أقلام حرة

الديمقراطية الإقطاعية في العراق الجديد / مهدي الصافي

والمستغلة من أرباب السلطة، وقد استخدمها النظام الملكي في العراق لشراء ذمم بعض شيوخ العشائر في تشكيل المجالس النيابية،

إلا إنها أصبحت ظاهرة اجتماعية عالمية، تتكرر وتعيد دورتها كلما تفاقمت الأزمات الاقتصادية الدولية أو الكونية، فنجد إن في قمة حالة الانهيار الاجتماعي والفقر نرى ازدياد ثروات الأثرياء في العالم، وتعزز المؤسسات الاقتصادية والمالية الاحتكارية (البنوك والمصارف وأسواق الأسهم والأوراق المالية)، لتبدأ  رحلة المنافسة فيما بينهم حول من يتصدر قائمة أصحاب الثروات الطائلة.

بعد ان اقتربت المدن من القرى والأرياف، وهجر الفلاح أرضه باحثا عن حياة أفضل في المدن، يلتمس شيئا من جذور حضارة المدن لتحقيق بعض رغباته اليسيرة،

وبفعل الاحتياجات الملحة للأنظمة المستبدة، التي تبحث عن النظم التي تعسكر بها أو تجهل المجتمع،  يقع الاختيار على هؤلاء البسطاء للدوس على كرامتهم، ورغبة منها في ديمومة توفير وقود مطحنة الحرب والاضطهاد الداخلي لابناء المجتمع،

ولان ابن الريف شخص بطبعه المتواضع طيع، يتبع مايقوله كبار عشيرته أو شيوخهم، فهو اشد قسوة في تنفيذ أوامر أسياده وأحيانا دون رحمة، وقد عايشنا حكومة القرية في السابق، ونعايشها بشكل أخر حاليا.

صار لمفهوم الإقطاع صور وظواهر وحالات مختلفة عن السابق، أصبح الحزب أو الحركة وحتى الكتل البرلمانية تمارس صفة الإقطاع الحديث في المدن،

فما يحصل من تقاسم وتحاصص للمناصب السياسية عند تشكيل الحكومة  في العراق، ينعكس فيما بعد على الواقع الاقتصادي والاجتماعي  والتجاري في البلاد، عبر الواجهات الخلفية لهذه النماذج، من خلال مجموعة من الشركات المملوكة لقيادات وأعضاء تلك الواجهات السياسية، فقد أصبح اللعب على المكشوف وفي مختلف المجالات، (مادام الشعب لايعبأ بالنتائج أو بكل ما يدور حوله، ومن يهتم إن أشار إلى مكامن الخلل، فالمدان هو صاحب القرار في رفع أو إقرار إدانته )

بمعنى أخر حتى العقود المحلية الصغيرة إن لم يكن لهذه الجماجم الخبيثة نصيب في عقودها فلها على الأقل نسبة من الرشوة(الهدية)، وهذه هي احدى صفات الأنظمة الشمولية الاستبدادية،

حيث يعمد فيها بعض أصحاب الشركات إلى إعطاء نسبة أسهم معينة لأبناء الذوات من الإقطاعية الحديثة(أبناء الرئيس أو المسئولين)لضمان سلامة أموره التجارية(ولهذا خرجا أولاد الرئيس المصري مثل الشعرة من العجين كما يقول المثل المصري أو العربي، وبهذه الحجج سيخرج حرامية العراق من قبضة العدالة لان المشاريع وطريقة التعاقد والإحالة تمت وفقا للمواصفات العالمية!)،

الغريب في الأمر وبالطبع لاشيء غريب في عراقنا الجديد،  إن الثروات الوطنية(النفط) قوت الشعب يكون في معظم الدول النامية أو الناشئة (أو دول العالم الثالث)عادة خارج إطار تلك اللعب القذرة،

لكنها اليوم تدخل بقوة في ميزان القوى السياسية لسرقة التاريخ والحضارة وحياة العراقيين،

بعد ان استثمر شعار الديمقراطية وبناء العراق الحديث استثمارا وقحا وسيئا، صارت أفضال السادة الإقطاعيين عبارة عن وظيفة شرطي أو حارس شخصي(ومراسل للأغراض المنزلية والعائلية)يحملها إليهم عضو كتلة برلمانية أو سياسي ورقي، تبعثه قيادته لشراء الأصوات الانتخابية،

فتحول شباب الوطن العاطل عن العمل بما فيهم خريجي الكليات والمعاهد إلى أرقام هامشية تنتظر فرج السيد المسؤول،  يطمحون لنيل شرف هذه الوظيفة حتى لو جاءت بالرشوة(وهي من أهم الوظائف في الدولة لأنها تتعلق بأمنه وحياته، ولكن ان تكون طموح كل شاب فهذا أمر عجاب، والأكثر غرابة إن ثقافة الشعب العراقي أو العربي عموما، لازالت تقدس السيد المسؤول، وكأن دم الولاء والطاعة الذي كانت تأخذه الخلافة الأموية والعباسية لامير المؤمنين وخليفة المسلمين من العامة يجري بحرارة)،

وترى تحرك اسر هؤلاء الشباب رواحا وجيئة إلى بيت هذا المسؤول  (المسؤولة أو العضوة )أو ذاك، وقد شهدت وقوف فقراء أبناء شعبنا على أبواب احد المسئولين، الذي رشح نفسه إلى برلماننا الحالي، وهي تقف منتظرة فتات ثروتنا النفطية تهب من بين يديه،

وقد عبر الكثير من أعضاء البرلمان العراقي، بما فيهم عدد من  قيادات دولة القانون (عضو برلمان سابق وحالي) من على شاشة العراقية أكثر من مرة، إثناء حملة تقليل الرواتب،  إن الراتب لايكفي لأننا مسؤولين أحيانا عن الفقراء(المجدي ما يقبل بألف ألفين يريد أكثر)،

الإقطاع في العراق تقاسم الأرض والثروة الوطنية والمؤسسات الحكومية، (شراء أراضي حكومية بأسعار بخسة، التحكم بالعقود الحكومية وعملات السمسرة الخاصة بها، غياب الشفافية المقبولة حول عقود الاتصالات وشبكات الهاتف النقال-وعقود محطات الطاقة الكهربائية-عقود شراء الطائرات-عقود شراء وتسليح الجيش العراقي-عقود وزارة النفط-عقود تهيئة القمة العربية-عقود أجهزة وأدوية وزارة الصحة-عقود الوزارات المختلفة بما فيها وزارة البلديات التي لم تقدم أي شيء مهم مقارنة بالأموال التي صرفت-وزارة إنعاش الاهوار وقصة مرسى القوارب-أموال الشخصيات الطافحة على المشهد السياسي الحالي، الخ.)،

هذه الحالة حولت الشعب العراقي إلى أقسام(حارات ومحلات وضيعات) كبيرة وصغيرة، مجزئة وموزعة كلا حسب طائفته وقوميته وكتلته السياسية،

ولذلك لاتجد في بلادنا (إلا نادرا )شخصا غير متحزب، أو منتمي لحركة، أو مؤدلج ومبرمج طائفيا أو عرقيا،  أو تابع لشخصية إقطاعية(سواء كان هذا الإقطاعي رجل دين أو مسؤول برلماني أو حكومي أو حتى عضو في مجلس المحافظة)،

وهم ينظرون والحسرة تأكلهم إلى شخصياتهم الذائبة دون رحمة في تلك التفاصيل الاجتماعية والعرفية الرديئة(التي عادت من الحضارة العالمية أوربا، مقتبسة أمراضها التراثية لتهبط إلى  حضيض الثقافة  القبلية الشرقية، تبحث عن إعادة صورة الرمز في المجتمع، كما يردد احد ببغاوات الإقطاع السياسي)،

ومع إن ديمقراطية الإعلام والثرثرة وحديث المقاهي سمحت للعامة بالترويح عن النفس المحرومة من خيرات بلادها، لترد على من نفث سموم الحقد والغيض بوجوههم، بعد ان جعل من عائداتنا النفطية سلما للارتقاء الرخيص، صناديق

أموال مشاعة للاقطاع فحسب،  كبوفيه مفتوح للأفواه الشرهة للنهب والفرهود لبعض المسؤولين وإتباعهم،

وهم ينظرون إلى الفقراء والمعوزين من الشيوخ والأيتام والأمهات والعجائز اللاتي يحفرن الذاكرة المتعبة بفضلات بلاد الرافدين.

إن سواعد عجائز دجلة والفرات وهن يسقن حمار الصبر وهو محمل بمزابل المدينة في معظم أقضيتنا ومحافظاتنا البائسة،  ستوقف عجلة تدمير البلاد،

وتنقذ أجيالنا القادمة من الضياع، لان الكرامة عندهن ان لاتمد يد العوز إلى هؤلاء النكرات، فقد علمتهم الحياة ان يعملوا كما يعمل الأنبياء والرسل والصالحين،

ولكن ماذا عن بقية أبناء شعبنا النائمين على أصوات العبوات والمفخخات  والموازنات الانفجارية،

إلى متى يبقى الرأي وحرية التعبير وصوت الحق العالي غائبا عن الشارع، أم لعل احتفالات البذخ والإسراف في عيد الصحافة،  قد اكتفى بمصادرة أصواتهم،  بعد ان سد رمق جوع  الصحفيين بمنحة قطعة الأرض...................

مسيرة تأريخنا تقول إننا وبصراحة مفرطة امة مهزومة، شعب لايعرف إلى أين يتجه، العنف والقسوة والقبلية المرة تقسم أوساطنا جميعا،

اخرج البعث وصدام المقبور والظروف القاسية التي واجهت الشعب إلى السطح كل نواقص وانحرافات المجتمع(علما إن أكثر حاكم في تاريخ العراق وحتى العالم قال كلمة العظيم بحق شعبه هو صدام، وهو أكثر حاكم اذلهم)، نماذج للإرهاب والقتل والذبح والنهب والتجاوز الفظيع للطبيعة الآدمية السوية،

وتأمل الجميع خيرا بالجهة المقابلة لتلك الثقافة الضحلة، استبشر بالمعارضة التي استلمت السلطة بمعونة الاحتلال،

فكانت طامة كبرى، كشفت عن الهاوية، تبين لنا  حجم الهوة الكبير بين واقعنا المعاصر، وبين ما نتغنى به أمام العالم من إننا بلاد حضارة وتاريخ،

ونحن نشهد انهيار شبه كامل للمنظومة الأخلاقية والدينية والاجتماعية لأغلب الحركات والأحزاب والشخصيات المشاركة في العملية السياسية،

بلاد مخربة وعراك السياسيين مبهم، لانعرف حقيقة الخلاف، وعلى ماذا يتصارع ويتناطح البعض، وليس هناك شريك غريب يزاحمهم في صفقة تجارية أو منصب سياسي، فالبيت بيتهم والطبخ طبخهم!

اين تلك الدولة التي يكون فيها اغلب أحزابها وحركاتها وسياسيها  سواء المشاركين في الحكومة المركزية أو المحلية في المحافظات متوافقون حول نهب ثروات بلدهم، هم سراق المال العام عبر بوابات الاستثمار(استثمار أموال الشعب وعوائده النفطية)، لتثبيت مفهوم الإقطاع السياسي، الذي يقطع الطريق أمام القوى والشخصيات الوطنية الطامحة لإنقاذ بلادهم من الانهيار، وتمنعهم من الاستمرار بالعمل لبناء الوطن والإنسان والأمة.

تتحدث التقارير عن ثروات وأرصدة مودعة في البنوك الأجنبية، فلل وفنادق وعمارات وأملاك موزعة على مختلف دول العالم، والكل يعرف إن بلادنا خرجت من الحروب وظروف حصار اقتصادي قاس،   لا احد يمكنه ان يدعي إنه خرج بثروة طائلة من رحم النظام الشمولي السابق إلا إذا كان من أعوان ذلك النظام،

(وقد اعدم النظام السابق اغلب تجار بغداد، ولايوجد في المحافظات العراقية في ذلك الوقت أية شخصيات يمكنها الادعاء بإنها من أصحاب الثروات الهائلة، يمتلكون مثلا المليارات من الدولارات)،

إذن من أين لكم هذه الثروات ياسادة السياسة والسمسرة والشركات الفاسدة!

أليس من حق الشعب ان يسأل عن كل ذلك، أم اعتاد على السبات الدائم،

هل فعلا ان تاريخ العراق القديم ليس له علاقة بمايحصل حاليا،

أم هي ..هي الصورة، تتكرر دون حلول جذرية لإنقاذ بلادنا وبسطاء مجتمعنا من السياسة الإقطاعية المتعجرفة.

ولكن سأذكر مقتبسا لقولا مخففا عن ما اعتدنا على سماعه من مقولة  سيد البلاغة الإمام علي ع في أهل الكوفة،

انه قول الثائر محمد أبا السرايا في أهل الكوفة(مقاتل الطالبيين-أبي فرج الأصفهاني)،

علما ان هذه الموارد كالخطب الشديدة اللهجة تستخدم أحيانا لحث الناس على مواصلة الحرب والقتال، ولهذا فبعد سماع أهل الكوفة لهذه الخطبة، عادوا لقتال الجيش العباسي،

فهي خطب قاسية ولكن يراد منها ان تحفز المشاعر،  وتشحذ الهمم،  للاستمرار في القتال، لان الخصم استخدم في هذه المعركة نفس حجة معاوية في صفين، فهل ستكون حافزا لإيقاظ المجتمع العراقي لكي يتعلم أسلوب حضاريا جديدا في طلب استرجاع الحقوق وحمايتها من النهب، وان يشعر بأن رأيه محترم عند قياداته السياسية، ويحسب له ألف حساب

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2167 السبت 30/ 06 / 2012)


في المثقف اليوم