أقلام حرة

"الجزيرة" و"العربية" و"فن" احتقار عقل المشاهد! / علاء اللامي*

أما تجربة قناة "العربية" السعودية التمويل والإدارة، فلا يمكن وصفها بالأصالة والتَمَيُّز، لأنها إنما أُطلِقَت من باب النكاية والكيد السياسي والإعلامي المتبادل بين الأسرتين الحاكمتين في السعودية وقطر. ومع ذلك، يمكن للمراقب هنا، أن يلاحظ أنَّ "العربية" استمرت تتمتع بشيء من الرصانة المهنية، وإن بدا متناقصا باستمرار، حتى ما قبل إسقاط الدكتاتور القذافي بقليل، وبعد ذلك غدا من الصعب التمييز بين القناتين، حتى ليحسبهما المشاهد قناة واحدة بشاشتين.

 

إنَّ العوامل التي ساعدت على صعود قناة الجزيرة وانتشارها السريع موجودة في نسيج الواقع السياسي والاجتماعي والإعلامي العربي ذاته. فالجزيرة لم تكن القناة العربية الفضائية الخاصة وغير الحكومية الأولى، بل سبقتها بعدة سنوات قناة "أم بي سي" السعودية، ولكنَّ هذه الأخيرة ظلت حبيسة توجهات الإعلام العربي الحكومي التقليدي، ولذلك لم تحقق – العربية - ما حققته شقيقتها الجديدة. فحين بدأت هذه الأخيرة – الجزيرة- نشاطها بنبرة مستقلة عالية الحدة، ومنهجية جديدة على المشاهد العربي وجريئة في التغطية والتحليل والتعامل، كان العالم العربي أشبه بصندوق مضغوط ومعتم محكم الإغلاق، لذلك كان صوت الجزيرة وصورتها أشبه بنفحة أوكسجين للملايين داخل ذلك الصندوق الشمولي!

 

ولدت قناة "الجزيرة" بطريقة لا تخلو من الغموض، وقد قيل الكثير حول تفاصيل تلك الولادة، مما يبقى مثار نقاش وأخذ ورد، ولكن الثابت هو أنها بولادتها، وبهذا الكيفية في الأداء، أجابت على حاجة حقيقية في كافة المجتمعات العربية المحكومة من قبل أنظمة شمولية فاسدة وقمعية. غير أن ذلك لا ينفي، أنّ الكثيرين سجلوا عليها مبكرا سكوتها عن النظام القطري المموِّل والمطلِق والمالك الحقيقي لها، وقد فَهِمَ المتحفظون أسباب هذا السكوت فسكتوا.

 

كما سجل كثيرون تحفظهم على شروع القناة في عملية تطبيع واسعة وسريعة مع إسرائيل، عبر استضافة أقطابها ومسؤوليها أياً كانوا، فيما أبدى البعض من جمهور النخبة العربية – و هؤلاء هم الأسرع تصفيقا دوما لأية توجهات تطبيعية مع العدو - تفهما وتشجيعا لتلك التوجهات التطبيعية.

 

على الصعيد المضموني لتجربة "الجزيرة"، كان واضحاً، ومنذ السنة الأولى لنشاطها، أن أداءها وفكرها هما خلاصة لتوازن سياسي وأيديولوجي داخل تحالف يدير كابينة قيادتها. يتشكل هذا التحالف أو الشراكة، مثلما بدا من خلال الأداء والتقارير والتسريبات الخاصة، من شخصيات إسلامية تتوزع على قوس واسع من حيث الاعتدال والتطرف، ومجموعة من القوميين العروبيين والبعثيين، إضافة إلى لبراليين وأشباه لبراليين معروفين بدفاعهم عن توجهات اليمين اللبرالي الأوروبي خاصة.

 

كانت نتيجة هذه التجربة الجديدة في المشهد الإعلامي العربي هائلة حقا على مستوى الوعي والاستقبال والتعامل، وقد تسببت في العديد من الأزمات السياسية بين عدد من الأنظمة العربية التي استهدفتها القناة وبين حاكم قطر الذي اعتُبِر صاحبها الفعلي. تمكنت القناة أيضا، من استقطاب أمهر وأنضج الكفاءات الإعلامية العربية في ميادين الإعلام، مقابل مرتبات وامتيازات غير مسبوقة، واكتسبت تعاطفا جماهيريا واسعا من المحيط الى الخليج، فكان أنْ بلغت ذروة صعودها عند هذه اللحظة! عندها، وجد الحُكْم السعودي نفسه مضطرا ومدفوعا لإيجاد نسخته الشبيهة، ولو شكليا، بهذه "الدمية" القطرية اللطيفة، فأطلق فضائيته "العربية" لكنها جاءت شاحبة ومرتبكة و بلا ملامح إعلامية خاصة، رغم كل امكانات المالية والفنية الهائلة التي وضعت تحت تصرفها، ورغم استفادتها من الخبرة الواسعة والغنية التي اكتسبها الإعلام السعودي المحافظ، والذي سبق له وأن اشترى بأموال البترودولار أغلب أجزاء الماكنة الإعلامية العربية وبخاصة اللبنانية في الثمانينات من القرن الماضي.

 

مع بدايات مدِّ الربيع العربي، وجدت القناتان لهما دوراً واسعاً للحركة والأداء. ولا يمكن لأيٍّ كان أنْ ينكر ضخامة هذا الدور وتأثيراته، ولكنَّ حدة الحراك الثوري في الشارع العربي، وقوة المتغييرات السياسية والاجتماعية الهائلة، أربكت إدارة القناة. إنَّ هذا الارتباك يعود أساسا إلى ارتباك الأسرة الحاكمة في قطر ومحدودية فهمها لما يحدث، فلجأت هذه الأخيرة الى فرملة أداء القناة، والتخفيف من سرعته وجذريته تارة في جبهة معينة، وبالتسريع الشديد في الحركة والجذرية تارة أخرى وعلى جبهة أخرى. وقد تأثر أداء الجزيرة بسرعة بهذا الوضع المتقلب. فراح تارة يناصر الحراك الثوري اليمني بشدة بلغت مستوى العداء الشخصي والتهجمات السوقية على الدكتاتور علي عبد الله صالح وحاشيته، ويهادنه تارة أخرى، ما أخرجها كثيرا عن إطار المهنية وأخلاقيات العمل الإعلامي. وقد عكس هذا العداء والتشنج بشكل دقيق نوع العلاقة بين الدكتاتور اليمني وحاكم قطر و ما لبث – هذا العداء - أنْ تطامن وهدأ بمجرد دخول الوسطاء على الخط بينهما!

 

في هذا الخضم، ارتكبت "الجزيرة" خطيئتها الثانية، وكانت من النوع الجديد والمستفِز، لكونه أضفى عليها طابعاً طائفياً رثاً، وذلك حين عتَّمت على تفاصيل الحدث البحريني، بل إنها حرفت تفاصيله وتوجهاته بشكل فظ ومعيب، حتى لم يعد ممكنا التفريق بينها وبين قناة البحرين الحكومية إلا قليلا. يمكن التذكير هنا بأنّ هذه العاهة الطائفية في أداء "الجزيرة" لم تكن الأولى، فقد ناوأت هذه القناة الحكم العراقي المحسوب شيعياً وموالياً لإيران، مع أنه في حقيقته تحالفاً طائفياً وقومياً من أصدقاء الاحتلال الأميركي، يشارك فيه سياسيون من الشيعة والسنة و الأكراد وفق نسب دقيقة حددتها مبادئ المحاصصة التي غرسها الاحتلال.

 

لم تكن هذه الواقعة مجرد كبوة في أداء "الجزيرة"، بل إنها أصبحت واحدة من سلسلة طويلة من الوقائع المشابهة، في أماكن وساحات أخرى من ساحات الربيع العربية. ففي تونس، أصبحت الجزيرة لسان حال حركة النهضة، ولم تحظ الحركات الديموقراطية واليسارية الأخرى بأي نوع من العدالة في الاهتمام والتغطية. الأمر ذاته تكرر في مصر، حيث وضعت الجزيرة ثقلها إلى جانب الإسلاميين "الإخوانيين والسلفيين" مع استثناء طارئ أبدته حين أحرز المرشح الانتخابي "الناصري" حمدين صباحي نتائج طيبة في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة، إذْ يبدو أن القناة سمحت للقوميين الناصريين في كابينتها بفسحة أوسع من العمل والحركة لمناصرة صديقهم صباحي مع أن الرجل لا يمت بصلة حقيقية لتجربتهم الأصلية.

 

مع انطلاق الانتفاضة الشعبية السورية، لوحظ ومنذ البداية موقف الجزيرة المسبق من الأحداث ومن الشخصيات الحقيقية أو الاعتبارية المشاركة فيها. وقد سجل المراقبون زيادة كبيرة في جرعة التحريض الطائفي والدفع باتجاه بلوغ الأحداث الذروة واعتماد السلاح و عسكرة التحرك الثوري السلمي. هنا، أصبح من الصعب التفريق بين "الجزيرة" و "العربية"، من حيث الخطاب والتقنيات وبشكل يماثل التطابق في أداء وزارتي الخارجية في السعودية وقطر.

 

برز أيضا، وبشكل واسع، اعتماد أساليب رخيصة كانت القناتان قد تجنبتاها ماضيا، من قبيل فبركة الوثائق وبثِّ القديم من التسجيلات المصورة والصوتية وافتعال الحوادث والتصريحات والاعتماد المتزايد على شهود العيان المجهولين والمصادر الخاصة والتسريبات المخابراتية. ويمكن وبسهولة توثيق كل هذه الأساليب بأمثلة حقيقة كثيرة من أرشيف المحطتين ذاتهما. وقد وقعت الجزيرة وشقيقتها في أخطاء وهفوات كبيرة ومضحكة في هذا المجال أصبحت موضع تندر الكثيرين.

 

أما الجانب المعنوي والأخلاقي فقد تم إهماله تماما، وأصبح الضيوف المخالِفون لنهج وسياسات "الجزيرة" موضع تشكيك و سخرية واستفزاز بل وحتى ابتزاز غير مباشر. وصار النقل المباشر للحدث السوري نوعا من الردح والرقص بين الجثث، والتهويل والدعوة لاحتلال البلد. وقد تواكب ذلك كله مع تسليط الضوء الغامر على الشخصيات الداعية للتدخل العسكري الأجنبي وذات النزوع الطائفي حتى لو كانت هامشية ومتسلقة ومجهولة، والتعتيم على مخالفيهم حتى لو كانوا من أعلام معارضة نظام الأسد وممن قضوا جلَّ أعمارهم في سجونه. غير أن أحط ما سجل في هذا الباب هو استخدام التقنيات الفنية الحديثة للإساءة إلى الضيوف والخصوم، وثمة أمثلة كثيرة في هذا الباب، نكتفي منها بمثال قريب: استضافت "الجزيرة" قبل أيام قليلة البروفيسور والمحلل السياسي الروسي ماتسادوف، وطرحت عليه سؤالا حول مبررات قيام روسيا باستخدام حق النقض الفيتو أخيرا، وفيما كان الضيف يجيب، كان المخرج قد وضع صورته في مربع صغير في أعلى الشاشة، وأخذ يعرض في الوقت نفسه تسجيلا مكررا لمجموعة كبيرة من جثث شهداء الانتفاضة السورية مع تركيز واضح على جثث الأطفال. كان ماتسادوف يتكلم، و لا يبدو أنه كان يعلم بما كانت تعرضه الجزيرة على الشاشة نفسها.

 

بخصوص التركيز على عرض جثث الأطفال، من قبل قناتي الجزيرة والعربية، فقد اعتبر يورغن إلساسير

(Jürgen Els?sser ) رئيس تحرير مجلة "كومباكت" الألمانية، التي أماطت اللثام عن مسؤولية جماعات تكفيرية مسلحة مدعومة من قطر والسعودية عن مجزرة "الحولة"، اعتبر إلساسير أنّ هذا الأسلوب في التركيز على عرض جثث الأطفال كان دائماً الدعوة الأكثر مباشرةً وخبثاً لشنِّ الحروب الغربية على بلدان العالم الثالث، مذكرا بأكذوبة قطع الأوكسجين عن حاضنات الأطفال الكويتيين الرضع من قبل عناصر من الجيش العراقي التي روَّج لها الإعلام الغربي وجعلها بمثابة المقدمة الموسيقية لحرب تدمير العراق.

http://www.youtube.com/watch?v=lmjRYzse3tk&;feature=player_embedded#%21

هنا، نتساءل عن المغزى الأخلاقي أو السياسي لفعلة الجزيرة مع ضيفها البروفيسور الروسي؟ ترى، أليس فيها إساءة للضيف الذي أريد تصويره كقاتل أو كمشارك في قتل هؤلاء الشهداء بعد أن استُقدِم كضيف يراد التعرف على وجهة نظره؟ أليس ثمة إساءة للشهداء السوريين أنفسهم، حين تم استخدام جثامينهم بهذه الطريقة المنحطة والتي توحي بتبرئة قاتلهم الحقيقي؟ ألا يلطخ جزء غير قليل من دماء الشهداء، هذه الشاشات والقنوات التي مارست دورا خطيرا في التحريض والإثارة والتسعير باستخدام الكذب و الفبركة والتضليل؟ وأخيرا، وإضافة الى ما سبق، ألا ينطوي هذا النوع من الأداء الإعلامي المنحاز والمتخلف، على احتقار شديد لعقلية المشاهد، لدرجة بات معها، هذا المشاهد، يشعر، وهو يتابع تغطية "الجزيرة" و "العربية"، وكأنه يجلس إلى شخص يكيل له الاهانات والشتائم الشخصية ويسخر منه دون أنْ يكون قادرا على الدفاع عن نفسه؟

 

* تسجيل فيديو لحديث يورغن إلساسر على يوتيوب

http://www.youtube.com/watch?v=lmjRYzse3tk&;feature=player_embedded#%21

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2195 الاحد 29/ 07 / 2012)

في المثقف اليوم