أقلام حرة

نهوض قادم لليسار في أوربا / يوسف أبو الفوز

مثل اللون الاحمر لقوى اليسار عموما بأجنحتهم المختلفة  واللون الاخضر لقوى البيئة واللون الازرق لليمين باجنحته المختلفة، فأن اوربا في العقود الاخيرة ــ سياسيا ــ تكاد ترتدي الحلة الزرقاء، وفي مناطق منها حلتها زرقاء ببقع معتمة جدا، وهو اللون الخاص بقوى اليمين المتطرف، وان كانت هنا وهناك بعض الجيوب التي تحمل الوانا مختلفة . كيف حصل هذا ؟ فلفترات طويلة، خلال عقود السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وحسب منطق الالوان السياسية ذاته، فأن اوربا كانت حمراء أو وردية، وتدور في ساحة سيطرة وحكم الاحزاب اليسارية، خصوصا احزاب الاشتراكية الديمقراطية، لكن عواملا موضوعية وذاتية عديدة ساهمت في ارتفاع  الرايات الزرقاء .

من اول تلك العوامل الموضوعية، كان انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991 الذي شكل صدمة معنوية لقوى اليسار اساسا، وللمجتمعات الاوربية عموما، خاصة دول شمال اوربا، التي خطت خطوات واسعة باتجاه تحقيق برامج ضمان وحماية اجتماعي متطورة، ضمن اطار نموذج "دول الرفاه"، التي تتبع اقتصاد السوق مع الالتزام بمبدأ الديمقراطية في الحياة السياسية، ولم تأت هذه التحولات باتجاه نموذج "دولة الرفاه " في هذه الدول بمعزل عن تأثير وجود الاتحاد السوفياتي، كمثال اجتماعي واقتصادي، اضافة لنضالات القوى السياسية والاجتماعية في داخل كل بلد اوربي .

أن انهيار تجربة البناء الاشتراكي، في الاتحاد السوفياتي، الحليف القوي والمعنوي للقوى اليسارية في العالم، ومنها عموم البلاد الاوربية، ومع ظهور نظريات مثل " نهاية التأريخ " التي تروج لكون الراسمالية هي الحل، ساعد كثيرا على اشتداد تأثير ونمو قوى الاحزاب اليمنية التي تدعو لاصلاحات اقتصادية، يقف في مقدمة ذلك الدعوة لخصخصة قطاع الدولة في ظل العولمة الراسمالية، وان تحقيق نجاحات ميدانية جزئية في حل معضلات اقتصادية تتعلق بالتضخم والبطالة، ساعد قوى اليمين للنمو والصعود لتكون طرفا  مشاركا ومهما في الحكومات، هذا الدور الذي سرعان ما تطور بحيث حققت الاحزاب اليمنية، صعودا اهلها لتقود الحكومات في العديد من البلدان الاوربية .

أن انهيار الاتحاد السوفياتي، كنظام سياسي، ساهم أيضا في الكشف على ان احزاب اليسار تملك مشاكلها وأزماتها الذاتية، فيما يتعلق ببناها الداخلية والفكرية، وواقعية برامجها و شيخوخة أليات عمل يتطلب منها استيعاب المتغيرات السريعة في العالم والتطورات في المجتمع مع تزايد تأثير ثورة الاتصالات التي حولت العالم الى قرية كما يقال .

أن التطرف والغلو في النشاط الفكري وبالتالي السياسي، امر واقع يمكن ان تشهده احزاب اليسار او اليمين او الحركات الدينية، فهو تعبير عن العقلية الطوباوية، التي تريد حرق المراحل، وتعتاش من اجل ذلك على الشعارات البراقة، لكسب الشارع بالشعارات التي تزايد على الاخرين والكلام الجريء وحتى الافعال الوقحة، وفي ظل صعود احزاب اليمين بشكل عام في اوربا، بدأت تحت ظلها وبحمايتها، تعتاش وتنمو قوى متطرفة يمينية، تعتمد اساليب الاثارة السياسية والتصريحات النارية، وترفع شعارات تلائم مزاج الشارع المتذمر، اضافة الى اعتماد برامج تعارض الهجرة ووجود الاجانب عموما بمسحة عنصرية عند بعضها . ان احزاب اليمين المتطرف اعتاشت بشكل اساس على  اثار ونتائج الازمات الاقتصادية والسياسية التي تعانيها بلدانها، خصوصا الأزمة المالية العالمية التي بدأت عام 2008 وتصاعدت في عام 2011، حيث نتج عنها ارتفاع في عدد العاطلين عن العمل، وارتفاع في الاسعار شمل المواد الغذائية ووسائل النقل والسكن والخ، اضافة الى ان سياسة خصصة الخدمات العامة والالتفاف على قوانين الضمان الاجتماعي من قبل احزاب اليمين التقليدي الحاكمة، في العديد  من الدول الاوربية، لم تنتج الا تفاوتا كبيرا في الدخل وظهور فقراء حقيقيين، فوجدها اليمين المتطرف فرصة مؤاتية، ليتحرك بطرق مبتكرة وحيوية، تعتمد التواصل المباشر والاثارة، بين صفوف الشباب خصوصا، وطرح شعارات صارخة حول معالجة التفاوت في الدخل ورفع الضرائب على ذوي الدخول العالية، وتحسين المعاشات التقاعدية وتحديد سن التقاعد ومعالجة سياسة الهجرة وضرورة خفض معدلاتها مزايدا حتى على برامج القوى اليسارية .

في السنوات القليلة الماضية، بدأت قوى اليسار الاوربي تحقق نجاحات ملموسة سواء في الانتخابات البلدية او البرلمانية (اليونان، الدانمارك، المانيا )، وحتى الرئاسية (فرنسا)، وبدأت تكتسب مصداقية في عملها في الشارع الاوربي، ولم يأت هذا بعيدا عن الاصلاحات الداخلية التي بدأت تمارسها عموم احزاب اليسار، ومراجعة برامجها واليات عملها،  ورسم برامج تحالفية أكثر واقعية وملموسة  مع القوى التي تغذي الحركات الاجتماعية ضد العولمة الراسمالية، ورسم برامج لمواجهة سياسات التقشف المقترحة للخروج من الأزمة الاقتصادية . ان ثمة مؤشرات عديدة تشير الى ان  ثمة نهوضا وعودة قادمة لقوى اليسار لترفع راياتها الحمراء لتخفق عاليا في سماء اوربا من جديد، لكن ذلك يتطلب اساسا المزيد من الاصلاحات في بنية وبرامج احزاب اليسار ذاتها وتنسيق نشاطها وبرامجها الائتلافية  لمواجهة اليمين المتحالف مع القوى المحافظة والدينية والرأسمالية، والذي ما زال يتمتع بقوة لا يمكن الاستهانة بها .

  

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2230 الأحد 30/ 09 / 2012)

في المثقف اليوم