أقلام حرة

الإنشقاق الشيعي.. عقدة الرئاسة

تجربتين هامتين حدثتا في السنوات الأربع الماضية.

الأولى تفجرت في آذار عام 2006 عندما انسجم المجلس الأعلى مع التحالف الكردستاني وجبهة التوافق وجبهة الحوار وكتل أخرى في معارضة تولي الدكتور ابراهيم الجعفري رئاسة الوزراء، وما تلاها من أزمة سياسية حادة، أجبرت واشنطن ولندن على ارسال وزيري خارجيتيهما الى بغداد في بداية نيسان لحسم القضية، وقد حسمت بمجيئ نوري المالكي كمرشح بديل عن الإئتلاف العراقي الموحد.

والثانية حدثت اثناء الاستعداد للإنتخابات المحلية، فقد رفض المجلس كل طلبات حزب الدعوة في خوض الانتخابات ضمن قائمة الائتلاف، وأصر المجلس على خوضها بقائمته الخاصة، وكانت النتيجة غلبة الدعوة بأكبر عدد من المقاعد.

ليس من السهل على حزب الدعوة الذي قضى سنوات هجرته الطويلة، يواجه التحديات ومخاطر التفتيت والوأد، أن يجازف بمستقبله السياسي، بعد أن تحول من حزب لا يملك سوى التاريخ، الى حزب يملك التاريخ والحاضر. خصوصاً وأنه بعد سقوط النظام، قرر أن يكون حزباً سياسياً شأنه شأن الأحزاب الأخرى في العراق، وخفت عنده الجانب الرسالي بشكل ملحوظ، بل أن متبنياته السابقة تم تجميدها وتحويلها الى مجرد أرشيف.

حزب الدعوة في مرحلة ما بعد السقوط، بدأ يعمل على أساس التنافس السياسي، والتقدم نحو مواقع السلطة، وقد تفرغت قياداته وكوادره لخوض المجال السياسي وفق الاليات الجديدة التي تعتمدها العملية السياسية، وعليه بدأ يتعامل على أساس حسابات الربح والخسارة. هذه حقيقة لا تطعن بالحزب، فله خياراته وتصوراته وقراراته بخصوص ماضيه وتراثه الفكري، سواء عطلها أو أهملها أو انقلب عليها. المهم أنه وجد أن من مصلحته أن يخوض المعترك السياسي كأي حزب آخر، وعلى المراقب والمنتمي له سابقاً والمنضم اليه حاليا، أن يتعاملوا على أساس هذه الحقيقة.

في ضوء هذا وجدت قيادة حزب الدعوة، أن عليهم أن يحصنوا أنفسهم وهم يدخلون أولى جولات التفاوض من أجل إعادة بناء الإئتلاف القديم، استعدادا لخوض الإنتخابات البرلمانية الحاسمة في كانون الثاني 2010، وهي الرغبة التي اشتركت فيها كافة مكوناته، حيث شعروا أن تجربة السنوات الاربع السابقة كانت مخيبة للآمال وأنها انطوت على اخطاء كثيرة، تتطلب إعادة نظر أساسية لظهور قوي جديد.

بدأت الحوارات، وتم الاتفاق أولا على وضع الأسس العامة بدءً من تغيير الإسم القديم الى تسمية (الإئتلاف الوطني العراقي) وحسبما ذكر قياديون في حزب الدعوة فانهم هم الذين إختاروا هذا الإسم. ومع أن التسمية أمر شكلي، إلا أنها تشير هنا الى رغبة لتجاوز أخطاء الماضي، وتقديم صورة مختلفة عن سابقتها. كما انها بداية مشجعة تبعث على التفاؤل بأن جميع مكونات الإئتلاف يشعرون بخطأ التجربة، وأنهم يمتلكون دافع المعالجة والتغيير.

اتفق قادة الكتل أن ينفتح الإتئلاف الجديد على كل الكيانات والاتجاهات السياسية، للخروج من الطائفية والدخول في عالم الوطنية، شريطة ضمان اخلاصها للعراق والشعب وعدم تورطها في أعمال العنف والارهاب. وهو تحول يستحق التقدير والإشادة والثناء، فالطائفية كان لها أثرها السئ على مجمل الوضع العراقي، وقد أربكت العملية السياسية وحولتها الى خنادق مظلمة.

اتفقوا أيضا على وضع أسس أخرى لمنهاج العمل في المستقبل، حول أهداف الإئتلاف وبرامجه وتصوراته لمستقبل المرحلة القادمة في العراق.

ثم إندلع الإختلاف.

تفجر بعد أن انتهت الديباجة والفصول النظرية، وبلغوا القسم العملي.

حقيقة الخلاف كانت حول تسمية رئيس الوزراء، وما عدا ذلك كلام وتصريحات تمر من جانب الحقيقة بمسافات متفاوتة.

حزب الدعوة يريد أن يجدد للمالكي دورة ثانية لكنه لا يقول ذلك صراحة، وهو أمر لا يريده المجلس الأعلى والتيار الصدري ومكونات أخرى لكنهم لا يقولون ذلك صراحة.

وقد استخدم الجميع قدراتهم التمويهية في المفاوضات، فحزب الدعوة غطى مطلبه برئاسة ثانية للمالكي بتقديم شرط النسبة العددية وهي أن تكون له نسبة (النصف + 1) من عدد نواب الإئتلاف الوطني العراقي، وفي هذه الحالة سيضمن فرض المالكي كمرشح لرئاسة الوزراء.

أما الأطراف الأخرى فقد غطت رفضها لترشيح المالكي، بالقول أن الخطوة الأساسية هي الإتفاق على الخطوط الإستراتيجية والاعلان رسميا عن تشكيل الإئتلاف الوطني العراقي ثم تأجيل التفاصيل لمرحلة قادمة، وفي هذه الحالة سيضمنون معارضة ترشيح المالكي لاحقاً.

كان من الطبيعي ان يتمسك كل طرف بموقفه، فلا حزب الدعوة يرضى بأقل من ضمانة فوز المالكي برئاسة ثانية، ولا بقية الأطراف ترضى بأقل من حرمانه من تجديد ولايته.

إذن فهي رئاسة الوزراء لا غيرها، كانت وراء الانشقاق، وما عدا ذلك كلام علني يرده كلام السرَ.

إنها رئاسة الوزراء العقدة المستعصية التي فتكت بالائتلاف السابق وحولته الى خيمة ممزقة مقسمة تعصف بها ريح المصالح الفئوية، فتتجه تارة صوب حزب الدعوة وتارة صوب التيار الصدري وثالثة ناحية المجلس الأعلى، دون ان تهدأ يوماً.. كان الإئتلاف خيمة المجاملة الساخنة والعناق الحار، وحلبة المتجالدين بالخناجر والأدوات الجارحة.

هذه باختصار حقيقة ما جرى، أما تصريحات المسؤولين والقياديين، فهي عادة ما تراعي الجو العام، وتلك ظاهرة تطبع الواقع السياسي العراقي بأسره، إذ لا يمكن التعويل على ما يقوله كل المسؤولين والقياديين في هذا الحزب او ذاك الكيان. إن لهم قولاً في العلن وآخر في السرَ، ولهم كلمة بجانب الواقعة وأخرى على جانبها الثاني. فمن يجرؤ على الكلام وإسماع الناس الذين أرهقهم الحر والبرد والجفاف والبطالة والفساد؟.. ومن يجازف فيقول الحقيقة للناخب الذي بيده مصير الجميع، وليس بيده مصير نفسه؟.. ومن ذا الذي يفصح عما يدور في العتمة، فيخسر ضوء يومه وغده؟.

وتبعاً لهذا الجو، صدرت التصريحات من الطرفين.

قال قياديو حزب الدعوة والمقربون من المالكي: إن الإئتلاف بشكله الجديد لا يختلف عن السابق، وعليه نرفض الدخول فيه، لأننا نسعى الى تشكيل كيان وطني يتجاوز الطائفية، وان هذا الإئتلاف هو إئتلاف الحالمين.

أمام هذا القول، كيف نفسر وصف المالكي للإئتلاف بأنه (سفينة النجاة)؟ ولماذا خاضوا المفاوضات منذ البداية مع مكوناته؟.. وأين هذا الكلام من مشاركتهم في كتابة منهاجه وأسسه قبل أن يصلوا الى النسب والحصص؟.

وقال قياديو الإئتلاف الوطني: إن الأخوة في حزب الدعوة وضعوا شروطاً غير مقبولة وأنهم يريدون تهميش بقية مكونات الإئتلاف عبر المطالبة بنسبة عددية غالبة.

أمام هذا القول، كيف يمكن إنشاء كتلة إنتخابية تترك القضايا الحساسة لمرحلة قادمة، وهل هناك أهم من الاتفاق على النسب العددية في خوض الإنتخابات؟.. إن الحديث عن الخطوط العامة ومناهج العمل وتصورات المستقبل أمر يسير، فهذه الاحزاب أمامنا وهي كلها تطرح نفس الشعارات، لا تختلف عن بعضها البعض إلا في الصياغات اللفظية وطريقة العرض.. أليس من الأفضل أن تحسم الأمور التفصيلية منذ البداية وقبل الإعلان حتى لا يتفجر الخلاف فيما بعد فتتصدع الكتلة وتتمزق عندما لا يصل مكوناتها الى اتفاق موحد؟.

فمن هو صاحب الموقف الصائب؟.

هل نعذر الائتلاف الوطني العراقي، أم نعذر إئتلاف دولة القانون؟

من حق حزب الدعوة أن يتمسك بنسبة عددية تتناسب مع ما حققه في إنتخابات المحافظات، ففي الائتلاف القديم كان للمجلس ثلاثين مقعداً ولحزب الدعوة بشقيه 25 معقداً، وقد تم تحديد هذه النسب على اساس القوة الموجودة في الساحة، وعليه فلا بد أن تتغير هذه الأرقام بعد أن أثبتت الوقائع أن حزب الدعوة هو الأكثر قوة والأكبر عدداً.

في المقابل من حق المجلس الأعلى والتيار الصدري وبقية المكونات أن تحتج على نسبة (النصف +1) لأن معنى ذلك أن حزب الدعوة يريد أن يكون هو صاحب القرار الحاسم تحت كل الظروف وفي أسوأ الحالات، وبطبيعة الحال فإن الأسوأ هو معارضة ترشيح المالكي لولاية ثانية.

لقد وضع حزب الدعوة شرطاً واحداً فقط هو الدخول في الإئتلاف في حال دعم الآخرون تولي المالكي رئاسة الوزراء. وسواء صرحوا بهذا الشرط أو سكتوا عنه، فانه كان مفهوماً من قبل مكونات الائتلاف الأخرى.

ورفضت مكونات الإئتلاف أن يأتي المالكي لرئاسة الوزراء في الحكومة القادمة، وسواء صرحوا بذلك او سكتوا عنه، فانه كان مفهوماً من قبل حزب الدعوة.

تكملة الحديث في المقال القادم عن.. دور طهران وواشنطن في الانشقاق

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1235 السبت 21/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم