أقلام حرة

الإنشقاق الشيعي.. رسائل طهران وواشنطن

كلام جارح بلا شك يغضب الجميع، غير أنه يمكننا الدفاع عن هذه القناعة بالقول:

أليس هذا ما نسمعه من قيادات الأحزاب وهي تتهم بعضها بعضاً؟

إيران لها حضورها وتأثيرها، وكذلك الدول العربية، الى جانب هيمنة خاصة من الولايات المتحدة صاحبة البريق الذي يأخذ بالأبصار والالباب.

يختلف قادة الأحزاب فيشدون الرحال الى دول الجوار للتوصل الى صيغة نهائية تحسم الخلاف.. يختلفون ثانية يكررون المسعى نفسه، وعلى هذا دارت السياسة في العراق. أما واشنطن فهي ترصد وتكتم.. تفكر وتخطط، تعرف لحظة الصمت ولحظة الكلام.. تجيد الحسم بطريقتها الإيحائية التي تستند على نصف قرن من التجارب الناجحة نجاحات باهرة في المنطقة والتي بلغت ذورتها ايام كيسنجر ولا زالت متصاعد الى اليوم.

دخلت دول الجوار في تنافس ساخن فيما بينها على العراق، ولم تجد صعوبة في الحصول على متطوعين من الأحزاب والجماعات والشخصيات السياسية، فالحزب الذي يريد أن يشق طريقه نحو القوة والتأثير لا بد أن يلجأ الى هذه الدولة أو تلك. وبغير ذلك سيكون رقماً ضعيفاً يسهل سحقه أو تهميشه.

 

رأي طهران

في الثاني من آذار 2009 وصل هاشمي رفسنجاني الى بغداد في زيارة استغرقت عدة ايام، كان يحيط به وفد كبير من المسؤولين والشخصيات، قدره بعض المطلعين بسبعين شخصا. وقد التقى رفسنجاني مع كل زعماء الائتلاف العراقي الموحد، الى جانب شخصيات من كيانات وأحزاب أخرى. وخلال زيارته أكد رفسنجاني ضرورة المحافظة على الإئتلاف وتقويته، وكان جوابهم بالايجاب والتأكيد على أن الإئتلاف هو خيارهم الانتخابي الذي لا يقبل النقاش.

لا حاجة الى تحليل موقف إيران من الإئتلاف ودعمها له، كما لا داعي الى تحليل الدوافع وراء ذلك، فأي دولة من دول الجوار لو كان بمقدورها ان تكون بديلاً عن ايران في علاقتها مع الإئتلاف لما ترددت لحظة واحدة، فالإئتلاف بحجمه البرلماني وبمكوناته السياسية، وبقوته الحكومية، يجعل منه قوة تأثير حاسمة في الوضع العراقي، ومحط أنظار الدول الإقليمية ليكون لها علاقة به.

لم يفكر أي طرف من أطراف الائتلاف القديم بالخروج عنه، بل ان حزب الفضيلة الذي اعلن خروجه، قرر العودة اليه، كما أن الدكتور الجلبي الذي انفصل عنه في انتخابات عام 2005 قرر الانضمام اليه هذه المرة.

لقد اطمأنت إيران الى أن الائتلاف سيكون أقوى من السابق، وعندما يسود الإرتياح مشاعر إيران ، فان الحكومات العربية تعيش القلق، معادلة تقليدية لا تنتهي أبداً. وهذا ما دفع الحكومات العربية الى تصعيد رصدها للمتغيرات في الساحة، وتنظيم حركة أتباعها ومواقفهم، كمقدمة للخروج بقرارات حاسمة بشأن الدعم وتوجيه التحرك، إستعداداً لمعركة فاصلة حول صنادق الإقتراع.

 

 رأي واشنطن

هناك من بعيد كانت واشنطن ترقب الأمور.. وهنا عن قرب في سفارتها ببغداد كانت تسمع الهمس ووقع الاقدام. في تموز 2009 وجدت أن لحظة الكلام قد حانت، ولا بد أن تتكلم بطريقتها الايحائية دون زيادة، لتغير المواقف حسب ما تريد.

تقول معلومة خاصة، أن مسؤولين أميركان أبلغوا بعض المقربين من السيد نوري المالكي، رسالة تفيد بأن من مصلحته عدم الاشتراك في الإئتلاف، وخوض الانتخابات بقائمة دولة القانون.

قبل هذا التاريخ بأكثر من أربع سنوات، كنت حاضراً في إجتماع ضم رئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري والسفير الأميركي زلماي خليل زاد، يومها كانت الاستعدادات للانتخابات البرلمانية قائمة.. وقد وجه خليل زاد للجعفري سؤالاً يتضمن مقترحاً له معنى:

ـ لماذا لا تدخل الإنتخابات بقائمة خاصة بك؟

وقد أجابه الجعفري بأنه يحرص على وحدة الإئتلاف العراقي الموحد.

لم يعقب خليل زاد، لم يطل الحديث، تجاوزه الى مواضيع أخرى، وكأنها كانت فكرة عابرة مضت لسبيلها. عندما خرج السفير الاميركي، تحدث عدد من مستشاري الجعفري حول الفكرة، لقد استحسنوها بشكل ملفت، واقترحوا عليه أن يعلن تشكيل قائمة إنتخابية يخوض فيها الإنتخابات البرلمانية، لكن الجعفري رفض رأيهم وأصر على البقاء ضمن تشكيلة الإئتلاف.

في تموز الفائت، لم يتلق المالكي الرسالة بشكل مباشر، إنما عن طريق بعض مساعديه، ولم يكن المتحدث الأميركي بمستوى سفير، كان بدرجة أقل بكثير ومع ذلك فقد كان لها مفعول سحري.

في دولة يراد بناء نظامها السياسي من جديد، كما هو الحال في العراق، تبقى الولايات المتحدة هي صاحبة الرأي المؤثر، وهي مصدر الإلهام لمواقف الأطراف المشتركة في العملية السياسية، ولندع جانباً كلام السياسيين بنبرته الوطنية الصاخبة، إنه حاجة من حاجات الأداء السياسي.. والمواطن يعرف ذلك لكنه مضطر لسماعه.. ويعرف السياسي أن شعاراته لا تقنع المواطن لكنه يحتاج لترديدها.

واشنطن هي التي تؤشر فيهرع المعنيون صوب إشارتها، سواء كان الرئيس الأميركي جورج بوش أو باراك أوباما أو شخصاً آخر. وواشنطن توحي فيتصرف الساسة على ضوء إيحاءاتها السحرية. فمع أنفسهم يدركون أن أميركا التي اسقطت نظام صدام واقامت الديمقراطية وفتحت لهم الابواب وهيأت المقاعد والكراسي، لا يمكن أن تترك ذلك كله وتدير وجهها عن بلد بثروة العراق، فتترك الخيار لهم يفعلون ما يشاؤون.. لا بد أن يكون رأيها هو الأول والآخر.. ولا بد من الإلتزام بصمتها وكلامها.

إذن وصلت الرسالة الأميركية الى المالكي، ولم يشك لحظة بأنها وصلت محرفة، فحملتها رجال مقربون منه، لا يتسرب اليه الشك بولائهم وإخلاصهم، وكان لذلك أثره الكبير على قناعة المالكي في تحديد موقفه من الإئتلاف.

شعر المالكي (وشعوره ينتقل لحزب الدعوة تلقائيا)  بأنه يمتلك نقطة قوة لا تضاهى، وأن عليه أن يستخدمها مع خصوم الغد أي الإئتلاف الوطني العراقي، فأصر على شروطه السابقة بنسبة (النصف + واحد) من مجموع مقاعد الإئتلاف.  ولكي لا ينهي علاقته مع طهران بالقطيعة، فقد بعث المالكي وفداً اليها ليشرح لهم وجهة نظره وأن إئتلاف دولة القانون يسعى لإستيعاب كيانات عديدة ترفض الدخول في الإئتلاف الوطني، وأن من الممكن تشكيل جبهة فيما بعد.

لم يقتنع الإيرانيون بهذه المبررات، وأبلغوا الوفد بأنهم على علم برسالة واشنطن، وزادوا على ذلك أن لديهم معلومات دقيقة عن أسماء الأشخاص الذين يتصلون بالأميركان، ويسعون لإقناع المالكي بوجهات النظر الأميركية.

بقيت المفاوضات بين الإئتلافين جارية، لكنها تراوح مكانها، فالمواقف ثابتة لا تتغير، والعقدة بينهما واضحة محددة، فحزب الدعوة لا يتنازل عن ولاية ثانية للمالكي، والائتلاف الوطني لا يتنازل عن إبعاد المالكي عن رئاسة الوزراء.

وفيما تسير المفاوضات على رتابتها الصماء، جرى إتصال هاتفي بين الرئيس الأميركي وبين رئيس الوزراء، أخبر المالكي فيه أوباما أنه قرر خوض الإنتخابات بقائمة دولة القانون، فكان الجواب: "هذا شأن عراقي خاص بكم، أما نحن فراحلون". كانت العبارة واضحة أن البيت الأبيض لا يتعهد بشئ مقابل موقف المالكي.

بعد أيام قليلة سافر المالكي الى واشنطن، والتقى يوم 20 تشرين الأول بالرئيس الأميركي، وخرج بانطباع جيد أن واشنطن تدعمه بناءً على ما سمعه من كلام مباشر في ذلك اللقاء.

مسؤول عراقي كبير، قال في حديث خاص، أن المالكي فهم كلام أوباما بطريقة مغلوطة، حين قال الأخير: "إن الولايات المتحدة تدعم الدولة العراقية"، وقد فهم المالكي وربما نتيجة خطأ في الترجمة، (أن الولايات المتحدة تدعم الحكومة العراقية). ومما يعزز سوء الفهم هذا أن المالكي عادة ما يستخدم في خطاباته تعبير (الدولة) ويقصد به (الحكومة).

هل كانت رسالة واشنطن والتي نقلها مقربو المالكي قد شابها الخطأ؟

لم تتسرب حتى الآن معلومة بهذا الخصوص. وأغلب الظن أنها نقلت إليه بطريقة مبالغ فيها، فهناك من مقربي المالكي من كان يدفع بقوة باتجاه خوض الانتخابات بقائمة دولة القانون، ووضع ركام من الجمر أمام أي خطوة تمضي باتجاه الإندماج.. لقد نجحوا عبر تسريبات أوصلوها للأميركان.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1236 الثلاثاء 24/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم