أقلام حرة

ايران وتاريخ عشقها الامتلاكي للعراق! / سليم مطر

(وحدة بلدان الشرق الاوسط: تركيا وايران وبلدان المشرق العربي) على غرار الوحدة الاوربية.

اننا نود فقط وصف حالة تاريخية تجمع الكثير من الدول الجارة. يكفي القول العلاقات بين ايران والعراق تشبه الى حد بعيد تلك التي بين فرنسا والمانيا، حيث ظلت المانيا دائما لاسباب جغرافية، تتجه لاحتلال فرنسا.
إن العلاقات بين الأوطان محكومة أساساً بشروط الجغرافية والبيئة; وبما أن هذين العاملين ثابتان على مر التاريخ فإن طبيعة العلاقات بين الأوطان تتمتع بديمومة وثبات «نسبي» رغم تغير الأديان والحضارات والمعتقدات.

 

الاحتلال الايراني الدائم

ايران هي الجارة الكبرى المشرفة مباشرة على المشرق عبر سلسلة جبال زاغروس طول الحدود الشرقية لوادي النهرين. تمتد هذه الحدود جنوباً من خليج البصرة حتى الشمال حيث جبال ارمينيا وطوروس الأناضول. إن التجاور الجغرافي الحميم بين الهضبة الايرانية والعراق كان بالحقيقة تجاور النقيضين: ايران، رأس الكائن الآسيوي المرتكز على الهضبة الايرانية وجبالها، والممتد بين هضاب وجبال أواسط آسيا الآرية التركستانية حتى حدود الهند والصين وروسيا. لبثت ايران دائماً ترمق بشغف وحماس ناحية الغرب حيث وادي النهرين وشواطىء سوريا الواعدة. أما العراق، رأس الكائن المشرقي المرتكز على نهري دجلة والفرات والمنفتح على سهول سوريا الخصبة حتى شواطىء المتوسط. لبث العراق دائماً يرمق بخوف وحذر حدوده الشرقية حيث تتربص شعوب ايران وآسيا بانتظار فرصة للانحدار والهبوط واجتياح النهرين كما فعلت طيلة التاريخ!
ايران ظلت دائماً أشبه بالعاشقة الولهة الباحثة عن كل السبل للسيطرة على الحبيب; والعراق ظل دائماً ذلك اليافع المتمرد الهارب من سيطرة الحبيبة. جبال زاغروس ترتفع على النهرين الى مسافة تبلغ أحياناً (4548 قدماً ــ جبل زارد). الهضبة الايرانية وجبالها منحت الايرانيين دائماً قوة حربية حاسمة من خلال الانحدار العسكري والاجتياح السريع. ايران ذات الأراضي الجبلية وصحراء «لوط» القاحلة ظلت دائماً ترمق بإعجاب وشهية الحضارات الكبرى الناشئة في الوادي الخصيب وما تنتجه من ثروات وخيرات وعلوم ومعتقدات. ثم إن موقع العراق ظل ضروريا للوصول الى الشام وشواطىء المتوسط.


على مدى التاريخ لبثت الشعوب الرعوية الآسيوية (الآرية ــ التركستانية)، ما إن تحط الرحال في الهضبة الايرانية قادمة من أواسط آسيا حتى تفتح عيونها على وادي النهرين بنهريه وأراضيه السهلة الخصبة الغنية فتنحدر عليه بسهولة من أعالي زاغاروس. من ابرز هذه الشعوب والجماعات التي اجتاحت العراق منذ عصر السومريين وحتى  القرن الماضي: عيلام، غوت، كوش، حوريين، ميد، اخمين، بارث، ساسان، بعد الاسلام برز : البويهيون والأتراك السلاجقة، المغول، ثم الصفويون، لقد تعددت فترات الاجتياح والسيطرة الايرانية الآسيوية وتراوحت بين عشرات السنين حتى عدة قرون. أما المجموع الكلي لهذه الفترات فيبلغ عشرات القرون المتقطعة. أطول هذه الفترات كانت سيطرة البارثيين والساسانيين التي دامت من القرن الأول ق. م حتى القرن السابع والفتح العربي.


على مر التاريخ ظل الهم الأول والرئيسي للدولة العراقية حماية حدودها الشرقية لدرء خطر الاجتياحات الايرانية الآسيوية. جميع الأنظمة العراقية تجنبت مغامرة السيطرة على ايران بسبب صعوبة الصعود الحربي نحو جبال زاغاروس والهضبة الايرانية. وكان أقصى ما تفعله الدولة العراقية انها تقوم باجتياحات سريعة وعمليات تأديب للدول والقوى المشاكسة في ايران. (يبدو ان صدام لم يفطن لهذه الحقيقة التاريخية الجغرافية فقام بمغامرته الحربية التي انتهت بكارثة). ان الدولة العربية الاسلامية هي الدولة «المشرقية» الوحيدة التي تمكنت فعلاً من عبور جبال زاغاروس وفرض السيطرة على الهضبة الايرانية وعموم آسيا الوسطى. وهذا امر استثنائي في تاريخ المشرق ويعود ربما أساساً الى العنفوان الحربي الذي كانت تتمتع به القبائل العربية الصحراوية القادمة تواً من بوادي الجزيرة العربية.

 

التبعية الثقافية الايرانية للعراق

المسألة المهمة التي يمكن ملاحظتها أن ايران خلال جميع فترات احتلالها للعراق لم تستطع أبداً أن تفرض ثقافتها أو سكانها على النهرين، بل كان العكس هو الذي يحصل : في كل مرة تحتل ايران النهرين كانت تكتسب وتتبنى الحضارة العراقية : اكتسبت الكتابة المسمارية والثقافة السومرية منذ الألف الثالث ق. م، ثم الحضارة البابلية التي أثرت بصورة كبيرة على الثقافة الايرانية والديانة المجوسية. وصل الأمر في الحقبة الساسانية انهم جعلوا عاصمتهم في المدائن وسط العراق قريباً من بابل القديمة وصارت اللغة الآرامية (السريانية) العراقيةــ السورية هي السائدة ثقافياً في أنحاء الامبراطورية الفارسية مع بقاء اللغة البهلوية محصورة في البلاط الايراني. المسيحية النسطورية العراقية انتشرت حتى بين العائلة الملكية في ايران ونافست المجوسية. علماً ان هذه المجوسية فشلت تماماً بالانتشار بين العراقيين وبقيت محصورة بين الجاليات الايرانية المقيمة. الديانة المانوية البابلية انتشرت بزخم في ايران حتى أنها شقت الزرادشتية لتخرج منها الطائفة المزدكية التي جمعت بين المجوسية الايرانية والمانوية العراقية.
أتت بعد ذلك الحقبة الاسلامية لتصبح ايران مسلمة بعد أن سبقها العراق. لقد انتشر الاسلام في ايران أساساً بواسطة الجيوش العراقية البصرية والكوفية التي استوطنت ايران خصوصاً في خراسان ونيسابور وقم، وشكلت أساس الجيش الخراساني الذي ساند الثورة العباسية. عندما ساد التشيع في العراق بدأت ايران السنية تدريجياً أيضاً تميل الى التشيع، حتى تمكن الصفويون أن يفرضوا التشيع في القرن السادس عشر. علماً أن الصفويين اعتمدوا على الفقهاء و«السادة» العراقيين واللبنانيين والبحرانيين لنشر المذهب الجعفري. ان فئة السادة في ايران (من بينهم الإمام الخميني) التي تتمتع بقدسية دينية وسياسية في الدولة والمجتمع، لا ينكرون من أنهم من أصول عراقية عربية (لبنانية وبحرانية وإحسائية) وينحدرون من نسل الإمام علي. لكن طبعاً هذا لا يقلل من حقيقة انتمائهم التاريخي والحضاري لإيران.
إن حاجة ايران للسيطرة على النهرين لم تكن مدفوعة بحقد وكبرياء قدر ما هي مدفوعة بعشق ورغبة بالذوبان والاندماج. أوضح صورة لمدى تعلق الايرانيين بالعراق تقديسهم وحبهم للأئمة والعتبات المقدسة في العراق. كم من الحروب خاضها الايرانيون ضد العثمانيين من أجل تحرير العتبات المقدسة؟ وكم هناك من الأساطير عن الجهود العجيبة التي ظل يبذلها الايرانيون من أجل دفن موتاهم في مقبرة النجف في العراق.
حقبة  الشاه الأخيرة كشفت عن تجربة طريفة تستحق الاشارة اليها: عام 1975 في ظل المنافسة بين نظام الشاه ونظام البعث، قام الشاه بتكوين حزب حكومي حمل الكثير من سمات حزب البعث، بل حتى اسمه هو (حزب ريستاخ) ويعني (حزب البعث أو النهضة) في الفارسية!


إذن، مشاعر إيران نحو العراق ظلت دائماً مفعمة برغبة وحب وغيرة. العشق الايراني، نموذج للعشق الامتلاكي حيث تندفع الحبيبة باسم الحب للسيطرة على حبيبها. أما العراق، فيبدو أنه ظل دائماً رافضاً متهكماً من هذا «العشق». ظلت مشاعر العراق نحو ايران مفعمة بتوجس وحيرة مع بعض التعاطف والسخرية. تجربة الحرب مثال واضح لهذه الحالة : صدام حسين عندما اجتاح ايران كان أساساً مدفوعاً بالخوف والقلق من الثورة الايرانية وطموحاتها التوسعية. أرادها ضربة هوجاء خاطفة لإسقاط الثورة وإقامة نظام أكثر أماناً له. أما ايران فانها منذ أول الثورة راحت تعلن عن رغبتها بتغيير النظام في العراق وإقامة نظام اسلامي لانقاذ الشعب العراقي من «الكفرة». حتى الاستمرار بالحرب كان العراق يشن هجماته مدفوعاً بالخوف والأمل بايقاف الحرب مع التبجح السافر باعلان الحقد العنصري على الفرس «المجوس»; أما ايران فقد ظلت على العكس مستمرة حتى آخر رمق باسم الحب للشعب العراقي والعتبات المقدسة وتخليصه من (حكم الطغاة!!).

اخيرا نؤكد، ان تجاوز هذه المشكلة التاريخية الجغرافية، لا يكمن في العداء والحروب، بل في التقارب والوحدة الشرق اوسطية، كما فعلت فرنسا والمانيا..

 

......................

المصدر: اعتمدنا على كتابنا (الذات الجريحة)

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2115 الاربعاء  09 / 05 / 2012)



في المثقف اليوم