أقلام حرة

في إيران.. ثورة اسلامية ضد الثورة الاسلامية

فيحاول كل منهما أن يؤكد إلتزامه بالثوابت الخمينية الى أعلى درجة ممكنة، وهما في ذلك لا يجانبان الواقع والتاريخ، وهذا ما يجعل المواجهة بينهما متكافئة، إنها حرب الوجوه الثورية، في بلد عرف سياسيوه بالعناد والنفس الطويل.. وعرف شعبه بقوة الاستجابة وسرعة الحضور في الشارع.. معادلات تجعل الراهن الإيراني في غاية التعقيد، وتعطي تصوراً سريعاً لدى المتابع، أن الأحداث لا يمكن أن تهدأ بسهولة. وما يدعم هذا التصور، أن تاريخ إيران منذ أكثر من قرن، يسير على هذه الشاكلة دون تغيير، لدرجة يصعب فيها فصل مراحله عن بعضها البعض، وكأنها حلقات متصلة تقود الواحد للأخرى في تتابع منتظم من الأحداث والمواقف. فعندما تتفجر حركة المعارضة، فان القطيعة تحدث فوراً بين الحكومة وبين زعماء المعارضة، ثم سرعان ما يستجيب الشارع ليمتلاً بالمتظاهرين الذين يتوارثون جينات التحدي.

 

رؤيتان وهدفان

لا يوجد بين الاصلاحيين والمحافظين نقطة مشتركة بعد الذي حدث، فحالياً يتجه كل طرف الى تحقيق هدفه، ومما يزيد حدة الأزمة، أن هدف كل واحد منهما لم يعد قابلاً للتجزئة، فالاصلاحيون يريدون إعادة صياغة صلاحيات الولي الفقيه، بحيث يتحول الى سلطة شبه رمزية وهذا يعني لا وجود للتيار المحافظ في إيران بعد الإصلاح. والمحافظون يريدون إبقاء المنصب كما هو بسلطاته الواسعة وقدسيته العالية، وهذا يعني لا وجود للتيار الإصلاحي في إيران المحافظة. إنها بعبارة واحدة معركة الهدف الكامل بين خصمين قويين يتشبت كل منهما بقناعته ويتعامل مع هدفه على انه مؤلف من كلمة واحدة ليس لها مرادف.

واذا كانت الأهداف بهذا المستوى من الصرامة، فان الرؤى بينهما حادة أيضاً، فالمحافظون يرون أن الحل الوحيد للأزمة ينحصر في تجميد حركة المعارضة، ومنع أنصارها من التواجد في الشوارع، وعند ذلك تذوب تدريجياً وينتهي أمرها الى النسيان، معتمدين على قوة الأجهزة الأمنية وقدرتها في التعامل مع الحالات الطارئة، اضافة الى ولاء كبار القادة الأمنيين للمرشد الأعلى، ويبدو أنهم وضعوا الإستخدام الفعال للقوة كخيار أول فيما لو تفاقمت الأوضاع أكثر مما حدث حتى الآن.

أما الإصلاحيون فأنهم صمموا معارضتهم على أساس أنها مصيرية قبل أن يشتركوا بالانتخابات الرئاسية في حزيران الماضي، وكانت ساعة الصفر بالنسبة لهم، موعد الإعلان عن النتائج وإطلاق تهمة التزوير في حال عدم فوزهم، بل أن معطيات الساحة كانت تشير الى أن احتمال فوزهم ضعيف، مما يعزز الإتجاه القائل بأنهم صاغوا وخططوا ووزعوا الأدوار وأنتهوا الى قرار لا رجعة عنه وهو إعلان المعارضة بعد نشر النتائج مباشرة، بمعنى أن معارضتهم للرئيس أحمدي نجاد، هو شعار معلن، يخفي خلفه هدفهم في إجراء تعديلات أساسية على منصب الولي الفقيه.

 

التراجع يعني الإنهيار

النقطة الحرجة في مسار الحدث الايراني، أن كل طرف من الخصمين، اصبح على قناعة تامة، بأن التراجع خطوة واحدة الى الوراء، يعني المزيد من التدهور ومن ثم النهاية المحتومة، وهذا ما يجعلهما يقبضان على الجمر وهما يخوضان معركة الحاضر للحفاظ على المستقبل.

إن الذي يتراجع اليوم عليه أن يترك السياسة حتى آخر العمر، أو يجد له مهجراً مناسباً يطلق منه التصريحات ليتذكره أنصاره دون ان يترتب عليها أثر. هذه قناعة تستقر في عمق التفكير السياسي لزعماء الطرفين. وعلى ضوئها يجري صياغة المواقف. فبعد ما حدث لم يعد هناك فرق بين الموت السياسي وبين الموت على الفراش أو بحبل المشنقة أو في زنزانة المؤبد.

والذي يدعم هذه الرؤية أن الاقطاب المتصارعة اليوم هم رجالات الخميني الذي قاد الثورة الاسلامية بمنهج واحد هو عدم التوقف حتى بلوغ نقطة النهاية، ورفض وقتها كل الخيارات والمساومات، وقد تركزت هذه القناعة في نفوس رجاله الى حد كبير، وصار منهجهم في المواجهة الحالية مع بعضهم البعض، فكل طرف يتعامل مع ما يجري بروحية أيام زمان، وتملأه الثقة بأن الثبات هو الذي سيقودهم الى النصر المنشود.

لا تغيير حتى النهاية

 

المحافظون أزاحوا بايديهم وعن قناعة ثابتة، كل خيارات التفاوض فيما لو اقتربت من ولاية الفقيه، فهم يتمسكون بها بكل قواهم، يريدونها أن تبقى كما هي بقدسيتها وصلاحيتها ونفوذها، وأي محاولة تقترب من هذه الدائرة سيواجهونها بالرفض القاطع. ومن الناحية العملية فان المرشد خامنئي لن يسمح بأي تراجع عن هذه الثوابت، لقد جهد طوال عقدين من الزمن أن يرث كل ما كان للخميني، وأن يكون هو الزعيم المطلق الذي لا ترد له كلمة، ولا تعصى له إشارة، فكيف يفرط بجهود تلك السنين، بل كيف يتراجع عنها في مواجهة معلنة مع خصومه؟. إنه يدرك جيداً أن التخلي عن بعض صلاحيته حتى لو كانت بسيطة، يعني القبول بالتخلي عن موقعه الأول في الدولة فيما بعد، فولاية الفقيه بالنسبة له منظومة غير قابلة للتجزئة والنقصان.

الإصلاحيون من جهتهم، اطلقوا صرخة التحدي، وهم يعرفون أنها صرخة عصيان وتمرد ضد الولي الفقيه، وهذا يعني أن مستقبلهم بات مرهوناً ببقائهم في موقع المعارضة، وأنهم لو تراجعوا خطوة واحدة الى الوراء، فانهم سيخسرون كل شئ.

    

تلويح بالأشد

التطور المفاجئ الذي شهدته الساحة الإيرانية بعد أحداث عاشوراء يوم الأحد الماضي، والذي شهد مواجهات دامية راح ضحيتها 37 شخصاً، تمثل في تحديد رجل الدين البارز آية الله واعظ طبسي موقفه المنتمي للمحافظين بقوة، وبذلك فقد الإصلاحيون شخصية حاولوا استمالتها سابقاً عبر جهود قام بها الشيخ رفسنجاني على مدى عدة أيام من شهر أغسطس الماضي ليكون الى جانبهم، لكن أقصى ما نجح معه، هو في إبقائه على الحياد عدة أشهر قبل أن يطلق تصريحه المدوي باعتبار المعارضين (أعداء الله) وهي تهمة تعني الحكم بالموت بحسب القوانين الايرانية.

ويدعم هذا التوجه باللجوء الى أقصى العقوبات قادة في الحرس الثوري، يدينون بالولاء للسيد خامنئي، حيث يطالبون باعتقال زعماء الاصلاحيين وتحديداً مير حسين موسوي والشيخ مهدي كروبي، وقدموا مقترحاً بالجلوس أمام منزليهما فلا يبرحاهما حتى يقودا بهما الى السجن، لكن المقترح لم يرق حتى الآن للحكومة، لأنها تجد حتى الان ان اعتقال زعماء المعارضة يزيد من شدتها.

 

صوت معتدل جديد

وسط الأزمة المتصاعدة والتي أفرزت جبهتين متحاربين، خرج رئيس مجلس الشورى الإيراني، ليشق طريقه كصوت معتدل، حيث دعا الى وجوب التمييز بين اعداء الثورة الذين تظاهروا يوم الاحد الماضي وبين المعارضة الاصلاحية. لكنه في الوقت نفسه لم يشأ الى الخروج من دائرة المحافظين عندما نادى بأهمية معاقبة أعداء الثورة الذين يسعون الى تقويض النظام الإسلامي.

كلام لاريجاني الذي جاء في خطاب ألقاه في مجلس الشورى، أراد ان يرضي به المحافظين الداعين الى استخدام الشدة، وان يستميل الإصلاحيين حين برأهم مما حصل.

من المرجح أنه لا يريد أن يقرب المسافة بين الطرفين، فهذا أمر قد فات أوانه، لكنه يحاول أن يشغل منطقة الفراغ الخالية بين الخصمين من وجود شخصية معتدلة ربما تحتاج إليها البلاد في يوم ما وهي تشهد هذه الفورات المتكررة من المواجهات.

الدكتور على لاريجاني يمتلك مواصفات شخصية تؤهله لأن يكون رجل الإعتدال في إيران، فإنتماؤه العائلي لأسرة دينية معروفة، وتاريخه النضالي وثقافته العالية ومهنيته المشهودة، كلها تجتمع لتصنع منه رمزاً معتدلاً يقف في منطقة الوسط.

لكن علينا أن ندرك أن فترة من الزمن يحتاجها رئيس مجلس الشورى حتى يفرض نفسه كشخصية وسطية، وهي مهمة تحتاج الى الكثير من الدقة والتوازن، فالكلمة في الوضع الإيراني الحساس دينياً وسياسياً قد تحرق تاريخاً بأكمله، وقد سقط سياسيون من قبل لمجرد كلمة خرجت من أفواههم دون حساب.

لاريجاني وحسبما تعطي تجربته السياسية، يتمتع بقدر غير قليل من بعد النظر، فهو يعرف متى يتقدم ومتى يتوقف، وفق رؤية متأنية دقيقة، فلقد انسحب عدة مرات من سباق المنافسة على مواقع متقدمة في السلطة، لمجرد أنه شعر بأن ذلك سيجعله في مواجهة مع خصوم أقوياء، وقد انسحب من التنافس الرئاسي رغم حصوله على دعم المرشد الأعلى السيد علي خامنئي، لأنه قرأ المستقبل بعين حذرة.

 

إنطلاقة وشيكة لرفسنجاني

معلومات خاصة تشير الى أن الشيخ هاشمي رفسنجاني، لن يستمر على صمته الذي اطبق عليه خلال الفترة السابقة، وأنه يستعد لإطلاق مبادرة جديدة تمنح الاصلاحيين قوة دفع قوية، لكن التفاصيل لا تزال مجهولة، فتحركات رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، تتسم بالسرية التامة، وهو يحاول أن يجعل مشروعه متوافراً على نقاط القوة، لكي لا يحبط، مثلما أحبطت محاولته في التوسط بين الطرفين في بدايات تفجر الأزمة.

لكن تسريبات بسيطة تحدثت عن إحتمال أن يلجأ رفسنجاني الى تشكيل منظم لكبار علماء الدين، ليكون واجهة التحرك الاصلاحي، وليحمي من خلاله رموز المعارضة، فالغطاء الديني وخصوصاً الذي يضرب أوتاده في مدينة قم، يتمتع بحماية ذاتية يصعب على الحكومة أن تنال منه.

فيما لو صدق هذه التسريبات، سيتمكن الرئيس الأسبق أن يستعيد قوته ثانية، وان يعود الى الواجهة كزعيم للتحرك المعارض، وربما كقائد لثورة إسلامية ضد الثورة الإسلامية.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1276 الاحد 03/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم