أقلام حرة

هذا الدم في رقبتك يا جعفري...

يصدق على الأفراد. واليوم، وصور الإرهاب والدم تمر في شاشة التلفزيون، لايسع المرء إلا أن يتذكر بأسف، تلك الفرص التي ضاعت على الشعب العراقي.

 

واحدة من تلك الفرص الذهبية النادرة نزلت من السماء على العراق في وقت مبكر نسبياً، وفي أوائل مبادرات الإرهاب التي كان نيغروبونتي مشغولاً بزراعته في العراق مستفيداً من خبرته الواسعة في هندوراس (نيغروبونتي: السجل الخطير لسعادة السفير). حدث ذلك عام 2005 في البصرة حين شاءت سعادة الصدف أن يرتكب من اعتادوا إدارة الإرهاب عن طريق الوكلاء، أن يقوموا بذلك بأنفسهم لسبب ما، ربما كانوا يريدون تجربة ذلك ميدانياً بأنفسهم. ولسوء حظهم شك بوجودهم نفر من الشرطة الشجاعة (الذين دفع أثنان منهم حياتهما ثمن ذلك) والقوا القبض على ضابطين بريطانيين متنكرين بملابس الملالي يجلسان في سيارة قرب إحدى الحسينيات. وحين طلبت الشرطة منهم أوراقهم هربوا بعد قتل الشرطيين وتمت مطاردتهم واعتقالهم, وامسكوا معهما "أسلحة إرهاب" من متفجرات وأسلحة نارية، وأهم من كل شيء، جهاز تفجير عن بعد!

 

وبنفس أهمية دلائل الإدانة هذه، كان تصرف الجيش البريطاني دليل إدانة أقوى، فقد جن جنونه وحاصر السجن بالدبابات فوراً ثم اخترقه بها لإنقاذ المعتقلين! إن هذا العمل المتهور يدل بوضوح أن الجيش البريطاني لم يكن حريصاً على العنصرين المعتقلين لأنه عرض حياتهما للخطر الشديد بهذه الطريقة، إنما كان حريصاً جداً على أن لا تتاح للحكومة العراقية أن تحقق معهما والحصول على المعلومات التي بحوزتهما قد يقدمانها باعترافات تحت الخوف. فما الذي يمكن أن تكونه تلك المعلومات؟

 

كان يجب أن يصر الجعفري على التحقيق وأن يكشف الحقيقة للشعب وعلى مستوى العالم رغم صعوبة ذلك وخطورته على حياته. ليس مفهوماً كيف كان الأمر سينتهي، ربما بشكل تسوية غير منطقية، لكن في كل الأحوال فأن الجعفري يكون قد أعطى العالم، وأهم من ذلك ، أوصل للشعب العراقي تحذيراً شديداً واضحاً عن حقيقة لا مجال لإنكارها، عن هؤلاء الذين يتظاهرون بحمايته. لو أنه فعل ذلك لقلل فرص "التحالف" في صناعة الإرهاب لأن التهمة ستوجه إليه بدلاً من أن توجه الى الأشباح من "القاعدة" و"قوى الظلام" و "الزرقاوي" وبقية العفاريت كما يحدث حتى اليوم. وكان سيمكن للحكومة العراقية أن تتعامل مع الأمريكان بشكل أكثر حدية ووضوح، وكانت الأمم المتحدة ستخجل من القوات التي فوضتها في العراق وستعمل على إنهاء ذلك بأسرع وقت، وكان الجانب الأمريكي سيكون أكثر مرونة وتواضعاً في مطالباته، وفي كل الأحوال ما كان للمعاهدة الخطيرة أن توقع، والتي رفضها الجعفري بالفعل، ويحار العراق بها اليوم.

 

لقد ذهبت هذه الفرصة العظيمة للأسف، وأصبح تذكير العراقيين بها وبالدلائل التي قدمتها صعباً، خاصة وأن أميركا تسيطر على وسائل الإعلام، إضافة إلى رعب خفي يسيطر على الناس حتى من الدعوة إلى النظر في احتمال أن يكون الأمريكان وراء التفجيرات، فما يكتب عن الموضوع قليل بشكل مثير للعجب، رغم كثرة الأحداث التي تشير الأصابع فيها أيضاً إلى نفس المتهم، مثل مقتل الضابط الوطني مبدر الدليمي( لماذا كانت جريمة قتل مبدر الدليمي -شديدة الغرابة-؟) و جريمة قتل أطفال النعيرية (من قتل اطفال النعيرية؟ رائحة فضيحة اكبر من ابوغريب!) وتفجير مصفى الشعيبة في البصرة (عندما تقود الخيوط الى الإتجاه غير المناسب لتفسير الإرهاب: مصفاة الشعيبة وانفجار الموصل وغيرها) وغيرها كثير.

 

رغم الأسف الشديد على ذلك، فأن تصوري أن الجعفري ربما كان يقصد الإنتظار حتى تكون له بعض القوة الأمنية العسكرية، وحتى يكون رئيساً لحكومة اعتيادية (وليست مؤقتة) قبل مواجهة الإحتلال بصراحة.

كان مخطئاً. لأن الإحتلال كان يفكر بمثل هذا الإحتمال فلم يمهله، بل سارعت كونداليزا رايس بزيارة سريعة لبغداد لمنع تثبيته، انتهت باستبداله بالمالكي، وهي خطوة أثبتت الأحداث التالية أنها كانت مدروسة بشكل ممتاز.

 

لقد اثبتت الكثير من احداث التاريخ أن محاولات "خداع الإحتلال" بمسايرته في البداية انتظاراً للحظة المناسبة، تبوء دائماً تقريباً بالفشل، فالإحتلال ليس بالبلاهة التي قد يتظاهر بها، بل يستفيد عادة من تلك "المسايرة" ثم يضرب في الوقت المناسب قبل أن يتاح للمقابل أن يتخذ الموقف القوي، وليس من المستبعد أن المالكي يفكر اليوم بهذه الطريقة أيضاً كلما احرجته الأجندة الأمريكية.

 

هكذا أضاع الجعفري فرصة لو استغلها لحقن الكثير من الدماء العراقية التي مازالت تنزف بغزارة، ومازالت الأجندات الأمريكية تفرض على الشعب العراقي بالإرهاب والقتل كما فرضت المعاهدة، وكانت فرصة ثانية لإفلات العراق من فك الذئب، تركت تمر بحجج ثبت سخافتها الواحد تلو الآخر، من الفصل السابع إلى التهديد الإيراني وصولاً إلى الكلام الطفولي المخجل لوزير الدفاع بضرورة بقاء الأمريكان لحمايتنا من القراصنة!

 

أما التفسير المعقول الوحيد للمعاهدة، فهو أنها تثبيت للقوات الأمريكية، حيث ليس هناك جهة يمكن أن تجبر أميركا على تنفيذ بنود الإنسحاب التام، بل ستبقي ما تحتاجه من قوة لخنق اية إرادة عراقية، باستخدام حجج كثيرة أو حتى بدون حجج، كما حدث مؤخراً وفاوضت البعثيين وحين اعترضت الحكومة قال الأمريكان أنهم "مسؤولون عن السياسة الخارجية والداخلية العراقية"، ولم ترف شعرة في جفن من سبق أن طمأن الشعب بأن سيادته محفوظة في المعاهدة كما حفظت سيادة اليابان والمانيا...مسهماً في خداع هذا الشعب سيء الحظ.

 

واليوم يطل علينا بعض من لايخجل من التاريخ، مثل صالح المطلك، ليوجه الإتهام بالجريمة إلى الحكومة العراقية وإلى إيران، ويقول أنهما تستفيدان من ذلك في الإنتخابات، مع أن المنطق يقول العكس تماماً، فلا شيء يفيد الحكومة في تحسين صورتها في الإنتخابات القادمة كتحقيق الأمن، حتى أن المالكي حاول أن يعطي أنطباعاً بالأمن حتى قبل الوقت المناسب برفع الحواجز. كما وجه إلى الحكومة نقد شديد بسبب فشلها في تحقيق الأمن.

أما إيران، المتهمة المفضلة في كل شيء لدى البعض، فأن خير ما تطمح إليه هو انسحاب القوات الأمريكية التي تهددها بشكل خطير، ولا يؤدي التدهور الأمني سوى إلى الضغط على الحكومة لتمديد بقاء الإحتلال.

أما الحكومة وجماعتها وبقية الطيف السياسي العراقي وغالبية المنظومة الصحفية فتصب غضبها على الأشباح من "بعث" و "قاعدة" و "قوى الظلام"، وكل هذه يفترض أن تتضرر من نتائج الإرهاب، وكلها يفترض أن تنتظر وتزيد الضغط على الحكومة من أجل تنفيذ الإنسحاب.

 

إن منطق أمثال المطلك وجماعة الحكومة يعني أن الجماعة التي تنظم الإرهاب، مجموعة مجنونة تعمل على الضد من مصلحتها، وهو منطق غريب عجيب. بينما يتم, ولإسباب مختلفة، تجنب توجيه أي تهمة للإحتلال: الجهة الوحيدة التي يمكن أن تقوم بتنظيم هذا الإرهاب لصالحها، والقادرة على تنفيذه، ولها تاريخ طويل في ذلك. لقد أوضحت أميركا مؤخراً هدفها في إعادة البعث إلى السلطة، لكنها اكتشفت أن الشعب ليس "مطبوخاُ" بعد، كما اكتشف المالكي ذلك قبلها وتراجع عن كلامه، وهاهو السفير الأمريكي يؤكد أن بلاده "لا تريد إرجاع البعث"، في تحول مفاجئ غريب، بعد كل تلك التصريحات وإحراجات المالكي في واشنطن، وكل تحويلات "أصدقائها" (الذين جاءوا بالمعاهدة، الذين عادوا البعث) لموقفهم للتحضير هذه العودة. لقد قرروا أن "يطبخوا" الشعب بالإرهاب حتى يطلب منهم ذلك بنفسه.

 

لا اقصد بالطبع أن اتهمك فعلاً بألمسؤولية عن هذا الدم الذي سال في العراق ومازال يسيل بغزارة، ايها الجعفري، وقد أضاع غيرك أكثر مما أضعت، لكنك تدرك اليوم بلا شك الثمن الذي دفعه هذا الشعب للخطأ الكبير الذي ارتكبته بتفويت الفرصة لكشف حقيقة الإرهاب والقائمين به من "العقال" الذين هم من لحم ودم، والذين لم يجرؤ أحد بعد على توجيه أصبع اتهام اليهم! حتى يفعل ذلك أحد، سيبقى الإحتلال، وسيبقى الدم العراقي يسيل بغزارة كلما أراد الإحتلال "إقناع" الشعب العراقي بأجندة تتعارض مع رغبات هذا الشعب،...بواسطة الإرهاب....الذي سيقوم به دائماً، المجانين والأشباح طبعاً!

 

..................

ملاحظة: عناوين المقالات التي بين الأقواس ضمن النص، أو ذات العلاقة، والموجودة أسفل هذا السطر، يمكن النقر عليها لفتح المقالة المعنية، وإن نشرت هذه المقالة بشكل يضيع معه الرابط، فيمكن الوصول إلى المقالات على الرابط التالي:

http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/index.htm

أو بواسطة وضع عنوان المقالة في كوكل.

 

 نيغروبونتي:ارهابي خطر يجب طرده فورا

علينا ان ننسى: البريطانيان كانا يحملان جهاز تفجير عن بعد

 لماذا كانت جريمة قتل مبدر الدليمي -شديدة الغرابة-؟

عندما تقود الخيوط الى الإتجاه غير المناسب لتفسير الإرهاب: مصفاة الشعيبة وانفجار الموصل وغيرها

دور علاوي في فقدان سيادة العراق على العمليات العسكرية ووجوده تحت الفصل السابع

نائب ما شافش حاجه

أرهاب بريء من الطائفية

ارهابيي الرياضة والرمز: وعي متقدم لاطائفي

أبي يفتش عن جواب لحيرته : بحث عن الحقائق في موضوع العنف في العراق – 1

أبي يجد جواباً لحيرته: بحث عن الحقائق في موضوع العنف في العراق - 2

تعالوا نراجع الأمر بهدوء : محاولة لإكتشاف الأرهاب

مدرسة الأمريكتين – قصة معمل لتفريخ الدكتاتوريات والسفاحين

من قتل اطفال النعيرية؟ رائحة فضيحة اكبر من ابوغريب!

دروس في الأخلاق, ولكن لمن؟ مجزرة حديثة ومجازر اخرى

الخيارات الأمريكية للعراقيين: علاوي أو الحرب الأهلية– سيناريو نيكاراغوا

لو حكم سليمان الحكيم لأعطاها للجعفري فوراً

أيها الجعفري لاتنسحب

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1144  الجمعة 21/08/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم