أقلام حرة

قصص سائقي الطاكسي بباريس (2)

hamid taoulostلم أنقل هذه القصة لخصوصية فيها، أو لاختلافها عن غيرها من القصص التي سمعت الكثير منها خلال رحلاتي المتكررة على متن الطاكسي، والتي كانت في مجملها قصص جميلة وطريفة، لكني تعمدت نشرها –كما وعدت في الجزء الأول- للمقارنة بين سلوكيات عايناها من خلال حديث سائقي طاكسي مهاجرين، عاشا نفس الظروف الصعبة في بلاديهما، ويعيشان نفس المعاناة مع الغربة، ويكابدان نفس محن المهنة مع ملل اليومي وجمود الطريق وروتين أزمات السير. لكن سلوكهما وردات فعالهما جاء مختلف اختلافا بينا، حيث جاء سلوك السائق الفيتنامي متمدنا متحضرا، كما في القصة التي سردت في الجزء الأول، والتي تميز فيه بالحمد والشكر الله واعترافه لأصحاب الفضل عليه والامتنان لهم بما هو فيه من خير وسعة رزق، مصدر سعادته وسعادة أهله ودويه، والسلوك الثاني والذي كان في قمة التخلف، الذي تبين من خلال الحديث الذي تعمد خلقه سائق مهاجر من المغرب لكسر جمود الطريق وربما لشد انتباهنا، والذي تميز -بخلاف سابقه - بالتأفف الممل من ظروف العمل على سيارة التاكسي، والتذمر المقرف من صعوبة توفير لقمة العيش، والشكوى المبالغ فيها من عنصرية الفرنسيين وجحود ونكران جميلهم بدعوى وكراهيتهم للدين الإسلامي، الشيء الذي قطع عليَّنا احتفالية المناظر الخلابة التي تغشى جنبات الطريق مالمؤدية من المطار إلى باريس .. عجبت للأمر هذا الرجل واحترت بين رغبتي في أن أقفل الحديث وفضولي لمعرفة سبب نقمته على من أحسن إليه، وهل هو حاقد فعلا أو ربما هي إندفاعة عاطفية ؟ فتغلب الفضول أخيرا، وسألته:" هلا أخبرتني أيها المحترم، ما الذي جعلك تكره من كانوا سببا في ما أنت فيه من نعيم، أليس من واجبك كمسلم أن تشكر فرنسا والفرنسيين على ما قدموه لك من عون ومساعدة عند هجرتك، وخاصة أنك تعلم أن الإسلام حث المسلم، على أن يقابل النعم بالشكر لله، وأصحاب الفضل عليه والاعتراف لهم بالجميل لأن الشكر يزيد النعم، وحذر من الجحود والكفر بالنعم الذي يذهبها، كما بين الله ذلك في قوله سبحانه: "لئن شكرتم لأزيدنكم"، وقوله تعالى في الكفران بالنعم وعواقبه": وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون" .. التفت السائق صوبي بنظرة تأنيب عبر المرآة الأمامية قائل بنغمة حانقة: وسرد علي قوله تعالى: " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير "، وأردف قائلا: نعم إنا اكره فرنسا والفرنسيين لأنهم كفار، ولا اخجل من قوليه ذلك لأني يا أستاذ من بيئة محافظة، بل وشديدة التدين،

قلت له أنت حر في أن تكره من تشاء، ولكن هل يعقل أن تكره من قدم لك المساعدة والعون الذي به تحسنت أحوالك في بلاد المهجر وأصبحت تملك سيارة طاكسي ومنزل واثنان مثله في بلادك حسب ما حكيت لنا ..

كان بودّي أن أجادله في أمر الاعتراف بالجميل في الإسلام، و كانت رغبتي قوية في أن أبين له بأن الإسلام لا يتناقض مع ذلك وان تعاليمه السمحة تدعو له وتشجع عليه، لكني فهمت أن النقاش مستحيل معه، لأنه ليس فقط بمقتنع بما شحنت به دماغه من أفكار خاطئة عن الإسلام، بل التي هو متعصب لها ويعتبرها –مع الأسف الشديد- من أصول الدين ..

حميد طولست

في المثقف اليوم