أقلام حرة

الإنشقاق الشيعي.. رجال طهران وواشنطن

لقد اكتسبوا خبرة طويلة ذات تاريخ يقاس بعقود من الزمن في التعامل مع أزمات كبيرة، واستطاعوا تجاوز تحديات وتهديدات أحاطت بحزب الدعوة في فترات سابقة.

في مقابل هذه القيادات، هناك اشخاص قادهم قربهم من المالكي بحكم العلاقة والعمل الرسمي الى مواقع قيادية في حزب الدعوة او في الدائرة المؤثرة على السيد نوري المالكي، وهؤلاء كانوا ضمن الخط الثاني والثالث من التنظيم. وسنطلق عليهم تسمية (المقربين من المالكي) لتمييزهم عن القيادات التاريخية لحزب الدعوة.

يتسم (المقربون من المالكي) بنزعة ميالة الى الحدة والتقاطع ومحاولة وضع الآخرين أمام خيارات صعبة، كما يظهر من تصريحاتهم في فترات التأزم، ويبدو أن المالكي يعاني من مواقفهم الحادة لكنه بالنهاية يجد نفسه منساقاً لولوج الثغرة التي فتحوها.

لكي لا يفهم هذا الحديث بعيداً عن سياقه العام، يجب أن نعرف أن هذه هي ظاهرة سائدة في الحكومات عبر التاريخ، وحتى في دول لها موقعها المتقدم في المجتمع الدولي، كما هو شائع في صقور البيت الأبيض وحمائمه. وهذه الظاهرة لها حضورها في الأنظمة الدكتاتورية والديمقراطية على حد سواء.. تتحدث تجارب التاريخ عن حروب طاحنة تورطت بها الحكومات بسبب فرد مقرب من الحاكم، كما حدث في الدولة العثمانية حيث كانت لمواقف الوزير (أنور باشا) السبب الرئيس في إضطرار السلطان العثماني دخول الحرب العالمية الأولى رغم أنه واركان حكومته كانوا يريدون الوقوف على الحياد، فمنيت الدولة العثمانية بهزيمة عظمى.

لا حاجة للإستغراق، فالسطور السابقة تكفي لبيان وجهة النظر في هذا الخصوص.

بعض مقربي المالكي يعيشون عقدة قديمة برأسين: نفور من كل ما هو إيراني، وقبول لكل ما هو أميركي، وعندما تكون النظرة بهذا المستوى من الفصل، ثم تشفعها نزعة نحو التقاطع والتشنج، فان تقدير المواقف يخرج عن موضوعيته. وقد ساهمت هذه الحالة في التأثير على قرار المالكي النهائي. ففي مواقع السلطة وصناعة القرار، يضيع صوت العقل والهدوء والتقارب أمام صوت التصعيد والقطيعة.

إستطاع المالكي في فترة حكمه أن يكسب ثقة الإيرانيين، وهذا ما ساعده بشكل مؤثر في تجاوز المخاطر المتكررة التي واجهته، بما في ذلك عدة محاولات لإسقاط حكومته. كانت إيران تتدخل في اللحظات الحاسمة لتمنع خصومه ومنافسية من المضي في مساعيهم الرامية الى سحب الثقة، وقد تدخلت ايران في أكثر من مرة وأنقذت حكومة المالكي. وقدمت إيران خدمة لا تقدر بثمن عندما أبلغت المجلس الأعلى والتحالف الكردستاني وكيانات أخرى بأنها تدعم بقاء المالكي في السلطة حتى نهاية فترته الدستورية.

ومع ان المالكي كان على علم تام بمواقف مكونات الإئتلاف السلبية منه، إلا أنه وجد في الدعم الإيراني ما يشكل ضمانة قوية له، وهذا ما شجعه على الدخول في إجتماعات إعادة تشكيل الإئتلاف باسم (الائتلاف الوطني العراقي) وكان وصفه بأنه (سفينة النجاة) لا يقبل التأويل بمدى قناعته بأهمية انجاحه وتقويته ككيان لا غنى عنه في دخول الإنتخابات البرلمانية القادمة.

كانت القيادات التاريخية لحزب الدعوة تتفهم أهمية إعادة بناء الإئتلاف من جديد، لكنها واجهت صوتاً عالياً من قبل (مقربي المالكي) يدعون الى وضع شروط تضمن فوز المالكي برئاسة ثانية، وهنا حدث الخلاف كما اشرنا في مقالات سابقة.

بعث المالكي عدة وفود الى طهران لإقناعها بوجهة نظره بدخول الانتخابات بقائمة دولة القانون، وان تشكيل جبهة تتحالف مع الإئتلاف الوطني بعد الانتخابات مسالة ممكنة الى حد كبير، لكن ذلك لم يقنع الإيرانيين، بل أن طهران كانت تعبر عن غضبها من خطوة المالكي. وقال لهم المسؤولون الايرانيون بانهم على علم تام بالاشخاص الذين يتصلون بالجانب الأميركي ويعرقلون الاندماج، كما اشرنا في المقال السابق. في آخر زيارة قام بها وفد المالكي الى طهران، ابلغ الايرانيون الوفد وبشكل محدد (بأن شخصين من المقربين للمالكي يتصلون بمسؤولين أميركيين ويضغطون عليه لتمرير الرأي الأميركي، وزادوا على ذلك، بأن احدهم له لقاء اسبوعي مع مسؤولين في السفارة الأميركية يطلعهم على التطورات ويأخذ منهم التعليمات).

من السهولة ان يحصل الإيرانيون على هذه المعلومات، وهم الذين احترفوا العمل المخابراتي واجادوه منذ سنين طويلة.. ومن السهل على طهران ان تحصل على كل ما يدور في مكتب المالكي، فجهاز مخابراتها هو الأقوى في المنطقة، وقد اكتسب خبرة عالية لاسيما في الشأن العراقي، فهو يعرف تفاصيله وشؤونه وخفاياه من الشمال الى الجنوب. كما أن العلاقات الوثيقة التي تربطه بمسؤولين كبار في الحكومة لم يعد سراً وهو حديث الشارع.

في دولة قلقة مثل العراق، تشكل نظامها السياسي على اساس المحاصصة والتوافقات، يكون التمثيل الخارجي في مناصب مهمة مسالة شائعة، الكل يعرف الكل، إنهم يتحركون على المكشوف، لكنهم يطلقون تصريحات معاكسة.. أمر تفرضه مقتضيات العمل السياسي، ولا سبيل لهم غير ذلك، ولأنه كذلك فقد عذر بعضهم بعضا. غير أن النقطة المثيرة للإستغراب أن رجال طهران يظنون أنهم مخفيون عن عيون واشنطن، ورجال واشنطن يعتقدون انهم محجوبون عن أنظار طهران، بينما تطلق طهران على مقربي المالكي تسميات انكليزية (مستر فلان ومستر وفلان)، ونفس الاستخدام يستخدمه الاميركان لمقربين آخرين من المالكي (أغاي فلان وفلان).

مهندس الحروب الأميركية والشخصية المثيرة للجدل (روبرت ماكنمارا) وزير الدفاع إبان الحرب الفيتنامية، قال (أن رجال المخابرات الأذكياء ليسوا الذين يتظاهرون بالجهل، بل الذين يقنعون الآخرين بانهم فعلا لا يعرفون). وقد سمعت من عدة أشخاص يشغلون مناصب مهمة في الحكومة العراقية قولهم: (أن الأميركان لا يعرفون ولا يفهمون).

حاول (القادة التاريخيون في حزب الدعوة) بذل مساعيهم أكثر لتحقيق الوحدة بين الإئتلافين، وعدم خوض الإنتخابات بقائمة دولة القانون، فهم يعرفون تداعيات ذلك الخطيرة على المستقبل، بما في ذلك مستقبل المالكي شخصياً، وكانوا يدركون ان الانشقاق سيشتت اصوات الناخبين، وبذلك فان الحصول على الكتلة النيابية الاكبر، سيكون مجرد إحتمال من بين إحتمالات كثيرة. بينما الدخول في قائمة الإئتلاف الواحدة يعني ضمانة أقوى في الحصول على الكتلة الأكبر.

أوشكت هذه المساعي أن تأخذ طريقها للنجاح مرة ثانية، فعادت المفاوضات بين حزب الدعوة وبين الائتلاف الوطني العراقي، وظهرت تصريحات متفائلة بعض الشئ، غطت على تصريحات متشجنة اطلقها (المقربون من المالكي) لتعكير الأجواء.

ثم جاءت الاستعدادات لزيارة علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الإيراني الى بغداد، وكانت تهدف الى حسم الخلاف وتحقيق الوحدة بين الطرفين. وكان متوقعاً أن لاريجاني سوف يعود الى بلاده وقد انجز مهمة تاريخية.

عند هذه النقطة حدث تطور مفاجئ، فقد نشرت جريدة النهار خبراً تقول فيه ان السفير الاميركي (كريستوفر هيل) يشعر بقلق شديد حيال نيات رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي من "هدم" كل ما بناه خلال الفترة الماضية. وان السفير ارسل اشارات الى المالكي "تنطوي على لهجة تحذير"، مطالبا اياه بعدم الاستماع الى "النصائح الايرانية" خلال هذا الظرف الحساس.

أعلن (المقربون من المالكي) بشكل قاطع خوض الانتخابات بقائمة دولة القانون وأن مسالة الاندماج قضية مستحيلة.

فشلت إيران في التأثير على المالكي، ونجحت واشنطن في مسعاها. لكن طهران لم تترك الجولة كطرف مهزوم، إنما بعثت كلمتها القاطعة عبر وسطاء تقول فيها: لن يرى المالكي رئاسة الوزراء مرة أخرى، حتى وان صارت كتلته الأكبر في البرلمان.

وسواء قالت إيران ذلك للمالكي أو كتمته، فأن طبيعة النظام التوافقي تجعل مصير المالكي متوقفاً على رضا الآخرين حتى في حال حصدت قائمة دولة القانون أكبر عدد من الاصوات.

النتيجة إذن أن المالكي خسر دعم إيران، فهل ربح المساندة الأميركية؟

تنظر واشنطن الى حزب الدعوة بشقيه على أنه مرتبط بإيران بحكم تاريخه الاسلامي وهويته الشيعية، وأن جناح تنظيم العراق ولد بفضل المساندة الإيرانية وأن عدداً من كبار قادته لهم ارتباطات وثيقة ومكشوفة مع أجهزتها، فهل يمكن في ضوء هذه الحقائق أن تجازف وتمنح الدعم لهم؟.

وما الذي تجده في حزب الدعوة والمالكي ولا تجده في غيرهم وغيره؟.. حتى تقاوم العروض السخية من الاطراف الأخرى، وحتى تواجه الغضب العربي، وحتى تكرر تجربة اربعة سنوات من الأزمات والقلق السياسي.

لقد حسمت القضية من قبل الرئيس أوباما في كلامه الهاتفي مع المالكي بقوله: (الإنتخابات شأن خاص بكم، أما نحن فراحلون)، في جوابه على قول المالكي (قررنا خوض الانتخابات بقائمة دولة القانون).

أمام موقف حزب الدعوة، يقف (الإئتلاف الوطني العراقي) فقد حسم أمره بالحفاظ على علاقته الوثيقة بإيران، لم يسع مكوناته الى التمرد عليها، أو التحول عنها الى إكتشاف جديد، إنهم يدركون حقيقة مهمة، تلك هي أن أعداء إيران لا يصدقونهم، حتى لو رفعوا علم الولايات المتحدة فوق مكاتبهم، فالولاءات محسومة منذ زمن، وعليه لا حاجة للتغيير والمجازفة.

نواصل الحديث في المقال القادم.. قضية كبيرة بتفكير بسيط

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1239 الجمعة 27/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم