أقلام حرة

عقدة المجتمع الكردي .. هواجس انفصالية / مهدي الصافي

رغم التفاوت الواضح بين مفهومي الأمة والقومية في بلاد المشرق والمغرب،

ولكن هل يصح القول بأن التاريخ سجل لنا جميع الحقائق الواقعية عن تلك المجتمعات المتشابكة والمشتركة في صناعته وتكوينه، هل فسر لنا تنوع واختلاف وتعدد الثقافات والأعراق المنخرطة في صياغة الثقافة العامة لتلك الأمم أو حتى الدول بمفهومها وطبيعتها الحالية،

هل استطاع المؤرخون لتاريخ الإمبراطوريات ان يكونوا حياديين في توثيقهم للإحداث والوقائع والشواهد المشتركة بين جميع فئات المجتمع، ولعل جوابهم إن الآخرين لم تكن لهم انجازات تستحق التوثيق أو الإشارة إليها أو الوقوف عندها!

إن كوامن العقدة الكردية المترسخة في وجدان الإنسان الكردي، والجاثمة على صدره، هي عقدة الكيان العرقي المعزول والمحجوب عن الواجهة منذ قرون، إن لم يكن منذ ولادة الأمم والمجتمعات، والأسباب كثيرة بعضها مندثر ، لايمكن العودة إليه، وبعضه تتحمله الأقدار والظروف الموضوعية ، الجغرافية والبيئية والتكوينية الاجتماعية والثقافية الخاصة بتلك القومية،

(المتركزة في مناطق جبلية وعرة محصورة بين أربع إمبراطوريات سابقة (الفارسية الأموية والعباسية والعثمانية)، والمتداخلة ثقافيا ولغويا واجتماعيا مع تلك الإمبراطوريات، حتى قيل إنها قومية مصطنعة لان أصولها مجهولة، فهم أما عرب أو فرس أو أتراك الجبال (وهي ليست وصمة عار تلحق بهم ترفعهم تلك الإمبراطوريات إلى مصاف أعراقهم ، مع إننا لانتفق تماما مع هذا القول،  إلا إن البعض قد  ذكره)

ولهذا استمر العناد والعصيان الكردي قائما وقويا ضد عملية الانصهار الوطني مع بقية القوميات المهيمنة على مقاليد السلطة والحكم في بلادهم، وهذه الطريقة النضالية في سبيل الحصول على بعض الحقوق القومية المشروعة ، هي وحدها من حافظ على توهج الأمل والطموح الكردي في قيام دولة خاصة بهم، وتصاعد سقف الحقوق المطالب بها داخليا وفي المحيط الإقليمي،

(الفيدرالية في العراق-وتصعيد الكلام والعبارات السياسية الانفصالية ، وتشجيع ثقافة حق تقرير المصير)

ولكن هل هذه هي الطريقة التي ستجلب لهم حق الدولة ألام المفقود، مع ان العالم كله لايعرف دولا أقيمت على أساس قومي وعرقي خالص،

(عدا بعض الدول الدينية،  التي اضطرت إلى إتباع النموذج الديمقراطي الحديث للتغطية على فشل فكرة الدولة الدينية –إسرائيل مثالا)،

نحن نعتقد ان حلول العقدة الكردية تمر بطريقين لاثالث لهما،

الطريق الأول: يمر من خلال الحفاظ على الطريقة السلمية في الحصول على المكاسب السياسية والثقافية والاجتماعية (كالنظام الفيدرالي المطبق في العراق)،

والابتعاد عن فن صناعة الأزمات الوطنية والاجتماعية داخل حدود الدولة التي يتواجدون فيها،

(على اعتبار إن الحل العسكري لايوفر غطاءا قانونيا لإقامة دولة أو الانفصال عن الدولة ألام، بل يزيد الأمر تعقيدا ويسبب للأقليات الكردستانية مزيدا من المعاناة والألم، ونحن نرى ونسمع ونشهد الطائرات التركية والمدافع الإيرانية كيف تلاحق الأبرياء من سكان القرى والفلاحين الأكراد،  الذين يعتبرون خط التضحية الأول في المواجهة بين الأحزاب الكردية المعارضة لهذه الدول)،

والامتناع عن التلاعب بمشاعر وعواطف الجماهير الكردية لشغلها عن المطالب الرئيسية المتعلقة بحياتهم اليومية، فهي بحاجة ماسة إلى توفير أسباب العيش الكريم، وصيانة مصالحه وحقوقه الشخصية الفردية والاسرية وتوفير الخدمات العامة ، وكل المستلزمات والضروريات الاجتماعية والثقافية والصحية والتربوية الملحة والمهمة  له ولا بناءه ولمجتمعه الخ.

الطريق الأخر: لحل عقدة المكون الكردي هو المساهمة بتشجيع المعارضة الكردية في الدول المجاورة للعراق (إيران تركيا وحتى سوريا)، على

إتباع الطرق السلمية في الحصول على بعض المكاسب الشبيه لتلك التي حصل عليها الأخوة الكرد في العراق، والبحث عن منافذ أممية خارجية لنصرة قضاياهم المصيرية كما يسمونها، وعليهم أن يبتعدوا عن خلق الأزمات الأمنية الداخلية ، لأنها تهدد وحدة السلم والأمن الأهلي والوطني والقومي لبلادهم، وبالتالي يمكن لهم الاستفادة من التجربة الكردستانية العراقية، والبحث عن طرق عصرية تناسب الوضع الدولي والحضاري الجديد لطرح مطالبهم المشروعة ، دون دماء أو بلا مفخخات وتفجيرات المناطق الآمنة،  وبلا بنادق عنف.

(الكل يلاحظ ورطة حركة مجاهدي خلق الإيرانية في العراق ، التي تخلى عنها حتى أعداء إيران لأنهم مصنفون على إنهم منظمة إرهابية استخدمت السلاح الخفيف والثقيل لإثبات وجوده ضد ايران)،

وكذلك تقع على عاتق حكومة إقليم كردستان العراق مسؤولية دعم تلك الحركات المسلحة المعارضة في الدول المجاورة

(وقد كانت بالفعل هناك عدة تصريحات مسئولة من قبل السيد الطالباني تدعو هذه الحركات في البحث عن طرق وسبل مدنية وسياسية أخرى لنيل حقوقهم بعيدا عن مظاهر العنف والصدام المسلح)،

وان لايفكروا سياسيا بطريقة المادة 140 أو مايسمى بحقوق الأكراد في المناطق المتنازع عليه، لان مثل هذه الأساليب ستعقد الحلول ولن تجد لها صديقا في كل بقاع الأرض،

مشروع الدولة الكردية إن أريد له ان يستمر بعيدا عن المشاكل والتوترات السياسية والأمنية للمناطق المتواجدين فيها، عليه ان يأتي بنفس سياق الدولة اليهودية المشؤومة ، وهذه من الأمور المعقد تاريخيا (لان بعد كل هذه السنين لازالت إسرائيل تعاني من مشكلة الوجود وضمان الاستمرار كدولة نشاز في المنطقة، هم بحاجة إلى وعد بلفور خاص بهم،  يساعدهم على إيجاد بصيص أمل في كل مغارات وإنفاق جبال كردستان، على إن هذا الكلام لايؤخذ على انه تشجيع على إقامة الدولة الكردية،

بل هي دعوة لابعاد شبح الحرب والدمار والاضطراب الداخلي المهدد للسلم الأهلي، واستعارتنا بفكرة وعد بلفور المشؤوم، على انه المثال الأقرب لقيام دولة لم تكن موجودة على خارطة العالم، مع التفريق بين الإخوة الأكراد الذين هم أهل المنطقة ، وبين من جاء من الخارج وفقا لرؤيا دينية تاريخية كاذبة)،

ومن هنا فأن مخاوف الدول ذات التواجد الكردي من تكرار التجربة الإسرائيلية مخاوف حقيقية، تنم عن وعي وحرص وطني وأخلاقي لحدود وكيان واستقرار بلادهم،  من اجل حماية المجتمع بكل فئاته وأطيافه وعرقياته المختلفة  من الانهيار والانخراط في حرب أهلية مدمرة للجميع ، تكون خسارة الأقليات فيها هي الأكبر والأكثر من حيث عدد الضحايا،

وليس كما يتصور البعض هو استغلال هذه الدول لهذه المناطق ومصادرة حقوق وحريات وثقافة أبنائها، علما إن العالم المتحضر اليوم هو عالم الشعوب والقبائل والمجتمعات المتجانسة رغم الاختلافات والتنوعات الاثنية والثقافية أو الدينية الخ.

لقد كانت التجربة الفيدرالية في كردستان العراق تجربة فاشلة بكل المعايير والمقاييس الثقافية والاجتماعية والسياسية، منذ ان خرجت قوات البيشمركة المدججة بمختلف أنواع الأسلحة إلى أسواق المدن الكردستانية، من اجل إرغام أصحاب المحلات والمتاجر هناك على رفع علامات وعناوين وأسماء تلك المراكز التجارية الخاصة المكتوبة باللغة العربية، واستبدالها باللغة الكردية فقط(مع السماح باستخدام اللغة الانكليزية)،

ومن ثم تبعتها إجراءات وخطوات غريبة تمنع تلك المناطق عن الاندماج والتواصل مع بقية مناطق العراق

(تغيير لغة التدريس القرآنية في المدارس، عرقلة المواطنين القادمين من خارج الإقليم من الدخول والإقامة بمدة محددة وبورقة من الاسايش -تنفيذ اتفاقات وعقود دولية دون الرجوع إلى السلطات الفيدرالية الاتحادية-عدم السماح للأجهزة الأمنية من الحكومة الاتحادية من الدخول وتعقب المجرمين في مناطق كردستان-الخروج على القضاء العراقي وعدم الامتثال لقراراته-الاعتراض على صلاحيات القائد العام للقوات المسلحة العراقية والتهجم عليه، الخ.)،

 ان الأسلوب الذي اتبعه السيد مسعود البرزاني في معالجة مشاكل الإقليم مع الحكومة الاتحادية المركزية في بغداد، إضافة إلى تكرار فقرة حق تقرير المصير، وغيرها من التوترات والأزمات المفتعلة، كان وسيكون حجر عثرة في وجه بقية الأقليات الكردية المتواجدة في بعض الدول المجاورة (تركيا وايران)، ستحسب هذه الدول ألف حساب لأي فكرة تقترب من الطرح الفيدرالي أو حتى من حقوق الحكم الذاتي لهم،

ولذلك فقد كانت الأضرار الذي تسببت بها السياسة الكردستانية الانفصالية في العراق كبيرة جدا ، لن تخدم مصالحهم كأمة موزعة على أربع دول (قد يكون لها بارقة أمل في تكوين دويلة لهم ، إذا ما أثبتت التجربة الكردستانية العراقية نجاحها)،

بل ستبقى عقدتهم التاريخية في البحث عن دولة قومية مشاكسة ومتشابكة ومؤثرة في المحيط الإقليمي، ماثلة أمام أعينهم في كل خطوة تخطوها حركاتهم السياسية في سبيل نيل ابسط الحقوق الشرعية (سواء كانت نظاما فيدراليا أو شيئ اقرب لها كالحكم الذاتي)، ولن تكون لهم نقطة انطلاقة ناجحة إن بقي الهاجس الانفصالي هاجس مشحون بكراهية المجتمع الكردي للوطن الأم،

ومن هنا فعلى جميع شعب كردستان ان يفهم جيدا بان مشروع فكرة حق تقرير المصير مرتبط ارتباطا وثيقا بنجاح تجربتهم الفيدرالية في العراق،

وكذلك بالوضع الكردي في بقية الدول ذات العلاقة (بالأخص تركيا وإيران)، إضافة إلى أهم العوامل الداعمة لها ، وهي الضمانات القانونية الدولية المتمثلة بالدعم الدولي للقوى العظمى

(والأصدقاء في الأمم المتحدة، وعليهم ان يعرفوا إن تجربة البوسنة والهرسك وتجربة جنوب السودان، هي تجارب مختلفة اختلافا جذريا عن القضية الكردية، ولايمكن استنساخها)

ببساطة مفرطة نقول إن حقوق الشعب الكردي المتمثلة بطموح حق تقرير المصير، ليست لها أية علاقة بالدولة العراقية، وإنما يجب ان يتسع الهدف الكردي ، ليشمل بقية المناطق الكردية في الدول المجاورة، وحتى تنضج مثل هكذا حلول (والتي يجب ان تتم وتمر عبر بقايا أطلال الدول التي يمكن ان يشكل انهيارها دفعة قوية لهكذا حلم معقد، انهيار أنظمة الدولة الإيرانية أو التركية والسورية  وهذا أمر مستحيل في المستقبل المنظور، تبقى فقط مسألة الحروب التي يمكن ان تقودها الرأسمالية العالمية ضد سوريا وإيران ، ومايتبعها من عملية تفكيك لهذه الدول، هي من تدفع هكذا أمل إلى الواجهة ، وهذه أمور مستبعدة حاليا)،

يحتاج المجتمع الكردستاني المثقف ان يكون بمستوى المسؤولية لخدمة أبناء مجتمعهم، محاولين الاستمرار بالنهج والطرق النضالية المدنية والإنسانية السلمية،  المعززة للديمقراطية الحديثة في مناطقهم ،

ان يتعلموا ويعلموا شعبهم إن الأعلام والرموز القومية والدينية والاجتماعية ليست كافية لضمان حقوقهم الآدمية ، ولن تكون شعارا عاملا وناطقا بحقوقهم واحتياجاتهم الطبيعية المعيشية والاجتماعية والتربوية والصحية والثقافية (الخ.)،

إنما تبقى هي أمور مترابطة ومتعلقة بجهودهم وتحركاتهم ووعيهم وقدرتهم على استرجاع  أية حقوق منزوعة خصبا ورغما عنهم (سواء كانت من قبل الحكومة المركزية أو المحلية في الإقليم)،

الدولة الديمقراطية الحديثة والمتكاملة هي صاحبة الغطاء الشرعي الكامل الذي تذوب فيه وتلوذ به كل إلاثنيات والأعراق والطوائف والأديان ،

ولن تكون الأقليات العرقية أو الدينية في موقع أدنى من المستوى الوطني العام،

تخسر الدول الأوربية أحيانا ملايين الدولارات لإنقاذ بعض مواطنيها من المخاطر، وهم مواطني الجيل الأول أو الثاني من العرقيات والخلفيات والأصول المهاجرة (الجنسية عندهم هي القومية وهي الوطن والمواطن، لان ديمقراطية دولة المؤسسات هناك، هي بناء متين مقام ومشيد على أسس وأعمدة ومبادئ وشرعية دولة المواطنة)،

إذن هل نحن بحاجة إلى دولة ديمقراطية تكون فيها حرية العقيدة والتفكير والعيش الأمن مصانة للجميع دون استثناء، تحمي حقوق الأفراد والمجتمع ككل، وتنفصل فيها السلطات المستقلة الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، توفر لنا جميعا الخدمات والاحتياجات العامة، وتهتم بشروط تكافؤ فرص العمل والتوظيف والتعليم والصحة (لمن يحمل الجنسية العراقية) ؟

أم نحتاج إلى دويلات قومية طائفية وعرقية، لن تختلف كثيرا عن اي دولة أخرى، بل سيبقى المواطن يبحث فيها عن نفس تلك المطالب،

التي إن توفرت في النظام الديمقراطي الوطني الصحيح، اكتفيت المجتمعات والاثنيات والطوائف بنموذج هذه الدولة ، كما تكتفي الأقليات المهاجرة بالمكاسب المتوفرة لها في بلاد الغربة.

إن العقدة الكردية عقدة اجتماعية موروثة ، لاتقبل أن تتفكك لتفهم طبيعة المتغيرات والمستجدات والإحداث الدولية، مغلقة ومنزوية ومعزولة عن العالم، لاتريد ان تقتنع إن القرية الكونية أذابت وصهرت القوميات والأديان في بوتقتها منذ نهاية الحرب الباردة، وأصبحت الشركات العالمية الكبرى العابرة للقوميات والسيادات والقارات هي من يقود العالم اليوم، لستم بحاجة إلى دولة كردية، بل بحاجة ماسة لدولة المواطن ............................

مهدي الصافي

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2121 الثلاثاء  15 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم