أقلام حرة

مهدي الصافي: العراة على سواحل الاهوار

mahdi alsafiفي احدى زيارات الطاغية صدام لاحد المستشفيات العراقية نظر بغضب (وهو صاحب مقولة الخائن اعرفه من عيونه) الى مدير المستشفى، والاخير يشرح طبيعة العمل والادارة والانجاز ويكرر بين عباراته كلمة استاذ .. قال له صدام استاذ لو سيدك .. رد الدكتور استاذ وسيدي لكن درج عرف الزيارات على ان يرتدي الزائر المسؤول او اي زائر مهم البدلة البيضاء فينادى بأستاذ ....

هكذا هي ثقافة المجتمعات المسلوبة الارادة، لاتنتج اجيالا متحررة من اثار طرق العبودية واستلاب الشخصية، تبقى اسيرة لكل شيء تدخل في بناء شخصيتها، العرف، العادات، التقاليد، ثقافة الاسرة، الدين، والطائفة الخ.

ليس اعتباطا او عبثا ان يسمي رجال الدين الناس بالعوام او العامة، وفي مجالسهم عندما يدور حديث معين ويأتي ذكر العوام يذكرونهم وكأنهم مروا على اقوام ماقبل الحضارة والاسلام، لديهم القدرة على ان يتحكموا بمفاتيح حياة البشر وارزاقهم ونمط عيشهم، هذه الظاهرة رافقت الاديان منذ مجيئها، وهي الظاهرة التي عملت على كسر ارادة المجتمعات والشعوب والافراد تجاه فساد وظلم واستبداد الانظمة الحاكمة، لقد كان معظم رجال الدين اصدقاء دائمين للسلطة والمال، وبما ان الاديان تفتح ابواب التأويل والتفسير دون رقيب عدا الضمير والاخلاق والعقل، تصبح عملية التلاعب بالنصوص المقدسة امرا متاحا شرعيا، ولهذا تجد ان ثقافة المجتمعات متغيرة بشكل مستمر ومتذبذبة صعودا وهبوطا، وعندما يخرج الانسان من اقفاص الموروثات، ويفك سلاسل الاسر المقدس، ينطلق بلهفة الطفل نحو الحياة، فيكتشف متأخرا انه اضاع اجمل سني عمره في تفاهات واكاذيب وخدع بدائية، كان يمكنه تجنبها، لو تحرر قليلا من عقد الاثار السلبية للبيئات الملوثة بالتخلف، التي حجبت عنه رؤية جمال الحياة وروعتها، وسيرى في الحضارات المدنية ان الله سبحانه وتعالى اراد له حياة اخرى غير تلك التي دأب على سماعه من جال الدين، الحقائق المزيفة ليست نفسها الموجود في الكتب المقدسة او في كل ماموجود في الكون من حوله، وعندما تتمعن في الايات القرانية تجد ان الله سبحانه وتعالى قد وضع امام الانسان كل صور الكون وجمال الطبيعة، تحت اعين الانسان وعقله وحواسه ليفكر مليا بين الخير والشر او بين الايمان والكفر، فقريش لم تقل عن كلام الله شعرا الا بعد ان لاحظت التقارب بين الصور الشعرية وبين الصور القرانية (ولم تفكر في المضمون او قداسة الصور الالهية للكون)، ولكنهم عرفوا بعدها بالطبع الفارق بين الكلام المقدس والكلام الشعري العادي، فقالوا عنه هذا كلام ساحر، لكنهم في الوهلة الاولى عندما قالوا عن القران شعرا لانهم لايملكون نصوصا تراثية رائعة الطرح والتكوين والتقديس غير الشعر، فوجدوا فيه وصفا للكون والطبيعة والحياة، هذا يأخذنا الى مجموعة مفاهيم ارسلها وثبتها الاسلام للناس غير مفاهيم الحلال والحرام والحدود فقط (الخ.)، لكن التداخل بين الدين والدولة او رجال الدين والحاكم هو الاسفين الذي كسر ظهر المجتمعات والشعوب على مر الازمنة والعصور، وانتج للبشرية ثقافات متطرفة ودموية اخرها كان الارهاب الوهابي الداعشي المتوحش، المفاهيم الالهية التي جاء بها القران هي الحياة الحرة الكريمة، والتنظيم الكوني للطبيعة والخلق وحركتهما، الذي اخذت الشرائع السماوية جزءا منه.

بعد ان غمرت السعادة قلوب القصب والبردي بضم اثار الجنوب السومري واهواره الى قائمة التراث العالمي، وهي فرحة لازالت مجرد بسمة على شفاه ذابلة ليس لها اية ضمانات ان تستمراو تتكرر، علها تعوض اهالي تلك المناطق شيئا عن معاناة عقود من الفقر والظلم وعذاب البيئة والانظمة الجائرة، خرجت لهم الاصوات الحاقدة او المتخلفة لتنغص عليهم تلك الفرحة، محذرة من خطر الحضارة التي قد تجلبها السياحة لهم، وكأنهم شركاء في الفكر او النهج المتقارب مع نهج الحركات التكفيرية التي ضربت السياحة في مصر وتونس وبعض الدول الاخرى، هذه الاصوات ما كان لها ان تتدخل لولا وجود حواضن متخلفة لها، لاتريد ان تشغل عقولها في ميدان المعرفة والتعلم، سواء المعرفة الدينية او الدينوية، والا فمقولة اتركها براس عالم تطلع سالم (ذبها براس عالم تطلع منها سالم) لم تأتي من فراغ، بل جاءت من اخطر المؤسسات التي تعتاش على تعب الاخرين، لبعض المؤسسات الدينية المقدسة رسميا وشعبيا (والتي لاتقتصر على الاسلام فقط بل موجودة في الديانة المسيحية واليهودية وبقية الاديان الارضية الاخرى)، يريدون اغلاق ابواب الحياة على الفقراء والبسطاء، هؤلاء الذين لايكترثون لرداءة الخدمات الصحية لان علاجهم سيكون عند الشيخ او السيد بوصفات ادعية مختلفة، لكن عندما يمرض هؤلاء الدجالون لايأخذون بوصفاتهم وانما يبحثون عن ارقى المستشفيات في العالم للعلاج، على الرغم من ان الايمان بالله في شفاء المرضى لامفر منه، وهي حقيقة مقدسة معروفة للجميع، فأن الله سبحانه وتعالى لم يهدي بعض العلماء في العالم لاسيما في اوربا وامريكا لانتاج العقاقير والاجهزة الطبية لعلاج المرضى اعتباطا، وانما جزء اساسي من غاية الخلق ووجود الكون وهو عمل الخير ما استطعت الى ذلك سبيلا.

الاهوار ليست شاطئ بحري او نهري حتى يخافها رجال الدين، فالسياح من النساء لن يستهويهن التعري فيها للسباحة، ففي العالم سواحل وجزر ومناظر خلابة اجمل من الاهوار بمئات المرات، لكن العالم السياحي يبحث في الشرق عن الاصالة والتاريخ والموروثات الشعبية القديمة، في الشرق لايبحثون عن المدن المتحضرة المليئة بناطحات السحاب والابراج والاسواق الجميلة، انما عن البساطة والتراث والفنون والحياة الشعبية المتواضعة، لايريد السياح ان يصادروا ثقافات ومعتقدات وبيئات وموروثات المجتمعات، بل زيادة في المعرفة وحب الاكتشاف والتعلم والتمتع بالوجه الاخر لحياة الشعوب وطبائعها....

ليس من حق احد ان يصادر او يحارب عقول وحريات وتفكير البشربأسم الدين، او ان يكون وصيا مقدسا على حركة المجتمعات واخلاقياتها، ولهذا لايجوز ان يتعدى حدود رجل الدين في الحياة الاجتماعية الحدود المسموح بها التي وضحها الله سبحانه وتعالى في الاديان المقدسة، فالاخلاق مفهوم اوسع واشمل واكبر من الاديان، لانها حتما ستقود المجتمع لفهم صاف ونقي لرسالة الاديان واهدافها، الاثارة التي اطلقها احدهم عن مخاوفه من انتشار السياحة في الاهوار، ليست عبارة او خطابا فرديا انما هو خطاب وفقه منحرف دأب على ترويجه ونشره اغلب الحركات الاسلامية المعاصرة (السنية والشيعية)، وهي بالطبع نفس نظرة المدارس الدينية النفعية، والغريب ان التجارب ونتائجها بعد اكثر من اربعة عشر قرنا على بزوغ فجر الاسلام تعطي صورة واقعية واضحة لاغبار عليها عن الفشل الفضيع والمخيف للفكر الاسلامي الحركي او الرسمي المعاصر، توارث هذا الفكر نظرية الاستبداد الديني بعد وفاة النبي محمد ص، ظهرت عبر اساليب عنيفة لاتعطي اي حق للاعتراض نفذت عبر سلسلة من المجازر والتعزير وتحجيم للعقل والمنطق وقمع الرافضين لتلك الانحرافات، حيث خرجت فرق اسلامية متعددة لمواجهة المد الاسلامي المتطرف الذي بدأه الخليفة الاول ابو بكر، لكنها لم تنجح في ايقاف النهج التكفيري والاقصائي المتحجر، فكانت داعش التي اختصرت كل شيء خرج منحرفا عن الاسلام المحمدي الاصيل، كل هذا وماكينة التشدد الديني تعمل في كل الاتجهات وتشمل كل الاديان والطوائف، في رحلة عالمية مجنونة ترافق النظام العالمي الجديد لتوريط اكبر عدد ممكن من الانظمة والمجتمعات في دوامتها الواسعة...

اذا اردنا ان نتخلص من قيود الجهل والتخلف علينا ان نتبع اساليب وطرق الحضارات القديمية في اكتساب المعرفة، عبر الانفتاح الكامل على الحضارات وتجارب الشعوب المدنية الحديثة، وليس بعيدا علينا رؤية التقهقر التركي بعد فشل الانقلاب التركي الغامض على يد الاسلام الاخواني الاردوغاني المتطرف، الذي انكفأ بعيدا عن الحضارة الاوربية وهو الاقرب اليها جغرافيا وبحريا، لاسباب متوارثة تعيشها اغلب الدول الاسلامية العاجزة عن فهم الاسلام الحقيقي، والذي حطم التجربة العراقية الحديثة العهد بالديمقراطية بعد٢٠٠٣، حيث سلم الشعب ثرواته وبلده ومصيره ومستقبله للحركات الاسلامية الانتهازية، ظنا منه انها اكثر الحركات السياسية امانة وصدقا وزهدا بالحكم، فبان العكس وانكشفت النوايا والغايات والسرقات، وانطلقت اصوات الاحتجاج والاعتراض الشعبي، ولكن بعد خراب العراق، وبعد ان ضيع الشعب عقدا من عمره في سراب المسيرة الفاشلة نحو الاستقرار والتمتع بثرواته الطبيعية...

هناك فرق شاسع بين علماء الدين الاجتماعيين الفقهاء وبين المرتزقة، او من يستخدم الدين وسيلة للارتزاق، هؤلاء كانوا ولايزالون يجاهدون بأخلاص من اجل انقاذ الشعوب الاسلامية من فخ التشدد والتطرف واكاذيب الادعياء، ففي المذاهب السنية والشيعية ( وحتى في الديانات الاخرى اليهودية والمسيحية) هناك كوكبة من علماء الضمير الانساني الديني قدمت حياتها ثمنا لحماية الشعوب من الوقوع في شراك اعداءهم، ومن اجل حماية المجتمعات من الانخراط في لعبة الثقافات والطرق الحياتية الرديئة، والاساليب الهابطة الملتوية المقنعة المغلفة بقشور المدنية (الاداب والفنون والاعلام الهابط)، ولكن تبقى ضمن اطار الحدود المتناغمة مع روح العصر.

المعرفة والعمل على بناء ثقافة عصرية تستمد مبادئها واسسها من المقدس الحقيقي، ومن كل النتاجات البشرية الصالحة التي مرت عبر التاريخ، وبالتخلص تماما عن فكرة الخضوع لعملية كسر الارادة والتنازل الادمي عن الشخصية المحترمة للانسان من اي طرف او جهة كانت رسمية او دينية او حتى اجتماعية، وان تبتعد المجتمعات عن النفاق والتصنع والازدواجية، وعن الدجال والدجالين، تماما كما فعل الاوربيين بانتقالتهم الذكية نحو الثقافة العلمانية المتحضرة، هكذا هي طرق بناء الحياة الهادئة الامنة المستقرة، كما ارادها الله سبحانه وتعالى، من ان تصبح جنة ممتعة للبشر لكن بشروط ليست صعبة ان ابتعدت عن الدخلاء ادعياء الوكالة الالهية، عندها سوف لن يتعرى احد على مراسي الاهوار الطيبة...

 

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم