أقلام حرة

دولة تبتلع الرأي العام / حسن حاتم المذكور

واسقاط حكومتها الوطنية وتصفية رموزها ومشروعها العراقي، وضعت ذات القوى الخارجية برنامجاً مرحلياً لتدمير الشخصية العراقية وتشويه وتمزيق الهوية الوطنية المشتركة ثم تفتيت وتغييب الدور التاريخي المؤثر للرأي العام العراقي، وعبر تصفيات واغتيالات منظمة داخل صفوف الأنقلابيين، انتهت بالأنقلاب الأبيض عام 1967، وعبر ترتيبات خارجية لاحقة، توج العميل المشبوه اخلاقياً واجتماعياً ونفسياً صدام حسين طاغية على العراق، وبعد ان وضعت تحت تصرفه قوة السلطة والمال والأعلام، كلف بأشعال حربين مدمرتين اختتمت بحصار ظالم على الشعب العراقي، جعل المواطن منهكاً محبطاً يائساً لا يفكر بأبعد من جزئيات يومه وانقاذ عائلته، ونسى تماماً مستقبل اجياله ومصير وطنه، وبعد ان تجاوزت القوى الخارجية ابعد نقطة في مشاريعها، طرحت مشروع تحرير العراق احتلاًلاً، اخطر حلقة من مسلسل اطماعها، جمعت حوله قوى كانت في الأصل جزءً من مخطط تمزيق العراق وفرض الأستسلام على دولته، واخرى اذلها الأحباط مستسلمة لمشاريع ومخططات الآخر، فكان يوم 09 / نيسان / 2003، حيث كان غيثها فرهدة وتهريب التاريخ الحضاري للعراق، جريمة وقحة غير مسبوقة اشتركت فيها مخابرات دولية واقليمية واطراف محلية مشبوهة، تبعتها تشكيلة مجلس الحكم الموقت على اساس طائفي عرقي، اسقط الهوية العراقية المشتركة ورفع الهويات الفرعية المتناقضة بديلاً .

المواطن العراقي، المشغول بفرحه، منطلقاً خارج تنور جهنم المحرقة البعثية، يوزع الحلوى وابتسامات الرضا والفرح على رؤوس جنود (التحرير !!!) لا يعلم ان مستقبل اجياله ومصير وطنه وضع في قدر المشروع الجديد، وان ممثليه والناطقين بأسم قضيته، هم توابل تلك الطبخة الكريهة، وجعل منهم المحتل، ركائز (مناصب) ثلاثية تحت قدر مشاريعه، شيعية وسنية وكوردية، اذا ما سحب منها واحدة يسقط معها المتبقي من العراق، هنا اصبح العراق فريسة نظام التحاصص والتوافقات والفرهود الشامل .

مشروع الأحتلال قد قلب العراق على رأسه، بعد ان فرض عليه واقع التجزاءة الجغرافية على اسس طائفية قومية، فكان الجنوب والوسط، جغرافية وسلطة وثروات وهوية، حصة الشيعة، والمناطق الشمالية الغربية، جغرافية وسلطة وثروات وهوية، حصة السنة، وكذلك الشمال العراقي اصبح جغرافية وسلطة وثروات وهوية، حصة الأكراد، ولم يبق من الهوية العراقية المشتركة الا كذبة على السنة المدعين من المسؤولين الجدد .

هنا تراجعت الهوية الوطنية، وحتى في الخارج، عندما يعلم مواطني دولة لجؤناالسياسي على اننا عراقيون، لا يعنيه الأمر كثيراً فيسأل " هل انت شيعي ام سني ام كوردي " تماماً كما يسأل المواطن الأفريقي، ان كان من شمال افريقيا او جتوبها، من السودان مثلاً او من نيجريا او الجزائر، هذا هو العراق الآن ومن يدعي غيره يكذب وينافق عليه . 

انشطر العراق الى ثلاثة هويات فرعية، كل منها منشطرة من داخلها الى شرذمات، جعلت من العراق محميات اومجمع مزادات يستطيع فيه الوكلاء والدلالين بيع وتأجير اجزاءه من سيادة وثروات وجغرافية ومستقبل اجيال .

مسلسل الأزمة الأخيرة، التي اخرجت فصولها في عواصم، ومثلها اطراف محلية، والتي وصلت فيها الأمور حد كسر العظم او (هكذا كان يبدو) انتهت كالعادة، بمصالحا وتوافقات وتقاسمات على حساب الوطن والمواطن .

الرأي العام العراقي، الذي لا يساوي في نظر اطراف اللعبة، زيارة مفاجئة لنائب الرئيس الأمريكي او اي مسؤول آخر، ولا تتعامل معه حكومة الشراكة، الا كونه كومـة ارقام لأصوات ترمى في محرقة الأنتخابات القادمة، توزع رمادها قوى الأختراقات والتدخلات الدولية الأقليمية، وعبر عملية تزوير متطورة، يستلم كل طرف حصته ثم تغزل منها ثوب الشراكة (الوطنية !!!) ليرتديه العراق ( مضحكاً)، هنا يعاد كسر ظهر المتبقي من ثقة المواطن (الناخب) بمن تعاملوا مع ثقته وتضحياته، لافتات لشرعنة الأشياء المخجلة .

في مقالة تحت عنوان " اتفقوا على تطبيع التمييز ضد عرب العراق "، اشتكى الأستاذ الكاتب صائب خليل، لا ابالية الرأي العام العراقي وسلبية ردود افعاله ازاء الأخطار الجدية التي تهدد كيان دولته وهويته وشرذمة مجتمعه ثم اقتسام وطنه اسلاباً، مثل غيري، اتفق معه واعيد شكواه، لكن بذات الوقت اوكد له، ان الثوب العتيق المتهري لا تنفع معه رقعة نتوهمها جديدة، وان اسمال العملية السياسية لا تصلح ان تكون ثوباً لعراق نفترضه جديداً، فجميع الأطراف، اشتركوا واندمجوا وذهبوا بعيداً في لعبة تقديس تجهيل الناس واستغفال الرأي العام، وهي الآن تستعين بالمتراكم من الموروث البعثي مع اضافة توابل الأيديولوجيات الخاصة للتنكيل بالعراق شعباً ووطناً، ومحاولة اغتصاب المتبقي من عافية الرأي العام العراقي .

الذين امتلكوا القوة الخارقة للسلطة والمال والجاه والأعلام وعقائد وايديولوجيات تحتقر العقل والوعي والمعرفة ولا تؤمن بقوانين التغيير والتحديث، تمارس الآن سياسة تجهيل واستغفال الرأي العام عبر تدمير الموروث الحضاري للقيم والمباديء والتقاليد والأعراف الحميدة للمجتمع العراقي . 

الوطن بمواطنيه، يدفع به الآن نحو الهاوية المفجعة، وتصفية الهوية الوطنية والهويات العريقة للمكونات الأخرى، مرت على اجساد الملايين من الضحايا، شهدا وارامل وايتام ومعوقين ومشردين، وحفرت بشاعات في ذاكرة العراقيين وستتوارثها اجيال بريئة، هنا على المخلصين، سياسيين كانوا ام مثقفين، مراجع اجتماعية ودينية ورموز حركة جماهيرية مؤتلفة داخل منظمات مجتمع مدني، عليهم جميعاً ان يضعوا صدق الأنتماء والولاء في اولويات مقدساتهم، ويتجنبوا الأختباء في زوايا الترقب السلبي، او ان يكونوا خارج عملية تحرير العقل العراقي وارادة الرأي العام، انها المهمة التي تواجه كل شريف صادق مع نفسه يمتلك ضمير الولاء لوطن تحاصره قوى الردة البغيضة، ومع ان الأمر لا يخلو من المخاطر والتضحية في مواجهة قد تكون غير متكافئة مرحلياً، لكن وفي جميع الحالات، تبقى جذور القضية العراقية راسخة في عمق بيئة المشروع الوطني العراقي .

الوعي العراقي، المرتبط بشريان التاريخ الحضاري والمشحون بالتجارب والعبر، ومهما كانت التراجعات والأنتكاسات، سيضع العراق وطناً على سكة مستقبله " ولا يصح الا الصحيح " .

26 / 09 / 2012

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2227 الخميس 27/ 09 / 2012)

في المثقف اليوم