أقلام حرة

هل تتذكرون هذا الرجل!

بكر السباتين"عبد الرحمن سوار الذهب" في ذمة الله

ما خبت برحيله قناديل العدالة في زمن الجور وسطوة الفساد المتفشي والرياء.. ففي رحيله تتجلى الرسالة مهموسة في قلوب المغبونين.. بأن يرفضوا كل أشكال الطغيان.. ويبحثوا عن نماذج ما لبثت تعيش بيننا من أمثال هذا الرجل الذي فقدته الأمة العربية وتتوق إليه.

هل تتذكرون الرئيس السوداني "عبد الرحمن سوار الذهب"! الذي صنع موقفاً عظيماً لم يشهد له التاريخ العربي المعاصر مثيلاً على الإطلاق.. إنه رجل أحب وطنه وصنع أسطورة الوفاء للمبادئ حينما أهدى انتصاره المشرف لحكومة مدنية بعد أن رتب البيت السوداني بغية أن تصل ببلاده إلى مشارف الأمان كي تؤسس من بعده لقاعدة تنموية مستمرة، فتشرئب بذلك براعم النور إلى العلا ويزهر النهار؛ وبهذا يكون قد حقق هذا الرجل النزيه المراد المنشود.. وقد ترجل آخر المطاف شامخاً عن صهوة الريح الجامحة تاركاً لسنابك الخيل تسجيل سيرته العطرة دون تكلف أو تزوير، خلافاً لما فعله الإنقلابيون في دول الجوار، أولئك الذين جلبوا الويلات لبلدانهم وتحولت في عهدهم إلى ثقوب سوداء تلتهم الأمان في عتمة الظلم وقهر الشعوب، فاختار "عبد الرحمن سوار الذهب" أن يذهب طائعاً إلى ملاذ الروح مستجدياً الخير لشعبه مبتغياً رحمة الله ورضاه، فعاش بقية حياته زاهداً، مسخراً خبراته في خدمة رابطة العالم الإسلامي التي عمل في ظلها، رافضاً الترشح لرئاسة السودان خلافاً لرغبات الشعب السوداني المغبون؛ حتى لا تأخذه غواية السلطة إلى أتونها فيسقط في غياهب الظلم الذي يستعر في رؤوس الطغاة.

ها هو عبد الرحمن سوار الذهب يترجل عن جواده.. يشيعه وطن منهك ومنقسم على نفسه، تفتته الأزمات وتأتي على أطرافه الديدان! ربما طفرت الدموع إلى عينيه وهو يقف عاجزاً أمام المشهد السوداني السياسي المتشرذم والذي أفسدت أركانه دولة عميقة متجذرة منذ حكم الطاغية جعفر النميري، بعد أن سلم "سوار الذهب" السودان لقيادة مدنية من خارج المنظومة العسكرية التي ينتمي إليها؛ ورغم ذلك يسافر إلى الغياب الأبدي مبتسما بعد أن قام بواجبه على أكمل وجه رغم ما أحاط تجربته من نكسات لم يكن مسؤولاً عن تبعاتها.

إنه المشير عبد الرحمن محمد سوار الذهب الرئيس الاسبق للسودان، الذي انتقل لجوار ربه اليوم بالمستشفى العسكري في السعودية بالرياض، عن عمر يناهز الـ(83عاما).

كان قد استلم سوار الذهب السلطة أثناء انتفاضة نيسان/ أبريل 1985 بصفته أعلى قادة الجيش وبتنسيق مع قادة الانتفاضة من أحزاب ونقابات ثم قام بتسليم السلطة للحكومة المنتخبة في العام التالي. وتسلّم مقاليد السلطة بعد انقلاب عسكري في السودان بإمرة ضباط على رأسهم اللواء حمادة عبد العظيم حمادة والعميد عبد العزيز الأمين والعميد "فضل الله برمه ناصر" وبعد تردد تقلد رئاسة المجلس الانتقالي إلى حين قيام حكومة منتخبة وارتقى لرتبة المشير.

ولد "عبد الرحمن سوار الذهب" (بتصرف- الموسوعة الحرة) بمدينة الأبيض وتلقى تعليمه العسكري في الكلية الحربية السودانية وتخرج فيها عام 1955. تقلد عدّة مناصب في الجيش السوداني حتى وصل به المطاف إلى وزارة الدفاع كوزير معين. أُبعِد عن الخدمة (تعسفيا) في العام 1972 وأرسل لدولة قطر وعمل بها مستشارا للشئون العسكرية عند الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني حاكم قطر آنذاك. وكان بمثابة قائد للجيش والشرطة، وهو أول من فرز الأرقام العسكرية وحدد أرقاما منفصلة للشرطة، وأرقاما أخرى للجيش.. ومن ثم قام باستبدال الزي العسكري والبزات العسكرية ببزات جديدة وتحديد كل سلاح على حده بفصل الجيش عن الشرطة وتأسيس كيانين مستقلين هما شرطة قطر والقوات المسلحة القطرية.. عاد "سوار الذهب" بعد الرضا عنه من قبل المايويين وعين رئيسا لهيئة الأركان وتدرج إلى أن عين في مارس 1985 قائدا أعلى للقوات المسلحة السودانية مع تمديد فترة عمله بالجيش لمدة سنة حسب قرار رئيس الجمهورية آنذاك إلى حين استلام "سوار الذهب السلطة" أثناء انتفاضة نيسان/ أبريل 1985 كما ذكرنا آنفاً.

إنه الحاكم العربي الذي تنازل عن السلطة بدون أن يضع معايير ميكافيللي النفعية نصب عينيه وهو يلوح مودعاً وطنه السودان بيدين نظيفتين، نائياً بنفسه عن الفساد، حيث تغلب الوسيلة على حساب الغاية، قالباً بفعلته المشرفة القاعدة المعمول بها في أتون الانقلابات العسكرية بتغليب مصلحة الشعب على طموحات القادة العسكريين في سابقة سجلت له في التاريخ العربي المعاصر.. رحم الله هذا الزعيم وأسكنه فسيح جناته

 

بقلم بكر السباتين

 

في المثقف اليوم