أقلام حرة

اللغة الشعرية بين الموروث والمعاصرة

التفكير من المراحل التي ينبغي المرور بها فتضفي عليه القا وتضع على صدره هوية، هوية التحول، هوية النحت وتغير الإشكال والوثوب من منطقة ما هو ثابت باتجاه ما هو متحول، أي بإسباغ الإيحاء عوضا عن القصدية المعجمية، وهي بهذا كله تحوله من خانة المتداول إلى خانة الإبداع . إذن اللغة هي لب القضية الشعرية، لكن أية لغة قادرة على عملية النقل والانتقال آنفا .  إذ ان اللغة بعلاقاتها المعروفة والمهيمنة وفق الإقفال والقوالب المعدة لا تتمكن من دفع الشعر إلى الأماكن المضيئة، لذلك من المفيد البحث في لغة تحمل بين دفتيها صيغا وقوالب وعلاقات جديدة .  هذه اللغة لا تقف في حدود بل هي في حالة صراع مع نفسها ومع الآخر، تبحث في أفق مفتوح يغوص في عالم اللفظة ويخرج به إلى أرحب الأفاق، بيد انه لا يدعه سائبا بل يوصله مع لحمته وسداه من اجل لا ينفصم أو ان يفصل العظم عن اللحم، فالذي يحصل تحريك الأعماق وعصفها من اجل الوصول إلى معابر صحيحة لدلالات تلك الألفاظ والتي تعين الشاعر على مسك فعل الإبداع والتصرف به وفق توظيف جديد لهذه المحصلات، فمهمة الشاعر تتركز في  كيفية التصرف بما بين يديه من الإمكانات اللغوية. فالوقوف عند مقتربات ما تفرزه اللغة دون توظيفه بنحو راق ومبدع يخل بالعملية الشعرية ومن ثم لا يعطينا هوسا شعريا لا يخرج عن دائرة الشاعر نفسه أي انه تصريح عن تجربة شخصية مؤطرة بمنتجات سطحية . والشعر – بعد هذا – يتخطى ما هو ذاتي ليصل إلى أماكن مجهولة وهو بهذا فعل استباقي ينظر فيما هو لحظوي وينتج ما لا يقف عند زمن معين لأنه يستجلي ما هو آت بواسطة عملية الخلق والإبداع لأنه لا يقف عند نقطة ولا يتحدد بمدار، فمكوثه جزء من حركيته المستمرة باتجاه لا تحديد الشكل والتي تعد من أهم المفاصل التي تساعده في الوصول إلى المبتغى . فالشاعر المبدع هو الذي لا يركن في مساره ومسيرته إلى خط متواز مع الواقع لا بل عليه ان يرفض مثل هكذا مسار على الرغم من عدم تطابقه، إلا ان هذه المسايرة المتوازية ستؤدي حتما إلى تضييق فعل الحرية، حرية السير وخرق ما هو مألوف بحثا عما هو إبداعي من خلال المغايرة والكشف المتواصل عن مسارات جديدة وتعامل حي  ديالكتيكي جوهره ان تكون (اللغة هي اكتناه جمالي يتوسل تفجير نواتها الرحمية). ان هذا الاختلاف واللاتطابق الذي نؤكد عليه لا تستطيع اللغة الاعتيادية ان تنهض به، فمخرجات هذه اللغة معروفة لا تتخطى ما هو موجود / مألوف ومهمة الشاعر هو ان يحيل هذا المألوف إلى ما هو لا مألوف لا من اجل المغايرة المنعزلة والتهويمية لكن بإنتاج مزيد من الإيحاءات التي تتساوق وعملية التغيير، أو تلك التي تستوعب كل المعاني الإنسانية العميقة التي تجيب على أعسر أسئلة الوجود وتزيح الكثير من العوائق التي تثقل كاهل الإنسان وتتطلع إلى إحداث ما لم يكن في الحسبان، فالشعر عندما يفقد عامل الدهشة يفقد كيانه ويصبح مجرد جثة هامدة على قارعة الطريق .  ان ما ينبغي تطويره أو الثورة عليه هو اللغة، وعندما نقول اللغة نعني طريقة استعمالها في ان تكون نسخة جديدة، لغة تبحث في منظومات جديدة غير متكررة ولا مستهلكة وهذا لا يتحقق في لغة مطاطية مترهلة لا تستطيع قطع المسافات الطويلة . نحن نبحث عن لغة قادرة على خوض ماراثون الحقيقة من خلال طاقاتها الإيحائية التي تضفي على ما هو متداول قيمة إيحائية وفيضا جماليا وتخرج به من دائرة المألوف الساذج إلى دائرة الوعي المتقد النافذ في قلب الحقيقة . هكذا تقوم اللغة بقلب المترسب اللغوي إلى طاقة خلاقة من خلال المتصور العقلي المبني على الإيحاء . فالتداعي المتحقق بفعل تلك الطاقة الخلاقة يحول فعل الرؤية إلى رؤيا تتمسك بما هو موجود لتحلق به في سماء الحلم الواعي الذي يعطي اللغة نسيجا مشعا ويجعلها لغة قادرة على استيعاب عملية الانكشاف والاكتشاف الجديدتين . إذن اللغة الجديدة التي نريدها للشعر هي اللغة التي تنهل مما هو فطري لكنها تشذب ذلك الفطري وتنزع عنه كل أدرانه وتضفي عليه قيما جديدة غير مقطوعة الجذور ولا هي غارقة في التغريب والأوهام والتعقيد واللعب بالشكل ومظهريته البراقة، إذ ان هذه التوصيفات هي التي تذهب بالشعر إلى ان يكون مقولة فلسفية، والتشبث بها هو الذي يحيل الشعر إلى ان يكون خيمة صحراوية لا تعرف غير الجفاف والغبار طريقا لها،  إننا نبحث عن ثراء اللغة وعن ثراء التجربة، هذان العاملان هما اللذان ينقذان اللغة الشعرية مما اعتراها ومما يمكن ان يعتريها، فالخضوع إلى الثوابت لا يؤدي إلا إلى المراوحة المستديمة، أما الابتكار والتغيير والتبدل المبني على أسس منطقية هو الذي يحقق طموح كل الباحثين عن لغة شعرية قادرة على النفاذ إلى باطن الأشياء وصولا إلى المبتغى .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1237 الاربعاء 25/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم