاليا واهلها . كلي ثقة بالقضاء واتمنى ان يكون ما كتبت في خدمة حوار الحضارات.

-اين العلاقة بين الشعر،القضاء، مهنتك كطبيب وحوار الحضارات؟

-يكفي ان نتخيل ونعايش الرخاء الذهني  والهدوء والإتساع والهناء عند قراءتنا للأندلسيات  وهي زبدة التعليمات القادمة من مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس. كل موضوع مربوط بالآخر. يجب على العلوم والتكنولوجيا والقضاء ان تخدم سلام الإنسان . ساورني الإمتعاض حين صدور احكام تجاهي ينتابها الشعور بالمِنّة .تطالب بالإستجداء وتعكس نفسية الإستعلاء . ارفض هذا قطعياَ واجهد إيصال إستخلاصاتي بأن حل الأزمة الوجودية التي تعيشها حالياَ " المدنية التنويرية" هو بالذات الرجوع الى المنابع الأصيلة التي نهلت منها تطورها: إلى الأندلس وإستكمال والإستسقاء من المشارب الروحية لتلك الحضارة والتي لم تستطع عقلية الأوروبي آنذاك هضمها وإستساغتها. وهذا يفسر عدم نضوج العقلية المدنية لمفهوم السلام الذاتي وبين الشعوب.

-إثنى عشر عام ! اليست مُسرفة لشخص عليه ممارسة مهنته كطبيب! وما هو الثمن الذي دفعته؟

-مهنتي الدفاع عن الإنسان ! عن جذوري العربية والإسلامية ! وجدت نفسي في هذا الميدان وتوجب علي ان أواجه وتفادي التملص . لقد ضرب خصومي اسباب مهنتي ودخْلي لمصالحهم الضيقة والمريضة . وصلتني هذه الأيام ايضا قرارات قضائية

موغلة في التنكيل وسأرد عليها بما استطعت . كل شئ يرْخُص من اجل الكرامة الإنسانية والعزة الشخصية. لا يهمني الركض والغناء مع التيار والتهرب والتنصل من مهام تاريخية ورثتها اباَ عن جد. اجده مفيداَ الإشارة للعقلية الحالية المتأزمة ان العولمة هي فكرة شرقية قديمة كان قد انجزها ابونا ابراهيم الخليل عليه السلام بنجاح ودون رجعة وما نعيشه من تداعيات الثورة التنويرية لم يضرب جذوره في الأرض بعد اكثر من ثلاث قرون.

يشمل الكتاب عشرات الفصول في الشرح حول المنطق القضائي وإندماج المهاجر في المجتمع الإيطالي. الحديث عن فلسطين حضارة وصراع وعن الثقافةالعربية بكل عام وعن دول عربيةاخرى. هناك مقاربات ومباينات بين عمالقة مبدعين ايطالين مع عرب مثل: الخنساء و معاصرين نور الدين صمود و احمد قران الزهراني، منير مزيد الخ. السرد ثري بتفاصيل حول عمليات وديناميةالإبداع الفني  لا بل حل وقائع إجتماعية محضة يطغى عليها الهومور.

رغم قساوة الاحداث الدراماتيكية فالكاتب ينعش السرد بقصائد منسجمة مع الاحداث لا بل يتوج الرواية بحفلة زواج.

الكاتب صلاح محاميد لا يعيش معركته في خندقه الثقافي المتقدم وحيداَ فهناك كبار المثقون الطليان يؤازرونه في رؤيته . ولمن يهمه الأمر في النشر، التضامن والتعبير يمكنه الإتصال ب :

[email protected]

0039 348 7946479

0039 328 3482671 

 

   ........................

   وهنا الفصل الأول وأحد أواخرالفصول:      

13حزيران 2007

كنت أريد كتابة شيء آخر وأنسى تاريخي مع جيراني وماِلك العيادة التي بدأت العمل فيها كطبيب منذ 1991، وهو تاريخ من الغيظ دام أكثر من عقد من الزمن،ومنذ خمس، مرافعات في أكثر من محكمة. كنت أريد أن أُوجه ذهني إلى إتمام ترجمة ملحمة "مجنون ليلى"  لأحمد شوقي من اللغة الأم،  العربية، إلى الايطالية.  وهي ملحمة حب تراجيدية تشبه إلى حد ما قصة روميو وجولييت الايطالية، في حين أن الملحمة العربية استسقت أحداثها من  شبه الجزيرة العربية في القرن السابع بعد الميلاد، وهي تزخر بعناصر إنسانية جمالية . قصدت بهذه الترجمة تعريف المواطن الايطالي بكنه الانسان العربي . منذ سنين، وبعد أحداث 11ايلول تبلور لدي  شعور باستقطاب  بين الثقافات  : بـآبئ  من  حروب تحرق أفغانستان، لبنان، العراق، السودان ووطني فلسطين. في ايطاليا احس في تصرفات الناس بأصداء الحروب البعيدة . يُبحث عن الاسلام وعن الحوار، هناك حاجة ماسة للمعرفة المتبادلة، وهذا ما كنت أود القيام به عن طريق الشعر .

 انعكست كثافة غيظي  على تركيزي في عملي، فالحالة غير السوية التي أعيشها  بسبب تصوراتي للمنطق القضائي وتعقيد فهمي لوظائف المؤسسات وبسبب الإلتواء الفكري والمراوغ لبعض الاشخاص(خصومي) مما جعلني ان اتصرف في السنوات الأخيرة كمحقق، وقد توجه اهتمامي إلى موضوع لم أكن أرغب تناوله، لأنني بكل بساطة كنت أريد إيقاء نفسي من ذاك الحنق الذي يمكن ان يتدفق خلال الكتابة ولأحظى بحريتي الذهنية متجاهلاًهذا التاريخ . إن الكاتب يعيش مشاعر شخصياته من خلال السرد و كنت أريد أن احصن ذهني من تلك المضاعفات حتى يستطيع التعبير تلقائيا، الشيء الذي يمكنني من العيش الطبيعي: ان أنجز مهنتي بشكل عادي، أن أكتب الشعر وكل ما يمكنه أن يخدم  قضية التعايش بين الثقافات وأن أعود من جديد إلى نشر مقالاتي في النقد الفني في الصحف المحلية وبلغة الأم كما كنت أفعل سنة 1995و1996.

 

شمس فاترة، هنا في الطابق السفلي من العمارة التي يتعشش فيها الخلاف، المسماة "فيللا لوتشيا"،حيث اكتب الآن، تنبض على الشباك الذي يطل على حرش كثيف الخضرة. انعكاسات الأشعة على الأوراق تتلألأ، يتسامى الشخص  كلما استكان أو استرخى ناصتاً  إلى خرير مياه الواد المجاور.النسمات الطرية وخليط من زقزقة العصافير، هنا تجعل القلب ينبض بتودد . ينشرح الصدر بإستقباله النسمات الطازجة وامواج حرارية تتسربل في احشائي . احس بإحتضان الطبيعة بلطف وإنسجام سلامي مع الكون . جزءُ كبير من هذا  الاحساس فقدته في هذا المكان، عندما اشترى فلان إبن علان  الطابق الأول سنة 1997، الذي يسكنه وولديه وزوجته التي تحمل اسما عربيا ......... والذي يعني في الايطالية (وردة فياحةالعطور)   اصلها من التشيلي وجدُّها كان مهاجرا سوريا .

كتب كارل كوستافو يونغ بأن صفات الشخصية مرتبطة باسمه الخاص وعندنا نحن العرب يعطى للمولود اسم الظرف الذي ولد فيه أو صفة ما يحب الوالدان  أن يكون عليه ابنهما في كبره، وقد لقبت أنا بصلاح لأن أبواي، اعتقدُ، كانا يصبوان أن أصير كالسلطان صلاح الدين الأيوبي ومعناه في الايطالية PIO DELLA FEDE، والذي تلفظون اسمه بصالادينو العنيف .

وعكس ما قاله عالمنا النفسي هو ما حدث معي، فكل هذه السنوات  لم أشم من السيدة ذات الأصل العربي ولو نسمة واحدة من ورد أّلف فيه الكثير من الأغاني. يضيف العالم النفسي يونغ أن الصفات الشخصية قد تتقمص قيماَ معاكسة للاسم الذي تحمله.

"لا أعود إلى بلدي لأن نمط العيش هناك معقد ومُسرف، تركت بادوفا حيث تخرجت لأن أبناء شعبي كثر هناك ومعهم أضيع الوقت" . رويت مرةً  لمسؤول حول التنكيلات التي اواجه في ذاك المكان واضفت :"يجب علي العمل وان اكتب  لكم وللعرب   . فوق راسي تتربع سيدة بإسم عربي تحاول جعل حياتي جحيما . ان تحولني الى خرقة. فقدت معظم زبائني . صارت الكتابةهنا حلماَ. هربت من بعض العرب لأجدهم فوق رأسي. اخترت ان اعيش وربما ساموت هنا لأنني احب هذه المناطق وسكانها الجبليين.اقوم بواجباتي بافضل الأشكال . ويجب علي احترام قسمي المهني (ابوقراط) وقسمي الولاء للدستور. اريد ان أخدم   الجمهورية الإيطالية، وطني الثاني،كما اخدم العرب، بافضل الأشكال. ان اتابع نموذج حضاري ومهني كنت قد ضحيت من اجل تكوينه وقتا طويلا في الدراسة والبحث والتنقيب. منذ صغري تعرفت على التعاسة والظلم ومن حينها شرعت في الدراسة وقراءة الكتب .

 

23-10-2007

وصلت البارحة مساء من البيضاء. إليها سافرت في منتصف الشهر الجاري لقضاء أخر أيام رمضان وعيد الفطر ولإشباع رغبتي، حديثة الظهور، في الإستطلاع . ذهبت للتعرف على المغرب.

انطلقت الطائرة من فنيتسيا وحلت بمطار البيضاء، اثار اهتمامي الوجود الكثيف بين الركاب الأطفال الايطا- مغاربة . الشيء الذي أسعدني هو تكلمهم الايطالية. تيقنت بان لغة دانتي والبتراركا*، اللغة الإيطالية، والتي  أحب الكتابة بها، لن تنقرض مع المواطنين المحليين المتناقصين مع الزمن . هذا الميراث الثمين، اللغة، ينطقها  ويتقدم بها  الأطفال المغاربة .

شمس خجولة تطل من نافذتي والبرد هنا على قمم الدولوميت يُحتم تشغيل التدفئة. أخذت الشمس أول البارحة بالتحديد على شاطئ عريض في البيضاء . اليوم السابق كنت قد احييت لقاء ادبيا. رئيس الصالون الأدبي، مصطفى لغتيري، تحدث عن النشاط الثقافي للصالون الذي يتكون من اعضاء جلهم أساتذة ومعلمين وأستاذات ومعلمات.  يدعون شهرياّ  فنانا من العالم العربي لينشطوا الثقافة في المدينة . الكاتب سعيد بوكرامي قدمني  منوها بنشاطي الثقافي وتكلم عن فني . بعدها قلت كلمتي:

" أنا هنا من أجل عيد الفطر والراحة. وللتأكد من تصورات اوردتها  في كتاب لي يتكلم عن شمال افريقيا ويشكل فيه المغرب العنصر الرئيسي . اردت التيقن مما كتبته عن هذا البلد وكنت قد وثقته في كتابي . حقيقية،  كنت قد تعرفت على فتاة مغربية صدفة منذ بدايتي في هذه المهمة الشاقة : توثيق احداث في كتاب والذي يمكن ان  يحمل عنوان" محاكمة شاعر".  رافقتني الفتاة خلال الكتابة وجعلتني انتعش بمشاعر الحب . وفي كتابي الذي يحكي قصة حقيقية عن العدالة والقضاء والحضارة، كنت في غالب اللحظات أحقد، أحزن وأتشوش. وبفضل مشاعر الحب،لم تكن أوقات الكتابة عنيفة.

أقدم لكم اليوم قصيدتي " حسام من أشعار" والتي شكلت  شرارة الانطلاق والتحفيز لقراري في التعمق في عقلية الغرب في تحليلها وكتابتها!

قال الشارح** ." لم  يتوجب عليك السفر والابحار في تلك العقلية والتي  رفض المغاربة التعامل معها منذ  أكثر من خمس مئة سنة مضت . في المغرب وفي الأندلس ازدهرت المعارف و – العلوم-  *** المعرفة الحقة. حينها كان يسود الرخاء والأمان الامر الذي أجج حسد الجار  الاوربي  الذي كان يعيش في  امتعاضات وظلام العصور الوسطى. هنا  في المغرب، تواجدت آنذاك عوضا  عن روح الاسلام، جذور العلوم التقنية، المنطق التجريبي والمادي . في المغرب تواجدت وتركزت صفاوة الجهد الفكري لأكبر واعرض حضارة في التاريخ :الحضارة العربية بمقاييسها الروحية والبراغماتية المادية . ومع هذا فالمغاربة لم يشأوا السفر في التقنية والمادية . لقد رفضوا تعلمها وامتحانها عميقا . وكانت لديهم حقا أسبابهم. كانوا قد ادركوا ان التماهي مع التقنية يفقد تداعيات الروح الانسانية . فهموا انه من الممكن ان تولد التناقضات والتي ستحرفهم عن ثوابتهم، عن قناعاتهم، أفراحهم وروائعهم . ببساطة لم يريدوا مواجهة عنف التقنية . ارادوا ان يتقوا مضاعفات عبثيات المادة. فضلوا الراحة والاسترخاء. أهدوا  مفاتيح العلوم التقنية أو، نستطيع القول إن الاوربيين وجدوا في علوم المغرب البراغماتية  الشكل والسبب ونقطة الإنطلاق من أجل التنوير.

بدينامية حوامية اسرعت  الشعوب الاوربية في البحث في المادة والاكتشاف والتحصيل والتغيير. ونشأت الصناعات .كانت الثورات. فصلوا الدين عن الدولة ووُضعت الكنيسة جانبا . نشبت الحروب بين العقائد الدينية في اوربا. كانت حروبا وحشية بينهم سموها،بسبب عنجهيتهم وإستعلائهم، عالمية . وولدت الامبريالية . وماذا كان مع المغرب! ذلك النبع الذي استسقوا ونهلوا  منه مفاتيح التقدم الصناعي والمعرفي  . لقد داسوا عليه وما زالوا يفعلون.بطشوا به! في العالم بسبب العقلية المادية قد مات  ملايين البشر .

المغاربة، في ضميرهم، لم  يريدوا أن يصيروا سبب هذا، ولهذا  فضلوا النعاس لأنهم رفضوا أن يكونوا شركاء لهكذا نتائج .

 

كانوا يسايرون غرائزهم وضمائرهم ويشعروا بمحتوياتها، بتلك القيم والطاقات المولودة معهم والتي تشكل ضماناَ للصيرورة. ما زالوا أحياء ! وقد حافطوا على قيم الماضي ويتمتعون الآن بالهدوء، بحيثيات  الرخاء والتقدم  المادي حصيلة جهود العقل الغربي . ولكن دون ان يكونوا سبباَ في الحروب الدموية او أن يبطشوا بشعب آخر . لقد انتصر المغرب!"

كنت قد ألقيت، خلال اللقاء الأدبي، قصيدة حب مهداة إلى مغربية وقصيدة أخرى،كتبتها هناك، مهداة إلى البيضاء. لقد عبر الكثير عن اعجابهم بالقصيدة  الأخيرة. وقد

 أضاف المعلقون وهم صحافيون وكتاب وأصحاب أقلام أن القصيدة كانت من أجمل ما كتب حول البيضاء.

كانت شمس افريقيا تشع على شواطئ المدينة العريضة المقابلة للمحيط . الأمواج طويلة وهائلة ومتقاربة وخلال المد تكون مرتفعة وزاخرة بالمغازي . وهناك ينبش الهواء الخياشيم، هواء غني باليود. يخترق القصبة الهوائية والرئتين. ينظف،ومنذ وصولي  اصابني السعال حيث تحررت من البلغم الذي كان قد ترسب لدي في الماضي . كنت قد استحممت في المحيط وعلى جلدي تكون غشاء لزج . هناك للأسماك مذاق طيب وخاصة ذلك الذي يقدمونة في الاسواق الشعبية . أما الشواطئ العريضة وطولها اللامتناهي فقد تحولت ساحات ملاعب لكرة القدم . يلتقي فيها اطفال كثيرون، يصرخون يهرجون ويمرجون . وقد توزعوا بفرق متواجهة للعب كرة القدم . يمارسون لعبتهم بأناقة، بنظام، باحترام متبادل، يحتفلون بعيد الفطر .

ساعات المساء، الشباب المتوافدون على مقاهي الشواطئ أزواجا، يتسامرون  على الطريقة الأوروبية . تشع في وجوههم الحياة والطمأنينة . إنها تداعيات رمضان. يبدو أن الجيل الصاعد كان قد حدد معالم طريقه . يعرف ماذا عليه أن يحفظ من الماضي  وإلى أين يريد الوصول. يواظبون على الصوم لكنهم لا يستغنون عن تقليد الغرب والنهل من ثقافته. الجميع يتحدث بالفرنسية . في البيضاء، يشبه الشباب مصطفى، ذلك الصديق المغربي القاطن في ايطاليا. تعرفت عليه منذ عشر سنوات وهو قادر على تنفيذ كل الأعمال: من بناء متمرس  إلى كهربائي متخصص، إلى نجار موهوب وفوق كل شئ تاجر حذق. معظم المغاربة يتفننون في التجارة  ومصطفى يبيع ويشتري. يستورد ويصدر . ومن حين لآخر عندما كانت تنقصه النقود كان يهاتفني لأجد له مخرجا، فأجد له عملا ما ينفذه في بيتي. أحيانا كثيرة عند رجوعه من المغرب كان يحضر لي الهدايا . وكان يثير حفيظتي خلال عمله في بيتي حيث كان يصدر منه تصرف لا أفهمه . خلال إنهماكه كان يحافظ دائما على سيجارة مشتعلة في زاوية الشفتين. عيناه شبه مغلقتان من  ضجر الدخان . كنت أناقشه،  بهدف إفادته،لأني أريد له الخير، كنت أسدي له النصح كطبيب متمرس في المجتمع الإيطالي. نصائح وتعليمات تفيده في اندماجه في المجتمع : أن يهتم بصحته، أن يكون نموذجا للإنسان العربي في ايطاليا . أن يتفهم النهج الإيطالي ويسير وفقه وأن يتجنب المراوغاوات والمداهنات. عندما كنت أحدثه كان ينظر إلي، يبتسم مظهراَ اسنانا صفراء، تاركا الانطباع بأنه غير مقتنع بنصائحي .أن لديه كرامة وعزة نفس تفوق نصائحي  ولم أفهمها. كنت أعزي لها صفات العجرفة والزيف، وكنت أعرفها بالمبالغة وبدون رصيد.

على شواطئ البيضاء معظم الشباب يشبهون مصطفى ولكن القليل منهم يظهرون اسنان صفراء . احسست أن في داخلهم الكبرياء، الصبر، الكرم والتواضع . في روحهم يمور بركان مسجون على صدد التحرر والظهور ولكن ليس الانفجار. هناك فهمت لماذا يتصرف كل مغربي في ايطاليا كحكيم . إنه التقليد: هم الذين كانوا قد استسوغوا الثقافة العربية على وتيرة منتشية ومحفزة من الشمس الافريقية ليقدموها، بحكم موقعهم،إلى اوربا. يتبوأ عن الشباب ثباتا في العمل، ثقة في المستقبل .

يقينا لا تنعدم أوجه الفقر والعنف في تخوم المدينة.

حدثت أصدقائي الجدد المغاربة المثقفين حول كتابي هذا ووضحت أنه سيكون اسهاما لأبناء جنسيتي الايطاليين . مساعدة لهم لكي يفهموا كيف ينظر شاعر شرقي إلى مفاهيمهم القضائية، الأمر الذي سيساعدهم في فهم معضلاتهم الوجودية متربصين بالتحولات في شمال افريقيا.

قال الشارح: "عندما يترعرع ذلك الجيل من المغاربة الايطاليين، حينها سوف نحصل على نتائج عينية . سوف يمارسون حقهم في المراقبة والتمحيص حول استعمال

المعارف والعلوم المستقاة من المغرب بعد تقديمها وتصديرها  للغرب لاعطاء دفعة للانسانية.

سيوجهون مجددا التفكير الانساني، ويعملون على التذكير على أن ما أخذ منهم من علوم وتكنولوجيا  والتعليمات العسكرية والقضائية والاقتصادية ...الخ وباختصار تلك التوجيهات،و المؤسسات، عليها ان تخدم أي مخلوق كيفما كان بشكل جيد، ان تكون هبة للانسان دون تمييز أو التدخل في الشؤون الشخصية لأحد منهم.

عليهم أن يفهموا أن المعارف هي مجرد ملح على الطعام، هي قمة الهرم  والمنار . ويجب أن تعمل على كيفية خدمة القاعدة، الأساس التي انطلقت منه . لأنها الامتداد. لأنها من الجذور  ترعرعرت واستمدت وجودها منها، و مربوطة برباط عضوي معها. على المغاربة كشف  الضوء على الانتحال الذي تعرضت له اهداف علومهم في العالم.

العلوم تخدم الحياة، الروح، لكنك اليوم، في اوروبا،  تجد مهنيين في المجتمع . أشخاص لهم باع طويل في المعرفة والتحصيل من أجل بناء شخصية حقيقية.غذوا عقولهم بالتجربة الحية القادرة على قيادة الجسد الذي يلعب دورا رئيسيا في العمل وتأمين دخل يسعفهم للعيش، لأنهم،والصراحة أقول،مقتنعون بأن  العمل هو نهاية التحصيل.  وهم مقتنعون انه بعكس هذا سيكون الفناء !يعيشون من أجل العمل .

محوا من عقولهم التداعيات التي لا تخدم مهنهم،  كل ما لا يعطي الامان الاقتصادي، مُحي وابيد . في عقولهم انقصوا الكمال . رفضوا شبكة العلاقات الاجتماعية المغربية ذات الطابع العاطفي، وما تحبل به من طقوس وعادات وتقاليد،والدينية منها، التي ضمنت الصيرورة عند شح المادة.    

  ليس هذا فقط، بل إنهم مقتنعون أن خيارهم هو الأفضل وهم مستمرون في تقنين  لمقاييس حياة أفضل . لكنهم لا يهتمون  ولا يتكلمون عن أجيال المستقبل . لا يستطيعوا  أن يروا في محيطهم سوى أنفسهم، انتصاراتهم الموهومة . إنهم توابيت تسير في الشوارع بحثاَ عن جودة أفضل لحياتهم . يبنون بيوتا، يدشنون مصانع، ينجزون بنية تحتية وفوقية ويلدون سيارات وفي الوقت ذاته أولاد المغاربة، في اوروبا، يملؤون الشوارع ومقاعد المدارس وحتى أماكن العمل. وقد يصبح المغاربة الشعب الأصل لهذا البلد بعد انقراض سكانه .ألا ترى بأن المغربي قد انتصر!           

       

* دانتي والبتراركا هم شعراء وضعوا اسس النطق بالإيطالية.

**الشارح: هو صوت لشخصية حقيقية او وهمية يوظفها الكاتب في روايته .***العلوم . يوردها الكاتب  بالايطالية مفيدا انه لا يوجد لها مرادف في لغات العجم .

 

للتواصل مع الكاتب والتعبير والإستفسار والتضامن :

[email protected]  

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1087  الثلاثاء 23/06/2009)

 

 

في المثقف اليوم