أقلام حرة

الأدلة القانونية في المقابر الجماعية وعدم العبث بها

حرم الإسلام بكل مذاهبه من سنة وشيعة العبث بالقبور ونبشها، كما أن القوانين العراقية النافذة تمنع ذلك إذا لم يكن هناك مسوغ قانوني أو أمر من محكمة.

إن الأدلة القانونية مهمة جدا للنطق بالحكم من قبل القاضي، ولذا فهي مفيدة جدا للقاضي سواء كان في المحكمة الجنائية العراقية المختصة أو في المحاكم العادية للنطق بالحكم على مجرمي المقابر الجماعية، فبواسطة الأدلة القانونية الثبوتية يجري إثبات الدعاوى بحق المجرمين المدانين بجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وهذه الأدلة تحقق للقاضي وقاضي التحقيق علماً مكتسباً بحجم الجريمة المرتكبة وهولها، فيكون القاضي بعد قيام هذه الأدلة لديه علم وكأنه شاهد الواقعة ووقف على ظاهرها فلا يسعه إلا الحكم بما علم من هذا الطريق.

وهكذا فإن مبدأ الإثبات القانوني يقتضي تحديد الأدلة التي تقدم لإقناع القاضي وقاضي التحقيق في المحكمة الجنائية العراقية المختصة بجرائم الإبادة الجماعية، وتحديد قوة كل دليل في المقابر الجماعية، ومذهب الإثبات القانوني يقدم على أن القانون يعين طرقاً خاصة للإثبات تختلف باختلاف الوقائع والتصرفات المراد إثباتها ويبين لكل طريق قيمته، ولذا لا بد من الحفاظ على هذه الأدلة القانونية الثبوتية في المقابر الجماعية، وعدم العبث بها، وعدم بعثرتها لكي لا تضيع قيمة هذه الأدلة الهامة التي يستطيع القاضي بواسطتها أن يدلي بحكمه وفق القوانين العراقية النافذة وقانون أصول المحاكمات الجزائية النافذ وقانون المحكمة العراقية الجنائية المختصة بجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.

إنّ الحفاظ على أدلة الجريمة شئ مفروغ منه، وقد أكد قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 على ذلك في موضوع ( التحري عن الجرائم وجمع الأدلة والتحقيق الابتدائي )، فبعد أن أقر القانون المذكور في (المواد / 39 - 40 – 41) على تعيين أعضاء الضبط القضائي ومواصفاتهم، وعملهم، تحدث عن ضرورة اتخاذ جميع الوسائل للحفاظ على أدلة الجريمة، وقد أكدت (المادة / 42) من القانون المذكور على: (أعضاء الضبط القضائي أن يتخذوا جميع الوسائل التي تكفل المحافظة على أدلة الجريمة).

ولذا فمن المفيد أن يتحرك أعضاء الضبط القضائي في هذا الجانب، حيث نص عليهم في (المادة/ 39) وهم:

1- ضباط الشرطة ومأمورو المراكز والمفوضون.

2- مختار القرية والمحلة.

3- الأشخاص المكلفون بخدمة عامة الممنوحون سلطة التحري عن الجرائم، واتخاذ الإجراءات بشأنها في حدود ما خولوا به بمقتضى القوانين النافذة.

و يتحرك هؤلاء للقيام بالحفاظ على الأدلة الثبوتية في المقابر الجماعية وتنفيذ (المادة / 40 - أ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تحدد قيامهم بأعمالهم كل في حدود اختصاصه تحت إشراف الادعاء العام وطبقاً لأحكام القانون. كما يخضعون وفق (المادة / 40 - ب) لرقابة حاكم التحقيق وله أن يطلب من الجهة التابعين لها النظر في أمر من تقع منه مخالفة لواجباته أو تقصير في عمله ومحاكمته انضباطياً.

