أقلام حرة

زيارة أوغلوالاستفزازية كانت لمصلحة مبدأ عراقية كركوك! / علاء اللامي

وأصبح من المفيد استقراء هذا الحدث بهدوء وبعيدا عن التشنج والانفعال المحق في معظمه. لقد ركزت أغلب ردود الأفعال التي أعقبت الزيارة على أمور شكلية وإجرائية تتعلق بعدم التنسيق أوالإبلاغ عنها مع الحكومة الاتحادية في بغداد كما قال بيان الخارجية الاتحادية التي اعتبرت الزيارة "خرقا للسيادة الوطنية العراقية لا يليق بدولة كبيرة ومهمة جارة كتركيا". غير أنَّ جميع ردود الأفعال ظلت حبيسة هذا الجانب الإجرائي، رغم أهميته، وغاب عنها الجوهر العميق الذي عبرت عنه تصريحات الزائر والهدف الأصلي منها.

 

لقد صبَّت تلك التصريحات كلها في مصلحة مبدأ عراقية كركوك وكونها مدينة متعددة المكونات والهويات الثقافية لا يجوز لمكون واحد منها، أن يضفي هويته القومية وسيطرته السياسية عليها.

 

معروف أنَّ المنادين بعراقية كركوك كرروا على الدوام أن هذه المحافظة هي عبارة عن عراق مصغر وأنها مفتاح وحدة واستقرار العراق السياسية والترابية والمجتمعية، وكان هذا أقصى حد بلغته تصريحات هؤلاء المنادين العراقيين، أما تصريحات وزير الخارجية التركي، فقد ذهبت أبعد من ذلك في هذا الاتجاه وفي تأكيد هذا المبدأ حين اعتبر محافظة كركوك " العمود الفقري لوحدة العراق" و"نموذجا رائعاً للتعايش بين مكوناته مختلفة" بل ولمح أوغلوإلى رؤية تركيا لمستقبل المحافظة ضمن العراق الاتحادي بقوله (أن المدينة، مع ما تملكه من تاريخ غني، إضافة إلى حضارتها الحالية، تعكس روح الشرق الأوسط. إضافة إلى أنَّ المدينة المضيافة تشير إلى أنها مدينة للسلام حيث يتعايش التركمان والعرب والأكراد في المدينة بشكل سلمي وهكذا سيكون الأمر عليه في المستقبل بشكل دائم ). فلنلحظ عبارة "وهكذا سيكون الأمر عليه مستقبلا".

 

للأسف، لقد ذهبت نقاط القوة الإيجابية في هذه التصريحات هباء ولم يتوقف عندها أحد من المدافعين عن مبدأ عراقية كركوك وتعدديتها المجتمعية، بسبب الطابع الاستفزازي من الناحية الإجرائية للزيارة. وهذا أمري طبيعي يحدث في أحداث كهذه، ولكن الملاحظ هوأنَّ موقف سلطات الإقليم والحكومة المحلية في أربيل، التي لم تعلق بشيء على مضمون تصريحات أوغلو، قد أكدت النزعة الانتهازية في سلوكها السياسي فهي سكتت تماما عن تلك التصريحات التركية، بل كلفت نفسها أن تكون المرشد والحارس الأمني للزائر التركي، بعد أن كانت المشجع لها والداعي لها، وما كانت لتسكت عن تصريحات كهذه أوأخفِّ منها لوصدرت من طرف عراقي سواء كان عربيا أوتركمانيا أوكلدانيا أوآشوريا، بل كانت ستقيم الدنيا ولا تقعدها احتجاجا.

 

ورغم سكوت السلطات في الإقليم عن تصريحات أوغلو، بما يوحي وكأن هناك صفقة بين الطرفين، تسربت عنها أنباء كثيرة قبل أسابيع من حدوث الزيارة، ولكنَّ عدم الارتياح لبعض الأطراف الكردستانية كان باديا، بل إنَّ رد الفعل القوي للخارجية الاتحادية التي يقودها أحد قادة التحالف الكردستاني وهوزيباري ربما عبر عن شيء من الرفض لهذا التصريحات أكثر من رفضه لخرق أوغلوللسيادة العراقية.

 

الجانب التركي زاد الطين بلة برد فعله المرتبك والارتجالي على ردود الفعل العراقية الرسمية والشعبية: فهوقد دافع عن الزيارة أولا، وتحجج بحيازة الوزير الزائر لتأشيرة دخول من السفارة العراقية، الأمر الذي لم تؤكده السفارة العراقية في أنقرة أووزارة الخارجية العراقية وهوأمر لا يستبعد في أجواء الفوضى وعدم الكفاءة والارتجال التي تطبع عمل مؤسسات الدولة العراقية كافة. ثم عاد الطرف التركي، وعلى لسان رئيس الوزراء أردوغان، ليتحجج بأن أوغلوإنما قام بزيارة لأقاربه في كوك وبأنه يمكنه القيام بذلك لكونه يحمل جواز سفر دبلوماسي " أحمر"! وأخيرا حاول الجانب التركي تبرير الزيارة بقيام مسؤولين إيرانيين بزيارات مماثلة الى محافظات عراقية. إنَّ هذا التبرير هوأسوأ ما صدر من الجانب التركي لأنه ينطوي على نوع من المقارنة ذات الأبعاد الإقليمية وحتى الطائفية مع ما تقوم به إيران. غير أنَّ زيارات المسؤولين الإيرانيين، إنْ صح حدوثها، ونحن وإن كنا لا نستبعد ذلك ولكنها تحتاج إلى توثيق وإثباتات، تبقى خرقا للسيادة العراقية، وأمرا مرفوضا من المنظور الوطني العراقي، ولكنه لا يمكن أن يجعل من الخرق التركي للسيادة العراقية أمرا سليما وصحيحا حتى لوتأكد حدوثه من قبل الطرف الإيراني.

 

لقد ألحقت زيارة أوغلوالاستفزازية ضررا بالعلاقات الرسمية المتوترة أصلا بين الحكومتين العراقية والتركية ولكنها، وهذا هوالأمر الأكثر أهمية وخطورة، ألحقت ضرراً أكثر فداحة بالعلاقات الحميمة والموروثة بين الشعبين الجارين العراقي والتركي، خصوصا وأن المجتمع العراقي حساس جدا لما يتعلق بأمور السيادة الوطنية بعد كارثة الاحتلال الهمجي الأميركي، وهي فادحة جدا تحديدا بين الساعين إلى تطوير علاقات الصداقة والتعاون بين البلدين من القوى الوطنية والديموقراطية غير الطائفية، كما أنها ألحقت ضررا كبيرا باستراتيجية "الاحتواء الإيجابي" القائمة على التعاون الندي والاحترام بين العراق ودول الجوار كافة بل وجميع دول الإقليم باستثناء دولة العدوالإسرائيلي.

 

 إنَّ سكوت العديد من القوى السياسية العراقية الكبيرة باستثناء ائتلاف رئيس الوزراء المالكي "دولة القانون"، على هذه الزيارة، لا يعني أن هذه القوى الساكتة موافقة على زيارة أوغلوبقدر ما هي محكومة بعقلية الكيد والنكاية التي تحكم نظرتها وعلاقتها بائتلاف المالكي، ولكي لا يحتسب رفضها للزيارة تأييدا للمالكي وائتلافه فقد سكتت ! وهذا أمر تكرر كثيرا من بعض القوى وخصوصا من قائمة " العراقية" والتيار الصدري وحتى المجلس الأعلى، أما القوى الأخرى كمكونات العراقية فلها أسبابها المختلفة والتي قد تكون أكثر سوءا من الكيد السياسي والنكاية. وبالمناسبة، فرد فعل ائتلاف المالكي على الزيارة كان في حده الأدنى وكان "صوتيا!"، ومشدودا إلى حالة الجفاء والغضب على حكومة أردوغان لموقفها السلبي من المالكي شخصيا، ولم يتعدَ ذلك إلى رد الفعل المناسب والوطني الحقيقي لهذا الخرق للسيادة. ثم انه لم يقدم ما ينفد الإدعاءات التركية بقيام مسؤولين إيرانيين بزيارات مشابهة لزيارة أوغلو.

 

أما الكتل السياسية العراقية الصغيرة التي رفضت الزيارة وهي كتل الحرة والحل ووطنيون والبيضاء فقد جاء موقفها الرافض أكثر تماسكا وتعبيرا عن المزاج الشعبي العام، ولا عبرة في سكوت قوى أخرى تحسب نفسها وطنية ويسارية فهذه القوى مرتهنة بالكامل، ومنذ زمن طويل، لقوى سياسية أخرى في الإقليم فلم تكلف نفسها عناء إصدار بيان بسطرين تدافع فيه عن سيادة العراق وتوضح رأيها بزيارة أوغلو!

 

خلاصة القول، هي أنَّ زيارة وزير الخارجية التركي إلى كركوك، انطوت في عمقها على إيجابيات مهمة بخصوص مبدأ عراقية محافظة كركوك، ورفض هيمنة مكون مجتمعي واحد عليها، بما قد يؤدي الى إلحاقها بالإقليم ويفتح الباب واسعاً على حلول خلاقة أخرى، ولكن طابعها الاستفزازي والذي لا يمكن تبريره أفقد تلك الإيجابيات قوتها ومعناها. ولعل من اللافت أنَّ هذه الزيارة قام بها، وبادر وخطط لها، مَن لا يتوقع منه أنْ يقوم بها ألا وهوالسيد داود احمد أوغلوالذي يعتبر عرّاب "إستراتيجية المصالحة والتوجه التركي شرقا" والذي عرف بحصافته ودهائه السياسي، وهذا أمر حيَّر الكثيرين من المراقبين والمتخصصين في الشأن التركي، إذ يبدووكأن أوغلوقد هدَّم في ساعات معدودة ما بناه على الجبهة العراقية في سنوات، فهل يتعلق الأمر بكبوة فارس توجب الاعتذار من قبل الفاعل لمصلحة علاقات الإخوة والجيرة بين الشعبين الصديقين، أم أننا أمام استراتيجية تركية جديدة تسترجع الخطوط العامة للإستراتيجية التركية القديمة، والتي كان معمولا بها خلال نصف القرن الماضي، والقائمة على الاستفزاز والعنجهية والتشدد القومي ولكن بعباءة "شرقية" هذه المرة؟

 

*كاتب عراقي

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2205   الجمعة  17/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم