بأقلامهم (حول منجزه)

شهرزاد حمدي: ضدّ الاستبداد، مشروع الخِطاب الديني المُنفتح: سَمع مُثمر وعقل مُنتج عند ماجد الغرباوي

Against tyranny, the open religious discourse project: a productive hearing and a productive mind at majed algharbawi

مُلخص:

نهدف من خِلال هذه الورقة البحثية إلى فَحص اشتغالات أهم الخِطابات التي تتصدّر منابر التوجيه، وهو الخِطاب الديني في صيغته العربية الإسلامية، لنُسلّط الضوء بِداية على أهم إشكالاته ومَزالقه والأساليب المُستبدة التي ينتهجها والجِهات التي يعتمد عليها في ترسيخ مَركزيته وإزاحة مُنتقديه، ثم ننتقل إلى شُروط إصلاحه وتجديده، من أجل تحرير الوعي الديني وإعادة فهم الدين، كشرط رئيسي للنُهوض الحضاري للإنسان، وِفق المَسالك المنهجية العِلمية والكُشوفات المَعرفية الحديثة والقيم الإنسانية التي لا تنضب، مثل: التسامح، الحُرّية والعقلانية، بما يُحافظ على الغايات الإسلامية الحقّة كما تضمّنه الخِطاب الديني المُنفتح والتنويري للمُفكّر "ماجد الغرباوي" كحَالة بحثية نوعية في هذا السياق. وتأتي أهمية الموضوع في كونه يُعالج قضية مُلحّة وهي سطوة الخِطاب الديني الرجعي الذي يُصادر كل حملة عقلية مُناهِضة، لينسحب ويطال بقية مجالات الحياة، بخاصة حينمَا يتحالف مع السُلطة السياسية، التي تتخذ النزعة الشُمولية في العالم العربي وتتزعّم مقاليد التسيير في كل شيء. إضافة إلى ميزة مهمّة في فكر"الغرباوي" والذي اتخذّناه نموذجًا أنه يطرح البديل ويؤسّس لثقافة دينية مثمرة لا تستبد وتُزيح. أمّا الأدوات المنهجية التي اعتمدناها، فكانت بارِزة في المنهج التحليلي والمنهج النقدي.

الكلمات المفتاحية: الخِطاب الديني - الاستبداد - اللامُفكر فيه - النقد - التنوير - النُهوض الحضاري104 tasamoh2

Abstract :

Through this research paper, we aim to examine the activities of the most important speeches at the top of the guidance platforms, it is the religious discourse in its Arabic-islamic form. Let’s first highlight its main problems and pitfalls and the tyrannical methods that he uses and who he relies on to establish his centralization and dislodge his critics, then we turn to the conditions for its reform and renewal, in order to free up religious consciousness and re-understand religion, as aKey condition for the advancement of human civilization, in accordance with scientific methodology and modern cognitive data and human values that are not lacking, such as: tolerance, freedom and rationality, it is also included in the open and enlightening religious discours of the intellectual majed algharbawi as a qualitative research case in this context. The importance of the topic is that it addresses a pressing issue: the ascendancy of the reactionary religious discourse that confiscates each every anti-mindset campaign, to withdraw and demand the rest of life, especially when allies with political power, in the arab world, it takes totalitarianism and leads the way in everything. Add to an important feature of algharbawi thinking, which we took as a model, it posed an alternative and established a productive religious culture that is not excluded. The methodological tools we have adopted have been prominent in the analytical approach and critical approach .

Key words: religious discourse - tyranny - the unthinkable - criticism - enlightenment - civilizational advancement .101 majedalgharbawi1

مقدمة: يأتي الدين religion في طليعة العناصر الحيوية التي يمتح منها الإنسان شخصيته المُركّبة، ليسدّ ثغراتها ولِيَحّفظها من شِراك التمزّق والضياع الوجودي. فهو على حدّ توصيف الروماني "مرتشيا إليادة" Mircea eliade(1907-1986م) يُمثّل بنية الوعيconsciousness ذاته وليس مرحلة من مراحِله فحسب. ويتموّضع الدين بقوة ضِمن الشُروط الجوهرية للبناء الحضاري الذي تطلبه الإنسانية، ولهذا الغرض نلحظ الهمّ الفلسفي الدؤوب بالعُنصر الديني؛ حيث يشتغل المُفكرون والفلاسفة على تجديد القِراءات الموضوعة للنص الديني، من دعوى صريحة لاستحداث مناهج أكثر فعالية وإنتاج، وضرورة اختراق الأعين التفسيرية التقليدية التي كبّلت العقل عن البحث والاجتراح. ولقد شكّل الدين نقطة باعِثة على التفكّر منذ العُصور السالِفة، في صيغة خِطابات دينية فسّرت وشرحت وأوّلت النُصوص، وقدّمت مجموعة من الرُؤى والمواقِف. لكن إن تحتكر مُهمة القِراءة وتحوّل خِطابها إلى فكرة لامُتناهية مُطلقة تصدر بالأساس عن عقل مُتعصّب مُرتهن لمُنطلقاته التي يحسب فيها صِفة القداسة، ولتفسيراته الواهِمة بأنها تحضر في كل زمان ومكان، عقلاً مُستبِدًا وقامِعًا، على قطيعة مع مُستجدات الحقل العِلمي من مناهج ومَعارف، أسير الثنائية: حلال-حرام، يُعنّف في أحكامِه التعسّفية، ويعمل على تزييف الوعي ويُعتّم منطقة الأسئلة الهامة بحجّبها في المحظور أو ما أصبح يُتداول باللامُفكّر فيه، هنا يُصبح الدين المُعبّر عنه في خطابٍ جاف خطرًا على الحياة الحضارية للإنسان، فينتقل من الحيوية إلى التكلّسية، وينخرط بالتفكير والتعقّل في براديغم الجُمود والرتابة، والأمرّ من ذلك أنه يضرّ بالدين ذاته، حينمَا يُحوّل مضمونه إلى دفعٍ للتناحر والاحتراب، ودلالاته إلى فكرة خُلقت ولن تموت، ذلك برفض تجديدها وتقويمها بما يُخدم مصالح الإنسانية. ضِمن هذا المُعترك يبرُز المُفكّر والباحِث العراقي "ماجد الغرباوي"Majed algharbawi(1954م)، مُسجِّلاً موقِفًا نقديًا من الفكر الديني المُستبد، في ذات الموضع يجتهد في وضع سُبل تجاوز هذه العقبة، وتأسيس خِطاب ديني مُتحرّر يقبل النقد والمُراجعة والإضافة المُستمِرة. وعليه: وِفق رُؤية "ماجد الغرباوي"، ماهي أبرز مظاهر سُلطة العقل الديني التُراثي؟ وفيم تتمثّل فُصول مشروعه التنويري كطرح فِكري لإحلال الدين كطرف مِحوري فعّال وحيوي؟9 majed500

أولاً: ماجد الغرباوي، المسَار العملِي والمَنْجَز الفِكري

"ماجد الغرباوي"، المُفكّر والناقِد، من مواليد 1954م بالعِراق، يَحْمِل الجنسية الأسترالية، "مُتخصّص في علوم الشريعة والعلوم الإسلامية، مؤسّس ورئيس مؤسسة المثقف العربي - سيدني، كان رئيسًا لتحرير مجلة التوحيد (الأعداد: 85-106)، أصدر سلسلة رواد الإصلاح، وكان رئيسًا لتحريرها، كما اشتغل كعُضو الهيئة العلمية لكتاب التوحيد(...)، ومارس التدريس ضِمن اختصاصه في المعاهد العِلمية لسنوات عدّة"(1)، ممّا يوضّح خبرته في المجال العِلمي الأكاديمي، وعلاقته المباشرة بمسائِل الشريعة الإسلامية. سيُصنّف كباحِث بالفِكر الديني religious thought، يهدف من خِلال المشروع الذي سطّره إلى تحرير العقل الدينيreligious reasonمن قاعِدته الأسطورية والاشتغال على إعادة فهم الدين من مُنطلق مركزية الإنسان في الحياة، كما يسعى إلى تهذيب الوعي والنُضج به عبر تحرير الخِطاب الديني religiuos discourseمن قُيود التُراث ومُستتبعات العقل التقليدي. وتنديدًا بضرورة استدعاء قِراءة مُتجدّدة للنص، تعتمد النقد criticismوالمُراجعة المُتواصِلة كآليات بِنائية لها، بغرض فهم الدين فهمًا متجدّدًا، كشَرط رئيسي لأي نُهوض حضاري، يحظى بإسهام مُعتبر في تجذير قيم الحُرّية freedomوالتسامح toleranceوالعدالةjustice ، في إطار مجتمع مدني يخلو من روح الكَراهية spirit of hatredكالعُنف violence ، التنابذ والاحتراب (2). يتّضح إذن، الملمح الجوهري لفكر "الغرباوي"، المُشتغل في حقل نقد الفكر الديني السُلطوي، وما يتداعى عنه من تحريمات وتعنيفات وقتل للأفكار الجديدة. إضافة إلى حِرصه على تأسيس خِطاب ديني مُنتج يتحرّى تحقيق المدنية المُجتمعية المُتولّدة عن مدنية التفكير. ويُشير هذا المسعى إلى أن النص الديني ليس نصًا مُغلقًا مكتمل البناء الدلالي، واضِحًا وظاهرًا، لا يحتاج القِراءة الفاحِصة، وهذا ما أراد له العقل الديني المُستبد حينمَا جعل من تفسيراته للنُصوص محظورة عن المُساءلة بوصفها قِراءة مُباشرة وكُفئ للنص الأصلي، الذي يقبل بالأساس التأويل interpretationوالتفسير explanation والتعقّل، ويدفع إلى البحث عن المعاني المُضمرة، فاللغة حمّالة أوجه وبالأخص اللغة الدينية. وفي هذا السياق يجدُر التنويه إلى نقطة مهمّة، تتعلّق بنوعية القِراءة والشبكة الدلالية المُتمخّضة عنها، فالتأويل والفهم من الآليات التي يدعو إليها الدين الإسلامي ذاته ويحثّ على تنشيط مَلَكة العقل، هذا من جهة ومن جهة ثانية هُناك آيات قرآنية مُختلف فيها ومعانيها مُتوارية تتطلّب الفَحص، لكن ينبغي الحذر من التأويلية الجارِحة التي تتذرّع بعدمية المُقدسsacredسوى الإنسان، وتشرع في تبديل وتحوير الآيات ومضمون النص الديني حينمَا تغفل أنها تضرّ بعقلها الذي ارتهنت له، لأنها بهذه الطريقة تحجبه عن الحقيقة الموجودة في الأعين النظرية الموصولة بالمحتوى الديني، وصلاً تكامُليًا لا تفاضُليًا ومركزيًا. وبالمُجمل يشتغل "الغرباوي" على موضوعات: نقد الفكر الديني، فكر النهضة، العُنف، التسامح، الحركات الإسلامية، المرأة، الترشيد والتنوير (...)(3)، وهي نقاط بحثية قلِقة وهامة، ترتبط بمُستقبل المجتمع العربي الإسلامي ورأسماله الثقافي والقيمي، وشخصيته ومفاهيمه ومدى حُضوره المُستقل والمُبدع في ساحات الفكر والنظر الحصيف، وتعامُلاته مع مُفكريه وإنتاجاتهم بما يضمن الحِفاظ على التراث مع الانفتاح والانتفاع، وترسيخ قيم التسامح بمُختلف صوره، والعقلانية والتتبّع المُلحّ لمُخرجات العقل العِلمي واكتشافات منطق التقدّم، والأهم الانخراط بالدين كسند جوهري في التحضّر، وِفق اعتماد منهجيات النقد والتجديد renovationوالتفكيك deconstructionمع إعادة البناء. أمّا عن إنجازاته وإنتاجاته الفِكرية، فلقد شارك في عدّة ندوات ومُؤتمرات عِلمية، وحازت أعماله على جوائز نقدية وتقديرية نظير مجهوداته، يمتلك "الغرباوي" أكثر من 35 عملاً مطبوعًا، تأليفًا وتحقيقًا وحِوارًا وترجمة، وجُملة مُحترمة من الحِوارات والدِراسات والبُحوث والمَقالات في دور مجلات وصُحف ومواقع، إضافة إلى الحظوة الاهتمامية لعدد من النُقاد والباحثين عرب وأجانب لمَنْجزه الفِكري والثقافي والأدبي(4). ومن بين كتاباته: "إشكاليات التجديد (طبعتان) - التسامح ومنابع اللاتسامح، فرص التعايش بين الأديان والثقافات (طبعتان) - تحدّيات العُنف - الشيخ محمد حسين النائيني، مُنظّر الحركة الدستورية (طبعتان) - الضدّ النوعي للاستبداد، استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني - الحركات الإسلامية، قراءة نقدية في تجلّيات الوعي - جدلية السياسة والوعي، قراءة في تداعيات السُلطة والحُكم في العِراق (...)- ترجمة كتاب الدين والفِكر في شِراك الاستبداد - تحقيق كتاب نهاية الدراية في علوم الحديث(...)، حِوارات معه: إخفاقات الوعي الديني وتداعيات النُكوص الحضاري، حِوار مع ماجد الغرباوي/ سلام البهية السماوي"(5)، وغيرها، خاصة موسوعته متاهات الحقيقة، وعلى سبيل المِثال لا الحصر نذكر كتاب صدر عنه: الفلسفة النسوية في مشروع "ماجد الغرباوي" التنويري، الكاتب: محمود محمد علي. بهذه المُعطيات التي تبيّن الانهمام الفِكري "للغرباوي" بنقد الخِطاب الديني المُتزمّت، الذي يأسر أحقية الفهم understandingوالتأويل في نِطاقه، فإننا نصرف سعينا عن سيرته العمَلية والعِلمية إلى فَحَص وتحليل الصُور الحيّة لسطوة العقل الديني كما سجّلته رُؤيته النقدية.1 salih

ثانيًا: تجلّيات التسلُّط الديني، ضديدة الغرباوي من المُستبِدة الدينية

عَكَف "ماجد الغرباوي" على نقد العقل الديني القامِع، وكشف في مُناسبات كثيرة مُراوغاته، وفضح مُتوارياته، بوصفه حامِلاً ومُنتِجًا للاستبدادtyranny، ومنه الاستبداد الديني religious tyranny الذي يأسر التفكير في نسقه ويُعمّم ثقافة الولاء والطاعة العمياء ضمانة بقاء الأمة تحت سقفه. ولقد خصّص العديد من كتابته لبحث ظاهرة الاستبداد من تعريف، تاريخ، آليات وأنواع وغير ذلك، ويُشار في هذا المقام إلى المجهود القيّم الذي وضعه المُفكّر السوري "عبد الرحمان الكواكبي"abed al-rahman al-kawakibi (1855-1902م) في مؤلّفه الموسوم ب: "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، الذي يعود إليه "الغرباوي" ذاته في تدوين بعض النُصوص. وقبل مُعاينة مظاهر الاستبداد الديني كعامل رافِد للتخلّف الحضاري العربي الإسلامي، نتعرّض أولاً لماهية الاستبداد.

1- في الاستبداد ودعائمه:

من أخطر الأساليب التحكّمية التي تهدف إلى السيطرة وخدمة المصالح وتمرير الرسائل الشخصية أو لفِئة تجمعها منافِع مُشتركة هو الاستبداد بمُختلف أشكاله، حيث يعمد الإنسان الطاغية إلى استغلال نفوذه وخوف الشعب من سُلطته، لغرض بسط هيمنته وتزعّمه التسيير لكل شيء.

أ- تعريف الاستبداد:

يُوصف من يحكُم بمنطق الاستبداد "بالمُستبدdespot ، المُشتقة عن الكلمة اليونانية ديسبوتيسdespotes ، التي تعني رب الأسرة، أو سيد المنزل، أو السيد على عبيده، ثم خرجت إلى عالم السياسة لكي تُطلق على نمط من أنماط الحُكم، بعد أن طوّرت الكلمة أكثر من مرة على يدي رجال الفكر السياسي، كان آخرهم مونتسكيو (1689-1755م)"(6). يُشير مُصطلح الاستبداد لُغويًا إلى دلالات الزعامة وتسلّم مقاليد الحُكم في مكان مُعين وعلى فئة مخصوصة، قد يكون في المنزل وعلى أفراده، أو في الساحة الاجتماعية كفضاء العمل مثلاً وعلى العمال الذين تُخلع عليهم صفة العبيد، ثم كان للمُصطلح أن دخل السياسة ليُصبح شكلاً من أشكال الحُكم، إمّا أن ينحصر الحُكم في يد مجموعة من الأفراد المُستبدة وإما في يد فرد واحد يزعم الملكية المُطلقة، النتيجة أن النظام الحاكم لا يعرف حق الشعب في إبداء الرأي أو في تقرير مصيره، والأخطر من ذلك أن الشعب ذاته هو من يجهل حقه بالموالاة التامة للحاكم المُستبد. والسُلطة المُستبدة هي تلك السُلطة التي تقفز على القانون، فبحسب منظورها لا يخضع الحاكم إلى القانون إنما هو قيد على المحكومين فقط، ممّا يجعلها في حُرية تامة فيم تعلّق بالاجراءات التي تتخذّها لمُصادرة حُرّيات الأفراد أو ممتلكاتهم(7). إذن بهذا التوصيف يكون الحُكم الاستبدادي أخطر الأنظمة الحاكِمة لما ينتهجه من أساليب قمعية ضدّ الشعب وكل من يُخالف عقيدته.

ب- تاريخ الاستبداد:

يُصرّح "الغرباوي" بأن للاستبداد تاريخ طويل، يُثبت تساوقه مع اللحظة التملّكية التي أراد لها الإنسان التحقّق والتجسيد، وبالعودة إلى السجلّ التاريخي المَخفي عن القِراءة، نجد العديد من النماذج التي دلّت على وجود الطواغيت والمستبدين، فالحضارات الشرقية كالسومرية، البابلية، الآشورية، الفرعونية أو الصينية وغيرها، قامت على أساس انتهاك حرية الإنسان وكرامته، هذا الفعل الاستبدادي هو المُنعطف نحو تشييد حضارة مادية عبر التاريخ، وتأسيس حكومات مُطلقة تمتّعت بالسيادة الواسعة المُنفلتة من كل قيد دستوري أو قانوني يحدّ من سُلطتها(8)، فالغريزة الإنسانية للتملّك وتحصيل المنافع جعلته يتّخذ من السُلطة سبيلاً استغلاليًا لجلب مصالحه، فأذلّ بذلك العِباد وأرقّ دماءهم. أما في الدولة الإسلامية فقِياسًا على دِراسات الشيخ "محمد حسين النائيني"sheikh mohammad husain al-nae’eni، لم يكن هناك أيّ مظهر استبدادي في سياسة الرسول صلّى الله عليه وسلم أو الخُلفاء، غير أنه أرجع وجود الاستبداد في الدولة الإسلامية إلى الحُكم الأموي، حينمَا تحوّل الحُكم إلى وراثي لا يهتم لشرط الكفاءة اللازمة في الحاكم الإسلامي، إنما الأهم هو شرط النسب والوراثة فقط(9). نفهم من هذا أن سياسة التسامح والشورىconsultationوالاستماع إلى الآخر والحِفاظ على المُمتلكات والحرّيات والكرامة التي هي من مقاصد الشريعة، كانت ملمحًا جوهريًا نفى الاستبداد عن فترة النبي الكريم والخُلفاء، كما يُمكن تسجيل نقطة مهمة وهي أن الاستبداد في وجه من وجوهه يعتمد على عامل الوراثة من أجل إبقاء دائرة الحُكم ضيّقة لا تتعدّى نِطاقه.

ج- آلية الاستبداد

لأجل الانتشار والتجذّر أكثر يعتمد المُستبد على آليات يُراهن عليها من أجل جعل الاستبداد ظاهرة طبيعية والأكثر مطلوبة كما لو أنها نظام شرعي لإعطاء الحُقوق وإبقاء الحياة، ويرى "الغرباوي" أن المُجتمعات الإسلامية قد عانت من الاستبداد، وطريق الإصلاح يمرّ بداية عبر خطوة هامة تتمثّل في فضح المُستبد ومُراوغاته، وكشف أوراقه(10)، فالاشتغال على التعرية وإسقاط الأقنعة التي يرتديها المُستبد ضرورة سابقة، حتى يحصل الوعي من طرف الشعب المقموع والمقهور بأن الحاكم أو رجل الدين الذي يتوسّمون فيه الفلاح هو مرتع خصب للفساد، من ثم تأتي مرحلة الإصلاح بعد أن تم تهيئة العقل للفهم والموافقة. ويستند المُستبد على آلية دينية، حيث يُلاحظ أنه "يرفع شِعار الدين ويرتدي عباءته عند الضرورة، بعد أن يستغل جهل الأمة، ويستعين ببطانة من الجهلاء. فعلى الصعيد الأول نجد فرعون يرفع شِعار الدين ضدّ موسى عليه السلام ويوحي إلى قومه بأن واجبه يُطالبه بالدفاع عن الدين (...) وأما على صعيد الجهل فإن العوام هم قوة المُستبد وقوته"(11). فمن خِلال التذرّع بالوظيفية الدفاعية عن الدين وبإسم حمل الصِفات الإلهية يتمكّن المُستبد من كسب العامة إلى صفّه، ولنا في ذلك مِثال الطاغية فرعون الذي برّر لاستبداده بالمسؤولية الدينية الموكلة إليه، وسوف يقوى الاستبداد أكثر ويجد المُستبد المساحات الكافِية للتحرّك هيمنيًا فيها بعد أن يضمن جهل الأمة، الذي يحوّل الفاسِق إلى مُصلح، والناقد التنويري إلى مُتمرّد مُجرم، وينظُر بعينٍ نقيضة لكل ما يفعله المُستبد من إهانة وانتهاك وسلب وتعدٍ. ويؤكّد "ماجد الغرباوي" أن الاستبداد الديني أخطر من الاستبداد السياسيpolitical tyranny ، وهو أخطر أنواع الاستبداد وقواه لدرجة أنه يصعب علاجه بل يُمتنع عن ذلك، والاستبداد السياسي متولّد عنه(12)، فالخِطاب الديني هو أهم الخِطابات وأكثرها تأثيرا، لأن الشعوب العربية الإسلامية هي شُعوب مُتديّنة يكتسب الدين في فضائها اليومي حيّزًا كبيرًا، فحتى على مُستوى مشاكلها وأزماتها فإنها ترفض في الغالب حلول العقلانية والأعين العِلمية الحديثة لصالح الفتاوى التي تتحوّل بفعل منطق الجُمود إلى الثنائية التي تأسر: حلال - حرام، ونحن هنا لسنا ضدّ الدين، بالعكس فهو شرط جوهري، لكن الضديدة هي من المُتزمّت الذي يهمّ بانتشار الجهل ويسعى إلى وقف حركة التوعية والتنوير، وبالتالي فخُطورته مُتزايدة ومُكثّفة مقارنة ببقية استبدادية الخِطابات الأخرى. وللاستبداد الديني مظاهر متنوّعة، يفصّل فيها "الغرباوي" في كتاباته، ولقد وقع الاختيار على أهمّها وأكثرها حُضورًا وتوجيهًا.81 majedalgharbawi600

2- أين يتجلّى الاستبداد بالدين؟

يلجأ المُستبد لتحقيق مأرب كبح الحُرّيات، وقتل التفكير ونشر التكفير، وتمويه العقول وإفساد الضمير، وتغييب الوعي إلى أن يُصبح صنمية مُتأزّمة لا تنتج إلاّ التدجين والقبول السلبي بالوضع البائِس على أنه أفضل الأوضاع، إلى الدين والشِعارات الدينية كغِواية ناجِحة للشُعوب المُستضعفة فكريًا قبل كل شيء، ويتمظّهر الاستبداد الديني في نقاط مُهمّة وقلِقة كثيرًا، وهي كالتالي:

أ- إفشال الوعي وتغليط الرأي:

نظرًا للأهمية الفارِقة لملكة التوعية النقدية في إيقاظ الشُعوب ودفعها إلى المُراقبة والمُعاقبة للطبقة الدينية والسياسية القاهِرة، تعمل السُلطة المُستبدة على تزييف الدلالة الأصلية للوعي حتى يحصُل له الإخفاق في تبليغ رسالته التنويرية التي تُعبّر عن جوهر مفهومه. فيؤكّد "الغرباوي" على ذلك، حينمَا يُصرّح بأن الحُكّام والشريحة المُنتفعة لمّا تُدرك خطورة الوعي، فإنها تُسارع إلى سدّ جميع طُرقه، ولمّا عرفوا قيمة الدين في حياة الأمة استندوا عليه لتحقيق مآربهم، فحوّل وعاظ السلاطين وعُلماء البلاط النقد جريمة وتمرّد ديني لا يُمكن العفو عنه، وأعطوا دلالة تفسيرية تضليلية للوعي، حتى صار لدى الناس مُرادِفًا للتمرّد والرفض والخروج عن المألوف من أعراف اجتماعية وشِعارات دينية وتراث وسلف، فإذا أرادوا لشخص ما السقوط قاموا بإنسابه إلى تيار الوعي، ولعلّ أكثر ما عانت منه الطبقة المُصلحة هو إخفاق الوعي وفشله في تحديد المعنى الصحيح لمفهومه(13). بهذه الكيفية تُشوّه المُستبدة السياسية الدينية الوعي؛ إذ تجعل من النقد وروح التوعية جرائم يُعاقب عليها بإسم الدفاع عن الدين وما تُمليه الشريعة، ممّا يتولّد عنه مفهوم خاطئ عن الوعي على أساس أنه كُفر وإلحاد بالنسبة إلى الدين الذي يصطنعونه ويبيعون شريعته والثمن سلب حرية التفكير والتعقّل، من أجل إبقاء الشعب في غفلته، ليكون الوعي ضحية لفساد الجهة القابِضة.

ب- سُلطة النص وسجن القِراءة في قُدسيته

لقد حالت المُستبدة الدينية دون أن تشهد الساحة الفكرية العربية الإسلامية تفاعلاً جدليًا مُثمرًا بين النص والقارئ؛ وذلك بفِعل القِراءة الضيّقة التي ترتاب مزلق خرق المُقدس، رغم أن عالَمها رحب يضمّ المنقول والمعقول، والمسموع والمكتوب، "فالباحث الديني/ الفقيه / المفكر / المفسّر، يقرأ من داخل النص، فيخضع لسُلطته ومحدّداته لا إراديًا، ولا يُمكنه التمرّد عليه. لا لأنه لا يُريد الحرية أو لا يفهم معناها، بل لأن قداسة النص هي التي تتولّى هندسة قبلياته وبنيته الفكرية والمعرفية فتفرض محدّداتها ومدياتها، وآلية تفسيره أو تأويله للنص، وهي التي تحدّد هامش الحرية وفضاء التفكير داخلها (...) ومِثالها جميع القِراءات التُراثية بل وأغلب الفكر الديني الخالِ من النقد والإبداع"(14). يُكبّل النص التحرّكات التفسيرية والقِرائية للباحث الديني، ويأسرها في نسقه ويفرض عليها قوانينه التي تتلخّص في قانون القداسة. ليُشكّل بذلك مرجعية ثابتة هي من تعمل على تحديد خلفياته وقاعدته الفكرية والمعرفية والمنهجية أيضًا للتعاطي مع دلالته، والأكثر تُحدّد مقدار الحرية والتفكّر الذي وعلى حسب ذهنية التطويق في إطار المُقدس تكاد تنعدم. ممّا نتج عنه قِراءات جافة تُردّد المدلول الظاهر للنص من دون تسجيل إضافات جديدة مُبدعة وخلاّقة تخدم النص ذاته بأن تجعله مُنفتحا على كل زمان ومكان ومُواكبًا للحركة الواقعية المُتغيّرة، فإذا تحرّر القارئ وُلد النص وعلى ذات المسيرة سيتوالد صونًا له من إجهاضات الحبس في إطار زماني ومكاني تقليدي. ولا نوافق "الغرباوي" هنا في إدراجه للمفكّر في سياق أولئك الخاضعين للسُلطة النصّية، فالمُفكّر رأسماله هي الفكرة، التي تأبى التحديد والفَرَض القبلي، ثم إن التفكير والتفكّر من طبيعته الجُرأة الموصولة بعلّة الحرية. إضافة إلى أن القِراءات التُراثية لم تكن في مجموعها عقيمة، هناك قِراءات جمعت بين عالم السمع وعالم العقل، ليكون المنتوج مُبدعًا، نذكر من ذلك قِراءات المفكر المغربي "طه عبد الرحمان"taha abed al-rahman (1944م)، وقِراءات أخرى يُحسب لها مجهودها، غير أنه طالها النقد باعتبارها قِراءات مجزوءة، لنكون أمام حتمية منهجية التكامل والتراجع عن توصيفات: "جميع"، "كل"، مثل: قِراءة المغربي "محمد عابد الجابري"mohammed abed al jabiri (1935-2010م)، وقِراءة الجزائري "محمد أركون"mohammed arkoun(1928-2010م) والتي يُشير إليها "الغرباوي" ذاته بتثمين خَرجَاتِها النقدية، لكنه يُحذّر من مزالق الارتهان للأسس المُنطلق منها حتى لا نعود في كل مرة إلى سجن القدسية.

ج- الإزاحة بالعُنف وتكفير التفكير:

يخاف المُستبد الاختلافdifferenceوالنقد والمُعارضة، خوفًا على مصالحه لا على الدين كما يزعم بوقاحة، فالدين الإسلامي الحنيف يدعو إلى الاجتهاد والتعقّل وآيات القرآن الكريم الداعِية بوضوح إلى إعمال العقل والتدبّر والتفكّر خير برهان لمن يحجب البرهنة بأساليب واهِمة. ولقد قاده الاستبداد إلى التعنيف والتكفير والإخراج من ملّة الإسلام، حيث ينوّه "الغرباوي" إلى خُطورة هذا الفِعل القمعي؛ إذ اجتاحت موجة من التكفير العالم العربي والإسلامي في العُقود الأخيرة، كان وراءها حركات إسلامية مُتطرّفة، من دعواتِها الأولى قتل المُختلف دينيًا ومذهبيًا، لترسم صورة سوداوية عن الإسلام وتعاليمه، فهي ظاهرة مُفجعة لا تُلقي سوى بالانطباعات السلبية. ويرتد الفكر التكفيري في أصوله إلى قِراءات غير ناضِجة مُبتسِرة عن الدين، وتأويلات مغلوطة للآيات والأحاديث الخاصة بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر. وتعزّز هذا الفكر المُنحرف بواسطة فتاوى دينية حكمت بحلال قتل الآخر، وهو لون سُلوكي عُدواني آفِل بالفعل الحضاري والجهود المبذولة للتقدّم به. حتى صار الغرب يُرادف بين المسلم والإرهابي(15). يُظهر هذا النص حجم التعنيف والتكفير الذي مارسه المُستبد بالدين ضدّ المُختلف والناقِد، ناتِجة عن جهل بالمضمون الحقيقي، فكل تأويل مُتسرّع سطحي لآيات وأحاديث تتحدّث عن أمور الجهاد، سيؤول بالمعنى المُراد له إلى الهاوية حينمَا يُزاح لصالح آخر يحثّ على تكفير التفكير والإبعاد بالعُنف. هذا الواقع المأزوم للنص الديني جعل من الغرب كما يقول "الغرباوي" يُساوي بين المسلم والإرهابي وهو ما أصبح يُتداول تحت مُسمّى "الإسلاموفوبيا"islamophobia. وبحسب تقدرينا، نرى أن التأويل المُبتسر قد يُخفّف من وطأة الجُرم بعفو الجهل منهم، وإننا نُقدّر المسألة على أنها بعمدٍ وتخطيط، هم يعلمون جيدًا أن نشر قِراءات مغلوطة للنصوص المنوطة بالجهاد طريق مُعبّد لإهدار طاقات التحضّر. كما لا تفوتنا الفُرصة للتأكيد من جهة على رأي "الغرباوي" بأننا بمثل هكذا سُلوكيات تعنيفية وتكفيرية وبإسم الدين نترك الغرب يتصيّد أغلاطنا للحُكم علينا بصانِعي الإرهاب، لكن ومن جهة ثانية لا نغفل على حقيقة أنه هو الإرهاب الفِعلي ونصوص الفلاسفة المعاصرين تعترف بذلك، من مثل كتابات: "جان بودريار"jean Baudrillard(1929-2007م)، "نعوم تشومسكي"noam Chomsky(1928م) وغيرهِما، وأبلغ حجّة على الإرهاب الفكري هي رسومات شارلي إيبدوcharlie Hebdoالساخِرة من شخصية النبي الكريم في محاولة لاستفزاز المُسلمين وإغضابهم، من ثم إعلان أنهم إرهابيين.84 mahmod mohamad ali 600

د- الهيمنة الذُكورية وتهميش المرأة :

بِداية، تُصنّف إشكالية قمع المرأة كإشكالية عالَمية وليست عربية إسلامية فقط، لكن ولأننا نهمّ دائِمًا بُمعالجة إشكالاتنا واعتلالات فِكرنا وواقعنا، فسنحّصر التحليل النقدي في إطاره المَحلي. ولقد حظيت هذه الإشكالية بعِناية بحثية مُتميّزة في فكر"ماجد الغرباوي"، حيث ينتقد كثيرًا المنطق الذُكوري السُلطوي وقمع المرأة، وله في هذا الصدد كتاب مُعنّون ب: إشكالية العلاقة بين المرأة والقرآن، "كمدوّنة عقدية وتشريعية، تستمد قُدسيتها من تعاليها، وهيمنتها على الوعي الديني قاطِبة. وهي تمثّل سُلطة معرفية، وُظّفت لتكريس المنطق الذُكوري، بعد تجريد أحكام الشريعة من تاريخيتها، والدفاع عن إطلاقاتها الأزمانية والأحوالية. يتجلّى ذلك في فتوى الفقهاء والخِطاب الديني المُرتكز لرؤية الفقيه"(16). رغم الدور المِحوري للمرأة داخل المجتمع ومن عدّة زوايا، إلا أن الواقع العربي الإسلامي لا يزال جاحدًا بهذه الحقيقة ولو أننا نلحظ تحسّن في وضعية المرأة خاصة بفضل القوانين التي تحميها من العُنف الذُكوري. وفي إطار قمعِها فلقد عزى ذلك "الغرباوي" إلى الخِطاب الديني المَبني على رؤية ذُكورية تهمّش العُنصر النسوي، بسبب سوء فهم وسوء توظيف لأحكام الشريعة، كعامِل من عوامل قمع المرأة، في وقت أنصفت فيه الشريعة الإسلامية المرأة وضَمِنت لها حُقوقها وصانت لها كرامتها، غير أن العقل الفقهي والديني الرجعي هو من أساء إلى المرأة بمنطق ذُكوري مُستبد. إذن، هذه هي أهم تجلّيات التسلّط الديني والتي تسبّبت في تراجع الفِعل الحضاري وأفشلت المشاريع النهضوية. ولا يتوقّف "ماجد الغرباوي" عند نقد الفكر الديني والخِطاب العنيف القاتِل لروح الأفكار التنويرية، بل يؤسّس لخِطاب آخر يتميّز بكونه يجمع بين الدين كشرط جوهري للانتفاضة الحضارية وبين الأعين العقلية لنكون أمام أطروحة: سمع مُثمر وعقل مُنتج؛ بمعنى كيف نجعل من الدين رافِدًا دافِعًا للتحضّر؟ والإجابة هي القِراءة العقلانية المُنفتحة التي تتكامل والمعاني الإيمانية الحقيقية. 

ثالثَا: نحو سبيل فِكري تنويري، ماجد الغرباوي ورِهان الإيقاظ :

بعد أن عرضنا بالتحليل والنقد الجزء الأول والذي اختصّ بالموقف النقدي "للغرباوي" من منطق الاستبداد الديني ومظاهره، يأتي الجزء الثاني مُوجزًا اهتم بأهم المُهمّات التجديدية التي دعى إليها قصد التغلّب على عوائِق الاستبداد وإيقاظ الشعوب العربية المُسلمة من مراقِدها نحو التفتّح على العلم والمعرفة بالمحافظة على المقاصد الحيّة للدين الإسلامي، وتفصيل ذلك في مايلي:

1- ضرورة التجديد وبعث الفكر التنويري :

يُلحّ كثيرًا "الغرباوي" على قيمة التجديد وإلحاحيته في زمن تفجّرت فيه الرتابة والجمود والتقليد، وانتشرت فيه الحركات المُناهضة لكلّ أطروحات العقل التنويرية والتوعوية، ويقصد بالتجديد، "تحديث أدوات التفكير عبر مناهج ونظريات حديثة، لإعادة النظر بجميع اليقينيات والمقولات الأساسية. من أجل فهم جديد للدين ومقاصِده وغاياته ومبادئه ومعارفه في ضوء تطوّر وعي الإنسان وقُدراته العِلمية والمادية، استجابة لتطوّرات العصر ومُقتضياته، ومعرفة حدود الدين، والمائز بينه وبين الفكر الديني، والتفريق بين الإلهي والبشري، أو بين المُقدّس والمُدنّس"(17). ينبغي تحيين الأدوات المُفكَّر بها بالانفتاح على المسالك المنهجية والمنظورات المعرفية الحديثة، وهذا يُشير إلى أن الإجراءات البحثية التقليدية من مناهج وأعين لم تعد مُثمرة، فهي حبيسة زمان ومكان ولّى عهدهما، لكن بحُسن توظيف؛ فالمناهج المنقولة من دون تحوير وتنسيق ستضرّ بالبيئة المزروعة فيها، والقصد هنا ضرورة تكييف المنهج بما يتماشى وخُصوصية الموضوع، فليس من المعقول الإتيان بمناهج غربية هي في الأصل استنبتت لمُعالجة إشكالات العلوم الإنسانية وإقحامها هكذا في تأويل الأحاديث أو الأكثر من ذلك إخضاع القرآن الكريم لها، فلكلّ منهج تاريخ محلي، ومن أجل الانخراط به في العالمية يجب أولاً تعديل مقاصِده بما يتّفق والمادة المقصودة. كما يدعونا "الغرباوي" إلى التفرقة بين الاصطلاحات المُتقاربة بالضدّ غير المُتطابقة، مثل: المُقدّس / المُدنّس حتى نحفظ الدين الحنيف من تشوّهات الخلط التي تُحيل كل شيء إلى مُدنّس، وفي ذات الموضع يُنبّهنا إلى أهمية فهم جديد للدين، فهمًا حقيقيًا لما يرمي إليه ويقصده. وفي حديثه عن قيمة الفكر التنويري، فيؤكّد أنه لا تراجُع عنه؛ لأنه ولغرض إزالة الحواجز وفتح الطريق أمام موجات الإصلاح والتغيير، يتطلّب إفشال مساعي رجل الدين والحُكم والعشيرة والوقوف في وجههم ممن يستثمرون في الجهل والتبعية وعدم الانفتاح على آفاق العِلم والمعرفة والحضارة ورأي الآخر، من أجل تجذير سُلطتهم التي يخافون عليها من استيقاظ العقل وتمرّده على سُلطاتهم. وإن لم نُفعّل قِوى المُعارضة سيبقى الفكر والثقافة أسيرًا في عالم النظر والورق مفصولاً عن الواقع لا يؤثّر فيه، ولهذا فالنقد ثم النقد بهدف شقّ آفاق الوعي(18). فالرِسالة واضِحة الخُطوط والمعاني؛ إذ ينبغي بإصرار كسر وتيرة الاستبداد بخاصة الديني، فالدين لبِنة رئيسية للتحضّر، وأيّ توظيف إيديولوجي مشحُون بالسُلطة سيُحيل المَسعى إلى وهم هادِرًا للطاقات، وعلى سيرة التنويه يُشار إلى أن "الغرباوي" خصّص كتابات حول واقع السياسة والدين في بلده العراق، من ذلك كتابه الذي حاوره فيه "طارق الكناني" والمعنّون ب: "رهانات السُلطة في العراق، حوار في أيديولوجيا التوظيف السياسي". والنقطة الثانية تتعلّق بقيمة إنسانية راقية نقيضة لإرهاب العُنف والاستعباد.

2- ترسيخ قيمتي التسامح والحُرّية :

ما يُميّز المُجتمع البشري التركيبة الغنية بالاختلاف والتعدّديةmultilateralism ، ممّا يفرض وجوبًا التسامح مع هذه القيم الكثيرة وأن لا نُعنّف بعضنا البعض لمُجرّد أننا نختلف دينيًا أو عرقيًا أو جُغرافيًا، فهو هبة ربّانية تحمينا من تمزّقات المُطابقة والاتفاق في كل شيء. ويُحدّد "الغرباوي" الأبعاد الجوهرية للتسامح في نبذ العُنف ورفض الطائفية واعتماد آليات المجتمع المدني والإيمان بها، واتخاذ مبدأ الحوار كمبدأ لحلّ النِزاعات كافة، ولذلك فإن الحُرّية عنده ليست ماهية بل مُشخّصنة؛ بمعنى مُتجسّدة ولها وظيفة اجتماعية مُحدّدة. ولا يُمكن أن نقدّم لها آية ضَمَانات سياسية في مُجتمعات كمُجتمعاتِنا(19). فالتسامح شرط أساسي للالتحام، وهو عصب العيش المُشتركcommunal living، الذي يُعد مطلبًا مُلّحًا لعديد الفلاسفة مُمثّلي البراديغمات المُتلاحقة: الاختلاف، التواصل communicationوالاعترافrecognition، ولقد أكّد "الغرباوي" على ضرورة تفعيله، بخاصة بين الأديان وتأسيس ثقافة التعايش واحترام المُعتقد المُختلف، والتسامح يستدعي الحُرّية؛ أؤمن بحُرّيتك بالتالي أتسامح مع اختلافاتك عنّي، والتي يخلع عليها صِفة عملية تندرج بها ضمن فلسفة الفعلphilosophy of actionحينمَا يطلب تجسيدها في الواقع الاجتماعي وليس الرفع من قيمتها في عوالِم النظر والماهية والجوهر. أمّا النقطة الثالثة فترتبط بالمرأة وإصلاح الرؤية التعسّفية لها.43 malida2

3- إنصاف المرأة، نحو قيم تحفظ إنسانيتها من تسلُّط الذُكورة وعِبادة الأنُوثة :

يهدف "ماجد الغرباوي" المُهتم بقضية المرأة ومنه ما يُعرف بالفلسفة النسويةfeminist philosophy، إلى إحلال منظور عقلاني عادِل لها، تِبعا للظُلم الذي تعيشه بسبب ولاء المُجتمع للمنطق الذُكوري وإخلاله بالقيمة الإنسانية للمرأة؛ إذ يرى أن "أهم إشكالية تواجه المرأة عامة والمرأة المُثقّفة خاصة، تحرير العقل الجمعي من ذُكوريته وسُلطويته واستخفافه، ليرقى إلى مستوى إنسانيته في تعامُله معها. مع تعميق ثقتها بذاتِها وبمَنْجَزِها، بعيدًا عن تاء التأنيث، تحاشِيًا لإعادة إنتاج الذُكورة من خِلال تكريس الأنُوثة"(20). إنها تحديدات مطلبية مُهمّة للغاية، حيث ينبغي بإصرار تحرير الوعي، والاعتراف بقيمة المرأة وتقدير مجهوداتها، والعمل على توعية المُجتمع بأهميتها، وأن الإنسانية برجالِها ونسائِها، والحضارة تُبنى بهمَا معًا في إطار حُقوقي وواجباتي عادِل. وينبّه "الغرباوي" إلى نُقطة فارِقة غفلت عنها الحركة النسوية المُتطرّفة في دعوتها للاتفاف حول المرأة، وهي أنه يشير بذكاء إلى توخّي حذر الوقوع في تكريس الأنوثة التي ستُنتج تلقائيًا الذكورة، ليتوالد الصِراع بينهُما، ويأتي هذا التنبيه إلى كون الأنُوثة والذُكورة عبارة عن مدلول جنسي، وطريق إنصاف المرأة عبر تقديم أنوثتها لن يورث سوى الإذلال لها بحكُم أنها توصيفات جنسية ستجعلها حبيسة منظور الجسد والدلالات الجنسية، أمّا أن نُنصف المرأة لنحافظ على المرأة فله معانٍ أكثر رِفعة من اجتماعية، عِلمية، اقتصادية، تاريخية وثقافية، التي تستدعي دورها الفعّال في التقدّم والتحضّر. وفي حديثه عن وظيفة الخِطاب الديني، فيدعو إلى توظيف الخِطاب الديني الإنساني، العقلاني والتنويري، الذي يعتمد قيم العدل، الرحمة والتراحم(21)، من أجل إبلاغ مأرب منشود لحظة التحقّق، يُعيد للمرأة إنسانيتها وثقتها الضائِعة في مُجتمعاتنا المثقوبة نفسيًا ومعرفيًا وقيميًا.

إذن، كانت هذه أهم النقاط الفِكرية التي طرحها المُفكّر "ماجد الغرباوي"، ليُبيّن بواسطتها الفهم المُشوّه الذي ينجم عن عقل مُتعصّب يخدم منطق الأبويات والوصاية، ولا يكترث لقيم التنوير والحُرّية والإنسانية التي تأبى التأطير، وهذا ما توضّح في الاستبداد الديني القاتِل للجدّة والأصالة معًا. ليضع مشروعه التجديدي والإصلاحي الرامِي في مفاصِله إلى إحداث تغيّرات حقيقية على مُستوى الفهم والسلوك.

خاتمة:

بعد الانتهاء من وضع نقطة النهاية لهذه الورقة البحثية، والتي نُقرّ بأنها نهاية ظرفية مخصوصة هُنا فقط، في انتظار جُهود أخرى تُصحّح أخطاء المسار وتُثمّن صوابيته، نصل إلى إدراك عُمق الضرر الذي يلحق بالواقع العربي الإسلامي جرّاء مركزيات دينية مُستبدة، تقطع الطريق على إمكانات فِكرية آمنت بأن قدر التخلّف والتبعية يُمكن ردُّه بالعمل والإرادة على التغيير نحو الأفضل، وتُجهِض المُحاولات الطموحة لاستنطاق مقدرات العقل المُتّفقة مع القول الديكارتي: "العقل أعدل قسّمة توزّعًا بين الناس"؛ لتبعث الثقة في الذات المُفكّرة بأن العطاء المنهجي والمعرفي ليس حِكرًا على العقل الغربي، فقط ينبغي تهيئة الشُروط اللازمة. لتدفع هذه الحالة المُتأزّمة مُفكّرًا وباحثًا نُقدّر يقظة ضميره الفِكري ونقرأ نصوصه بعينٍ موضوعية تتصل ولا تنفصل، ناقِدة لا ناقِضة، وهو "ماجد الغرباوي"، لنؤكّد على نُقطة طرحها وألحّ على الالتفاف حولها، وهي الإنسان، كسؤال محظور في ثقافتنا، فنحن نشتغل على مباحث المُقدس، الديني، الدولة، ولكن مبحث الإنسان مفقود، رغم أنه مبحث غني جدًا بالإمدادات المعرفية الموصولة بفروع عديدة أبرزها علم الأناسة، ثم إن السبيل للتحضّر يستلزم الإحاطة بالإنسان، ولذلك يجب أن يعي العقل العربي المُسلم أهمية الاشتغال حوله، وقيمة القِراءات الإنسانية العقلانية المُتحرّرة من قبليات لاهوتية مُتزمتّة، في حين مُنفتحة ومُتكاملة مع نُصوص إيمانية عرفت قدّر قارِئها.

***

شهرزاد حمدي – طالبة دكتوراه / فلسفة

كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، الجزائر

.............................

* الدراسة قد شاركت ضمن أعمال مؤتمر: المتغير الفكري وأثره على الخطاب الديني.. الذي انعقد في كلية التربية الأساسية، جامعة الكوفة العراق آذار 2022م، ثم تم نشره مؤخرا في مجلة الكلية الإسلامية الجامعة المحكمة، في الجزء الثاني من العدد: 71 / 28 آذار 2023م.

الهوامش:

(1) موقع المثقف العربي:

https://www.almothaqaf.com/foundation/majed-algharbawi-cv

(2) المرجع نفسه

(3) المرجع نفسه

(4) المرجع نفسه

(5) ماجد الغرباوي، إشكاليات التجديد، ط3، مؤسسة المثقف العربي، شركة العارف للأعمال، سيدني، بيروت، 2016م، ص 247

(6) ماجد الغرباوي، الشيخ محمد حسين النائيني، مُنظّر الحركة الدستورية، ط1، مؤسسة المثقف العربي، شركة العارف للأعمال، سيدني، بيروت، 2012م، ص 137

(7) ماجد الغرباوي، الضدّ النوعي للاستبداد، إستفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، ط1، مؤسسة المثقف العربي، شركة العارف للأعمال، سيدني، بيروت، 2010م، ص 30

(8) ماجد الغرباوي، الشيخ محمد حسن النائيني، مُنظّر الحركة الدستورية، مصدر سابق، ص ص 139-140

(9) المصدر نفسه، ص 140

(10) صالح الرزوق، جدلية العنف والتسامح، قراءة المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي، ط1، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2016م، ص 51

(11) ماجد الغرباوي، الشيخ محمد حسن النائيني، مُنظّر الحركة الدستورية، مصدر سابق، ص ص 146-147

(12) ماجد الغرباوي، الضدّ النوعي للاستبداد، إستفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، مصدر سابق، ص 28

(13) ماجد الغرباوي، إشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 36

(14) ماجد الغرباوي، النص وسؤال الحقيقة، نقد مرجعيات التفكير الديني، ط1، مؤسسة المثقف العربي، دار أمل جديدة، سيدني، دمشق، 2018م، ص 35

(15) ماجد الغرباوي، إشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 15

(16) محمود محمد علي، الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، ط1، مؤسسة المثقف العربي، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، سيدني، الاسكندرية، 2020م، ص 15

(17) ماجد الغرباوي، إشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 24

(18) ماجد الغرباوي، متاهات الحقيقة (1) الهوية والفعل الحضاري، ط1، مؤسسة المثقف العربي، دار أمل الجديدة، سيدني، دمشق، 2019م، ص 196

(19) صالح الرزوق، جدلية العنف والتسامح، قراءة في المشروع الإصلاحي التنويري لماجد الغرباوي، مرجع سابق، ص 73

(20) محمود محمد علي، الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، مرجع سابق، ص 12

(21) المرجع نفسه، ص 40

- قائمة المصادر والمراجع

أولاً: المصادر

1- ماجد الغرباوي، الشيخ محمد حسين النائيني، مُنظّر الحركة الدستورية، ط1، مؤسسة المثقف العربي، شركة العارف للأعمال، سيدني، بيروت، 2012م

2- ماجد الغرباوي، الضدّ النوعي للإستبداد، إستفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، ط1، مؤسسة المثقف العربي، شركة العارف للأعمال، سيدني، بيروت، 2010م

3- ماجد الغرباوي، النص وسؤال الحقيقة، نقد مرجعيات التفكير الديني، ط1، مؤسسة المثقف العربي، دار أمل جديدة، سيدني، دمشق، 2018م

4- ماجد الغرباوي، متاهات الحقيقة (1) الهوية والفعل الحضاري، ط1، مؤسسة المثقف العربي، دار أمل جديدة، سيدني، دمشق، 2019م

ثانيًا: المراجع

1- صالح الرزوق، جدلية العنف والتسامح، قراءة في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي، ط1، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2016م

2- محمود محمد علي، الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري، مؤسسة المثقف العربي، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، سيدني، الاسكندرية، 2020م

ثالثًا: المواقع الإلكترونية

1- موقع المثقف العربي:

https://www.almothaqaf.com/foundation/majed-algharbawi-cv