أقلام حرة

أميركا تريد إعادة البعث؟ من يقول هذا الكلام؟

لأنه معارض للدستور العراقي، و"معارض للمنطق". وتابع باستغراب "لماذا يريد أي شخص أن يعود حزب البعث الذي كان مسؤولا عن التدمير في هذا البلد عبر هذه السنوات، (....) من الذي يقول هذا الكلام ويزعم أن الولايات المتحدة تريد عودة الحزب، لأني اعرف واقول لك ليس لدينا اية مصلحة في هذا على الاطلاق، هذه المقولات خاطئة كلياً". وأكمل أنه ليس لأميركا مصلحة بالعمل ضد حكومة العراق. (1)

إذا كانت براعة الدبلوماسي تقاس بوقاحته فأن مستقبلاً باهراً ينتظر هذا السفير....

 

أن الذي "يقول هذا الكلام" يا سعادة السفير ليس فقط الصحف العالمية (2) التي تحدثت عن " تواطوء البعثيين والاميركان والبريطانيين للعودة للحكم" ومحاولات "التوصل الى تفاهمات لترتيب وضع قانوني وامني في العراق ، يسمح بان يقوم حزب البعث العراقي بدور سياسي وعسكري وامني في مستقبل العراق القريب ".!

 

و"الذي يقول هذا الكلام" يا سعادة السفير هم من بقي ممن يسمون أنفسهم بلا خجل "بعثيين" رغم الأثر المؤلم لتلك الكلمة على العراقيين، فقدمت الجزيرة المسخ " علي الجبوري" وتحدث بلهجة البعث الصدامي وقال أنهم اتفقوا معكم، ولم تكذِّبوا الخبر، بل جاءت ردود فعلكم مؤيدة ومقلقة للعراقيين الذين لم يعد لديهم أي شك في المخطط، فتساءلوا ليس عن رغبة أمريكا في عودة البعث، بل إن كانت ستصل إلى أن تجبر الحكومة على إرجاع البعث.(3)

 

و "الذي يقوله" هو ردود أفعالكم الواضحة والمباشرة ومن خلال إجابة حكومتكم على استفسارات الحكومة العراقية المرعوبة عن تحركاتكم في تركيا، وتوسلات رئيس الوزراء المالكي بعدم التفاوض مع البعث مذكراً إياكم بأن البعث قتل أمريكان أيضاً، حين أجبتم بكل صفاقة، وبشكل رسمي بـ "أن الولايات المتحدة ما زالت هي المسؤولة عن السياسية الخارجية والداخلية للعراق من خلال سعيها إلى إنجاح العملية الديمقراطية في العراق"!! (4) .

 

والحقيقة أن تصريح السفير بالتبرؤ من البعث، رغم غرابته المثيرة للشك، قد يلقى الراحة ليس فقط في آذان العراقيين الذين علمتهم التجربة أن محررهم من الدكتاتورية لايتورع عن القيام بأي شيء يراه في مصلحته، وإنما أيضاً "أصدقاء" أميركا، والذين أحرجهم الموقف الأمريكي المصر على إعادة البعث بشكل غير اعتيادي، وكانوا قد استعملوا البعث قبل أشهر فقط كـ "سعلوة"، ووجهوا سفينتهم الإعلامية الهائلة لإرهاب الشعب العراقي ودفعه إلى قبول المعاهدة مع المحتل والتي ستحميه من تلك السعلوة.

 

لكن الإحراج ضريبة قديمة وثابتة لكل من قرر أن "يكون صديقاً" لأميركا، (أو أية دولة طامحة إلى الإستعمار)  وعليه أن يستعد لذلك ويتدرب ليكون له "وجه نعال" كما يقول العراقيون. فمثلاً لم يجد الأمريكان لتنظيم "المصالحة" و"لم شمل العراق"، سوى السيد "بايدن"، وترك الأمريكان لـ "أصدقائهم" المهمة الشاقة بتسويق بايدن الكريه شعبياً، والذي كان يتبني مشروع تقسيم العراق الي ثلاث ولايات عندما كان رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس.  والذي يذكرنا بإحراج آخر تورط به أصدقاء أميركا في العراق ممن سارع إلى التعبير عن دواخله الحقيقية وأيد التقسيم فواجه عاصفة شعبية مخيفة، فراح يلملم كلماته ويلعن "تلك الصداقة" المكلفة في سره.

 

وحين أرادت أميركا أن "تعيد بناء العراق" لم تجد له كأول سفير لها سوى "جون نيغروبونتي" المعروف عالمياً بأنه عراب الإرهاب في أميركا الجنوبية، والذي تجد الإدارات الأمريكية صعوبة في تعيينه بأي منصب دون التعرض لتظاهرات احتجاج تذكرها بماضيه الإجرامي. للأسف لم يحتج أحد في العراق لهذا التعيين الإجرامي الذي دفع العراق ثمنه غالياً ومازال، رغم تحذيرنا المبكر منه (5).

  

لا أتصور أن هناك الكثير من العراقيين الحائرين في الموقف الأمريكي، فقد صار لديه من التجارب ما يكفي.

 

قبل سنتين أثيرت نفس التساؤلات حول محاولة أميركا إعادة البعث إلى السلطة، وحينها لجأ أصدقاء أميركا إلى الحديث عن "ضغوط" الدول العربية عليها، لتفسير هذه الرغبة الشاذة، لدولة الديمقراطية والحرية، فكتبت: "ان القارئ لتأريخ اميركا مع الشعوب التي احتلتها في الماضي يعرف انه لاحاجة للبحث عن "ضغط" على اميركا لتفسير تصرفها وكأنها لايمكن ان تفعل ذلك بنفسها، فلطالما اعادت اميركا الفاشت الى البلدان التي "حررتها"، سواء بعد إزالة إحتلال اخر كما حدث في عدة دول بعد الحرب الثانية او بعد ازالة دكتاتور تكون هي التي اتت به في الماضي غالباً، لتعيد نفس شخوص نظامه، فهم الأقدر على تهيئة البلاد لشركاتها وعلى محاربة خصومها."

 

فإضافة إلى مثال إعادة الشاه بعد القضاء على حكومة مصدق البرلمانية في إيران، فأننا ننقل عن مسؤولين أمريكان في حكومة كارتر الحرص على الإحتفاظ بالحرس القومي لسوموزا بعد إزالة الأخير، ولكن – " بشرط معين يُطلب دائماً وهو ان يظل حرسه القومي كما هو، وهذا الحرس هو الذي كان يهاجم المواطنين "بوحشية تحتفظ بها الأمم عادة لأعدائها"، كما وصفها البعض.

وحين فشلت محاولات اميركا الأولى في إعادة الحرس القومي الى السلطة، قام ضباط منهم بالإجتماع بعضو كونغرس (!) وبعقد اجتماع لتهيئة الخطط للإطاحة برجال ساندينستا، وارسل نظام العسكر في الأرجنتين مستشارين لتدريب افراد سابقين من الحرس القومي في هندوراس من اجل الهجوم على نيكاراغوا (تم انجازه بعد سنة)، وانكرت الحكومة الأمريكية علمها بالأمر، وهو ما لم يصدقه إلا القليل. (6)

 

كذلك لو راجعنا السياسيين المفضلين أمريكياً، لوجدنا أنهم الأقرب إلى الحماس لعودة البعث، أو قبوله. وخير مثال لذلك السيد أياد علاوي، الذي اختارته الولايات المتحدة، وفرضته على مجلس الحكم بشكل غير قابل للتفاوض، كأول رئيس حكومة عراقية. ثم حاول الأمريكان من طرق عديدة فرضه ثانية، من خلال كشف فضائح خصومه أو افتعال فضائح لهم، وإضافة إلى تأجيره شركة لوبي لهذا الغرض، كانت له علاقة وثيقة بالمخابرات الأمريكية:

" قدم برنامج Brian Ross على شبكة ABC تقريرا أكد أن الشركة التى تعاقد معها علاوى على علاقة وثيقة بالإدارة الأمريكية الحالية. أما عن علاقته الوثيقة بالمخابرات الأمريكية لفت التقرير الانتباه إلى أن علاوى فى نفس اليوم الذى تعاقد فيه مع شركة اللوبى نشرت وكالة المخابرات الأمريكية تقريرا حول فشل رئيس الوزراء العراقى نورى المالكى فى حل المشكلات إلى تواجه الشعب العراقى ، فضلا عن التصريحات التى أطلقها أحد العاملين السابقين فى المخابرات الأمريكية والخبير فى شئون الشرق الأوسط والتى أكد فيها أن المخابرات الأمريكية تدعم علاوى منذ سنوات." (7)

 

وفي مكان آخر نقرأ: "حصل أياد علاوي في محاولته للعودة رئيسا للوزراء في العراق على تأييد جهة غير متوقعة هي حزب البعث. فقد أخبر الناطق في المنفى بإسم قيادة حزب صدام حسين السابق مجلة التايم بأن علاوي "هو أحسن شخص في هذا الوقت يمكن أن يسلم مهمة حكم العراق" وأضاف بأنه يأمل علاوي سيفتح الطريق أما حزب البعث "للعودة إلى الحياة السياسية في العراق حيث يجب أن يكون". وقال الناطق المعروف بإسم أبو حلا بأن البعث بقيادة عزت الدوري نائب صدام سيكون "أكثر من راغب بالعمل مع علاوي لأننا ننظر إليه كشخص قومي ووطني عراقي وليس قائدا طائفيا".وقال أبو حلا بأن قيادة البعث إجتمعت بعلاوي عدة مرات وإنه كان "منفتح التفكير ومعتدل". (8) 

 

ولم يجد علاوي ما يشكر عليه الرئيس الطالباني سوى موقفه من البعثيين حيث سارع يبعث اليه ببرقية تقدير يعرب فيها عن اشد امتنانه عن “موقف آخر جريء و مشرف لفخامتكم فيما يتعلق بعدم تصديقكم حكم الاعدام الصادر بحق سلطان هاشم وزير الدفاع في عهد الدكتاتور صدام.” ويقول ايضاً: “و نرى اننا في مفترق طريق يتعين ان يحدد اما ان يأخذ بنظر الاعتبار محاسبة و معاقبة المجرمين والعفو عن غيرهم و اما الاستمرار بمعاقبة المجرمين والابرياء على حد سواء .”

وفي هذا الكلام يفضح علاوي نفسه. فمن الثابت ان سلطان هاشم اعتبر مجرماً من خلال محكمة يعترف علاوي بها، وان الرئيس تدخل لتخفيف عقوبة هذا المجرم والتي استحقها حسب القانون، وهذا ما يشرح لنا حقيقة من يدافع عنهم من"البعثيين الذين لم تثبت عليهم جريمة".

وكان لموقف علاوي من البعث إحراج لزملائه في التحالف، فقال مفيد الجزائري 21 – 9: ” نحن لم نكن نعرف بموضوع الوساطة التي قام بها الدكتور اياد علاوي بين عزة الدوري والامريكان بل عرفناها من خلال وسائل الاعلام شأننا بذلك شأن جميع المواطنين.”(9) 

 

لقد حاول علاوي التغطية على نقص شعبيته واستحالة وصوله للحكم عن طريق الإنتخاب، ولذلك لجأ إلى التآمر..موهبة بعثية بامتياز، وتدريب أمريكي قديم!

 

ربما تذكرون عندما نشرت صحيفة واشنطن بوست مقالا لأياد علاوي بعنوان “خطة للعراق” دعا فيه الإدارة الأميركية إلى التعجيل في إجراء تغيير في رئاسة الحكومة العراقية المتمثلة في رئيس الوزراء نوري المالكي. وحينها أعلنت “جبهة الحوار” ان “أكثر من 100 شخصية عراقية بينهم نواب من مختلف الكتل البرلمانية وشخصيات عراقية متميزة بينهم نخبة من شيوخ عشائر وشخصيات كردية عراقية” طالبت بأن يصبح علاوي رئيساً للحكومة! هذه المجموعة ( التي لم يعلن عن اسمائها لحد الآن حسب علمي) ارادت علاوي كـ “بديل وطني وديمقراطي” .ولعل هذه اغرب مطالبة ديمقراطية بالتأريخ، خاصة ان علمنا ان الرسالة التي وجهها هؤلاء لم تقدم الى البرلمان او الشارع العراقي بل الى الرئيس بوش!

ومضى بيانها قائلا “إن الشعب العراقي يتطلع إلى أن تساعده الولايات المتحدة، في هذا المنعطف المصيري، في اقامة حكومة ديمقراطية"!! (10).

لا بأس أن نذكِّر بأن التآمر مع اجنبي لقلب نظام الحكم المنتخب جريمة كبرى وتآمراً على الشعب نفسه!

 

لم يتوقف علاوي يوماً في الدعوة لعودة البعث، وخاصة إلى المناصب الأمنية، واليوم يتحدث علاوي عن ضرورة التغلب على "فوبيا البعث"! فالخوف من البعث لديه، لا مبرر له، وليس سوى مرض أو "إرباك" (11).

 

والحقيقة أن علاوي كان ومايزال يحاول أن يسوق نفسه كمفاوض بين الحكومة والبعث، والحقيقة أنه يمثل البعث نفسه، بل ربما أحد أكثر جوانبه إغراقاً في الإجرام. لذلك فأن الرغبة الأمريكية في تثبيت علاوي لرئاسة الحكومة تعبر عن نفس تلك الرغبة الأمريكية في إعادة البعث، وخاصة من تثق بقدرتهم على القسوة اللازمة لإخضاع الشعب لمشيئتها، ولعلاوي مواهب في ذلك. فمن المعروف أنه كان يعمل مع صدام في منظمة حنين الحزبية الأمنية، وهو متهم من قبل جهات عديدة بأنه كان مسؤولاً عن إغتيالات البعث في أوروبا، كما اتهم من جهات لها وزن كبير (مثل سيمور هيرش) بأنه قتل ستة أشخاص في العامرية بعد الإحتلال، إضافة إلى تهم إجرامية أخرى عديدة وجهتها إليه الحكومة العراقية نفسها، لكن محاكمة علاوي أو التحقيق معه تبقى خطاً أحمر لايمكن أن يسمح الأمريكان به. إنه البعثي الأثمن بالنسبة لها، ولأنه لايثير الإشمئزاز الذي يثيره مجرموا البعث في النفوس عادة، لأسباب مفهومة وأخرى غير مفهومة، فهو الباب الأهم الذي تأمل أن يستعيد البعث الحكم من خلاله.

 

أميركا عازمة على إعادة البعث، إنما وجدت أن الوقت لم يحن بعد فتراجعت مؤقتاً كما فعل المالكي الذي قرأ الموقف بشكل صحيح قبلها بقليل، لذلك تراجع السفير بشكل "سفيه" أحرج "أصدقاء أميركا" المساكين.

 

إني اتفهم حالهم التي لا تسر صديق، ولا شك عندي أن لسان حالهم يقول: "أما كان بالإمكان أن تتخذوا هذا الموقف قبل الآن وتوفروا علينا الإحراج..."، ذلك أن البعض منهم كان قد بدأ فعلاً العملية الشاقة لتحويل سير دفة السفينة الإعلامية الهائلة من أن "حزب البعث مازال مرعباً وخطيراً وعلينا أن نخاف منه، والتذكير بماضيه والإصرار على أننا لا نستطيع مواجهته بدون الحماية الأمريكية" إلى ضرورة "عدم التطير" من مفاوضات أميركا معه (12).

 

أود أخيراً أن أنبه هؤلاء "الأصدقاء" بأن الجبوري قال بان الامريكان كانو يسمونهم بالارهابيين والمجرمين وأنهم بعد الاتفاق فأن اميركا ستسميهم بـ "المقاومة المشروعة" فليستعد "الأصدقاء" لتغيير التسميات!

 

كيف سيدير هؤلاء "الأصدقاء" دفة سفينتهم الإعلامية مع هذا الصديق؟ هم مستعدون لكل شيء، لكن كثرة التحويل متعبة. وما أدراهم أن أميركا ليست لديها مفاجآت جديدة مزعجة؟ كان الله في عونهم في أيام رمضان الساخنة هذه...

 

(1) http://www.iraqoftomorrow.org/index.php?news=70953

(2) http://www.aljewar.org/news-12452.aspx

(3)  http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=166362

(4) http://www.kurdistan-times.com/content/view/13685/86/

(5)   نيغروبونتي:ارهابي خطر يجب طرده فورا

      http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=21758

(6)  http://www.alnoor.se/article.asp?id=10057

(7)  http://www.taqrir.org/showarticle.cfm?id=759

(8)  http://www.sotaliraq.com/articles-iraq.php?id=61067

(9)  http://www.doroob.com/?p=21234

(10)  http://www.doroob.com/?p=21234

(11)  http://www.marafea.org/paper.php?source=akbar&mlf=interpage&sid=22694

(12)  http://www.yanabeealiraq.com/articles/saib-khalil080809.htm

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1149 الاربعاء 26/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم