أقلام حرة

تالي العمر محطات

mohamad aldahabiالفلوجة كانت محطته الاخيرة، بشيبته الكريمة، ظن العم غانم انه سيرتاح في نهاية العمر، لكنه نسي انه يحيا في بلد منذ فجر التاريخ وهو يقاتل، مدن تغزو احداها الاخرى، وملوك يسيطر بعضهم على بعض، ولم يكن محسوبا لدى العم الذي تجاوز السبعين ان هذه الاطلاقة ستنهي حياته، كان يظن انها ستحترم شيبته وتوقر سنه، حملوه الى الخلفيات حيث مكان تجمع الشهداء، هناك ينتظر الله ليربت على اكتافهم، ويبكيهم واحدا تلو الآخر، الجميع شباب ماعدا العم غانم بلحيته البيضاء الكثة، وضعوه في آخر الطابور، انه كبير السن، البكاء والنواح يليق بالشباب، (شباب يردون الهوه والموت ماخلاهم)، نعم لكنني كنت مختلفا هذه المرة، بكيت العجوز بحرقة كبيرة، وكأنني ارى ابي مضمخا بدمائه، كان منظرا يدهش الكثيرين، هذه الشيبة المضمخة بالدماء كانت مدعاة للتساؤل، غالبا ماتكون موقرة، ومحترمة في البيوت، فقد ادت ماعليها من عراك مع الحياة، لكن ان يكون الشهيد تجاوز السبعين، فهذا امر محزن، تركت الشباب وجلست قربه، وعلمت انه لا بواكي له، فبكيت وكأنني مفجوع بعزيز، طالما يرتبط الشباب بعلاقات  متينة فيما بينهم، لكن كبار السن صعب ان يندمجوا في مجتمع جله من الشباب، فلكل سن قضاياها واهتماماتها، ولذا كان الرجل بعيدا، لايريد ان يسبب احراجا لاي احد، اغلب الاوقات كان يصلي، وحين يأتي الواجب يخف اليه مسرعا وكأنه ابن اربع عشرة سنة.

يقفز من صخرة الى اخرى ويهرول حاله حال المقاتلين الآخرين، اضف الى ذلك فهو يمتلك خبرة كبيرة، خصوصا في حرب العصابات، كان يعتبر فلسطين قضية العراقيين قبل العرب الآخرين، ولذا تسلل الى التطوع، وعاد ببدلة الصاعقة المزركشة بخطوطها البيضاء والحمراء والخضراء، كان يعرف داعش متى ينشطون، ومتى يهدأون، فكان الواجب مقدسا لدى العم غانم، يخرج سكائره ويروح في عالم آخر مع قدح الشاي، وداعتك عمي ، عمري كلشي ماشفت منه، بس جاي وجكاره، ما ان يستغرق في حكاياه حتى يتذكر وقت الصلاة، فيخف مسرعا، كان يحمل مجموعة من ترب الصلاة، باحجام شتى، انها تربة الشهيد ابن الشهيد، وعلينا ان نتخذها قبلة لنا، الحسين خط احمر لدى العم غانم، يتساهل مع الجميع بما فيهم الله، لكنه حين يصل الى الحسين تنز عيناه دمعتين، ويصرخ بصوت عال: ياحسين، طالما شاهدته وهو يجندل الدواعش، ليعقبها بصرخة تهز الكون: ياحسين، سألته مرة، قلت له: لو ادركت الحسين في كربلاء، ماذا كنت ستفعل، فكان يتحسر ويقول: ماعندي حظ، لو عدي حظ جا متت وياه، بس ياعمي وداعتك، كون هسه تنعاد كربله، وانه موش ابسيف، كون ابهاي البيكي سي، جا حركت لشة ابو يزيد، يضحك بعدها ويغادر دموعه، ومن ثم يستخرج سكائره، ليبدأ باشعالها واحدة تلو الاخرى، وداعتك قررت استشهد، كان ممددا بغترته الخضراء، وآثار الاطلاقات على صدره، كأنه بطل اسطوري او نبي من الانبياء قتل في حضرة الله، فاقسم الرب بالانتقام له، وسينتقم قري

 

محمد الذهبي

 

في المثقف اليوم