أقلام حرة

كيفما تكونوا يكون إشهاركم !!

hamid taoulostفاجأتني زوجتي قبل أيام، وهي تتابع أحد برامج إحدى قنوات التلفزة المغربية، بتساؤلها: "عاود ثاني الإشهار"؟؟ "لو غير كان بحالو بحال الإشهارات ديال الناس في مصر أو فرنسا؟؟؟ دفع بي انزعاج زوجتي من فواصل الإشهارات المغربية وقرفها منها، إلى هاوية من الأسئلة الحادة الموجعة، وطوح بي تأففها من سخافاتها المقيتة إلى متاهات البحث والتنقيب عن السبب الحقيقي وراء تدني مستواها، ليس على المستوى المعيارية الصحفية والفنية والتقنية فقط، بل على المستوى الفكري والأخلاقي والذوقي، وحتم علي ذلك الهدف خوض مقارنة بين إشهارات وسائل إعلامنا المرئي والمسموع وحتى المكتوب، وبين إشهارات القنوات الأجنبية عامة، والمصرية على وجه الخصوص، وفرض علي البحث عن تعريف لماهية هذه الظاهرة التي أصبحت حاضرة اليوم في كل شيء، تملأ على الناس حياتاتهم، عبر وسائل الاتصال الجماهيرية، من راديو وتلفاز وجرائد ومجلات وإنترنيت، بصيغتها المعاصرة التي أفرزتها التحولات الواقعية للرؤية الرأسمالية التي دأبت على صياغة مفهوم جديد للإنسان يقوم على الاستهلاك، فوجدت أن الإشهار هو خطاب تواصل بين أطراف في علاقة أفقية هي المتلقي والمنتج بلغة دعائية توظف الأساليب الحديثة في الإقناع بكل أنواعه ووسائله، وخاصة منها الصور والرموز، للتأثير العقلي والعاطفي في المتلقي واستدراجٍه لكي يقع في شَرَك الاستهلاك، ويقتنع بأنه كائن مستهلِك لا تتحققُ كينونتُه إلا بمدى تفاعله إيجابا مع الفكرة أو السلعة المعروضة عليه، ويستسلم في النهاية لمضامين المادة الإشهارية التي تتقنع بحيل استقطابية متنوعة بتنوع أهداف المستقطِب وثقافة المستقطَب، والتي تختلف مقاصدها بناء على الاستراتيجية الموضوعة، والتي قد تبنى بناء متين يتجه وجهة إقناعية عقلية بحتة تضطلع فيها الحجج المنطقية وأساليب الاستدلال بمهمة توجيه فكر المتلقي، مع المحافظة على عنصر المفاجأة والمتعة التي تتيح للمتقبل التفكير والتأمل والانشراح، وكل ذلك بلغة سلسة تحيل إلى المضمون الإشهاري إحالة غامزة لطيفة دون أن تقع في المباشرة أو التصريح، وكأنها خطاب بلاغي جوهره المجاز، فلا تخفي بقدر ما تبدي بطرائق غير معهودة لكنها قريبة من معنى اللغز الطريف، الذي يؤتي مفاتيح تفكيكه إغواء ويبعث البهجة في نفوس المتلقين، كما هو حال الإشهار عند الغربيين والمصريين، الذين استطاع كبار مشهريهم الأذكياء إنتاج نصوص إشهارية عالمية عابرة للأزمنة، بتوظيفهم لكل الوسائل التقنية والفنية التي تبقيها حية ومستمرة ومتجددة في ذهن المتلقي .

بخلاف إشهارنا الذي لا يقدم -مع الأسف - مشروعا ً ثقافيا حقيقيا ً، بقدر ما يروج لثقافة الاستعراض وبهلوانيات الخواء، والذي يُبني، في غالبيته، على أسس هشة وكسيحة، وتكون الفرجة الرخيصة غايته، وطلاسم الغموض السمجة ضالته، وفساد الثقافة والذوق ضالته، واللغة المعادة الهابطة الركيكة والعناوين المتشابهة سبيله، والمواضيع المكرورة الخالية من قوة البلاغة ووحدة الموضوع وسيلته فيأتي بمتن غرائبي وقد نخرته ضآلة المعرفة وقلة الذوق ..

لست هنا بصدد التعميم، ولا تحميل مسؤولية تدني مستوى الإشهار في بلادنا، للجانب التقني أو الفني أو الجمالي لمنتج الإشهار ، وذلك لأن الإشهار في عموميته، نسق لساني دال على قيم متعددة تندغم وظيفيا في تشكيل خطابه الذي يحيل على القيمة النفسية والاجتماعية والتداولية والثقافية لطرفي المعادلة "المستقطِب المستقطَب "، وما يتيحه السياق الثقافي الذي يتحرك الإشهار في أُفقه والذي هو جزء لا يتجزأُ من الثقافة المجتمعية، التي ينتزع منها مادته الإشهارية، التي لا يمكن الإحاطة بها إحاطة فعلية من منطلقات أحادية الجانب، كالتركيز على المادة الإشهارية وحدها، أو على المشهر الذي ينتجها وحده، ولا على متلقيها وحده، دون ربطها جميعها بالإطار السوسيو- حضاري الذي ينتج فيه، ولا بد أن نذكر في الختام أن جودة الإشهار مرتبطة به ارتباطا وثيقا، وأن الرسالة الإشهارية هي مرآة عاكسة لمستوى المجتمع المقدمة له، فإذا كانت تلك الرسالة أكبر من وعي المجتمع المتقبل، أو إذا كانت لغزا يعسر فهمه، وكانت الشرائح الاجتماعية المستهدفة، ذات ثقافة بسيطة وغير مستعدة للتلميح ولا تقدر على فهم اللغز الإشهاري، فيجب أن يكون الخطاب الإشهاري في متناوله ومستواه، وإلا كان الفشل في التأثير في رغبات الآخر وميوله هو مصيره، و لن يحقق إنجازيا موفقا، مهما كانت كفاءة المشهر والوسائل المستعملة في إنتاجه متميزة ..

حميد طولست 

 

في المثقف اليوم