أقلام حرة

قصص سائقي الطاكسي بباريس ..

hamid taoulostغادرنا مطار "شارل دغول" عبر إحدى بواباته المفضية إلى أحد مواقف التاكسيات المنتظرة بوفرة .. نزل من إحداها رجل أسيوي "فيتنامي" زاده العمر ألقا، يدعونا بابتسامته العريضة للصعود، على خلاف ما تعودناه من نظرائه سائقي التاكسيات ببلادنا، الذين يقابلون الزبون، في جل الأحوال والأوقات وكل الظروف بـ ـ"غوبشاتهم" العريضة، وجوهم المكفهرة والكثير من التذمر والشكوى، لأسباب لا هم وخالقهم .

نعود إلى سائقنا الأسيوي ذي الوجه الصبوح، والذي سبقنا إلى حمل الحقائب ووضعها في صندوق سيارته الفارهة، وفتح لنا الباب الخلفي، لكون الجلوس إلى جانب السائق شبه ممنوع في فرنسا ..

لم أصدق أذني حين سمعته، يسأل عن وجهتنا، بلغة فرنسية موليرية، ما شجعني على أن أفتح معه حديثا وديا، اعتبرته ضروريا خلال الرحلة الطويلة التي تنتظرنا، وحاجة متبادلة بين الزبون والسائق، لا مناص منها لتمضية الوقت الطويل الضروري لقطع المسافة الفاصلة بين المطار وباريس، وحتى لا أقع في ورطة أحاديث سائقي الطاكسي الاعتيادية المملة الموزعة في غالبيتها ما بين الشكوى من أزمات المرور والطقس والأسعار، وما بين القصص البالغة الطرافة والغرابة والدهشة في الكثير من الأحيان .. سألت السائق عن أصله وفصله ومند متى وهو يقوم بهذه المهنة في فرنسا؟ نظرت عبر المرآة الأمامية إلى عيني السائق الأسيويتين الضيقتين، فلم أر فيهما وفي شكل وجهه وابتسامة ثغره، إلا ما يوحي بأنه متفاعل مع أسئلتي، التي زادته فرحا وإقبالا على سرد قصته حياته التي يعتز بها، والتي بدأ بتاريخ هجرته إلى فرنسا قبل 25 سنة، بحثا عن الشغل في هذا البلد المضياف –حسب قوله- لوفرته به وقلته ببلاده، أشتغل كتقني في معمل لصناعة الآلات الإلكترونية الخاصة بالسيارات، والتي لم تكن تفي أجرتها بمتطلبات أسرته ولا تحقق تطلعاتها، خاصة بعد مولد أطفاله الثلاثة، الذين زادوا تكاليف الأسرة، وضخموا عنده الشعور بالملل والضجر من مهنة التقني الروتينية، ودفعه للتفكير في تغيرها، لتحسين بأوضاع أسرته الاقتصادية والنهوض بأحوالها الاجتماعية. ومما زاد الفكرة تأجيجا، تأثره بالأمثال الشعبية لبلاده، ومقولات حكمائها، والتي سرد بعضها بلغته متضاحكا قبل أن يترجم للغة الفرنسية: " ان الله يهب كل طائر رزقه، ولكنه لا يلقيه له في عشه" والحكمة التي قال أنه يؤمن بها إيمانا قاطعا والقائلة: " إذا كان لديك فرصة كي تغامر وتنفذ فكرة ما، فافعل ولا تتردد، لكن التزم بها وابق مركزا عليها، وثق في نفسك وكن مؤمنا بقدراتك وبحدسك"، وأردف منتشيا بنجاح فكرته، وأردف قائلا: "وبما أني أملك عقلا تجاريا متفتحا، وأني مقتنع بوجاهة أفكاري ومشاريعي، وبما أنه اجتمع لي بعض المال الإضافي، من كدي واجتهادي في عملي الذي كان يصل أحيانا إلى 21 ساعة في اليوم، قررت شراء سيارة أجرة، وتعلم قيادة سيارة الأجرة/ تاكسي، والعمل على الحصول على الرخصة الضرورية لذلك، وهو ما تم لي بالفعل، وسارت الأمور على ما يرام، وها أنا ذا أطوف شوارع باريس، مند سنوات، تحسن خلالها دخلي، وتغيرت أحوال أسرتي وأصبحت حياتها هانئة وتتوفر كل ما تتمنى، منزل جميل في أجمل ضواحي باريس، وأبناء يكملون دراستهم في أرقى المعاهد بها . وختم قصته المشوقة بقوله: لقد منَّ الله علي وعائلتي بحياة هانئة وفرحة ربما تصل فيها السعادة حد التخمة، ولذلك فإني أصلي لله ولهذا البلد، قبل الخروج للعمل وبعده، شكرا لهما وامتنانا على فضلهما وكرمهما ..

ومند ذلك الحين وأنا زبون وفي لهذا السائق في كل تنقلاتي كلما زرت باريس، لأنه استطاع إشعاري بالراحة بطريقة سياقته الرزينة الهادئة، وكسب ثقتنا بلباقة حديثه اللطيف والجدي..

بخلاف سائق آخر من إحدى البلدان العربية، والذي أخدنا مرة من نفس المطار إلى باريس، والتي سأسرد قصته في الجزء الثاني من هذه المقالة، وذلك للمقارنة بين عقلتين مختلفتين رغم توحد المهنة والظروف . فإلى الحلقة الثانية من "قصص سائقي الطاكسي بباريس"

 

حميد طولست

 

في المثقف اليوم