أقلام حرة

تسيد المال يقلب موازين الحياة ومكاييل المنطق!!

hamid taoulostلا نختلف بحال من الأحوال في أن حب المال حقيقة إنسانية وواقع بشري . لكن يبدو أنه يفوق عند البعض من مسؤولينا كل التقديرات، ويتعدى كل الحدود المسموحة بها إلى حد تحوّل من كونه أحد وسائل استتباب الحياة، إلى إله معبود -يعسر التعامل معه وتوظيفه ايجابيا كنعمة وحق مشروع، يفترض التمتع به وتقاسمه مع الآخرين بالقدر المتاح، والإمكانية المعقولة والتي تفرضها العدالة والمساوة والحكامة- يبالغ الكثيرون في عبادته وتمجيده وكنزه، فيتحول إلى قيد أعمى وسلاسل خانقة معرقلة لكل سبل التنمية، تنيقلب معها موازين الحياة، ومكاييل المنطق، ومقاييس الضمير، ويتم تغليف القيم والأخلاق الإنسانية بما يتناسب والطمع الذي جبل عليه هذه العينة من الإنسان، الذي يبالغ في عبادة المال بادخاره وكنزه وحبسه في الصناديق، إلى درجة أكل الإنسان أخاه بمسميّات مختلفة وذرائع زئبقيّة مقنعا نفسه بأنّ ما يفعله حنكة وحذاقة لا يتقنها الكثيرون، فينتفي بذلك الصدق، وتموت روح الصفاء، وتختنق المودة، وتحل الحسابات القائمة على المصالح المادية المجرّدة من العواطف حتى بين كلفوا بتدبير شأنهم ، لأن للمال قدرة خطيرة على استيطان مراكز التفكير والوعي واللاوعي، واختراق العقل وتجميد القلب والحس الإنساني الصافي، وتغييب الضمير والمنطق، وتحويل الإنسان إلى ما يشبه الروبوهات المتطورة التي لا تخرج عن المسارات المحددة والخطوات المطلوبة منها، فتعمل بكل طاقاتها وقدراتها المكرّسة والمسخرّة لخدمة سيد واحد لا شريك له، هو المال..

وذلك لأن تضخم المال وانتفخ ، ازداد الطمع وفتح المرء ذراعيه للمزيد من الأملاك والأراضي والعقارات والأرصدة المعلنة منها والسرية، وسقطت عنده كل الحسابات إلا المادية، لأنّ المادة حين تطغى على نسق وأسلوب الحياة ومنهجية التفكير وترتيب الأولويات، تجمّد دفء العلاقات الإنسانية، وتقتل فيها الصدق والعفوية و روح الصفاء .

وفي هذا الغمار الإنشغال بخدمة السيد السائد، يهمل الإنسان كل شيء حتى وطنه ويتركه يتجرّع الجوع والحرمان، بل إن هذا العبد المملوك للمال ينسى أن ينظر لنفسه فيأكل أيامه مجترّا متطلعا المزيد،.

وقد يفقد عبد المال السيطرة أو التحكم في أفكاره وتصرفاته التي لا تصب إلا في مجرى واحد ووحيد هو جمع المزيد وتحصيل ما أمكن حتى لو سرق خبز الآخرين تحت مسميّات اجتماعية أو فكرية أو سياسية...لا يهم المسمى المهم النتيجة، فهو يتمسك بما يتناسب وشهيته التي لا تعرف الشبع أو التخمة، ومقدار طمعه الذي تعدى حدود الشرع والضمير والعدالة والمساواة، فيحلل ما شاء، ويحرّم ما جاء متعارضا مع هدفه، ويسنّ القوانين التي يؤيد سلوكه، ولا يهمه أن يتجرّع الآخرون مرارة الألم والجوع والإحساس بالغبن مادامت خزائنه قد امتلأت ... هناك في بلادنا الكثير من هذا الصنف المتنفذين من الناس نشأوا نشأة عادية، وعاشوا حياة أقل من عادية إلى أن ابتسم لهم الحظ فصاروا أثرى الأثرياء، يسكنون القصور ويقضون أجازاتهم في المنتجعات السويسرية والشواطئ الباريسية ويتوسدون ريش النعام ويلتحفون بالحرير والديباج وينعمون بخيرات البلاد بلا خوف أو وجل..

فهل يجرم الشعب عندما يطالب بإلغاء كل أنواع الريع وعلى رأسه معاشات الوزراء والبرلمانيين، وهل يحلم المواطن المقهور حينما يطالب بالتدقيق في أملاك بعض هؤلاء الذين تمرغوا في ثروات البلاد بعد أن كانوا معدمين. أم أنه يهلوس عندما طالب بإعادة بعض من تلك الأموال المختلسة لحياض المال العام؟!

سؤال نوجهه للجهات الرقابية والإصلاحية في البلاد التي ستظل يدها مغلولة عن محاسبة هؤلاء وغيرهم في غياب تشريع »من أين لك هذا؟« الذي لم يطرح بجدية بعد، رغم أهميته والحاجة إليه.

 

حميد طولست

في المثقف اليوم