أقلام حرة

موضة "التسابيح"السبحة!!.

hamid taoulostلا شك في أن التسبيح بذكر الله والاستغفار له، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، هو نوع من أنواع العبادة، وربما هو أسماها على الإطلاق، لما فيه من وقوف أمام عرش الرحمان الرحيم لمناجاته بوصف جماله ومجده سبحانه، وسجود القلب أمام بهائه وجلاله، واعتراف الفم بروعته وكماله تعالى، والهتاف لشخصه العظيم بالمديح والتمجيد، والتي لاشك في أن الإكثار منها -تشبهاً بالملائكة المقدسين المسبحين له بالعشي وَالإِبْكَارِ - هو من أعظم أسباب طمأنة القلوب وراحتها وزوال وحشتها وحيرتها، وسكون الأرواح إلى خالقها والأنس به سبحانه وتعالى، مصداقا لقوله البليغ : أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، وقوله: "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ " ‏غافر، وقوله سبحانه: "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً" نوح ..

وليس للتسبيح كغذاء لنمو للروح، وموسيقى للقلوب المسبية بالحب الإلهى، مدى محدودا، ولا للصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم حدودا معينة، لأن الإكثار منها والزيادة فيها تطمئن القلوب الحيرى وتهدئ الخواطر الموسوسة.. لكن آفة الغلو في الدين التي ابتليت بها الكثير من الجماعات المتطرفة في الأمم العربية والإسلامية، والتي كانت هي سبب تقهقرها وهلاكها، والتي جاءت الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية محذرة مما يترتب عنها من أضرار بالغة، كما في قوله تعالى: (قل يا أهل لكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل)، حولت التسبيح بذكر الله والاستغفار له إلى موضة للظهور، وبدعة للتباهي، يتهافت على ممارستها في غير أوقاتها وخارج أماكنها و مناسباتها متأسلمي المجتمع العربي عامة والمغربي على الخصوص، تشبها منهم بمُلات شيعة ايران والعراق ولبنان ومتديني الأتراك، الذين يدمنون على استعمال التسابيح بصفة ملفتة، حيث شاهدت مرارا -وكذا لغيري - مناظر عديدة لمسؤولين متأسلمين - وبالضبط مع بزوغ الربيع العربي وتولي بعضهم الحكم في بعض البلاد العربية - والسبحات متدليات من أيدهم، وأناملهم تحرك حباتها، خلال اجتماعات المؤسسات الحكومية الرسمية أو في لقاءات المنظمات الحزبية والنقابية، وأثناء مناظرات النوادي الثقافية، والرياضية، وعقولهم منشغلة بملاهي الحياة وأفواههم منهمكة في هموم السياسة والاقتصاد، وكل ما يصيب المرء بالدوار من متاعب الحياة، وكل ذلك تظاهرا بأنهم لا يغفلون عن ذكر الله طرفة عين .

مشاهد فاضحة في الكثير من تفاصيلها ، رغم ما فيها من الاستخفاف بالعقول، والاستهتار بالدين، والاستهزاء بالمتعبدين الصالحين وإهانة المتصوفة الصادقين، تطالعنا بها وسائل الإعلام، وذلك سعيا وراء النجومية والترويج لنمط مذهبي عقائدي يوحي للعامة ويوهمهم "أنهم ملتزمون" أكثر من غيرهم، وهم يعلمون علم اليقين أن التسبيح بذكر الله بتوصيفه السالف الذكر، لا يستقيم الا في الأماكن التي يكون فيها المسبح مطمئنا باله، خاشعا قلبه بالتسبيح الله وتلاوة أذكاره وتدبر ملكوته، كما كان يفعل السلف الصالح في ممارسة التسبيح الحق الذي يدفع للتفكير في عظمة الله سبحانه، وما يتطلبه من تركيز وحضور الوجدان، والبعد عن الخوض في كل ما يشغل البال، ويثني الوجدان عن ذكره سبحانه ويخرج الذكر عن نطاقه المشروع ..

ولا يسعني في الختام إلا أن أذكر كل الذين يتظاهرون أمام الناس بأنهم لا يغفلون عن ذكر الله طرفة عين، بمقولة جبران خليل جبران البليغة : "أيها المراؤون توقفوا عن الدفاع عن الدين بما يسيء له، ودافعوا عن الإنسان كي يتمكن من التعرف الى الله"

 

حميد طولست

في المثقف اليوم