أقلام حرة

الإنشقاق الشيعي.. المعركة القديمة

 الشيعية أي المجلس الأعلى وحزب الدعوة.فعندما تجمعت قوى المعارضة الشيعية في إيران عام 1980، بدأت حالة من التنافس الشديد فيما بينها، وقد لجأ كل طرف الى إظهار ولاءه لمؤسس الجمهورية الإسلامية "الإمام الخميني" وتأكيد إيمانه وتمسكه بمبدأ "ولاية الفقيه" الذي تحول في تلك الفترة الى شاخص مفصلي مقدس، إذ تكفي تهمة (عدم الإيمان بولاية الفقيه) الى تعريض كيان بإكمله لخطر المحاربة والإبعاد.

إستطاعت إيران أن تفرض سيطرتها على القوى الشيعية بشكل سريع، فبعد سنتين من التجارب الجبهوية الفاشلة، قررت تشكيل "المجلس الإسلامي الأعلى للثورة الاسلامية في العراق" في تشرين الثاني 1982، وتعاملت بطريقة صارمة في صياغته، حيث اعتبرت أن هذا المشروع يمثل رأي الحكومة، بمعنى أنه ينطلق من توجهات "ولاية الفقيه" التي تفرض على جميع الإسلاميين الشيعة الإلتزام به.

كان هذا المشروع يهدف الى ربط الفصائل الشيعية ربطاً مباشراً بالقيادات الإيرانية، وتجريدها من قراراتها الخاصة وخططها في مواجهة نظام صدام، بحيث تضطر الى تنفيذ ما يريده الإيرانيون، وكان المتضرر الأكبر من تشكيل المجلس الأعلى هو حزب الدعوة، بل أن تأسيسه لم يكن بعيداً عن فكرة إستفراغ قوته وإنهائه تدريجياً. فطبقاً لقول أحد المسؤولين في الحكومة الايرانية : "إذا رفضت قيادة الدعوة اطروحة المجلس الأعلى فستنتهي بسيف ولاية الفقيه، واذا وافقت فان الحزب سينتهي أيضاً".

أدرك قياديو الدعوة ما وراء هذا المشروع، لذلك حاولوا قدر الإمكان زيادة نسبة مشاركتهم في قيادة المجلس الأعلى، بطرح فكرة أن يكون التمثيل على أساس الحجم الميداني، وكذلك في اضافة فقرات لنظامه الداخلي تمنع إستئثار طرف واحد في القيادة. غير ان مساعيهم قوبلت برفض متشدد. ولم يكن بمقدروهم مواصلة الإعتراض أو الإنسحاب خوفاً من صدور فتوى دينية ضدهم تحيل حزبهم الى شئ من الماضي.

صمم المجلس الأعلى بطريقة تجعله خاضعاً للقرار الإيراني، حيث أشرف عليه "السيد علي خامنئي" الذي كان يشغل منصب رئيس الجمهورية في تلك الفترة، كما كانت هناك هيئة خاصة باسم "لجنة الإسناد" مكونة من الإيرانيين، تتولى الأشراف على كافة فعاليات المجلس، ولا يصبح أي قرار تتخذه قيادة المجلس ساري المفعول ما لم تصادق عليه هذه اللجنة.

من الناحية العملية، كان "السيد محمد باقر الحكيم" رحمه الله هو المستفيد من تشكيلة المجلس، بحكم علاقته الوثيقة مع السيد الخامنئي، وكان حزب الدعوة المتضرر الأكبر نتيجة النظرة الرافضة للتشكيلات الحزبية السائدة عند القيادات الإيرانية العليا. ومن أجل أن لا يظهر المجلس الأعلى وكأنه موجه فعلاً ضده، فقد تم منح موقع الرئاسة "للسيد محمود الهاشمي" والذي تولى فيما بعد منصب رئيس السلطة القضائية في إيران، فيما جرى تعيين السيد الحكيم ناطقاً رسمياً، ولم يستمر هذا التقسيم طويلاً فقد إنسحب الهاشمي من المجلس لاحقاً، وتولى السيد الحكيم رئاسة المجلس على مدى عشرين عاماً.

إشترك في تشكيلة المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق، عدد من الفصائل والشخصيات الإسلامية، فقد كان بالأساس مشروعاً إسلامياً يرفع شعار إسقاط نظام صدام حسين، وإقامة حكومة إسلامية على غرار النموذج الإيراني. وكان الى جانب حزب الدعوة، منظمة العمل الإسلامي، وحركة المجاهدين العراقيين بزعامة "السيد عبد العزيز الحكيم" رحمه الله وجماعة العلماء بزعامة "الشيخ محمد باقر الناصري"، وحركة الدعوة الاسلامية بزعامة "عز الدين سليم" الذي انشق عن حزب الدعوة عام 1981، (أغتيل بانفجار سيارة مفخخة على مدخل المنطقة الخضراء إبان شغله رئاسة مجلس الحكم بعد الاحتلال الأميركي)، وعدد من زعماء التركمان وتشكيل كردي صغير بزعامة "الشيخ البرزنجي".

كان عمل المجلس في حقيقته تنافساً خفياً تارة ومعلناً أخرى، بين السيد الحكيم وحزب الدعوة، مما انعكس على أدائه السياسي والجماهيري، وكانت نقطة الجدل الساخنة في البداية هي مستقبل التشيكلات العسكرية المرتبطة بالأحزاب الشيعية، فقد أصر الحكيم على جعلها مرتبطة مباشرة بالمجلس، وهو ما عارضه حزب الدعوة بشدة، لأنه كان يتمتع برصيد كبير من المقاتلين المدربين في معسكر خاص به باسم "معسكر الشهيد الصدر" قرب مدينة الأهواز. وكان يرى أن مثل هذه الخطوة تعني تجريده من أهم نقطة قوة يمتلكها، غير أن الخلاف حسم بقرار إيراني لصالح الحكيم. وبذلك تعرض حزب الدعوة الى ضربة موجعة عانى منها كثيراً حيث واجه مشكلة إيجاد حل لمئات المقاتلين تحولوا الى عبء مالي وعددي عليه في بلد لا يوفر فرص العمل للعراقيين. ومع مرور الزمن كان الكثير منهم يغرق في شؤون الحياة الصعبة، أو يهاجر الى دول الغرب.

لم تنته الخصومة الى هذا الحد، فهناك دائماً قضية للخلاف والتنافس، وكانت إيران تقف الى جانب السيد الحكيم رحمه الله في مواجهة حزب الدعوة.

كانت تشكيلة المجلس وعمله لا تخرج عن كونها حلبة صراع من نوع خاص.. طرف يحاول البقاء واقفاً أطول فترة ممكنة، وخصم يسعى للإجهاز عليه بأسرع وقت ممكن. فيما يقف المسؤولون الإيرانيون يراقبون الجولات الطويلة، فاذا ما اوشك المدافع على السقوط، أوقفوا الجولة ليلتقط أنفاسه.. وإذا ما تراجعت معنويات المهاجم عن المواصلة، هتفوا له بحماس.

كانت السنوات تمر تباعاً، ولم ينجح المجلس الأعلى وحزب الدعوة في التخلص من هذه الخصومة الطويلة، وقد إنتهت الحرب العراقية ـ الايرانية، وتلاشت الأحلام السابقة باسقاط نظام صدام عن طريقها، وبدأت مرحلة جديدة وضعت الطرفين أمام حسابات جديدة، لكن النفور بقي ثابتاً لا يتغير.

ظلت الزعامة قضية عالقة وعقدة كبرى بين المجلس الأعلى وحزب الدعوة، حيث يرفض كل منهما مبايعة الآخر بها، وعندما اشترك الإثنان في الإئتلاف العراقي الموحد، كان اشتراكاً فرضته الظروف، ولم يكن صادراً عن قناعة تتجاوز الماضي لتبدأ حياة جديدة. لم يكن ذلك سهلاً على الأطلاق، فبعد تجربة الإئتلاف العراقي الموحد في إنتخابات عام 2005، وجه المجلس الأعلى ضربة موجعة لمرشح حزب الدعوة لرئاسة الوزراء (الدكتور إبراهيم الجعفري)، حين ساهم بشكل فاعل ومؤثر في حرمانه من تولي رئاسة الوزراء.

صحيح أن رئاسة الوزراء بقيت من نصيب الدعوة، لكن ذلك فرضته التعقيدات السياسية، فشعر المجلس الاعلى انه لم ينجح في الفوز بها، كما أن حزب الدعوة ظل يعيش هاجس القدرة الإرباكية الكبيرة التي يمكن ان يحدثها المجلس، وهذا ما دفع به الى التفكير ملياً في كل خطوة مشتركة قبل أن يوقع عليها بالموافقة.

خصمان يقتتلان منذ اكثر من ربع قرن من الزمن، كيف نتوقع منهما ان يتسامحا ويتجاوزا ماضياً مكتوباً بالتشنج والتنافس ومحاولات الإقصاء.

 

نواصل الحديث عن الانشقاق الشيعي في مقال قادم.. الإختلاف على المالكي.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1243 الثلاثاء 01/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم