أقلام حرة

بكر السباتين: ما بين الملك الحسن الثاني وإصبع أبو العبد والتنين!.. قصة أكبر هزيمة شهدها العرب عام 67

bakir sabatinتبدأ الحكاية عندما قطع الجزار أبو العبد إصبعه من غير انتباه، أثناء استماعه إلى خبر هزيمة الجيوش العربية في يونيو حزبران 2016 بما يسمى النكسة.. كان هذا البائس يحلم بفلسطين محررة من نير الاحتلال ليباغته الخبر الأليم كالصاعقة، فيلتهم الاحتلال الغاشم كرامة العرب وينطلق معربداً بالنصر في عموم فلسطين وبعض أجزاء من الدول العربية المجاورة، فيتحول في غضون ستة أيام إلى الجيش الذي لا يقهر.

فماذا جرى ل أبو العبد!؟

حمل المسكين إصبعه وطاف البلاد يستجدي النجدة طارقاً لأجل ذلك كل باب.. فالمراكز الصحية وعيادات الطوارئ والمشايخ الذين يلعن الجن دجلهم وشعوذتهم، فلم يجد إلا عقولاً ألجمتها الهزيمة، في إحدى مدن الضفة الغربية حيث كان يقيم، إذ تحولت فيها العيادات والمقاهي والحوانيت والبيوت والأزقة إلى صالونات سياسية تدور فيها حوارات متشنجة غير مصدقة الخبر الذي أخرجهم عن طورهم وتركهم يتخبطون في مصيرهم المجهول، فيترنحون سكارى وما هم بذلك، كأن مجالسهم سرادق عزاء، أو خمارات متوارية تترنح على ضوْئها الخافت أسئلة هائمة لم تلق جواباً، بينما المذيع الأشهر في إذاعة صوت العرب، أحمد سعيد، يقدم للشعوب العربية مخدرات التسكين في زوايا الخوف للهروب من العار.

كيف تهزم الجيوش العربية في ستة أيام يا عرب!؟ وماذا عن القمة العربية المنصرمة التي خرجت ببيانات صادحة لتشد من أزر الأمة، وتتوعد العدو في عقر داره! هل يصدق أبو العبد تلك الوعود العربية المقطوعة، أثناء مجريات القتال الدائر بين الجيوش العربية الجرارة وهذا الكائن الطفيلي المسمى ب"إسرائيل" بعدما ألقمت الأغمادُ بالسيوفِ المهزومة، وأغلقت فوهات المدافع غير المشحمة على قذائف العزة والكرامة، كأنها وعود عادت منكسرة إلى بين النار تاركة للعرب هشيم الإرادة والإحاطات التي أنهكت العقول!.

المذيع أحمد سعيد بدوره، من خلال إذاعة "صوت العرب" كان يتفنن بوصف انتصارات الجيش المصري في جبهات القتال في الوقت الذي احتل فيه العدو الإسرائيلي سيناء متجاوزاً قناة السويس، التي تحول لونُ مياهِها الأسيرةِ في غضون بضعة أيام إلى حمرة الخزي والخجل، وطعمُها إلى ملوحة دموع الجماهير العربية المغبونة! وذاك ما جرى لنهر الأردن وهو يودع أراضيه الشرقية بعدما سلبت ضفته الغربية، وانسلخ الجولان السوري عن سوريا!! ثم أعلنت الهزيمة النكراء، نكسة فلسطين.

فهل سيصدق أبو العبد بعد هذه النتيجة المباغتة؛ بأن الجيش الإسرائيلي خارق بحد ذاته، كما أشيع عنه، لترتجف القلوب العربية الواجفة على وقع ذلك، خوفاً من هول هذا التنين المتربص بالعرب! ليخرج جيل محبط من المثقفين العرب تواروا خلف حجب من الخوف في بهيم النكسة التي زودت العقل العربي بطاقة سلبية حولتهم إلى سحّيجة، فيمشي الواحدُ منهم بجانب الحائط ناشداً السترة.. ومن يومها توالت التنازلات ليصل بنا الحال إلى زمن أصبح فيه الكيان الإسرائيلي المحتل حليفاً لعرب الاعتدال، وأبو العبد لاجئاً غير مرغوب فيه بالمنافي التي ضيقها عليه القريب والبعيد!

فكيف حدث كل ذلك بينما التقديرات كانت حينها حسب مقررات تلك القمة الملغزة، تتجه نحو تحرير فلسطين، واستعادة ما تم احتلاله منها، مثلما شهد أثيرنا العربي آنذاك موجات إخبارية توعدت بالنصر المؤكد، كما قرأ بياناته بصوته المؤثر، أحمد سعيد من خلال صوت العرب، ليشفي الغليل بوعود ناصرية لخصت الموقف العربي المعلن من الخليج العربي حتى المحيط الأطلسي.

نعم المحيط الأطلسي، حيث كان ملك المغرب الحسن الثاني مبتهجا إثر الهزيمة النكراء، وقلبه ممتلئاً بالغبطة والسرور، كمن ظفر بهدية كان يسعى إليها منذ زمن بعيد، خلافاً للحزن الذي كان سائداً في عموم الوطن العربي وقد نكست راياته، فيتنفس أمير المؤمنين (كما كان يحب أن يلقب) هواء الأطلسي متنعماً بما لذ وطاب من أسماك الساردين والتونة الشهيرة هناك، غير آبه بأمثال أسرة أبو العبد الذي نزح بأسرته مع مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى المنافي بعد التنكيل بهم من قبل الجيش الإسرائيلي المحتل.. وفي جلسات الملك المغربي مع حاشيته جعلت الخمر تندلق في بطونهم احتفاءً بنصر من نوع آخر، مستذكراً في سياق الاحتفال وقائع آخر مؤتمر عقدته جامعة الدول العربية في القاهرة قبل نكسة يونيو حزيران بعامين .

فما سر هذا الاحتفال غير المألوف بينما الدم العربي المراق وكرامة الأمة المهدورة يراقان مجاناً في هزيمة خرج منها الذئب كأنه تنينٌ لا يقهر!!

مصادر الإجابة عن السؤال هذه المرة صهيونية كدأبها في هزيمة الثامنة والأربعين، لأن المنتصر هو الذي يميط اللثام عن الحقيقة في سياق كتابته للتاريخ.

الرقابة العسكريّة الإسرائيليّة سمحت مؤخراً بنشر التفاصيل الكاملة عن العلاقات السريّة بين جهاز المخابرات الإسرائيلية ” الموساد ” والحسن الثاني ملك المغرب، التي بدأت في أوائل الستينيات من القرن الماضي، على خلفية طلب الحسن الثاني من إسرائيل تقديم المساعدة له في تصفية المناضل المغربي الشهيد “المهدي بن بركة” الذي كان أكبر معارض اشتراكي للملك الحسن الثاني وزعيم حركة العالم الثالث والوحدة الأفريقية، والذي كان يشكل الخطر الأكبر على العرش الملكي، وبينما هو في باريس تم اختطافه من جهة مجهولة، وإلى الآن تنتظر عائلته خبراً عنه أو حتى معرفة أين دفن المغدور ومن قام بنفيه إلى الأبد عن الوجود!

وحسب مصادر رسمية مغربية فإن الملك محمد السادس ابلغ المعنيين آنذاك (بعد قيامه بخلط الأوراق) بأنه لا يعرف شيئا عن ملف بن بركة، وانه يسمح بالذهاب بعيدا في البحث عن الحقيقة، لتأتي هذه المرة منشورة على صفحات الجريدة الإسرائيلية "يديعوت أحرونوت"كما جاء في رأي اليوم، حيث بدأت الحديث في ذلك عن أجواء مؤتمر القمة العربية المنعقدة بتاريخ 13 سبتمبر1965، التي سبقت حرب يونيو حزيران بعامين تقريباً حيث خصص للملك الحسن الثاني جناحٍا كاملا من الفندق الذي احتضن أشغال القمّة العربيّة ليتمكن بسهولة من توثيق وقائع المؤتمر، الذي كان مغلقًا في قسمه المُهّم.

المعلومات التي حصل عليها “الموساد” خلال تجسسه من خلال الملك المغربي على القمة العربية، كانت بالنسبة للكيان الإسرائيلي بمثابة "اكبر كنز استراتيجي" كما قال الجنرال “شلومو غازيت” رئيس شعبة الاستخبارات العسكريّة الإسرائيلية "أمان"، حيث تمكنوا بواسطتها من هزيمة الجيوش العربية في حرب 1967، ولكن أيضا في تعميق الخلافات وتوسيع الهوة بين الأشقاء لإفشال رهان الوحدة العربية.

وبفضل التسجيلات التي قدمها الملك المغربي (قبل أن يلبس قناع لجنة القدس عام 75) ، تبينّ للمُخابرات الإسرائيليّة أنّ الجيوش العربيّة, ليست جاهزةً لخوض حربٍ ضدّ "إسرائيل"، و أنّ سلاح المدرعات المصريّ في حالةٍ مُزريةٍ للغاية، وليس مُستعدًا للقتال.

ففي حديث ل الجنرال “شلومو غازيت” مع صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية الخميس 13 أكتوبر 2016, قال انه بعد انتهاء المؤتمر، حصل "الموساد" الإسرائيليّ على جميع المعلومات والوثائق والمستندات والخطابات التي أُلقيت في المؤتمر, ولفت في سياق حديثه إلى أنّ القضية الأكثر خطورةً، والتي كُشف النقاب عنها، كانت تتعلّق باستعدادات الجيوش العربيّة لمحاربة "إسرائيل".

وأضاف أنه عندما حصلوا على الوثائق تبينّ لهم بأنّ جميع قادة الجيوش العربيّة أكّدوا خلال إلقائهم لكلماتهم في المؤتمر على أنّ الجيوش العربيّة ما زالت بعيدة عن أنْ تكون جاهزةً ومُستعدّةً لخوض الحرب ضدّ إسرائيل.

وشدّدّ في سياق حديثه على أنّ هذه المعلومات، كانت بالنسبة ل"إسرائيل" أكبر كنز إستراتيجيّ، حيث قام الموساد، الذي يتبع مباشرةً لديوان رئيس الوزراء، بتزويد المستوى السياسيّ بالمعلومات القيّمة عن عدم استعداد الجيوش العربيّة للمُواجهة العسكريّة.

ولفت الجنرال "غازيت" إلى أن تحليل التسجيلات أكّد لصنّاع القرار في "تل أبيب"، على أنّ الأحاديث العربيّة عن مشروع الوحدة، ما هي إلّا ثرثرة، لا أكثر ولا أقّل، وأنّه لا يوجد بين الدول العربيّة موقفًا موحدًا ضدّ إسرائيل.

أبو العبد لا يعرف "غازيت"، لكنه يعلم بأن ملك المغرب الحسن الثاني هو الذي شكل وترأس لجنة القدس المنبثقة عن مؤتمر العالم الإسلامي عام 1975 ، بل وظل حاملاً لملفها، حتى جاء من يكشف ل أبو العبد تفاصيل ما نشر في الجريدة الإسرائيلية حول صفقة الملك المغربي مع الموساد الإسرائيلي.

وأدرك أبو العبد متأخراً بأن عملاء الموساد هم من قضموا إصبعه متسببين بنكسة فلسطين فأصابته الخيبة وأسكتت قلبه عن البوح، كانوا خونة يتغنون بفلسطين كدأبهم اليوم، بينما هم يقضمون من الأرض المحتلة قطعة لقاء كلِّ صفقة تطبيعية قذرة مع الكيان الصهيوني المحتل لفلسطين.. لكنها في نهاية المطاف لم تنتزع الأحلام بالتحرير من ضمير أبو العبد حتى وهو مُدَنَّفُ يعاني سكرات الموت.. بعد أن استودعها جيل أحفاده الذين نضجوا قبل الأوان.. ففهموا سرَّ ما بين الملك الحسن الثاني وإصبع جدهم أبو العبد والتنين المصاب بفوبيا المقاومة، والذي يستمد اليوم قوته من سياسات عرب الاعتدال التطبيعية معه، بعدما توقفوا على تفاصيل أسرار قصة أكبر هزيمة شهدها العرب ، إنها نكسة فلسطين الجارحة للكرامة العربية بكل ما فيها من مهازل يندى لها الجبين.

 

 

في المثقف اليوم