علماً أن (المادة 7/ تاسعاً) من قانون المحكمة الجنائية العراقية المختصة بالجرائم ضد الإنسانية رقم (1) لسنة 2003 تؤكد بأنه: (يحق لقاضي التحقيق جمع أدلة الإثبات من أي مصدر يراه مناسباً).

وحتماً أن الأدلة الثبوتية في المقابر الجماعية تفيد قاضي التحقيق كثيراً. ومن المفيد ذكره بأن الفصل الثالث من قانون المحكمة الجنائية العراقية المختصة قد حدد في (المادة / 10) ولاية المحكمة على جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وانتهاكات القوانين العراقية.

وهكذا فمن المفيد الإسراع بعملية جمع الأدلة من المقابر الجماعية والحفاظ على المقابر من العبث بها ونبشها وإحصاء عددها وجمع المعلومات الدقيقة عن الضحايا فيها وكيفية دفنهم والاستعانة بخبراء في علم الانتروبولوجيا الجنائية للكشف عن هوية الضحايا ومعرفة شخصياتهم.

إن الإسراع في التحري عن المقابر الجماعية والحفاظ عليها وجمع الأدلة حولها شي مفيد لحكام التحقيق في تحقيقهم الابتدائي عن جرائم الإبادة الجماعية والجرائم المنصوص عليها في المواد (10- 14) من قانون المحكمة الجنائية العراقية المختصة.

إن العبث بالمقابر الجماعية يضيع كثيراً من هذه الأدلة الثبوتية للجرائم البشعة التي ارتكبت وبالتالي ذهاب الأدلة التي تدين مجرمي النظام البائد، خصوصاً وأن المواد (308-316) من قانون أصول المحاكمات الجزائية تتحدث عن ضرورة الاعتناء بالأدلة الثبوتية والأشياء المضبوطة لخدمة التحقيق والنطق بالحكم من قبل القضاة.

ومن الملاحظ أن المادة (312) من أصول المحاكمات الجزائية تتحدث عن عدم إتلاف حتى المخطوطات أو المطبوعات ونحوها إلا بعد انقضاء الدعوى الجزائية عن جميع المتهمين.

 

استخدام المنهج العلمي للبحث عن الأدلة الجنائية في المقابر الجماعية:

إن استخدام المنهج العلمي في البحث عن الأدلة الجنائية يؤدي للوصول إلى أدلة ثبوتية على بشاعة الجرائم المرتكبة في المقابر الجماعية، ومن البديهي أن المعاينة الجنائية للمقابر الجماعية ليست هي الملاحظة فقط لأنها في جميع أحوالها تكون تمثلاً للجريمة أو تمثيلاً لها بعد أن وقعت وهذا يقتضي الحفاظ على كيان المقبرة وعدم العبث بها.

فالواقع أن أقصى ما يلاحظه أعضاء الضبط وحكام التحقيق والمكلفون بالتحقيق هو الوسائل التي استخدمت في إحداث الجريمة، ويمكن لهؤلاء أن يستفيدوا من المنهج العلمي والوسائل العلمية التي يحاولون بها أن يضبطوا واقع الجرائم التي ارتكبت في المقابر الجماعية، وذلك عن طريق بيان العلاقة بين الجريمة وبين العوامل الأخرى التي أدت إلى وقوعها وملابساتها، وسوف نتناول أهم هذه الطرق:

 

أولاً: الإحصاء:

الإحصاء طريقة من طرق البحث العلمي تتولى ترجمة ظاهرة معينة على أرقام، وهو بهذا المعنى يعد من أقدم الطرق التي استخدمت في دراسة الظواهر الإجرامية ويمكن بواسطته أن نعرف الجرائم البشعة التي ارتكبت في المقابر الجماعية وكذلك حجم جرائم الإبادة الإنسانية، وقد قدم عالم الرياضيات والفلك (كيتليه) البلجيكي، ومعاصره الفرنسي (جيري) عدداً من الأبحاث المعتمدة على الإحصاءات الخاصة بالجرائم التي وقعت في فرنسا في الفترة مابين سنة (1826 – 1830).

والواقع أن الإحصاء باعتباره أحد أساليب البحث في ظاهرة الإجرام هو الذي يسمح بدراسة كيفية ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وعلاقتها بمختلف العوامل.

فهو ترجمة رقمية لحركة الإجرام في مكان معين وكيفيته وزمانه للوصول لمعلومات علمية وملاحظات هامة لا يمكن الوصول إليها عن طريق آخر. فبالإحصاء يمكن ملاحظة حجم واتجاه حركة ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم القتل العنصري والطائفي في العراق ومكانها وعدد المقابر التي دفنت فيها الضحايا وكيفية الدفن وحدود المقبرة ومقارنتها مع المقابر الأخرى، وملاحظة ازدياد المقابر في أماكن محددة من العراق، وبذلك يمكن الوصول إلى نتائج مفيدة للتحقيق، والكشف عن العلاقة التي قد توجد بين الجريمة وبين العوامل الأخرى الخاصة بالمجرمين، الذين ارتكبوا هذه الجرائم البشعة يدفعهم عوامل أخلاقية وعنصرية وطائفية ومذهبية.

ويجري الإحصاء بطرق عديدة منها الإحصاء الذي يتناول دراسة ظاهرة جريمة الإبادة الجماعية من منطلق ثابت قد يكون زماناً أو مكاناً أو غير ذلك من العوامل الأخرى تمهيداً لإجراء المقارنة بين نتائج العوامل المسببة للجريمة، ومثلها إحصاء المقابر الجماعية التي حدثت قبل الحرب العراقية الإيرانية وبعدها، والمقابر التي حدثت قبل انتفاضة عام 1991 وبعدها.

 

ثانياً: إجراء المسح الاجتماعي على عوائل الضحايا:

وهو طريق من طرق البحث يستهدف جمع الحقائق عن ظاهرة الإبادة الجماعية والجرائم المرتكبة في المقابر الجماعية تمهيداً لاستظهار خصائصها، والوسيلة المستخدمة للمسح الاجتماعي في مجال الدراسات الإجرامية عبارة عن توجيه نموذج معد سلفاً ويتضمن عدداً من الأسئلة المباشرة حول مختلف الظروف التي رافقت اعتقال الضحايا، وهذا يقتضي جمع الأدلة عن هذه العوائل والوصول إليها من أجل معرفة كثير من الأمور والإجراءات غير القانونية التي مارستها السلطة الدكتاتورية البائدة في اعتقال الضحايا وإعدامهم.

 

ربط عملية الكشف عن المقابر الجماعية بعلم السياسة الجنائية:

علم السياسة الجنائية هو احد العلوم القاعدية التي تبحث في سياسة الدولة باتجاه مواجهة الجريمة، ومن هنا فإن علم السياسة الجنائية يدخل في نطاق العلوم الترشيدية بهدف ترشيد نشاط الدولة في مجال مكافحة الجريمة بما يتطلبه ذلك من دراسات معمقة.

وهكذا فإن جرائم الإبادة الجماعية وجرائم القتل الجماعي والابادة العرقية لابد من تفسيرها علمياً وكشف كثيرا من تفاصيلها وتحديد سلوك المجرمين ونزعاتهم الوحشية، وذلك كله بفضل علم السياسة الجنائية الذي يحث ويرشد الدولة لعراقية الجديدة إلى وضع تشريعات تحرم القتل الجماعي، وإنشاء مراكز بحثية متخصصة حول المقابر الجماعية، إضافة إلى محاسبة مجرمي النظام السابق ومعاقبتهم، لأن السياسة الجنائية ترتبط مباشرة بعلم العقاب كوسيلة رادعة للمجرمين، خصوصاً مجرمي الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والطائفي.

 

 الدكتور قاسم خضير عباس - كاتب وباحث قانوني

المستشار القانوني لوزارة الدولة لشؤون المحافظات العراقية

[email protected]

 

 ............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1183 الثلاثاء 29/09/2009)

 

 

في المثقف اليوم