أقلام حرة

كيف تقنع الناس أن الفحم ليس أسوداً؟

لإنهيار ابراج التجارة في نيويورك، فيجيب هذا: فكرت: "يا إلهي كم سيرتفع الذهب!!" ثم يعتذر أمام الكامرة ويؤكد أنه آسف لأنه يبدو غير إنساني فيما يقول، إنما هذه هي الحقيقة، ويضيف أن جميع زملاءه فكروا بهذه الطريقة وأن من يقول غير ذلك فهو كذاب...."لقد أسرعت فوراً لشراء الذهب من البورصة، لكنها كانت قد أغلقت!"

 

ومن الواضح أن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي لم يكن يفكر بطريقة مختلفة حين قال بلهجة تصدم المستمع لتناقض جدية اسلوبها مع كوميدية المحتوى، بأن خلافات سياسية وراء إنفجارات بغداد الأخيرة! المالكي كان كالمضارب، وكما كان هذا يهتم فقط بتأثير إنفجارات 11 سبتمبر على سعر الذهب، كان المالكي يحسب تأثير انفجارات بغداد على عدد الأصوات التي سيحصل عليها في الإنتخابات، ولم يأسف إلا لأن منافسيه قد يستفيدون منها، وربما فكر فعلاً أنهم وراءها...فهم أيضاً لايفكرون إلا بـ "ذهب" الإنتخابات. لذلك بحث بسرعة عن التصريح المناسب الذي يحرم منافسيه من أرباحهم، وليس هناك خير من أن يتهمهم بالجريمة، حتى بلا دليل.

 

وهكذا تعامل بقية الطيف السياسي العراقي، كل منهم يفكر في الطرق الأنسب لإقناع الناس بأن من قام بالجريمة هو خصمه بالذات. ليس ذلك سهلاً دائماً، فربما تشير الدلائل بعكس ما تتمنى، فما العمل؟ البعض يصر على الإستمرار بأي ثمن. قرأت مقالة لشخص اتهم الحكومة بإنها هي التي دبرت الإنفجار(!) وكانت حجته: لماذا لم يصب أي من المسؤولين فيه؟" وحين تبين أن بعض المسؤولين الكبار قد أصيبوا فعلاً، لم يتراجع أو حتى يسكت، بل راح يحاول أن يفسر "لماذا ضحت الحكومة بهؤلاء دون غيرهم؟". مثل هذا الطرح لا يقنع أحد، فما الحل؟

 

في الماضي، عندما كان أصحاب السلطة في بلد ما، من مستعمرين أوحكام يريدون إقناع الشعب بما ليس معقولاً، فأنهم يلجأون إلى جيش من المرتزقة من الإعلاميين لتسويق الفكرة المخالفة للمنطق، آملين بالنجاح من خلال الكثرة وربما بعض الخوف كعامل مساعد.

المستعمرون الجدد وجدوا أن هذه الطريقة لم تعد مضمونه، فالدفاع عن شيء، أو الهجوم عليه، يثير التساؤل والتفكير بأن الحقيقة قد تكون في المكان المعاكس، خاصة إن جاء الحديث من جهات غير موثوق بها، كالمستعمرين و "أحبتهم" المقسمين على ولائهم لهم. الحديث المباشر للجهات المكشوفة ليس له تأثير يذكر.

 

وكمثل على الجهات المكشوفة، سارع مثال الالوسي، ممثل إسرائيل في البرلمان العراقي، بإيجاز قائمة بأعداء "بلاده" كمتهمين، وأصدقائها كأبطال ومصالحها كحلول يوحي بها. أكد الآلوسي ان دول الجوار تحاول "ملء الفراغ الأمني" الذي سيحدثه الانسحاب الامريكي في العراق على حساب العراقيين الابرياء، مذكراً بتصريح إيران قبل عام حول استعداد دول الجوار لملئ الفراغ الأمني إن تسبب به انسحاب القوات الأمريكية...ومهدداً العراقيين بطرف خفي إلى ما قد يحدث للعراق إن أنسحبت تلك القوات (!)، ومذكراً بالأسلحة "الإيرانية" التي قيل أنها اكتشفت مؤخراً. وبدلاً من تحميل الجهاز الأمني الذي نصبه خبيرا الإرهاب بريمر ونيكروبونتي لإرساء قاعدة الإرهاب في العراق، تحدث الآلوسي عن "وطنية" هذا الجهاز، الذي لاينكر بأنه يستلم مصاريفه من وكالة المخابرات الأمريكية، "مطالباً أميركا بتحديد "موقفها" ومسؤوليتها في العراق، ليس لائماً أو داعياً للتخلي عنها بعد فشلها في تحقيق الأمن لاسامح الله، بل لكي تتراجع عن انسحابها وتبقى "تتحمل مسؤوليتها" إلى أن ينتهي النفط! (الجزء الأخير من الجملة مضاف من عندي) . (1)

 

الإتهامات الموجهة للبعث، تمت هندستها بدقة لكي تتجنب أن تظهر أميركا في الصورة إلى جانب البعث، كما كانت قبل اقل من شهر، خشية أن يصيبها بعض رذاذ القذائف الموجهة إلى البعث. فالبعث حسب الإعلام العراقي والعربي والعالمي، يعمل لوحده ولحسابه وهو وحده مسؤول عن جرائمه، وقادر على تخطيط عملياته وتنفيذها رغم تحطمه. ألم يقد بن لادن عمليات القاعدة في العالم من كهوف أفغانستان وهو تحت القصف الشديد، وقاد الزرقاوي الأعرج جيشاً من الإرهاب من خلال آلاف "المساعدين" الذين تم القاء القبض عليهم ولا نعلم كيف كان يؤمن الإتصال في شبكة "مساعديه".

إن استطاع الناس أن يدخلوا في أدمغتهم أن الزرقاوي المتخلف قادر على كل ذلك، فهل يعجزون عن إدخال أن البعث المحطم قادر أيضاً على مثله، ولوحده؟

 

يجب أن يوضع البعث لوحده في الصورة، وكخطوة أولى كان من الضروري أن يسارع السفير الأمريكي ليمحو الصورة السابقة التي تركزت في أذهان الناس حين كان المالكي يتوسل قبل شهر في واشنطن أن لاتدعم أميركا البعث، فيجيبوه بإصرار: أنهم هم "المسؤولين عن سياسة العراق الداخلية والخارجية" (مع الحفاظ على سيادته!) ليعود حائراً إلى بلده. هذه الصورة لم تعد مناسبة، لذلك عجل السفير الأمريكي بالتساؤل قبل أيام من الإنفجارات: "من ذا الذي يقول أن أميركا تريد عودة البعث؟".(2) فمثل المالكي سريع التلون، غير الأمريكان خطتهم لإعادة البعث، وأبعدوا أنفسهم عن هذا الحزب وناقضت تصريحاتهم ما قالوه قبلها بأيام. وتقتضي الخطوة الأولى في الخطة الجديدة أن يعودوا إلى صورة الحامي للعراقيين من البعث، وأن يعود البعث إرهابياً ورهيباً بعد أن كان موضوع "المصالحة"، وأن يعود الإرهاب لـ "طبخ" العراقيين حتى يتوسلوا بأنفسهم بالإمريكان لإعادة البعث "إلى الصف الوطني". ولكي تنجح الفكرة يجب تصوير الأميركان و البعث في خندقين متقابلين.

 

هذه الصورة ليست جديدة على العراقيين، فقد خبروها في نهاية العام الماضي، في المرحلة التي سبقت توقيع المعاهدة, والتي كان يجب على البعث، إضافة إلى قراصنة وزير الدفاع العبيدي، أن يلعبوا دور "جوج وماجوج" الذين سيحمينا الأمريكان منهم، إن وقعنا المعاهدة طبعاً!

في مقابلة مع وزير الخارجية التركي في قناة الجزيرة قبل أيام، تجنب هذا "بلباقة دبلوماسية" إحراج أميركا وخدش صورتها الجديدة، حين سأله الصحفي عن اتهام العراق لتركيا بأنها نظمت وحضرت لقاءات بين البعث وأميركا، فأجاب بشكل عام بأن تركيا لا تسعى لزعزعة الإستقرار في العراق بل العكس...الخ، دون أن يقول كلمة واحدة لا عن البعث ولا عن الأمريكان. هذا طبعاً أعتراف تام بصحة السؤال بلغة الدبلوماسيين.

 

ومثل السفير الأمريكي والوزير التركي، سينحو الساسة العراقيون (عدا فئة "خارجة عن الإجماع العراقي"!) وكذلك الكتبة الذين طالما حذروا من خطورة البعث ثم عادوا ليقولوا لنا بضرورة عدم التطير من مفاوضة أميركا له، وفيضان من المقالات في الصحف والإنترنيت ومعظم البرامج في معظم القنوات الفضائية، كل هذه وهؤلاء سيعملون بدقة "كالساعة" من أجل فصل البعث عن أميركا، و "إصلاح" ما خربته الصورة المتعجلة السابقة التي وقفت فيها أميركا ملتصقةً بالبعث بعناد وإصرار.

 

لقد توجب على العالم أن ينسى هذا الإلتصاق ويمحوه من التاريخ وعدم التحدث عنه نهائياً، تماماً كما توجب عليه أن ينسى "جهاز التفجير عن بعد" الذي وجد بحوزة الضابطين البريطانيين المتنكرين بزي الملالي قرب حسينية في البصرة عام 2005. (3)

 

نموذج من تلك المحاولات الدقيقة التصميم لأعادة صياغة الصورة، شاهدته في قناة الجزيرة أمس...في برنامج "أكثر من رأي" كان "توفيق طه يحاور النائب عن حزب الدعوة، كمال الساعدي و النائب سعدي البرزنجي عن التحالف الكردستاني، والناصر دريد، الباحث من "مركز العراق للدراسات الإستراتيجية". الجزء الأول من المناقشة (الحقيقة أن البرنامج كان قد بدأ قبل بدء مشاهدتي له) تحدث الضيوف عن مختلف الإحتمالات حول مسؤولية التفجيرات، فلم تبق لا سوريا ولا إيران ولا العناصر المنافسة للمالكي سياسياً وحزب البعث والقاعدة وحتى الصحوات تم مناقشة احتمالها وكل العفاريت كانت مرشحة....عدا واحد لم يأت أحد على ذكره: الإحتلال!

 

حين تحدث البرزنجي عن أن هذه العمليات ستستمر حتى الإنتخابات، سأله توفيق إن كان ذلك يعني عودة الأمريكان إلى الحماية، فتهرب البرزنجي من النتيجة دون أن يرفضها، ثم أيد القوات المشتركة بين العرب والأكراد والأمريكان للعمل في المناطق "المتنازع عليها". وحين سأله توفيق أن معنى ذلك عودة الأمريكان إلى المدن، أصر البرزنجي على اكمال جوابه بطريقته التي تتجنب وضع تلك النقطة بهذا الشكل، مركزاً على أن قوات البيشمركة جزء من القوات العراقية...الخ. (سؤال جانبي فات توفيق: إن كانت البيشمركة جزء من القوات العراقية، فلماذا نشكل فريقاً من الأمريكان والقوات العراقية ((و)) البيشمركة؟ )

 

بدا توفيق "متوازناً" حين طرح أن القوات المشتركة قد تثير الحساسيات، وأجابه الناصر أن لنظرية المؤامرة انصارها الأقوياء. وتهمة "نظرية المؤامرة" لم تستخدم يوماً حسب علمي إلا لردع الإتجاه إلى أتهام أميركا بجريمة ما، فلم أسمع من أحد يرد على أتهام لسوريا أو كوبا أو إيران أو فنزويلا ، بأنه "نظرية مؤامرة".

 

ثم بدا الناصر دريد أيضاً "محايداً" و "صريحاً" حين لامس أميركا بما يشبه النقد قائلاً "أننا لا نفهم بالضبط ما هي الإستراتيجية الأمريكية...هل تريد الإنسحاب ونفض اليد؟ وتساءل آسفاً ومنزعجاً : "كيف ستتمكن أميركا من الحفاظ على مصالحها في العراق والمنطقة" إن هي فعلت ذلك...(وهو اعتراف خطير بأن مصالح أميركا في العراق والمنطقة لايمكن الدفاع عنها إلا بتواجد قوات عسكرية في ذلك البلد) لكنه لم يتطرق إلى التساؤل عن احتمال قيامها بالتفجيرات. وهكذا انتهى الحوار حول مسؤولية الإنفجارات في بغداد، بجملة وسؤال متروك للمستمع مفاده أن بقاء القوات الأمريكية أمر لا بد منه، ولا مفر منه، وهو نفس الإستنتاج الذي يتوصل إليه دائماً أمثال "مثال" و "علاوي" (الأقل مباشرة احياناً) والكثير من السياسيين العراقيين في نهاية مناقشاتهم حول الموضوع، والغالبية الساحقة من مقالات الصحف والبرامج التلفزيونية التي تصل المشاهد العراقي.

 

قد تسأل: ولماذا يفترض أن نسمع أسم الإحتلال كمتهم بين المتهمين في مثل هذه النقاشات؟ ببساطة لثلاثة أسباب اساسية. الأول هو أن استفادته من التفجيرات هي الأكثر وضوحاً من أي طرف آخر. فالمنافسين للمالكي قد لايكسبون شيئاً منها، بل ربما استطاع المالكي تحويلها لصالحه والتف الناس حوله. وسوريا وإيران والبعث والقاعدة والشياطين الزرق، (بفرض أن الثلاثة الأخيرة تعمل لوحدها دون تعاون من الأمريكان) ستكون هذه الإنفجارات مضرة بها لأن النتيجة الوحيدة الأكيدة لها هي إعطاء الحجة لإبقاء الإحتلال الذي "يحمي" العراق منها، ويفقدها فرصة الإنقضاض على الحكومة عند مغادرة الأمريكان، كما يحاول البعض تصويره.

 

والسبب الثاني الأساسي، هو أن الأمريكان هم الأقدر من جميع المرشحين الآخرين وبفارق كبير على تنفيذ مثل هذه الجرائم التي تتطلب قدرات أتصالات وتريب كبيرة جداً، ولا ندري كيف استطاع ما تبقى من "البعث" أو القاعدة أو رجلان يسكنان في سوريا من تنظيم مثل هذا المشروع الضخم في بلد "يتمتع" بأشد نظام أمني والأكثر خضوعاً للتفتيش والتنصت وبدعم كبير ومؤسس لأقوى المخابرات في العالم، مالم يكن بدعم من هذه المخابرات.

 

والسبب الثالث هو أن مثل هذا العمل قد ينكشف مهما كان متقناً، ولو حدث ذلك بالنسبة لسوريا أو إيران لدفعا ثمنه غالياً، اما لو اكتشف أحد أن الإحتلال هو من وراء الأمر، فسيمكن طمطته دائماً كما حدث مراراً، وأوضح مثال هو انكشاف البريطانيين في البصرة ولم تكن له أية تبعات عليهم.

 

لذلك فأن ترشيح الأمريكان كمتهم محتمل مسألة تحصيل حاصل ولا بد أن تخطر على بال أي إنسان سواء كان محللاً أو إنسان بسيط، وإتصالاتي بالعراق تؤكد أن "الجميع" يشك بأن الأمريكان وراء الحادث، ورغم ذلك يتم تجنب حتى طرح هذا الإحتمال في النقاشات التلفزيونية والمقالات والمقابلات السياسية. إن هذا التجنب الدقيق معاكس لتيار التفيكر الإعتيادي، ويؤشر بأن هناك جهداً كبيراً يبذل للإبحار بعكس تداعيات الأفكار الإعتيادية لمنعها من لمس هذه النقطة بأي شكل.

لقد توجب على العالم أن يهمل وينسى هذا الإحتمال ليكون مصيره مثل مصير "جهاز التفجير عن بعد" في البصرة.

 

تساءلنا في الأعلى عن الطريقة التي يمكن بها لأصحاب السلطة، وطنيين أو مستعمرين، "إقناع" الناس بالحقائق التي تناسبهم، وقلنا أن طرح المسألة مباشرة غير مضمونة النتائج، كما ان تركها دون نقاش مخاطرة أيضاً، فكلتا الحالتين، الطرح المباشر والصمت، تسببان التفكير، فما العمل؟

وجد أصحاب السلطة الجدد وجيشهم الإعلامي أن من الأفضل أن لا تحاول تزييف الحقيقة، بل أن تبعدها عن طاولة النقاش تماماً، ثم تطلق النقاش!

 

يجب أن تحدد إطار النقاش المسموح به أولاً، بحيث تصبح الحقيقة "المكروهة من قبلك" خارج هذا الإطار. هذا هو الشرط الوحيد، وعداه ليكن الإطار أوسع ما يمكن، ثم تطلق النقاش "بحرية تامة" ضمن ذلك الإطار. كلما كان الإطار أوسع صعبت رؤيته وكان أفضل. لا بأس حتى أن يشمل الطروحات الناقدة لك في امور اخرى، أو الطروحات غير المعقولة ونقاشاتها غير المنطقية مثل ذلك الذي تساءل عن سبب تخلي الحكومة عن الضحايا اعلاه. كل نقاش داخل الإطار مفيد، حتى لو كان ضوضاء لا معنى لها.

يتوجب إطلاق الإطار بوعي وجهد وبتركيز في البداية مستخدماً أدواتك الإعلامية بكثافة، ثم سرعان ما يتقمص الناس تدريجياً ذلك الإطار، وستغتني ذاكرتهم وافكارهم بالحجج والحجج المقابلة المطروحة ويبدأون بالإنشغال بالتساؤل: أي من الخيارات المطروحة هو الصحيح؟ وستهمل الإحتمالات التي لم تناقش، او تحصل على حصة أصغر من وقت وتفكير الناس ولن يتم تحفيزها. وحتى من سيفكر بها سيخشى أنها ربما تكون احتمالات "غير معقولة"، "متطرفة"، "نظرية مؤامرة" لأن أي من "السياسيين" و "الخبراء" و "المحللين" الكثيرين الذين ظهروا في التلفزيون لم يفعل ذلك، فيسأل نفسه: هل يعقل أن أي منهم لم يفكر بما فكرت به لو كان معقولاً؟

إن الجزء الإجتماعي أو القطيعي من الإنسان يدفع به إلى الإنسجام مع الجماعة، كطريقة تساعد على البقاء للمجتمعات، كما برهن علم الإجتماع منذ منتصف القرن الماضي بالتجارب، ولذلك سيتردد الأفراد في اتخاذ مواقف يجدونها مخالفة لتلك التي يتخذها الغالبية من مجتمعهم، أو ما يوحى له بأنها الغالبية. (4)

 

وبعد أن يتقمص الناس الإطار ويتبنوه طوعاً، تأتي المرحلة الثانية ويبدأ البعض منهم بالتطوع بالمساهمة في نشره وتثبيته بلا وعي، من خلال المشاركة في مناقشات "تحترم" البقاء ضمنه، تساق فيها نفس الحجج ونفس المبررات ونفس الأسئلة، وهكذا تزداد الدائرة اتساعاً ويزداد الضغط للإنسجام مع الجماعة في لولب يكبر مع الزمن، ومع كل ممارسة لتلك النقاشات.

 

لاتشذ التعليقات العابرة على الأخبار والمقالات عن القاعدة، وحتى الأخبار التي تثير فكرة احتمال مسؤولية الأمريكان عن الجريمة، مثل الخبر التالي الذي نشرته "العربية": مسؤول عراقي: منفذا "تفجيرات الأربعاء" أطلقا من سجن أمريكي، (5) لم يشر سوى تعليق واحد من أصل حوالي سبعين تعليقاً (لحظة قراءتي له) إلى احتمال مسؤولية الأمريكان عن التفجير، وحصلت إيران ثم سوريا على حصة الأسد والنمر من الإتهامات!

 

من أجمل الردود التي أحفظها للعبقري جومسكي حين سؤل عن كيف يمكن لأميركا أن تحارب الإرهاب بأفضل صورة، فأجاب: بالإمتناع عن المشاركة فيه!

لقد أدرك هذا الناشط الواعي أن السؤال يحتوي إطاراً هو الفرضية بأن أميركا تريد محاربة الإرهاب، وأن الدعوة موجهة إليه للإنضمام إلى من سقطوا في الفخ وصاروا يقصرون حديثهم ضمن هذا الإطار، فما كان منه إلا أن رفض هذا التحديد، وأجاب بعبارة قصيرة وضعته خارج ذلك الإطار بحركة واحدة!

 

في تقديري أن الصحفي الناشط الذي وجه ذلك السؤال غير الحيادي، كان ينشر إطاراً إعلامياً تبناه من محيطه الإعلامي بغير قصد أو وعي ، وهذا إن صح، يؤشر قوة الإيحاء الهائلة وقدرة العدوى لتلك الأطر الإعلامية.

ليس غريباً على جومسكي أن يفلت من مثل هذا الفخ فكتابات هذا البروفسور عبارة عن مواجهات وصراع لتحطيم لتلك الإطارات التي يوحي الإعلام للإنسان الأمريكي وغيره بقبولها والإكتفاء بحرية الحركة في التفكير ضمنها.

لم يكن ذلك صعباً على جومسكي، أما غالبيتنا فإننا لانمتلك كمية الوعي والإنتباه والجرأة والإستقلال الفكري والثقة بالنفس اللازمة للخروج عن ما نقصف به من إطارات لتفكيرنا، ونسير غالباً دون أن ندري كقطيع من الخراف نحو الجهة التي تسوقنا إليها الفضائيات ووسائل الإعلام المسيطر عليها من قبل جهات لا علم لنا بها، وأخرى نعلمها، وتدفعنا بعيداً عن الحقائق التي لا تناسب تلك الجهات.

 

هكذا يمكن إقناع الغالبية الساحقة من الناس بأغرب الأفكار التي تخالف منطقها وسجيتها، وهكذا تنشر هذه الفضائيات في الجو قناعات غريبة، لينقلها الناس فيما بعد كما ينتقل المرض المعدي.

 

فإن أردت إقناع الناس بأن "الفحم ليس أسوداً"، فما عليك إلا أن تملأ الدنيا ضجيجاً بنقاش لا نهاية له، فيما إذا كان الفحم أزرقاً أم أصفر! وسرعان ما يتوزع معظم الناس بين الفكرتين. وبعد حين من الجدل "الحر"، ستجد أن الناس انقسمت إلى فريقين مختلفين فيما بينهما، لكنهم جميعاً، ودون وعي منهم، سيتبنون ضمنياً فكرتك التي أردت إيصالها:"الفحم ليس أسوداً"!...

 هل تم تأطير النقاش حول الإرهاب بهذا الشكل عمداً لجعل الناس تتبنى دون وعي فكرة أن :"الإحتلال ليس متهماً"؟

 

 

روابط

(1) http://www.khabaar.com/news.php?action=view&id=3663

(2)  أميركا تريد إعادة البعث؟ من يقول هذا الكلام؟

      http://www.yanabeealiraq.com/articles/saeb-khalil250809.htm

(3) علينا ان ننسى: البريطانيان كانا يحملان جهاز تفجير عن بعد

      http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=46809

(4)  دعوة لتذوق متعة أن تفقأ فقاعة!

      http://www.yanabeealiraq.com/articles/saieb-kalil310508.htm

(5) http://www.alarabiya.net/articles/2009/08/30/83391.html

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1154 الاثنين 31/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم