أقلام حرة

خدعة الحد من الأسلحة النووية

من خلال التحليل الاستراتيجي المتعلق بالعلاقات الدولية،  فالتلويح بالأسلحة النووية الأميركية ليس عملاً جديداً، فلقد هدد بها رؤساء أميركيون في عصر التوازنات السابق. و(مؤتمر الحد من الأسلحة النووية)، الذي عقد في نيويورك، خير دليل على ما نقول، لأنه يأتي ضمن الهيمنة والتسلط الأميركي، الذي أراد استغلال اتفاقية (الحد من انتشار الأسلحة النووية)، التي وقعت في أول من تموز عام 1968 لحصر السلاح النووي في أيد الدول الكبرى التي تملكه !! وأول ما يلفت الانتباه في هذه الاتفاقية  أنها دفعت بعض الباحثين إلى تأكيد مقولة : (تقسيم مناطق النفوذ بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي  تحت تأثير مرحلة الرعب النووي) .

وهي مقولة جعلت كلاً من فرنسا بزعامة (شارل ديغو ل)، والصين الشيوعية، لا تنضمان إلى الاتفاقية المذكورة، ولم تتراجعا عن موقفيهما إلا في عام 1991 بالنسبة لفرنسا وعام 1992 بالنسبة للصين، بعد تغيّر المعادلات الدولية . ومن المعروف أن اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية، التي صاغت بنودها كلاً من أميركا والاتحاد السوفيتي السابق وبريطانيا، لم تطبق حتى من قبل أعضائها، فإحدى فقراتها، مثلاً، تنص على: - (عدم إعطاء الأسلحة النووية إلى البلدان الأخرى) .

وهذا مالم تلتزم به واشنطن حيث زودت إسرائيل بأكثر من  200 رأس نووي . بلحاظ أن الاتفاقية المذكورة لم تحدد بدقة الالتزامات والجزاء على الدول النووية في حالة عدم تطبيق بنودها . الشيء المهم بالنسبة لنا معرفة أن (اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية) قد حدد لها مدة  25 سنة لتجديدها ، وفي نفس يوم انتهائها، 7/4/1995، عقدت (الأمم المتحدة) مؤتمراً في نيويورك شاركت فيه 167 دولة موقعة على الاتفاقية سابقاً لمناقشة مخاطر الأسلحة النووية الفتاكة.

وبعد مناقشات دامت أكثر من ثلاثة أسابيع تبين أن المشكلة الأساسية تكمن في عدم وفاء الأميركيين، والروس، والإنكليز، والصينيين، والفرنسيين بالتزاماتهم المترتبة عليهم حسب اتفاقية عام  1968 . وتبين أيضاً أن هناك خلطاً واضحاً في المفاهيم نتيجة تصرفات الدول النووية، التي أرادت من اتفاقية عام 1968 : (الحد من انتشار الأسلحة النووية بيد الغير فقط) . وعلى هذا الأساس لا يمكن مناقشة الحد من  أسلحتها النووية ولا من تجاربها في هذا المجال .

 

وجدير ذكره أن دول النادي النووي أعضاء (اللجنة الدولية للطاقة الذرية) تملك 281  مفاعلاً نووياً، ينتج 161 ألف ميكاواط يومياً، أي  10 في المائة من مجمل احتياطي التيار الكهربائي في مختلف أنحاء العالم، وتستورد هذه الدول اليورانيوم من القارة الأفريقية، وأستراليا، والولايات المتحدة ، وكندا .

وهكذا أثار إصرار الدول النووية على مواقفها الانقسامات والخلافات العديدة في مؤتمر نيويورك ومؤتمرات الأمم المتحدة اللاحقة، وازدادت الخلافات حدة بعد إصرار أميركا على جعل اتفاقية عام 1968 سارية المفعول دون تحديد مدة لانتهائها، مما دعا مصر، ونيجيريا، والمكسيك، وإيران، وبعض الدول العربية إلى التحفظ على ذلك، إضافة إلى انتقاد (الموقف الأميركي) المتضمن دعم إسرائيل وعدم إجبارها على الدخول في اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية  !!

وبرأيي  أن هذا التحفظ لم يأت عبثاً لأسباب عديدة :

 

السبب الأول : حجم انتهاكات الدول المهيمنة على السلاح النووي لالتزاماتها، وتزويدها الدول الأخرى الحليفة لها أسلحة نووية .

السبب الثاني : وضوح ماهية المواقف الأميركية في النظام الدولي الجديد، فالولايات المتحدة تريد حصر السلاح النووي بصورة أضيق ليتم لواشنطن السيطرة نووياً على العالم، بعد انحلال الاتحاد السوفيتي وشطبه من الخارطة السياسية .

 

السبب الثالث : إدراك المجتمع الدولي بأن أميركا هي التي بدأت (الحرب النووية)، عندما صنعت أول قنبلة ذرية وطورتها ، وألقت عام 1945 قنبلتين نوويتين على هيروشيما، ونكازاكي في اليابان  . فكانت السبب الأول والمباشر في دفع الاتحاد السوفيتي السابق بقيادة (ستالين) إلى طلب القنبلة النووية من العالم الفيزيائي الروسي، حيث شهد العالم منذ ذلك الوقت بدأ مرحلة (توازنات الرعب النووي) بين واشنطن وموسكو  .

 

 ومن المعروف أن الرئيس (هاري ترومان) هو صاحب فكرة ضرب اليابان نووياً، والمؤيد بحماس جنوني سنة  1952  لضرب الاتحاد السوفيتي، والصين بالأسلحة الذرية الفتاكة  .

كما أن الرئيس (ايزنهاور) كان يرى صلاح فكرة التخلص من (مشكلة الصين الشيوعية) بضربها بالقنابل النووية . وإنه نصح الرئيس (ترومان) بضرورة ضرب أي دولة غير حليفة تحاول صنع السلاح الذري ، وقد قرر أيضاً استخدام هذا السلاح الفتاك في الحرب الكورية ثم تراجع عنه . ومن الأعمال الإجرامية التي قامت بها أميركا في هذا المجال :

تهجير سكان جزيرة بكيني المرجانية قبل حوالي أكثر من 48 سنة لتجريب القنبلة الذرية والهيدروجينية بحجة إجراء تجارب تخدم الإنسانية . وتم لواشنطن ما تريده لأن الجزيرة الوادعة كانت تحت الوصاية الأميركية !!

 وتشير تقارير علماء البيئة ، بعد هذه السنوات الطوال بأن : - (الجزيرة قد لوثت إلى درجة عدم مقدرة سكانها العيش فيها مرة أخرى) .

 

على صعيد آخر كان من الممكن حدوث حرب نووية تفني ثلثي العالم بسبب نشر صواريخ نووية في تركيا . وكذلك عند محاصرة (الجيش الأميركي) لكوبا، الأمر الذي أدى إلى استنفار(الغواصات النووية الروسية) . ولولا إدراك الطرفين خطورة الموقف، عليهما بالذات، لما تم الاتفاق على الانسحاب من تركيا، وكوبا .

وهناك كثير من الشواهد والحقائق تؤكد مسؤولية الولايات المتحدة، وتوريطها العالم بسباق تسلح ذري وهيدروجيني، مع احتفاظها بترسانة ضخمة من هذا السلاح المدمر، الذي لا تريد أن يمتلكه غيرها لغايات معروفة .

وتأتي إيضاحات وزير الخارجية الأميركي الأسبق (باول) عند حديثه عن ضرب العراق، لتؤكد ما نقول، حيث اتسمت بالغموض، والاستغراق في العموميات، كقوله بضرورة : - (نزع السلاح النووي والجرثومي، الذي أصبح يهدد البشرية كاملة) . دون تحديد التزامات واشنطن ومسؤوليتها عما حدث ،  ودون تحديد الأطر التي بواسطتها يتم الحد من السلاح النووي والهيدروجيني . وقد فسر بعض المراقبين كلمة الوزير الأميركي  بأنها : - (طريقة جديدة للهيمنة والخداع)  .

لهذا فإن هذه الأسباب التي طرحناها سابقاً والتي قلنا أنها لم تأت عبثاً هي التي أدت إلى حدوث نزاع، وانقسامات في الرأي داخل مؤتمرات الأمم المتحدة للحد من الأسلحة النووية، بين الدول النامية من جهة وبين أميركا ودول النادي النووي من جهة أخرى .

 

 والأمر الغريب الذي لا يجد له تفسيراً معقولاً  !! أن معارضة الدول النامية لم تصمد طويلاً أمام (الرفض الأميركي) ، وتنازلت عن آرائها التي طرحتها ولا نعرف سبباً واحداً يدعوها لذلك  !!  وقد  كسبت الدول النووية المعركة في نهاية المطاف، حيث تقرر: - أن تكون اتفاقية (الحد من انتشار الأسلحة النووية) سارية المفعول دون تحديد مدة لانتهائها  .

وتقرر أيضاً : - عدم الاستجابة لمطالب الدول العربية والإسلامية، التي حاولت استقطاب الرأي العام نحو التحذير من مغبة عدم دخول (إسرائيل) إلى هذه الاتفاقية . بلحاظ أن تل أبيب تملك 200 رأس نووي، حيث يتم تخصيب اليورانيوم في (مفاعل ديمونة) ويشحن المواد الأساسية لهذا المفاعل من أوروبا، والولايات المتحدة .

وهكذا فإن واشنطن أنجزت مهمتين كانتا في صميم مبادئها وهما :

 

أولاً : الحصول على تأيد ضمني من (الأمم المتحدة) للبرامج النووية الأميركية، التي ستتطور بحرية كاملة ، مع فرض قيود صارمة على الدول التي تحاول امتلاك هذا السلاح الفتاك، وتمكين (الوكالة الدولية للطاقة الذرية) من إجراء عمليات تفتيش مفاجئة للدول المشتبه بها .

 

 ثانياً : الإصرار على عدم الضغط على إسرائيل، وعدم إجباره على الدخول في (معاهدة الحد من الأسلحة النووية)، وهذا الأمر سيؤدي إلى أن تطور (تل أبيب) مفاعلاتها النووية دون رقابة !! ولأميركا مصلحة في ذلك عبر عنها الرئيس الأسبق (بيل كلينتون) مراراً بقوله : - (للولايات المتحدة مصلحة حيوية ليس في أمن إسرائيل فقط، بل أيضاً في التعاون الاستراتيجي بين بلدينا في المنطقة، ونحن نتفهم ونؤيد بحزم حاجة إسرائيل إلى الاحتفاظ بتفوق عسكري نوعي على أي اتحاد محتمل بين خصومها العرب) .

والتفوق العسكري النوعي حتماً سيكون بامتلاك (تل أبيب) السلاح النووي بتأييد واشنطن ومباركتها. وهنا نقول: هل بعد هذا شك بأن النظام الدولي الجديد بقيادة أميركا  يكيل بمكيالين … ؟!  ويتحرك بوجهين … ؟! والأمر من الوضوح بحيث أنه لا يحتاج إلى مزيد من التعليق .

 

الدكتور قاسم خضير عباس

كاتب وخبير قانوني

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1192 الجمعة 09/10/2009)

 

في المثقف اليوم