أقلام حرة

في اول ايام العيد في طوز خرماتو يكمن سر الصبر الأزلي

zaheed albayatiلعل من أروع الأعراف والعادات التي درج عليها المجتمع التركماني في أول ايام العيد في "طوز خرماتو" جيلا بعد جيل، ودأب على احترامها واستمرارها وديمومتها عبر الزمان، وبما يدعو للفخر والاعتزاز والاقتداء لما يشكله من مصدر مغذي للمحبة والتسامح والتعايش وميزان للسلوك البشري القويم ..

وقبل الخوض في ماهية هذه العرف اود التأكيد على أن كثيرا من الأصدقاء والزملاء يسألونني عن سر صمود "طوز خرماتو" الأكثر شهرة في ضحايا الإرهاب " التي لا يمر عليها يوم جديد دون ان يسقط من ابنائها الجديد من الشهداء والضحايا على مدى السنوات العشر الماضية وكأنها اصيبت بداء التفجيرات الارهابية ! حتى تجاوز عدد التفجيرات في احد الأيام (17) تفجيرا من مختلف انواع العبوات والمفخخين والمفخخات ! حتى ضاق بشهدائها وادي السلام في النجف الأشرف ومقابر إمام أحمد،و سيد غايب، والشيخ محسن بمدينة توسعت فيها المقابر فصارت هناك مقبرة للشهداء، امام تراجع الأمان وتضاؤل الخدمات بعد أن اصبح كل بيت من بيوتها يئن من فقدان الأعزة ومن وجع الخراب النفسي وآلام الدمار نتيجة ألأعمال الاجرامية المبرمجة للارهاب، الذي صبغ هيئة الناس بالسواد وغدت حيطان المدينة لا تبارح اخبار النكبات والنعوات !

هذه المدينة المملوحة الحلوة، الناهضة بين قمتي الجبل والنخلة والتي تكرم ضيوفها بعذوقات تمرها قبل ابنائها وتطعم جيرانها قبل زراعها وتفرش ظلالها على بساتينها لتزيد خضرة طبيعتها وبساتينها ..

مدينة تتسامى هامتها مع قمة جبل "مرسى علي " وتستلهم الشموخ من نخلتها العراقية..مجتمع حاضر بين قمتين يتوق لبلوغ القمم..

عن هذا الصبر الأزلي الساكن في ضلوع أبنائها وهم يئنون تحت مطرقة الارهاب والنيران الصديقة على سندانة الإهمال الحكومي على مدى عشر سنوات مضت ؟ سألوني ..أين يكمن السر يا ترى ؟

واحدة من اسرار مجتمع طوز خرماتو الفسيفسائي الذي يغلب على سكانه الطابع التركماني المدني المتسامح، المتصالح مع الذات والمتعايش مع الآخر بكل ارثه الأخلاقي وثقله التربوي الناصع المتمثل بجملة من العرف الاجتماعية المتوافقة مع قيم السماء، والمتحركة مع دوران عقارب الزمن .. هي مراسم الاحتفال اول ايام العيد .. حينما يخرج وجهاء وأعيان وشيوخ وعلماء دين ومن عامة الناس والبسطاء من الرجال والشباب على شكل مجاميع و بكامل القيافة والاناقة لزيارة بيوت المتوفين كافة ضمن دورة السنة الهجرية لتطييب خواطر اسر وعوائل المتوفين   ولكافة البيوت دون تفريق او تمييز سواء كان المتوفي غنيا ام فقيرا تركمانيا كان ام عربيا او كرديا ..شيعيا ام كان سنيا ودون أن يكلفوا الأسر المزارة شيئا ..السلام .. الجلوس ..قراءة سورة الفاتحة .. المغادرة وهكذا .. مدينة تنشغل منذ فجر العيد وحتى موعد صلاة الظهر بتظاهرة انسانية قل نظيرها .. ما اجمل منظر المدينة في شوارعها وازقتها وفروعها الضيقة، حينما تسمو النفوس وينتفض الخير في الضمائر وتهفو القلوب الى الآخر المنوع بمثل ذوي القربى .. وما اجملها حين تتلاقى أفواج المهنئين مع افواج المعزين .. عرس انساني جميل تتسامى فيه النفوس مع قيم السماء، ويتساوى فيه الغني مع الفقير والمدير مع الأجير ..في بصمة اخلاقية عراقية نبيلة من شأنها نسيان الأحقاد واذابة الجلود واشاعة المحبة والوئام

بين افراد المجتمع .. بهذا العرف النبيل الذي توارثته المدينة منذ قرون، صمد المجتمع امام توسنامي مفخخات الارهاب واستهدافات داعش والنيران الصديقة رغم كل ألاف الشهداء لذين سقطوا فرادى وجماعات كأوراق الخريف .. الا أن دمائهم الزكية لم تذهب سدا، وانما هذه الدماء كانت المغذي الرئيسي لصمود" آمرلي" وفك الحصار عنها وانتصارها بالتالي لتفتح بوابة النصر العظيم على مصراعيها امام قواتنا الباسلة وحشدنا الشعبي البطل وعشائرنا الأصيلة للمزيد من الانتصارات حتى يتم النصر الكبير في تطهير ارضنا الطاهرة من دنس داعش باذن الله .. حينها نكون قد وصلنا الى عيد الله اكبر .. كل عام ومدينتي التي عشت فيها سنين طفولتي "طوز خرماتو" بخير .. وكل مدن ومجتمع العراق بخير ونصروأمان وسلام انشاء الله ..  

في المثقف اليوم