أقلام حرة

هدية خاصة لإطفال قرائي دون غيرهم، بمناسبة عيدهم

عزوف المجتمعات الرأسمالية عن إنجاب الأطفال كرد فعل رأسمالي طبيعي (وإن كان إشكالياً بالنسبة للمستقبل). فالطفل بحاجة إلى طعام وملابس والعاب ومدرسة وجامعة...الخ، وبدون أي مردود على الوالدين بشكل عام. وحتى إن قيل أن الأبناء والبنات يسندون والديهم مادياً في كبر سنهم،  فمن السهل حساب أن الوالدين سيكونان أغنى بكثير لو أنهما وفرا ليوم شيخوختهما ما صرفاه على أطفالهما، وسيكونان أكثر أطمئناناً إلى أن تلك الأموال ستكون لهما فعلاً. منطقي؟ بلا شك، لكن....أنا لدي نظرية أخرى.

 

لنتفق أولاً على أن "السعادة" هي الهدف النهائي والأخير، ليس للإنسان فقط، بل لكل الحيوانات، وكل منطق يخالف ذلك، منطق مشوش. فالسعادة لا يمكن أن تكون وسيلة لهدف آخر أعلى منها، لأن هذا الآخر لن يجد مبرراً له في النهاية سوى السعادة نفسها، وينطبق ذلك حتى على التضحيات والكرم وتحمل الألم والعبادة.

 

لنعد الآن إلى الأطفال. ولنتذكر كم كان الحصول على السعادة سهلاً أيام الطفولة! كانت تكفينا قطعة حلوى لنقفز فرحاً ومتعة! شيئاً فشيئاً، نفقد تلك القدرة على السعادة، وتفقد الأشياء قدرتها على أن تسعدنا مثلما يفقد الخمر من تأثيره مع الزمن على كل من يشربه. ها نحن نجد أنفسنا "عسيري" الإسعاد، لا تستثير فينا قطعة الحلوى أو الكرة الصغيرة الجديدة أية مشاعر تستحق الذكر. ونكتشف أننا لكي نحصل على سعادة قطعة الحلوى القديمة تلك، يجب علينا أن نحصل على شيء أكبر قيمة بكثير...هارد دسك كبير للحاسبة مثلاً، أو مكيف هواء للبيت أو تلفزيون جديد. صارت إثارة سعادتنا تكلفنا أكثر من قبل بكثير!

 

لاتفسير لذلك سوى أن حساسيتنا للسعادة قد تدهورت بشدة عن زمن الطفولة، مثلما تتدهو حاسة اللمس أو قوة النظر. أي بعبارة أخرى، ما كان يكلفنا من السعادة قرشاً، صار يحتاج مئة أو ألف قرش. ولذا نحن إلى زمن الطفولة الجميل، زمن السعادة الرخيصة، ونتمنى لو أنه يعود.....ننظر إلى الأطفال، يشرق وجههم بالحبور لهدية صغيرة، ونقارن هذه البهجة المتوهجة في وجوههم، بلا أباليتنا المتزايدة مع الأيام، لكل ما كان يثير فينا السعادة والضحك، نشعر بالأسف على أنفسنا قليلاً، وربما حسدناهم قليلاً، ثم ننسى فنضحك معهم ونفرح لفرحهم، فالسعادة شديدة العدوى ، كالحزن والخوف والشجاعة!

 

وهنا نظريتي يا أصدقاء! ما دامت السعادة معدية، ومادمنا نجد مخلوقاً يسهل إسعاده بقرش، فلنسعده بهذا القرش، ولنتركه يسبب لنا العدوى، بدلاً من أن نضطر إلى صرف مئة قرش على أنفسنا لنكسب نفس السعادة!

 

ليس هذا شعراً، بل حساب "رأسمالي" بسيط وواضح، وليس هناك من حيلة ولا حتى مبدأ جديد في استعمال الطرق غير المباشرة لزيادة المردود والتأثير. إننا نفعل ذلك حينما نضرب كرة التنس بالمضرب وليس بيدنا مباشرة. فرغم أن المضرب نفسه لا يقدم شيئاً، ويأخذ كل طاقة ضربته من يدنا، بل ويستهلك جزءاً كبيراً منها، لكنه رغم ذلك قادر على استعمال الباقي من تلك الطاقة لضرب الكرة أبعد كثيراً مما لو أننا ضربناها مباشرة.

 

و مادام اللاعب يحصل على نتيجة أكثر اقتصادية في النهاية، فالأحمق وحده من يرفض أن يستعمل المضرب، على اعتبار أنه يأخذ بعض طاقته. ومن يحجم أن يعطي الطفل شيئاً، وهو يعلم أن ما سيصل إليه من رذاذ السعادة المتطاير من عيني ذلك الطفل أكثر مما تستطيع تلك القروش شراءه من السعادة المباشرة، أليس هو نفس الأحمق الذي يصر اقتصاداً في الطاقة، أن يضرب الكرة بيده؟

 

 أخ، ليست هذه بالطبع خطة جديدة لكي نكسب كماً أكبر من السعادة بشكل إقتصادي، فنحن جميعاً نفعل ذلك يومياً، فنسعد بسعادة أطفالنا وأطفال غيرنا، ونظرية "إقتصاد السعادة" هذه يستعملها الكل حتى إن لم يكن على وعي بها، تماماً كما كنا نستعمل نظرية نيوتن للجاذبية قبل أن يكتشفها نيوتن نفسه. لكن، ورغم أن معرفة قوانين جاذبية نيوتن، لا تزيد الجاذبية علينا ولا تقللها، فأنها تساعدنا على فهم علاقتنا بالأرض. كذلك نظرية إقتصاد السعادة هذه قد تفيدنا في فهم علاقتنا بالأطفال، فنعيد النظر في فكرة أن الطفل ليس سوى مشروع مكلف خاسر، يبتز طيبتنا المتوارثة فنصب فيه طاقتنا بلا مردود لأنفسنا، كرماً وتضحية ونبلاً. ألا يعكس هذا "الجهاز" السعادة التي نمنحه إياها، مضاعفة إلينا؟ وإن كانت السعادة هي الهدف النهائي الأعلى الذي لا يعلى عليه، فمن هو صاحب الفضل على الآخر؟

 

هذه هديتي لكم يا أطفال قرائي في يومكم العالمي، فآباءكم أو أمهاتكم قد ابتلعوا الطعم وقرأوا هذه المقالة، وسيحبونكم أكثر من قبل، وستكون مكانتكم لديهم أكثر من قبل. لا تندهشوا إن شكركم أحدهما لقبولكم قطعة حلوى منه، ولا تتصوروه مصاباً بالحمى لو أنه انحنى لكم يوماً بدون مناسبة!

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1066  الثلاثاء 02/06/2009)

 

في المثقف اليوم