كتابات

لا دليل على اختصاص الفقيه، أو خصوص الولي من الفقهاء، بملء الفراغ التشريعي، وهو مساحة الواقع باستثناء ما ورد فيه دليل شرعي صريح في مورده، هذا ما انتهت إليه الأدلة. ولا مانع من مشاركته بصفته فقيهاً متخصصاً، بعيداً عن منطق الوصاية. فمنطقة الفراغ إذاً تلك المساحة التي يتولى فيها الشعب مباشرة أو من خلال تمثيل نيابي، تشريع القوانين والأنظمة لتنظيم حياته، بعيداً عن أية ولاية سوى مصالحه ومصالح مجتمعه، شريطة التزام المشرّع بمقتضيات الحكمة وبمبادئ التشريع في أفق الواقع وضروراته، وفي إطار القيم الأخلاقية. وحينما يشك بوجود حكم شرعي في أي مسألة من مسائل منطقة الفراغ، فالأصل هو البراءة، على أساس "قبح العقاب بلا بيان"، كما هو مقرر عند علماء أصول الفقه. (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)[1]. ويقصد بالرسول الحجة الموجبة للتكليف. هذا وفقاً للمنطق الأصولي، وإلا لا معنى للسؤال في منطقة الفراغ ولا معنى لإجراء الأصل الأولي، سواء البراءة أو الاحتياط. ولا داع لوصفها بالإباحة. بمعنى أدق أن الأصل عدم التشريع ما لم يرد فيه نص شرعي. فيكون التشريع السماوي استثناء، والأصل مسؤولية الإنسان مباشرة عن نفسه وشؤونه القانونية والتنظيمية.

إن تكاليف الشريعة واضحة بيّنة لمن يلتزم بها، وهي كل ما اشتملت عليه آيات الأحكام، شريطة فعليتها. وماعدا ذلك فالناس أحرار، لا ولاية لأحد عليهم سوى ولاية الأمة أو الشعب على نفسه. هذا لمن يريد التمسك بالشريعة وآراء الفقهاء، فإن الأصل الأولي عند جملة منهم هو البراءة العقلية. في مقابل من يتمسك بالاحتياط كأصل أولي عند الشك بالحكم المجهول، ثم تأتي البراءة الشرعية لتلغي الاحتياط[2]. فهناك مسلكان، مسلك "قبح العقاب بلا بيان، ومسلك "حق الطاعة". وأما بالنسبة للعقل بعيداً عن الفقهاء والأصوليين، فالأصل عنده حرية الإنسان. ومن حقه ملء الفراغ التشريعي لتنظيم حياته. وبالتالي فإن الأصول العقلية والشرعية تفضي للبراءة في الأحكام المجهولة، وهي منطقة الفراغ. أو بشكل أوضح تلك المساحة التي ليس للشارع فيها حكم محدد، وقد تركها للإنسان يتخذ ما يراه مناسباً وفقاً للعدالة وعدم الظلم، والسعة والرحمة، والمساواة. ولو كان للشارع وهو في مقام التشريع حكم لبيّنه ضمن آيات الكتاب، ومن حق الفقيه حينئذٍ التصدي لبيانه. لكن لم يبيّن، فلا مؤاخذة في وضع قوانين لصالح المجتمع والدولة. وبالتالي لا دليل على احتكار الفقيه التشريع في منطقة الفراغ التشريعي، غير أن الفقه التقليدي بالذات يعيش رهاب الحرية، ويخشى تحمل المسؤولية، ويشعر بسعادة عارمة في عبوديته. لقد عاش الإنسان ردحاً طويلاً من الزمن يتصدى لتنظيم حياته بنفسه، وقد أرسى أعرافاً وتقاليد لضبط سلوك الفرد والمجتمع، حتى وهو يعيش حياة بدائية: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ)[3]. وبعد مجيء الإسلام لم يلغ الرسول جميع الأعراف والتقاليد، خاصة في المجال الأخلاقي: "وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". كل ما فعله الإسلام صحح مسارات العلاقات والأنظمة، وقام بترشيد الوعي، كي يسترد الفرد عقله، ويواصل حياته وفق بوصلة قيمية وأخلاقية، من وحي العقل العملي ومدركاته. لذا لم يسمح القرآن بتمدد الشريعة خارج حدودها، ليتحمل الإنسان مسؤولية خلافة الأرض وإعمارها في ضوء مبادئ العدالة وعدم الظلم والجور: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[4]. وبالفعل نهى عن كثرة السؤال، ليحد من مشاعر العجز الداخلي، ورهاب المسؤولية الحياتية. وبين بشكل واضح وصريح أن حدود التشريع تنتهي بمضامين آيات الأحكام، ولم يمنح صلاحيات تشريعية لأحد بشكل صرح واضح، ولم يكلف أحداً بملء منطقة الفراغ التشريعي. وبشكل أدق، لم يجعل ولاية تشريعية للنبي فضلا عن غيره، وآيات الكتاب تشهد في تحديد مسؤولياته، وتقدم الحديث مفصلا. وثم آيات تؤكد حدود التشريع، وعدم السماح بتمدد التشريع:

- (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[5]. بهذه الآية تعرف مساحة المحرمات التي تتناقلها كتب الفقه وليس لها جذر قرآني، سوى روايات لا يمكن الجزم بصحة صدورها، تعد عندهم حجة لحجية مطلق السُنة النبوية.. يفهم من الآية هناك من استفسر عن حرمة شيء، فأعطت الآية ضابطة في التحريم، وما عداها فهو مباح. والآية ضمن آيات رسمت لنا حدود الشريعة والأحكام، وأعطت ضابطة كلية مفادها: "المحرم ما نصت الشريعة على حرمته"، ولازمها أن يتحمل الإنسان مسؤولية الواقع وضروراته. وطالما أكدت أن دور الدين ترشيد الوعي، وتبقى الأصالة للعقل وما حباه الله من قدرات خارقة، وأمامنا التقدم الحضاري الهائل، رغم تحفظنا على بعض تشريعاته.

- (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ). فكل ما عدا تشريعات الشريعة فهو حلال ومباح، فتشمل الإباحة بامتدادها منطقة الفراغ، فنحكم على كل ما نشك بحرمته بالحلية، مشمول بالإباحة اللاإقتضائية. بل وحتى الإباحة الإقتضائية، فإن مفادها وجود ملاكات أن تبقى منطقة الفراغ مباحة، قابلة للتشريع من قبل الإنسان، لتواكب تشريعاته النسبية تطورات الواقع وضروراته.

- (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)[6]. فهي أحكام محددة، فيكون الأصل الإباحة إلا مادل الدليل على حرمتها.

- (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ)[7]. مما يؤكد اقتصار الولايتين التكوينية والتشريعية على الله تعالى. ولا يجوز لأحد أن ينسب له ما لم تصّرح به الآيات. وهنا مكمن الخطر حينما ينسب الفرد فتاوى وأحكام الفقيه لله، ويتعامل معها بقدسية، وهي مجرد آراء اجتهادية، ووجهات نظر فقهية، تختلف من فقيه لغيره، ومن واقع لآخر، ومن عصر لعصر.

- (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ)[8].

كل هذا وغيره يؤكد عدم وجود دليل على اختصاص الفقيه أو الولي من الفقهاء بملء منطقة الفراغ التشريعي، وتبقى منطقة مباحة، يتصدى الخبراء لملئها، وفقاً لمصالح شعوبهم وأوطانهم وفي إطار القيم الأخلاقية الأعم من القيم الدينية. وبالتالي لا دليل على ما ذهب إليه السيد محمد باقر الصدر، كما تقدم: (.. وإنما ملأه بوصفه ولي الأمر، المكلف من قبل الشريعة بملء منطقة الفراغ وفقاً للظروف). وهذا لا دليل عليه. إذ أمضت الشريعة الإسلامية البيع والشراء، واستثنت الربا وبيع النسيء، ارتكازا لملاكاتها القائمة على التراضي، لذا لا تجد أحكاماً قرآنية تفصيلية تخص أحكام البيع والشراء مقارنة بأحكام العبادات مثلا. فملاكات التجارة ملاكات متغيّرة فاكتفت الشريعة بالتراضي لتمريرها وإمضائها. وليس التجارة فقط، فالمجتمع العربي رغم حكومة العنف والقوة لكن تضبط حركته مختلف التشريعات، بعضها ديني، وهناك قبَلي وأخلاقي، وعرفي، وتجاري، وتجاور وعلاقات، وحرب وسلام وديات وقضاء، وغير ذلك، فالإسلام لم يلغها جميعها، بل أمضى بعضها، وهذّب الأخرى، وأعاد توازن ثالثة على أساس العدالة ومنع الظلم. وأضاف ما رآه ضرورة لحفظ توزان المجتمع واستتباب الأمن والسلام، كالمطالبة بأربعة شهود شرطا لثبوت الزنا، وإقامة الحد. فلا يمكن للخالق أن يشرع لواقع متحرك تشريعات مطلقة، فربط فعليتها بفعلية موضوعاتها. وقد راعى مهمة الإنسان ودوره، وضرورة الاعتماد على نفسه. وأمامنا القوانين المدنية الحديثة، التي خلقت أجواء آمنة، وحياة اجتماعية مستقرة وفقاً لمركزية العدل، وهذا شاهد على كفاءة الإنسان تشريعا. بينما تعصف بأحكام الفقهاء جملة إشكالات لا يمكنهم تجاوزها بفعل القواعد الأصولية التي أسسوها وفرضوها سلطة توجه وعيهم الفقهي[9]. وأيضا أهملت الشريعة السياسة، سوى مبادئ تصلح أن تكون أُطرا لمختلف التشريعات، ولم يتطرق القرآن لأهم مواضيعها. أعني الخلافة، التي تسببت في تشتت الأمة فيما بعد. ولم نقرأ شيئا عن شروطها، ومسؤولياتها. وبالتالي، ملء منطقة الفراغ التشريعي تقع على عاتق المجتمع، يتدبرها وفقاً لمصالحه، وما يحقق أمنه واستقراره، شريطة عدم تعارض تلك القوانين والأنظمة مع ثوابت الشريعة (وهي مبادئ التشريع: العدالة وعدم الظلم. السعة والرحمة، المساواة)، مادام المجتمع مسلما، ملتزما بأحكامها. والمجالس النيابية والتشريعية ضمن مؤسسات الدولة الحديثة هي الممثل الوحيد اليوم. وحينئذٍ تستمد القوانين الوضعية شرعيتها من الشعب، ومن قدرتها على أداء وظيفتها. ولا ولاية إلا ولاية الأمة على نفسها[10].

نعود لمواصلة البحث في مفاد الفرضية المتقدمة: (ليست الأحكام في الشرائع السماوية معطى نهائياً، بل أن تشريعها يجري وفقاً لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في أفق الواقع وضروراته). وهي مبادئ عقلائية، يحتكم لها الخبراء والمشرعون وفقهاء القانون، من يتصف منهم بالحكمة والعقلانية والموضوعية، ويركن للعدل والرحمة ونظرة المساواة، بعيداً عن التحيّز والظلم والجور. ولا يمكنهم ذلك ما لم يحيطوا بالواقع وضروراته، ويحددوا ملاكات الحكم من مصالح ومفاسد. وعندما يترافع الخصوم أمام المحاكم، سواء الشعبية أو الرسمية، يترافعون لإحقاق الحق وإقامة العدالة وتسوية الخلافات، انطلاقا من تلك المرتكزات. أي يترافعون على أساس قبلياتهم عن الحكم وما يتصف به الحاكم من صفات العدالة وإحقاق الحق أي مبادئ التشريع. وهكذا الحال بالنسبة للأنظمة والقوانين، فإن ما تضمره من مصالح لتنظيم المجتمع والسلطة، هي المبرر لالتزام الناس بها، لذا يعترضون عندما لا تحقق غاياتها، ويصفونها بالظلم وعدم العدل. فتلك المبادئ مبادئ عقلانية بعرف العقلاء، وقد تم الاستدلال عليها بمجموعة آيات قرآنية كما تقدم وسيأتي. وعندما أكد الخطاب القرآني عليها، فهو تأكيد على قضايا مرتكزة لدى العقلاء والحكماء. وعندما يؤكد على العدل في الحكم فإنه مأخوذ في تشريعات الشريعة لا محال، وعندما تؤخذ المبادئ بنظر الاعتبار فهي ناظرة للواقع وضروراته، وللفرد وحاجاته، وللمجتمع ومتطلباته، فيأتي التشريع ليُرسي العدالة والأمن والاستقرار ويحق الحق ويعطي كل ذي حق حقه، ضمن ظرفه الزماني والمكاني. المهم أن تشريعه كان وفقاً لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع، ووفقاً لهذه المقتضيات يجب إعادة النظر في فعلية الحكم عندما يتغير الواقع. وبنفس المنطق ينبري المشرّع لملء الفراغ التشريعي، مع مراعاة الواقع وضروراته، والالتزام بمبادئ التشريع وفق ذات المقتضيات. فأحكام الشريعة ليست قضايا ميتافيزيقية أو غرائبية، ولا تقع ضمن اللامفكر فيه، سوى النظرة البعيدة ضمن هدف الخلق وحركة الوجود، وهذا لا يشمل جميع الأحكام. وأيضا هي ليست تشريعات ارتجالية، ولا هي طلاسم وألغاز يتعذر فقهها وإدراك فلسفتها. بل هي تشريعات قامت على مبادئ وملاكات. أي قامت على قيم اعتبارية، لها دلالتها وسلطتها، وتقع ضمن مرتكزات الوسط الثقافي الذي يرتهن له تأويل الوحي. وبدونها لا يستوي التأويل، ولا يحقق مداه التشريعي. وما على الفقيه سوى الخروج من منهج استنباط الحكم المتداول إلى منهج آخر، لإدراك فلسفة الحكم وتاريخه وخلفياته الاجتماعية والمبادئ التي ارتكز لها، والمنطق الذي حدد مساره. فعندما تقول الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)[11]. فهي تشترط النظافة في إقامة الصلاة، وحنيئذٍ سيغني غسل الجسد كاملا عنه، بينما لا يقول بذلك إلا قلة من الفقهاء، باستثناء غُسل الجنابي، فهو يكفي عن الوضوء. وكان استاذنا وهو يشرح موضوع الوضوء في إحدى مقررات الفقه، خلال مراحل الدارسة، قبل قرابة أربعين عاما، يضفي معان روحية ونورانية. يرفض أي تفسير مادي ظاهري لهذه العبادة، فينفعل خلال شرحه، ليعبر عن شيء هو لا يعرفه!!!.

الفقه التقليدي السائد يتشبث بقدسية الأحكام بالمعنى الدوغمائي، ويرفض مراجعة ملاكاتها ومدى فعليتها، بدعوى ميتافيزيقيتها، وتعذر معرفة عللها، وما يبدو علة وسببا لتشريع الحكم لا يعدو كونه حكمة. وهذا غير صحيح، فعندما يأمر القرآن بالعدل فهو لا يؤسس له، بل يؤكد على مرتكز عقلائي، سائد في جميع المجتمعات في مقابل الظلم والعدوان. مادام العدل صفة نفسانية من مقولة الكيف، يتصف أو لا يتصف بها الإنسان. فجاء الإسلام وأكد عليه. وبالتالي، فهي قيم عرفية ومرتكزات عقلائية، يمكن إدراكها وتحديد ملاكات الحكم في ضوئها. ولو كان يقصد معنى آخر لمفهوم العدل، كان ينبغي بيانه، لكن لم يفعل.

تأسيسا على ما تقدم، يمكن اعتبار التشريعات القرآنية نماذج عملية لتشريع الأحكام، وفقاً لتلك المبادئ، شريطة إدراك مرتكزاتها ومقاصد تشريعها. بمعنى أدق يمكن الارتكاز لتلك المبادئ التي قامت عليها تشريعات الشريعة، لملء الفراغ التشريعي، بعيداً عن قدسيتها بالمعنى الدوغمائي، كي تتكيف مع الواقع وحاجاته. وبهذا الصدد يمكن تأسيس قواعد أصولية تساعد على تشريع أحكام تمثل وجهة نظر فقهية، يكون فيها القياس والذوق الفقهي أدوات ماضية. لأنك تبغي توظيف مبادئ التشريع لملء الفراغ التشريعي، دون نسبتها للشريعة. فالمشرّع بصدد أحكام لتنظيم حياة الناس في مساحة الفراغ التشريعي وبإمكانه الارتكاز لمبادئ التشريع وفق مقتضيات الحكمة. ولا ريب في ذلك، إنما الخطر في نسبة أحكامه للشريعة، فينقاد لها المكلّف مدفوعا بالطاعة والانقياد على أمل إحراز مرضاة الله، كما توحي فتاوى الفقهاء بذلك[12].

***

ماجد الغرباوي – باحث بالفكر الديني

......................

[1] - سورة الإسراء، الآية: 15.

[2] - انظر مثلا، محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، مصدر سابق، ك1، ح1، ص 140.

[3] - سورة البقرة، الآية: 213.

[4] - سورة الأحزاب، الآية: 72.

[5] - سورة الأنعام، الآية: 145.

[6] - سورة الأنعام، الآية: 151.

[7] - سورة النحل، الآية: 116.

[8] - سورة البقرة، الآية: 179.

[9] - الغرباوي، ماجد، الفقيه والعقل التراثي، مصدر سابق، ص 166.

[10] - شمس الدين، الشيخ محمد مهدي، نظام الحكم والإدارة في الإسلام،دار الثقافة، 1992، ص 431.

[11] - سورة المائدة، الآية: 6.

[12] - للتفصيل، أنظر: الغرباوي، ماجد، مقتضيات الحكمة في التشريع.. نحو منهج لتشريع الأحكام، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا وأمل الجديدة، دمشق – سوريا، 2024م. سيما الصفحات 70 – 80.

 

مقدمة

تتوقف صدقية الاجتهاد على مدى التزام المجتهد بقيم الدين ومبادئ التشريع، التي هي مبادئ أخلاقية أولاً، مهما تعارضت مع قناعاته. ولا صدقية لفقيه يَعمدُ لتهميش الأخلاق وفاء لمقدماته الكلامية والأصولية. الاجتهاد جهد بشري وليس وحياً إلهياً أو إملاء سماوياً.. جهد بشري بأي معنى كان وفق مبانٍ ومبادئ ومقدمات تختلف الفتوى باختلافها، كانت وراء اختلاف الفقهاء في كثير من المسائل الفقهية. فثمة فرق بين من يتبنى أو لا يتبني مقولات علم الكلام القديم من الفقهاء.. بين من يرى أولوية الإنسان على التشريع أو العكس.. بين من ينفي إطلاق الأحكام الشرعية ومن يؤكده. والحكم الفقهي يختلف بين من يؤمن أو لا يؤمن بعصمة الأئمة والصحابة. والنتيجة ستختلف بين من يعتقد بحجية أو عدم حجية: الدليل العقلي، القياس، الاستحسان، المصالح المرسلة وغير ذلك. وأيضا تختلف الفتوى باختلاف المباني الرجالية والجرح والتعديل وشروط صحة الرواية. وأشياء أخرى1. وبالتالي رأي المجتهد مرتهن لمبانية وثقافته وقبلياته وبيئته ومتبنياته العقدية والأخلاقية وتوجهه السياسي، علم بذلك أم لم يعلم، لتوقف نظام اللغة وفهم النص على بعضها. فاللوم لا يقع على النصوص والروايات وحدها مادام استنباط الحكم مرتهن لثقافة ومباني المجتهد. من هذا المنطلق، فإن نقد وتقويم الاجتهاد، مسؤولية أخلاقية ودينية، لتفادي اتخاذ الفقه ذريعة عند مخالفة قيم الأخلاق باعتباره معطى مقدّساً، سيما مع جملة نصوص تكرّس سلطة المجتهد، وتضعه فوق النقد والمساءلة: كـ"العلماء ورثة الأنبياء"2. "لحوم العلماء مسمومة"3. "الراد عليهم كالراد علينا وهو حد الكفر بالله!!"4. "إذا اجتَهَد فأصاب فله أجرانِ، وإن اجتَهَد فأخطَأَ فله أجرٌ"5. وهي نصوص تمارس التضليل، حينما تستبعد منهج استنباط الحكم الشرعي من النقد، وتعفي النسق العقدي للفقيه عن المساءلة رغم سلطته وقوة تأثيره، حينما يفرض محدداته على نتيجة الاستنباط. فهناك اختلاف بين المذاهب الإسلامية بل بين مجتهدي المذهب الواحد حول المسألة الواحدة، بفعل اختلاف القناعات العقدية.

لا قيمة مطلقة لهذه النصوص، فهناك كليات حاكمة، تعمل كموجه لعملية الاستنباط وضبط أدائه، كآية كآية: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ)6، وقول الرسول: (إنما بُعِثْتُ لأتمم مكارم الأخلاق)7، فأي تعارض بين الفتوى والعدالة أو الأخلاق أو كلتيهما يلزم منه نقض غرض البعثة النبوية التي تروم قيام الدين والتشريع على أسس عادلة ومبررة أخلاقياً. ويُقصد بالأخلاق خصوص الأصيلة دون النسبية. بينما همّشت مناهج الاستنباط الأخلاق، حداً لا يشعر المجتهد بحرج أخلاقي حينما تجرح فتواه كرامة الإنسان. أو عندما يدفعه الاختلاف العقدي إلى إقصاء الآخر، أو مجافاة أخيه المسلم بل وحتى إباحة دمه أحياناً. ولا ننسى اصطفاف فقهاء السلطة عبر التاريخ، وجهودهم في شرعنة الاستبداد، وإباحة الدماء ونهب أموال الناس، ومازالت الشرعنة قائمة تبرر الفساد والاستبداد بعيداً عن قيم السماء. فليس ثمة موقف أيديولوجي من المجتهد والاجتهاد بل موقف ديني أخلاقي لتقويم الافتاء وضمان عدالة التشريع في إطار القيم الأخلاقية.

إن تقليد أو اتباع الفقهاء لا يُسقط، وفقاً لمنطق الكتاب الكريم، المسؤولية الشخصية عن الفرد، ويبقى الإنسان مسؤولاً عن عمله، مادام عاقلاً مدركاً يعي سلوكه وتصرفاته، ولا يكون التقليد حينئذٍ معذّراً له يوم الحساب مطلقاً: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ)8، (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)، ما لم يستوفِ الحكم شرطه الأخلاقي. بل لا تُستبعد المؤاخذة مع علم الشخص بذلك، وإن كان مقلداً لا مجتهداً. التقليد اتباع واعٍ ومسؤول للفقيه لشخص تخصصه استنباط الأحكام الشرعية، قد يُصيب وقد يُخطئ. لا يوجد ضمان لعدم تأثر عملية الاستنباط بذاتياته. فيكون الإنسان / المقلد / المتبع / المكلف مسؤولاً أمام الله والضمير. كما لو استباحت فتوى المجتهد دماء المسلمين لأسباب طائفية، فلا طاعة للمجتهد حينئذٍ، ولا مؤاخذة على مقلديه إذا لم يستجيبوا لفتواه، لمخالفتها قيم الدين والأخلاق، بل فيها انتهاك لقيم الدين الذي حرّم سفك الدماء وقتل النفس المحترمة، وهذا مجرد مثال. لا يكفي الالتزام بفتاوى الفقهاء في صدق مفهوم التدين، ولا يصلح أن يكون معياراً، على أساسه يفرز المتدين عن غيره. وبشكل أدق:

يتوقف تقييم أي سلوك أو أداء على وجود معيار أو نموذج أو مثل أعلى أو لائحة شروط مبررة أخلاقياً بشكل كافٍ إذا كانت العدالة والمساواة هدفها أو صورة مثالية. الـ(معيار لغة: اسم، جمعه: معاييرُ.. والمِعْيَارُ "في الفلسفة": نموذجٌ متَحَقَّقٌ أو مُتَصَوَّرٌ لما ينبغي أن يكون عليه الشيء.. وعند المنطقيين: نموذج مشخص، أومقياس مجرد، لما ينبغي أن يكون عليه الشيء)9. وهو اصطلاحاً: مجموعة ضوابط ومواصفات قانونية أو دينية أو توافقات اجتماعية، تتعدد بتعدد حقولها، تشترط الوضوح والدقة والثبات والاستقلالية في صدقيتها كمرجعية لتقييم الأداء المؤسساتي والسلوك الاجتماعي. ولا تضر نسبية مصاديق العدالة هنا في صدقيتها كقيمة أخلاقية عليا تشترطها جيمع الأنظمة الإنسانية والدينية. بهذا بات جلياً تهافت معايير الأنظمة الفوضوية والاستبدادية والشمولية، لافتقارها شرطي الأخلاق والاستقلالية. ما دامت تجسد رغبات شخصية تستهين بكرامة الناس. ومواصفات منتهكة تفتقر للثبات والمساواة. المعيار بشكل مكثف إذاً: "نموذج أو مثل أعلى في ضوئه تقاس جودة الأشياء ومدى تطابقها مع الواقع". فالأخلاق الأصيلة وليست النسبية تصلح بجدارة معياراً للسلوك السوي، السليم. مادامت قيم إنسانية كونية مطلقة، يستشعرها كل إنسان سوي الفطرة شريطة عدم المانع. السلوك يتصف بالفضيلة عندما يستوفي شرطه الأخلاقي، بإرادة حرة تنبثق من أعماقه الإنسانية. فنخلص أن الالتزام الأخلاقي يصلح معياراً للفضيلة والسلوك السوي. أو "الأخلاق معيار الفضيلة"، وعلى هذا الأساس تعتبر الأخلاق من العلوم المعيارية لتحديد "ما يجب أن يكون عليه" السلوك السوي، شأنه شأن علم المنطق والجمال، جميعها علوم معيارية. جاء في معاجم اللغة: (العلوم المعياريّة: العلوم التي تهدف إلى صوغ القواعد والنَّماذج الضَّروريّة لتحديد القيم كالمنطق والأخلاق وعلم الجمال)10. فهناك ثابت تحتكم له هذه العلوم، وعلى أساسه تصدر أحكامها. ولولا الثبات القيمي تختل قيم التقييم، وتنعدم العدالة والمساواة في الحكم، وقد تهدر كرامة الإنسان، وتضيع حقوه.

معّيار التديّن

هل الفقه من العلوم المعيارية؟ وهل الالتزام الفقهي دليل على تدين الإنسان؟ أحسبه سؤالاً مهماً، لفرز الإلهي عن البشري، وعدم التفريط بحدود الفعل الأخلاقية.

لا ريب أن الفقه معيار لصحة العبادات والمعاملات القائمة على أسس فقهية، فيحكم بصحتها أو بطلانها. لكن هل يصلح الفقه معياراً للتدين والسلوك السوي باعتباره مظهرا إيمانياً؟ وهل تتوقف صدقية التدين على الالتزام الفقهي فقط؟ الفقه أم الأخلاق معيار للتدين؟.

التدين مظهر إيماني وخُلق كريم، التزام واعٍ بأحكام الشريعة وهدف التشريع. وسلوك يكرّس قيم الفضيلة والصلاح، وأداء أخلاقي، يعكس البعد الإنساني في الدين. فهو التزام أخلاقي قبل أن يكون سلوكاً تعبدياً: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)11. ليس التدين مجموعة طقوس وشعائر شكلية. أو أداء عبادي متكَلَف، بعيداً عن الأخلاق. فرب متدين فظ في تعامله، غليظ في سلوكه، لا يأمن الناس جانبه، وتخرصاته، فهل يحسب سلوكه على الدين وقيمه الأخلاقية؟ الانحراف الأخلاقي ينفي صفة التدين، مهما كان التزامه بأحكام الفقهاء.

لعل أخطر تداعيات الاجتهاد على مرّ التاريخ اعتبار الفقه، وليس الأخلاق، معياراً للفضيلة والاستقامة والتدين. الفقه لا يراعي القيم الأخلاقية في استنباط الحكم الشرعي، ولا يعتبرها شرطاً في صدق مفهوم المتدين. والحسن عنده ما حسّنه الشرع، والقبيح ما قبّحة الشرع، وينفي قدرة العقل على اكتشافهما. كما يفتقر الفقه للثبات والوحدة ولو أجمالاً، وهو شرط في صدق أي معيار أخلاقي أوجمالي. فهو لهذا السبب لا يصلح معياراً وحيداً للتدين الحقيقي. لقد دأب الفقهاء على الاختلاف حول المسألة الواحدة غالباً، حد التعارض المستقر والتناقض، كمن يرى وجوب إقامة صلاة الجمعة ومن يرى حرمة إقامتها في زمن غيبة الإمام، أو يشترط حضور الإمام في إقامتها، كما عند بعض المذاهب الشيعية. أو من يجيز لعبة الشطرنج وشرب النبيذ وحلق اللحية والاستماع للغناء والموسيقى ومصافحة المرأة، وغير ذلك كثير، ومن يفتي بحرمتها جميعاً. فأيهما متدين، هل من يحضر صلاة الجمعة أم من يتخلف عن حضورها؟ أم كلاهما متدين أو كلاهما غير متدين؟ وهكذا باقي الأمثلة. لذا يفقد الفقه مصداقيته كمعيار للتدين. إضافة إلى تأثر فتاوى المجتهدين بعقيدتهم، وباتجاههم السياسي والأيديولوجي. وأقصد بالتدين سلوك لا يفارق الفرد حدَ السجية والمَلَكَة، وليس سلوكاً مؤقتاً أو استثنائياً، فقد يرتكب المتدين خطأً أو يقترف ذنباً، أمر متوقع من كل إنسان، والكلام عن مَلَكَة التدين وانطباع السلوك بطابع الدين.

تداعيات الاجتهاد

لا يمكن تدارك تداعيات الاجتهاد الفقهي، سيما الاشكالية الأخلاقية إلا بمراجعة جذرية، بدءاً بمسائل علم الكلام القديم مروراً بأدوات الفقيه وآليات استنباط الحكم الشرعي. وسبق أن ذكرت: ثمة مبررات عقلائية وشرعية وحضارية وأخلاقية وراء العدول المرجعي من الفقه إلى الأخلاق، لملء الفراغ التشريعي (الذي أدعو له)، تقررها وظيفة الدين ودور الإنسان في الحياة. وبالفعل ذكرت ثلاثين مبرراً، هي بالذات تداعيات الاجتهاد ومن إفرازات عملية استنباط الأحكام الشرعية. وأضيف هنا ما هو أهم وأخطر، إضافة نوعية لها الثقل الأكبر في تداعيات الاجتهاد:

- انقلاب وظيفة السُنة من البيان والتفصيل، المقررة قرآنياً، إلى مصدر تشريعي هي بتقديري أخطر تداعيات الاجتهاد. والأخطر منها توسعة السُنة لتشمل السلف الصالح وخصوص الخلفاء الأربعة عند السُنة، وأئمة أهل البيت عند الشيعة. والأدهي رغم بشريتها غدت أحكاماً وتشريعات مطلقة تتعالى على تاريخيتها وظرف صدورها. فالتبس البشري بالإلهي، وأصبح الأول مقدّساً يخصص ويقيّد آيات الأحكام. الفقهاء لم يكتفوا بتوسعة مصادر التشريع بل ارتفعوا بالمصادر الثانوية على مستوى حجية آيات الكتاب التي هي قطعية الصدور.

- التأكيد على شمول الشريعة: دون دليل قرآني صريح، سوى رغبات نفسية وأيديولوجية، فكانت وراء تقييد حرية الإنسان، وعدم السماح له بالتصرف خارج حدود الأحكام الخمسة، أو يكون عاصياً منحرفاً. ثم مع عدم وجود دليل صريح في المسائل المستحدثة، هناك الأصول العملية لتحديد وظيفة المكلف في هذه الحالة هل هي البراءة أم الاحتياط؟، كل هذا بناء على مقدمات لا أصل لها سوى رغبات فقهية على حساب الإنسان وحريته.

- غدا الفقه معياراً للاستقامة والانحراف، حتى مع اختلاف الفتوى من فقيه إلى آخر، فأربكت موازين التقييم، وأفضت إلى زعزعة التسامح والسلم الأهلي بشكل غير مباشر. فقد تكون مستقيماً متديّناً عند فقيه، فاسقاً منحرفاً عند غيره!!. فكيف يتعامل معك الناس في هذه الحالة؟ وطالما أكدت مراراً أن البحث يفترض مجتمعاً مسلماً يريد أن يحيا في ظل أحكام الشريعة وولاية الفقه والفقهاء.

- فرضوا على الفرد التقليد دون الاتباع، عندما حددوا موقفه من الشريعة بثلاثة: إما مجتهد تعمل وفقاً لاجتهادك. أو محتاطاً تحتاط بين الآراء. أو مقلداً لأحد المجتهدين. التقليد كرّس روح التبعية والانقياد. أوهموا الفرد أن التقليد الذي هو عندهم وضع مسؤولية عمل الفرد برقبة المجتهد يكفي معذراً يوم الحساب، وهذا خلاف المنطق القرآني الذي يحمّل الفرد مسؤولية عمله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ). مفهوم التقليد يختلف عن مفهوم الإتّباع. الثاني تلقٍ والتزام واعٍ حُر، كاتباع تعليمات وإرشادات المحامي والطبيب والصيدلي، ثم تنقطع صلته بهم. بينما التقليد مفهوم سلبي، يتضمن إقراراً بالعجز والجهل، فيكون قدر المكلف التقليد وسيلة لبراءة ذمته المفترضة. بهذا الشكل وضع مفهومُ التقليدِ المجتهدَ فوقَ المساءلة. لا لأنه فوق المساءلة حقيقة، بل هو مجتهد قد يُصيب وقد يُخطئ، قد يكون واعياً دوره ومكانته وقد لا يكون كذلك، بل لأن مفهوم التقليد يضع فارقاً نوعياً بين المقلِد والمقَلَد. الأول يفرض عليه قصوره الذاتي الاصغاء والالتزام. والحقيقة أنك لست عاجزاً، وليس هناك فارق نوعي غير أن المفهوم يوحي ذلك عندما يخلق لديك قناعة بدلالته. وهذا فارق أساس بين التقليد والاتباع. فكان مفهوم التقليد أحد روافد سلطة الفقيه، لا تخفى تبعاته الأخلاقية، عندما يصادر حرية الفرد، ويفرض عليه وصايا وولاية وقيمومة الفقيه. فيبقى تابعاً له مطيعاً لأوامره، ولو كان على خلاف قناعاته الأخلاقية.

- تفاقم سلطة الفقيه من كونه مجتهداً، مسؤوليته استنباط الحكم الشرعي وفق مبانٍ ومقدمات إلى ولي وقيّم لا على الدين فقط بل على الفرد والمجتمع والتشرع والأموال، بلا دليل قرآني صريح، سوى سلطة الفقه، والاستعداد المجتمعي لتقبل ولايته. ولا تخفى مخاطر وتداعيات ولاية الفقيه بهذا المقام، سيما عندما يكون فوق القانون، ومن حقه مخالفة الدستور، فهو الولي الشرعي، وليس القانون.

نخلص: ليس من حق الفقيه احتكار التشريع في منطقة الفراغ التشريعي، وليس خصوص النص مصدرا لتشريع الأحكام بل وراءها قيم ومبادئ وملاكات يمكن اكتشافها والتشريع وفقها. وهو حق مكفول لكل خبير، يمتلك ادواته12.

***

ماجد الغرباوي – كاتب وباحث

........................

هوامش

1- للتفصيل يراجع: الغرباوي، ماجد، النص وسؤال الهوية، مؤسسة المثقف ودار أمل، ط 2018،ص 143 و144.

2- روى أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ضمن حديث طويل:” إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنَّما ورَّثوا العلم، فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافر.

3- ليس حديثاً نبوياً، بل قول يتناقله العلماء، يأتي من باب تحصين الذات، وقمع المعارض.

4- فقرة من (مقبولة) ابن حنظلة، رواية شيعية معروفة، تؤسس لسلطة الفقيه وهي رواية ضعيفة، توافقوا على قبولها، مازالت تكرس سطلتهم. أنظر: وسائل الشيعة، الشیخ الحرالعاملي، ج27، ص137، ابواب صفات القاضي، باب11، ح1، ط آل البیت.

5- أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد، برقم 7352، ومسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد، برقم 3240.

6- سورة النحل، الآية: 90.

7 - البخاري في (الأدب المفرد) (273)

8- سورة الصافات، الآية: 24.

9- أنظر قواميس اللغة آونلاين. والمعجم الفلسفي، جميل صليبا، ج2، مادة معيار.

10- المصدر نفسه.

11 – سورة الفرقان، الآية: 63.

12- للاطلاع مفصلا، ينظر:

https://www.almothaqaf.com/c1d-2/970033

مقدمة: يعاني الوعي الديني من التباس الإلهي بالبشري عبر فتاوى وأحكام اجتهادية نسبية تسوّق على أنها تشريعات إلهية، تسلب الفرد حريته وإرادته عندما تفرض عليه قبليات المجتهد، سواء كانت عقدية أم أخلاقية، وتفرض عليه مواقف، يلتزم بها بدوافع دينية، مهما تعارضت مع قيمه الإنسانية. ولعل الموقف من الآخر المختلف، بما فيه المختلف الداخلي أوضح المصاديق. يعيش معها الفرد حالة اغتراب عن طبيعته الإنسانية، فيحسب تصرفه تكليفاً شرعياً قربة لله لتفادي تأنيب الضمير وقمع شكوك الحقيقة وهي تدوي في أرجائه. فنقد آليات وأدوات ومرجعيات ومباني الفقيه، مهمة أخلاقية لاستعادة الوعي، كخطوة أولى للنهوض الحضاري. والاجتهاد أحد المصطلحات الفقهية الخطيرة، ارتفع به الخطاب الديني حد الاصطفاء الإلهي، بعيداً عن حقيقته وأساليبه في تزوير الوعي بل وتشويه القيم الدينية الأصيلة عندما يقحم الناس في صراعات عقدية وسياسية تحت عناوين طائفية وأيديولوجية، ويعتبر فتاواه وأحكامه ملزمة لأتباعه، ومبرئة للذمة، كما يكتبون في بداية كتبهم الفقهية عادة. أو عندما يشرّعون لأحكام تتعارض مع القيم الأخلاقية والإنسانية، كالحيل الشرعية، وتبرير أخذ الربا بعناوين ثانوية، وحماية سلطة الاستبداد تحت شعارات طائفية ومذهبية.

فما هو الاجتهاد؟ وما هي شرعيته؟. هل هو مصدر من مصادر التشريع أم هو منهج لاستنباط الحكم الشرعي؟. أو ماذا؟ وهل ثمة ضرورة دينية وأخلاقية له أم لا؟.

المسار التاريخي

كانت محاولات الفقهاء، لتدارك نقص الأدلة مضنية، وكانت وجهتهم الأولى توسعة مفهوم السُنة لتشمل سُنة الأئمة والصحابة بشروط، إضافة إلى مطلق سُنة النبي، بيد أن هذا القدر عجز هو الآخر عن مواكبة الواقع وأسلمة الحياة وفقاً لشرعة الفقهاء. إنها مهمة صعبة مع نقص الأدلة، وقد تكون تعجيزية لو اقتصروا على النص وحده، بعد أن ألزموا أنفسهم بملء الفراغ التشريعي مهما راكم الواقع من أسئلة ومستجدات حياتية تتطلب موقفاً شرعياً. وادَعَوا أن مهمة الحكم الشرعي تنظيم حياة الإنسان، وليس جزءا منها ليأخذ العقل دوره في التشريع وفقاً لمتقضيات الحكمة ومبادئ التشريع فيما لا نص فيه، لذا عرّفوه: بـ(التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان). (الصدر، محمد باقر، دورس في علم الأصول، ج1، ص63). ولا يخفي أن توسعة موضوع الحكم ليشمل جميع وقائع الحياة اجتهاد شخصي، لم تصرّح به الآيات، ولن تدعمه الأدلة سوى آراء فقهية قديمة، تمت ترقية مصادرها لدرجة الكمال، فغدت نصوص مقدسة، تتعالى على النقد والمراجعة. التعريف المتقدم للحكم الشرعي في كتب أصول الفقه يكشف أفق تفكير الفقيه، وهو يكرّس سلطته عندما يلزم نفسه بمواصلة التشريع لمواكبة الواقع. وتعني المواكبة استمرار التشريع الفقهي، وبالتالي استمرار منصبه وصلاحياته وامتيازاتها وسلطته ومركزيته، سيما الروحية منها. لذا يؤكد الفقهاء، وفقاً لرؤيتهم الكونية ومنظومتهم الأخلاقية، أن الإنسان ملزم بالتوفيق بين سلوكه في مختلف مجالات الحياة والشريعة الإسلامية!! بعد أن آمن بالله والإسلام والشريعة، وبعد أن عرف أنه مسؤول كونه عبداً لله تعالى عن امتثال أحكامه. واتخاذ الموقف العملي الذي تفرضه عليه تبعيته للشريعة. (المصدر نفسه، ص45). وهذا تصور عبودي للإنسان وحقيقته الوجودية، يرفضه الاتجاه الأخلاقي في التشريع. ولو سلّمنا جدلاً بقوله، فهو صحيح بالنسبة للأحكام المعلومة، وأما المشكوكة والمجهولة فالأصل براءة الذمة. غير أن الصدر أدرك الإشكال، فأضاف: (واتخاذ الموقف العملي الذي تفرضه عليه تبعيته للشريعة)، وهي رؤية كلامية مترشحة عن "مسلك حق الطاعة" الذي تبناه محمد باقر الصدر ونظّر له في كتبه وأبحاثه الأصولية. بيد أن الدليل العقلي عاجز عن إثباته، وحكم العقل ثابت بقبح العقاب بلا بيان. وليست تصورات مسلك حق الطاعة سوى صورة نمطية للإله، وقيم العبودية التي تسرّبت من خلال بعض التشريعات، وتحوّلت بمرور الأيام إلى قيم دينية. وسبق الكلام عن الموضوع.

إذاً، بداهات العقل الفقهي قائمة على وجود تشريعات لكل وقائع الحياة. بيّنت الشريعة بعضها وفوضت الفقيه صلاحية مواكبة الواقع من خلال عملية الاجتهاد واستنباط الأحكام من مصادرها في كل مسألة لم يرد فيها نص صريح (وتشمل جميع منطقة الفراغ التشريعي، التي تفتقر لوجود نص تشريعي). فلجأ الفقهاء إلى العقل مصدراً للتشريع بصيغ مختلفة أهمها الاجتهاد.

الاجتهاد لغة: "بذل الوسع لقيام بعمل". جاء في غريب القرآن: (الاجتهاد أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمل المشقة، يقال: جهدت رأيي. وأجهدته أتعبته بالفكر).

وأما اصطلاحاً فقد مر معنى الاجتهاد بمرحلتين. الاختلاف بينهما جوهري: إذ كان يعني في بداية تأسيس المصطلح، "الرأي". ورأي الفقيه في المسألة الفقهية يعني اجتهاده الشخصي. وكان الاجتهاد أحد أدلة الفقيه لدى المذاهب السُنية. رغم أن الاجتهاد لا يورث سوى الظن، وعدم القطع بالحكم، الذي هو شرط في حجيته: (إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)، (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ). والاجتهاد بهذا المعنى تعبير عن قاعدة قررتها (مدرسة الرأي) مدرسة أبي حنيفة مفادها: (إن الفقيه إذا أراد أن يستنبط حكماً شرعياً ولم يجد نصاً يدل عليه في الكتاب والسُنة رجع إلى الاجتهاد بدلاً من النص). (المصدر السابق، ص56). فرأي الفقيه وفقاً لهذا المعنى يكون أحد مصادر التشريع ودليلاً من أدلة الفقه. فكما يستدل الفقيه بآية أو رواية على الحكم الشرعي، يستدل برأيه الاجتهادي فيما لا نص فيه. فيأتي دوره بعد فقدان النص في المسألة. وأيضاً كان الاجتهاد يرادف القياس في مرحلته الأولى. قال الشافعي، الذي يرادف بينهما: (ونحكم بالإجماع ثم القياس وهو أضعف من هذا، ولكنه منزلة ضرورة لأنه لا يحل القياس والخبر موجود). (الشافعي، الرسالة، تحقيق أحمد محمد شاكر، ص 599). ومن هنا انفتح باب (القياس) و(الاستحسان) و(المصالح المرسلة) و(سد الذرائع).

وقد استنكر فقهاء الشيعة الاجتهاد بمعنى الرأي، بدءاً بعصر الإمام الصادق ومن جاء بعده حتى القرن السابع (المصدر نفسه). بيد أن الكلمة اكتسبت منذ عصر المحقق الحلي، أحد فقهاء المذهب الشيعي، وكتابه المعارج (676 هـ)، دلالة تضمنت بذل الجهد لاستنباط الحكم الشرعي من مصادره. فإذا قال الفقيه هذا اجتهادي "بمعنى الاستنباط" سيكون مسؤولاً عن أدلته ومصادره. (وكان الاجتهاد محددا بكل عملية استنباط لا تستند إلى ظواهر النصوص، ثم اتسعت لتشملها، بعد تطور أدوات بحوث الاستنباط، ثم أخذ المصطلح يشمل كل عملية يمارسها الفقيه لتحديد الموقف العملي تجاه الشريعة). (المصدر نفسه). وهذه هي المرحلة الثانية من تطور دلالة المصطلح.

والحقيقة أن مؤاخذة الشيعة على الاجتهاد بمعنى الرأي ليست صائبة تماماً، فعندما يقول الفقيه "هذا اجتهادي"، "هذا رأيي"، لا يعني رأياً مزاجياً تعسفياً بعيداً عن النص وأجواء الشريعة ومقاصد التشريع، بل من وحي النصوص، وقيم الدين وثوابت التشريع ومقاصد الشريعة. يقارن بينها ويقيس بعضها إلى الآخر، ثم يفتي وفقها، ويفترض أيضاً أنه يفتي بعيداً عن ذاتياته. فمع فقدان الدليل اللفظي، آية أو رواية، يستدل على الحكم من خلال حس الفقاهة وخبرته الواسعة بالأدلة والأحكام، وبالتلي يستدل بالقرآن والسنة بشكل غير مباشر، يتمثّل روح الشريعة ومقاصد التشريع، في كل مسألة لم يرد فيها نص. فهو لا يجتهد مقابل النص ولا يتعارض حكمه مع أحكام الشريعة كي يؤاخذ على رأيه، بل يجتهد في وضوئهما. نعم قد يجتهد لتحديد فعلية الحكم الشرعي كما فعل الخليفة الثاني في عام المجاعة وسهم المؤلفة قلوبهم، على مرآى ومسمع من الصحابة ولم يعترضوا عليه. بيد أن المشكلة الأهم بالنسبة للاجتهاد بمعنى الرأي، هل كل مجتهد مصيب مع اختلاف الآراء في المسألة الواحدة. وكيف تمت معاجلة هذه المسألة الشائكة؟.

التخطئة والتصويب

سعى الفقهاء لحل هذه المشكلة عبر توظيف مقولة كلامية معروفة بعنوان: (التخطئة والتصويب)، لتحديد الموقف من قضية الاجتهاد، واختلاف الآراء: فهل كل مجتهد مصيب؟ وكيف يمكن تبرير ذلك؟. وماذا لو أدى الاجتهاد إلى اجتماع الضدين كاتصاف الفعل بالمصلحة عند مَن يفتي بوجوبه، واتصافه بالمفسدة عند مَن يفتي بحرمته؟. وسبب المشكلة تبني الفقهاء لمبدأ شمول الشريعة وتأكيدهم "ما من واقعة إلا ولله فيها حكم". ولا يرد الإشكال على من  ينفي شمول الشريعة لجميع وقائع الحياة كالاتجاه الأخلاقي، الذي تقتصر عنده الشريعة على الأحكام المنصوص عليها قرآنياً. ثم يأخذ العقل دوره في التشريع وفق الشروط المتقدمة. وأحكامه ستكون بشرية وضعية، تستفيد من نصوص الشريعة وقيم الدين والأخلاق وتراكم تجارب التشريع، بما يحقق مصلحة الفرد والمجتمع والدولة، ويبعث على الأمن والاستقرار وتسوية الخلافات وإحقاق الحق. أي التشريع من أجل الإنسان ومصالحه الشخصية والمجتمعية.

والسؤال هل كل مجتهد مصيب في اجتهاده؟ وهل كلا الحكمين المختلفين الواردين على موضوع واحد من جهة واحدة مصيبين، أم لا بدّ من خطأ أحدهما؟. وكيف نضمن عدم وقوع التضاد بينها. وقد انقسم الفقهاء حول هذه المسألة إلى مصوّبة ومخطّئة. فما المراد بالتخطئة والتصويب؟

التخطئة: تعني إمكانية عدم تطابق ما توصل إليه المجتهد مع الواقع. وبشكل أوضح: يقول أصحاب هذا الرأي: إن لله تعالى حكماً قد يؤدي إليه الاجتهاد، وقد لا يؤدي. وأن الحكم الشرعي واحد واقعاً، يصيبه من يصيبه من المجتهدين ويخطئه من يخطئه منهم. ويضيف أصحاب هذا الرأي: الأحكام وإن كانت أموراً اعتبارية إلاّ أنّ لهذه الاعتبارات مناشئ واقعية. مادامت الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، مثل الحج والصلاة والصوم، وحينئذ لو صح أن تكون الصلاة واجبة ومحرمة لكان معنى ذلك أنّ الصلاة في الوقت التي هي ذات مصلحة هي ذات مفسدة، وهذا هو اجتماع الضدين المحال. (مجلة الاجتهاد العدد: 28 – فبراير – 2018م، والكلام للمجتهد الشيعي الكبير الخوئي).

التصويب: يعني، صوابية أحكام الفقيه. وأن لله أحكاماً بعدد آراء المجتهدين، فما يؤدي إليه الاجتهاد فهو حكمه. وليس هناك واقع غير ما أدى اليه النظر. وقد ادعى علماء المذاهب الاشاعرة التصويب في الاجتهاد. بمعنى أدق، أن أصحاب هذا الرأي، يعتقدون: ليس هناك حكم واقعي، بل أحكام الله بعدد آراء الفقهاء. فمن حكم بوجوب الصلاة مثلاً حكمه مصيب للواقع، ومن حكم بحرمتها حكمه مصيب للواقع، وليس هناك حكم واقعي كي يقع التضاد بينهما، كما يذهب لذلك المخطئة. إذاً ليست ثمة مشكلة على القول بالتصويب، وأن أحكام الفقهاء جميعها صائبة، وأن الله يجعل حكماً وفقاً لما توصل له اجتهاد المجتهد.

هذا هو المسار التاريخي لمصطلح الاجتهاد فهو إما اجتهاد بمعنى الرأي أو اجتهاد بمعنى استنباط الحكم الشرعي من أدلته. ثم غُلق باب الاجتهاد، وانحصر التقليد  بأئمة الفقه الأربعة: أبو حنيفة، مالك، الشافعي، أحمد بن حنبل. وبعض يضيف لهم: الطبري، الليث بن سعد، والأوزاعي. هذا لدى السُنة، وأما لدى الشيعة فالاجتهاد حركة استدلالية مستمرة لمواكبة الواقع، رغم الموقف المتصلب للمذهب الإخباري – الشيعي، الرافض للاجتهاد، مكتفياً بالروايات.

وبالتالي: الاجتهاد نشاط عقلي، وفق قواعد ومبادئ، ينتهي فيها المجتهد إلى رأي في المسألة، فما هي تداعياته، وما هو مبرر نسبة اجتهاد الفقيه إلى الله تعالى؟.

***

ماجد الغرباوي – باحث بالفكر الديني

تفاقم الفقه حداً لاحقت فتاوى الفقهاء جميع تفاصيل حياة الإنسان، بدعوى شمول الشريعة، على الضد من منهج الكتاب القائم على السعة والرحمة: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)1، ليفسح المجال أمام الإنسان يتدبر شؤونه على هدى من قيمه الأخلاقية، وفطرته السليمة. وقد شجب القرآن تحليل وتحريم ما لم تنص عليه الشرائع السماوية: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ)2؟. فالتحريم طارئ، يُقتصر فيه على ما حرمته آيات الكتاب. والحلال والحرام شأن إلهي لا يشاركه فيه أحد: (قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ)؟. ضابطته وجود آية صريحة. يؤكده: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)3.  فهو وحي، وقد انقطع بوفاة الرسول الكريم، بينما مسخ الفقه ذائقة الإنسان، وأهدر القيمة الجمالية للفن والحياة بعد ارتهانهما لثنائية الحلال والحرام. فتجد الشخص المتدين يقرف من سماع الموسيقى والألحان الجميلة. ينفر من الرسم والتصوير، ويشجب النحت والتمثيل4. إن مفهوم الآية حرمة تحريم ما لم يرد فيه نص قرآني صريح. فهل يحق للفقيه تحريم ما لم يرد فيه تحريم صريح؟ إذاً من أين جاء بكل هذه التحريمات؟ بهذا نفهم قيمة الأحكام الفقهية حينما تحلل وتحرّم ما لم يرد فيه تشريع صريح تحت أية ذريعة، باستثناء تطبيق كبريات الأحكام على مصاديقها. كتطبيق حرمة الظلم والجوار على مصاديقها الخارجية، فيقول: هذا حرام شرعاً، شريطة التجرد والموضوعية في تشخيص الموضوعات، بعيد عن أية اسقاطات طائفية منحازة. والكلام عن حرمة نسبة الأحكام إلى الله، فلا يمنع صدورها بصيغ قانونية ما عدا (الحلال والحرام). وبالفعل، تتضمن القوانين الوضعية الملزمة والأعراف والتقاليد أوامر ونواهٍ تنسب لجهة صدورها. بل كل حكم يشرّع وفق مقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع، كما نصت عليه مدونة الاتجاه الأخلاقي في التشريع، فهو حكم، يتخذ صفة الوجوب أو المنع.

لا لكثرة السؤال

المنهج القرآني قائم على رفض التلقين، لتفادي استقالة العقل النقدي، والاعتماد على النفس في تحري الحقيقة بدلاً من الأجوبة الجاهزة، لذا نهى عن كثرة السؤال. سؤال من يرفض التفكير وينتظر الأجوبة الجاهزة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)5. هذه الآية درس لمن ينتظر الفقيه في كل صغيرة وكبيرة، بحجة "ما من واقعة إلا ولله فيها حكم"، وأن الأصل اشتغال الذمة6 لا "قبح العقاب بلا بيان"7، حتى بات المتدين يمشي ويتلفت. إنها آية كريمة، تدعو لتقصي مضمراتها، واستنطاق دلالاتها. إن شمول الشريعة يستدعي استمرار التشريع إلا أنه خُتم بقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)8. فلماذا خُتم التشريع؟ ولماذا كلما استفتوا النبي قال: (... قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ)9، وإذا سألوه ينتظر السماء تجيب على أسئلتهم. بينما مكاتب فقهاء الأديان كالذكاء الاصطناعي مصممة لتجيب على كل سؤال!. لقد ثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [«وإذا حاصرت حصنا فسألوك أن تنزلهم على حكم الله ورسوله، فلا تنزلهم على حكم الله ورسوله؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك» .. (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)10..]11.

وعليه: لا يجوز نسبة الأحكام الفقهية إلى الله، لتبقى أحكاماً بشرية اجتهادية. كل تحريم قيد ينتهك حرية الإنسان ويحد من إرادته وربما كرامته، مهما استوفى ملاكاته وشروط فعليته. مما يعزز رأينا السابق: أن دور الدين إرشادي لا تكويني. لا يريد أن يحل محل العقل، وهو المكلف باعمار الأرض وإدارتها. إن تداعيات تفاقم الأحكام جاء على حساب حرية الإنسان وهذا خرق للقيم الأخلاقية وثلم لإنسانية الإنسان. بل ونجح الفقهاء في ترويض إرادته حتى قبل بولاية الحاكم الجائر، مثاله الدولتان الأموية والعباسية، حيث كرّس فقهاء السلطان طاعة الخليفة مهما انحرف عن الدين والقيم الأخلاقية والإنسانية. بل أن فكرة أن يكون للإنسان قيم وولي، يتعامل معه معاملة الأب من أطفاله، تطعن بمصداقيته ورُشده وقدراته. فكيف تنسب إلى الدين، ويتولى الفقيه إرادة الشعب باعتباره منصوباً من قبل الله؟ لقد بات الإنسان سجين الفقه، مرتهناً لمرجعيات مضى على موتها ألف عام. يعيش رهاب الحرية، همّه ضبط سلوكه وفق إيقاع فتاوى الفقهاء، لا يفيق لعقله. بل لا يجوز له ذلك فالنص فوق العقل. إن الحرية في الإسلام شعار ينقصه المصداق ما لم يتحرر الفرد من سجون التراث والفقه.

ما كان للفقه أن يتفاقم لولا النسق العقدي المهيمن، ومقدمات منهج استنباط الأحكام الشرعية الذي يتبناه الفقه التقليدي. أبرزها قاعدة شمول الشريعة، مع تهميش العقل والأخلاق، وارتهان الفقه إلى نسق عقدي أيديولوجي فرض تحدياته على منهج استنباط الأحكام الشرعية. فاندفع الفقهاء للبحث عن مصادر تشريعية جديدة عبر خطوتين أساسيتين، هما:

أولاً – التساهل في شروط حجية النص:

باستثناء آيات الكتاب فإنها قطعية الصدور، يشترط في حجية " النص / الرواية / الحديث / الخبر" شرطان: الأول: صحة صدوره عن النبي الكريم درجة القطع واليقين. تتكفله طُرق، تتفاوت في درجة اعتبارها وحجيتها، باختلاف كاشفيتها عن الواقع. هي: (التواتر، الاجماع والشهرة، سيرة المتشرعة، خبر الآحاد). وليس سوى التواتر، إذا استوفى شروطه التعجيزية، يرث العلم واليقين، فيكون حجة يُثبت صحة صدور الخبر لحجية القطع التي هي ذاتية له، وما عداه  من طُرق لا يورث سوى الظن، والظن لا يغني من الحق شيئاً. بما فيها خبر الآحاد أو الخبر الواحد الثقة، الذي هو عماد الروايات، بل الغالبية المطلقة منها هي أخبار آحاد. فبُذلت جهود أصولية لتصحيحه، لتدارك انسداد باب العلم والعلمي. انتهت باعتبار خبر الثقة حجة تعبداً متى ما أمر الشارع باتباعه. وأما بنفسه فلا يفيد خبر الواحد سوى الظن، الذي لا يغني عن الحق شيئاً: (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)12. فتكون حجيته بعد أن أمر الشارع باتباعه، اعتبارية لا ذاتية. كل هذا وفقاً لمباني الفقه التقليدي، غير أن أدلتهم على حجية خبر الواحد الثقة لا تخلو من ضعف وتكلف واضحين.

وهكذا الطرق الأخرى، لا ترث العلم واليقين فلا تكون حجة بذاتها، لكن يمكن أن تكون كذلك تعبّداً، وفق شروط ليس هنا محل استعراضها ومناقشتها.

والشرط الثاني: دلالة الرواية على الحكم الشرعي، ومستوى إلزامها: (وجوب، حرمة، استحباب، كراهية أو إباحة)، التي تتوقف على مدى ظهورها في نظام اللغة، فاللفظ الصريح الذي لا يحتمل سوى معنى واحدا في نظام اللغة يحمل عليه ويكون حجة لحجية الظهور. أو تنتفي حجيته عندما يكون اللفظ مجملاً يتعذر تعيين المراد منه. أو يكون اللفظ ظاهراً في معنى دون غيره مع تعدد دلالته. وهنا تأتي قاعدة حجية الظهور التي تقرر: (أن ظهور حال المتكلم في إرادة أقرب المعاني حجة)13.

وبعبارة أدق، الدليل الذي يستند إليه الفقيه في استنباط الحكم الشرعي، إما أن يؤدي إلى العلم بالحكم الشرعي أو لا. في الحالة الأولى يكون الحكم قطعياً، يستمد شرعيته وحجيته من حجية القطع، لأنه يؤدي إلى القطع بالحكم، وهو، أي القطع، حجة بحكم العقل، فيتحتم على الفقيه أن يقيم على أساسه استنباطه للحكم الشرعي14. وفي الحالة الثانية يكون الدليل ناقصا، إلا إذا حكم الشارع بحجيته وأمر بالاستناد إليه في عملية استنباط الحكم الشرعي على الرغم من نقصانه، فيرتفع إلى مستوى الدليل الأول15. أو لا يكون حجة ويسقط عن الاعتبار.

وليس دائما يؤدي الدليل اللفظي إلى القطع بالحكم، وهنا تظهر براعة الفقيه وقدرة المجتهد على فقه النص وتحديد دلالاته ومدى فعليته. لا يمكن اعتبار ظاهر النص معطى نهائياً، شأنه شأن الصريح الذي ليس له سوى معنى واحد في نظام اللغة فيحمل عليه، بل يُسقط الفقيه قبلياته العقدية والأيديولوجية عندما يتأول النص، شعر أو لم يشعر بذلك. وأحيانا يكتفي المجتهد بظاهر النص رغم إمكانية تأويله واستنطاقه، فنخسر دلالات لا تقل أهمية من ظاهره. وسبق أن تناولت موضوع النص لغة واصطلاحا في كتاب النص وسؤال الحقيقة16.

ثانياً: توسعة مصادر التشريع

وقد مرّت تفصيلات كثيرة حول الموضوع، فلا نعيد، منها: توسعة دائرة حجية مصادر التشريع لتشمل أقوال الصحابة عند السُنة، واستمر عصر النص عند الشيعة إلى نهاية الغيبة الصغرى. ومنها: اعبتار مطلق سُنة الرسول حجة، بل وسُنة الأئمة، حتى غدت أقوال أئمة الفقه حجة، وباتت الأحكام الفقهية ترادف الأحكام الشرعية، لا فرق بينهما عند الناس. إن دائرة الحجية وفقا للمنهج الأخلاقي خصوص ما له جذر قرآني من أحاديث الرسول، ولا توسعة فقهية على حساب الإنسان وإرادته وحريته.

لقد كان تفاقم الفقه على حساب العقل والاجتهاد المفتوح في ملء الفراغ التشريعي، لكن ثمة أسباب متعددة وراء المكوث في دائرة النص، لتفادي تشريع أي حكم بعيدا عن مصدريه القرآن والسُنة. والسؤال: هل حقا تستوفي الأحكام الفقهية شروط الاستنباط من مصدريه، أم أن غالبية الأحكام الفقهية هي أحكام اجتهادية، وبيان للوظيفة العملية تجاه الحكم المشكوك؟.

العقل والتشريع

مصادر التشريع عند الفقهاء: القرآن والسُنة والإجماع والعقل. سنتوقف عند العقل والاجتهاد، بعد أن فصلنا الكلام بالمصادر الثلاثة الأولى. ما هي حجية العقل؟ وما هي مبررات الاجتهاد؟ وهل ثمة تقاطع بين العقل والشرع؟ وأسئلة أخرى كثيرة، بيد أننا نركز هنا على شرعية الاجتهاد ودور العقل في التشريع. حيث يأخذ العقل دور المشرّع، ومصدراً للتشريع في موازاة النص، وفقاً للمذهب الأخلاقي في استنباط الأحكام الشرعية. فدور العقل في التشريع ليس بدعة ولا كفرا ولا خروجا على طاعة الله ورسوله كما يصفون، بل أن سنة التشريع قبل وبعد الأديان قائمة على هذا. وعندما اتخذ الفقهاء سُنة الصحابة أو بعضهم، وسُنة الأئمة الإثني عشر، إنما ارتهنوا الحكم إلى عقول بشرية اجتهدت في استنباط الحكم الشرعية في ضوء الواقع وضروراته آنذاك، مهما بالغوا بعصمته وكمالهم، كل هذا لا ينفي بشريتهم. فلماذا الارتهان لعقول مهما كانت محترمة غير أنها عقول تاريخية، ليست مطلقة أبداً.

لقد سبق الإسلام مجتمع له تشريعاته وأنظمته وقوانينه وأعرافه وتقاليده، سواء كانت مدوّنة مكتوبة أو متوافق عليها اجتماعيا، فألغت الشريعة بعضها، وأمضت أخرى، كأحكام التجارة، واكتفت بمادئ مهمة: حرمة الربى، قيام المبادلات التجارية على التراضي، وعدم الغبن والغش والتطفيف بالكيل وغير ذلك. وعندما تمضي بعضها، فهي تمضي منهج التشريع ومصادره (العقل والتوافقات المجتمعية).

من نافلة القول أن التشريع ضرورة اجتماعية ترتبط به حقوق الناس وأمنهم واستقرارهم. لا خلاف حول هذا الموضوع، وكان من حق المسلمين الأوائل البحث عن تشريعات تستجيب لمتطلبات الواقع. وكان من حقهم أيضاً عدم اللجوء لغير الصحابة للإجابة على أسئلتهم. كل هذا مشروع. وبالفعل كان الصحابة يتصدون لذلك بطريقة بسيطة، كما هوالمشهور عن الخليفة الثاني، أنه كان يجمع الصحابة إذا عرضت عليه مسألة، فيكون القرآن قبلتهم الأولى ومن ثم السُنة، فإذا عجزوا عن ذلك يترددون كثيراً في الإجابة وقد يأخذون بمشورة أحد الصحابة، وهو نوع من الاجتهاد العقلي يقوم على القياس.

يُقصد بالتشريع: مجموعة قواعد عامة ملزمة (أنظمة، قوانين، أوامر ونواهٍ) لضبط العلاقات العامة، وحفظ النظام، واستتباب الأمن والاستقرار، تصدر عن جهة عليا / سلطة أو توافقات اجتماعية عبر مجالس نيابية. فثمة مصالح عليا مشتركة تدعو لتنظيم شؤونهم الحياتية لضمان تحقيق الأمن والاستقرار والسلم المجتمعي، وتطبيق العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات مع حفظ المصالح الوطنية والقومية، ومراعاة التنوع الأثني والديني. بينما وراء الحاجة لـ"لشريعة" دوافع دينية ترتبط بمصيرهم الأخروي ودنيوية تخص شؤونهم الحياتية. فكما تصدت الشريعة لتنظيم علاقة الإنسان بربه شرّعت مجموعة أحكام لتنظيم وضبط سلوك الإنسان والمجتمع، وبيان الحقوق والواجبات من وجهة نظر دينية. فالعلاقة بين التشريعين في مجال التنظيمات الاجتماعية والقضائية عموم وخصوص من وجه، يلتقيان ببعضها ويفترقان بالبعض الآخر. غير أن التشريع الوضعي سابق على الشرائع السماوية، وهذا يؤكد أصالته، ومدى حاجة الإنسان له، ولو بشكله الأولي البسيط، ثم تطور حتى بلغ أوجه مع شريعة حمورابي، المدونة الأولى التي مازالت ماثلة. أما الشرائع السماوية فجاءت متأخرة عن التشريعات الوضعية: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)17. لكن نزولها لا يلغي العقل، ولا يمكن للنص أن يتقدم عليه، بل لا يمكن فهم النص إلا به. وقد اتفق الفقهاء أن ما حكم به العقل حكم به الشرع. وهذا يؤكد دور العقل في التشريع، وقد ارتكز للعقل الأنبياء ضمن وظائفهم النبوية والرسالية، فهل كان الرسول يجتهد في بيان وتفصيل أحكام الشريعة ضمن وظيفته؟ هذا سؤال مهم تترتب عليه نتائج تفتح آفاقا واسعة لوعي الدين ودور الإنسان في الحياة، وتعطي قيمة كبيرة للعقل الذي ارتاب به الفقهاء تحت ذرائع شتى.

***

ماجد الغرباوي

.......................

1- سورة الحج، الآية: 78.

2 - سورة يونس، الآية: 59.

3 - سورة الانعام، الآية: 145.

4- حرّم الفقهاء صنع التماثيل، والرسم لذوات الحياة، على تفاصيل في كتبهم الفقهية، ويكفي أن نتذكر موقف القاعدة من تماثيل بوذا في أفغانستان، وما فعلته داعش في متحف الموصل، حيث حطموا كل شيء باعتبارها أصناما محرّمة. كذلك تحرم الموسيقى والغناء.

5 - سورة المائدة، الآية: 101.

6 - سورة المائدة، الآية: 3.

7- قاعدة أصولية ترى أن الإنسان يدرك بعقله أن لله سبحانه حق الطاعة على عبيده، وعلى أساس حق الطاعة هذا يحكم العقل على الإنسان بوجوب الاحتياط في التكاليف المحتملة فضلأ عن المعلومة، فالأصل الأولي / العقلي وفقاً لهذه القاعدة هو الاحتياط، ينظر: الصدر، محمد باقر، دروس في علم الأصول، طبعة المؤتمر ج2، ص140.

8- قاعدة أصولية ترى قبح العقاب بلا بيان: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا)، وأن الأصل الأولي العقلي، أي ما يحكم به العقل هو براءة ذمة الإنسان، وعدم وجوب الاحتياط في التكاليف المحتملة. المصدر نفسه، ص 141

9- سورة النساء، الآية: 176.

10- سورة الأعراف، الآية: 33.

11 - صحيح مسلم كِتَابُ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ  بَابُ تَأْمِيرِ الْإِمَامِ الْأُمَرَاءَ عَلَى الْبُعُوثِ ، وَوَصِيَّتِهِ إِيَّاهُمْ بِآدَابِ الْغَزْوِ  حديث رقم 3364.

12 – سورة يونس، الآية: 36.

13 - أنظر مثلاً: الصدر، محمد باقر، مصدر سابق، ج2، ص111.

14- المصدر نفسه، ص 75.

15- المصدر نفسه.

16 - أنظر: ص 13 ومابعدها من كتاب النص وسؤال الحقيقة، ماجد الغرباوي، مؤسسة المثقف ودار أمل الجديدة، ط 2018م.

17- سورة البقرة، الآية 213.

مقدمة: كان العقل ومايزال المرجع الوحيد للتشريع، منذ أن وعى الإنسان ضرورة الخروج من الفوضى إلى الاستقرار عبر سلسلة تشريعات تتعهد مبادئ التشريع. ومع استمرار الحاجة إليه، فليس ثمة مصدر سواه، إذا استوفى شروط الحكمة، والتزم العدل والانصاف، وتجنب الظلم والعدوان. بهذا الشكل يكون العقل في موازة النص مصدراً للتشريع في منطقة الفراغ، رغم نسبيته مادام كلاهما يلتزم بمبادئ التشريع والقيم الأخلاقية والإنسانية في ضوء الواقع وضروراته. فلا معنى لاحتكار الفقيه التشريع في منطقة الفراغ، مع قلة أحكام الشريعة، وتصاعد الحاجة للتشريع لمواكبة متطلبات الواقع. وما الروايات التي يتمسك بها الفقهاء سوى اجتهادات عقلية في ضوء النص، مهما أضفى المتكلمون على النصوص الثانوية / الروايات من تبجيل وتقديس وعصمة، فهي آراء بشرية واجتهادات شخصية، لا إطلاق لها مادامت مرتهنة إلى قبلياتها وناظرة للواقع وضروراته، لذا تتعارض فيما بينها حول موضوع واحد، وهو أمر طبيعي سببه اختلاف المرجعية العقدية، الثقافة، البيئة الاجتماعية الوضع السياسي وأشياء أخرى مرتبطة بمصدر الرواية. إنها روايات ظنية الثبوت بما فيها الأحاديث النبوية، لا تورث القطع واليقين الذي هو شرط لثبوت الحكم الشرعي، بيد أنهم تداركوا نقطة الضعف بدعوى ورود إذن من الشارع بالعمل بها. والغريب رغم ضعف الأدلة، غير أن الرواية عندهم تقيّد وتخصص آيات الكتاب مهما خالفت القيم الأخلاقية والدينية. إن نسبة الحكم لله وللشريعة الإسلامية يستدعي التثبّت، لتفادي قوله: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)، (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)، (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ …. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ). ‏والآية الأخيرة دلالتها واضحة، تشترط العلم واليقين في ثبوت الحكم الشرعي، وليس ثمة طريق سوى ورودها نصاً ضمن آيات الأحكام، لتكون قطعية الصدور حتى وإن كانت ظنية الدلالة، فهنا يأتي دور فقه النص للكشف عن دلالتها ومستوى الإلزام في أوامره ونواهيه. فالعقل هو المصدر الوحيد للتشريع بعد ختم الشريعة الإسلامية. وهو المخوّل الوحيد لملء الفراغ التشريعي، باستثناء العقل التعسفي الجائر الذي يتنازل عن قيمه ومبادئه استجابة لرغبات الظالمين والمستبدين. إن أغلب الأنظمة والقوانين الوضعية في العالم، سيما الدول الديمقراطية، هي نتاج عقل حكيم يتصف بالعدل والانصاف وتراكم الخبرة التشريعية والاستفادة من معطيات العلوم، ومراعاة مصالح الشعب والوطن. فليس ثمة تعسف أو ظلم، ولا إسقاط للعقيدة على التشريع، بل العدل وحقوق الإنسان هي المبادئ السائدة: (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ).

مفهوم العقل

رغم الاختلاف حول مفهوم العقل بين الفلاسفة وغيرهم، وتعدد الآراء حول جوهره وآلياته وأدواته في إدراك المعارف، وكثير من التفصيلات، إلا أن المقصود به هنا بالذات، العقل كأداة لإدراك الحقيقة وتشخيص الواقع، ومعياراً يمكّن الإنسان من خلاله التمييز بين: الصواب والخطأ. الخير والشر. الحسن والقبح. وكان سؤال الفقهاء في هذا السياق: هل العقل مصدر من مصادر التشريع أسوة بالكتاب والسُنة والاجماع؟ وبأي معنى هو مصدر من مصادر التشريع؟ هل بمعنى إدراك الحكم الشرعي أم الكشف عنه؟. بعد أن فصّلوا الكلام بين العقل النظري والعقل العملي. الكلام في الأول عن حدود الإدراك، وتحديد الموقف العملي وما يجب أن أعمل يتولاه الثاني. والتفصيل في كتب أصول الفقه، لنبقى في حدود الموضوع. وهنا نقرر أن العقل، وفقاً للاتجاه الأخلاقي، قادر على اكتشاف الجذر الأخلاقي لأحكام الشريعة، ومبادئ تشريعها بل وحتى ملاكاتها من خلال ملاكات الجعل الشرعي التي سبق بيانها. ويمكنه التشريع في ضوئها لملء الفراغ التشريعي التي تشمل جميع مناحي الحياة ماعدا العلاقات التي تنظّم علاقة الفرد بخالقه، والتي قد استوفت آيات الكتاب وجملة من أحاديث النبي بيانها. إلا أنه رغم كل هذا لا ينسب أحكامه لله تعالى، بل تبقى أحكامه أحكاماً بشرية تتأثر بقبليات المجتهد والخبير التشريعي وتغيرات الواقع وحاجات الإنسان والمجتمع. الاتجاه الأخلاقي لا يعتقد بشمول الشريعة لجميع مناحي الحياة، كي يمنح الفقيه حق احتكار التشريع فيها، بل تقف الشريعة عند حدود آيات التشريع وما عداها منطقة فراغ تشريعي، باستثناء ما له جذر قرآني من سُنة النبي، وتطبيقات كليات الأحكام على مصاديقها. المشكلة التي نواجهها الآن وعي الشريعة في الوسط الديني، فيبدو الحديث عن منطقة فراغ تشريعي مرتهن للعقل وأحكامه في ضوء القيم الأخلاقية والدينية، أمراً غريباً غير ممكنٍ بعد أن اعتادوا على تلقي أجوبة شرعية جاهزة لكل مسألة يطرحونها. الشريعة في وعي الناس مصدر للتشريع في كل مكان وزمان، هذا ما ترسب في أذهانهم بفعل مواصلة الافتاء، وعدم توقف الفقيه عن الفتوى بذريعة شمول الشريعة، وهي قضية مختلقة لها أسبابها السياسية والدينية.

الدليل العقلي

يقصد بالدليل العقلي: كل قضية يُدركها العقل، ويمكن أن يُستنبَط منها حكم شرعي… ولا داعي للبحث عن حجية العقل إذا كان حكمه قطعياً بعد الفراغ عن حجية القطع، وإنما نحتاج إلى البحث عن حجيته إذا لم يكن قطعياً، كالقياس مثلاً. (مصدر السابق، ص 312).

ثمة جدل قديم حول مدركات العقل بين المعتزلة والأشاعرة انعكس على البحث الفقهي. وهناك اختلاف حول وظيفته بين العقل النقدي المستنير والعقل الأداتي المستقيل. على الأول لا يوجد فيتو على العقل، يمكن أن يكون مصدراً من مصادر التشريع ويمكنه إدراك الجذر الأخلاقي للأحكام الشرعية، وتحديد تاريخيتها ومدى إطلاقها، بينما وظيفة العقل لدى الاتجاه الثاني فهي الطاعة والاتباع والتسليم وعدم الاحتجاج، هو مجرد أداة.

لا ريب في قدرة العقل على تشريع الأحكام وإدراك الجذر الأخلاقي وملاكات الأحكام الشرعية، غير أن أحكام الشريعة وفق ثنائية الحلال والحرام شأن إلهي. ولا طريق لمعرفة الحكم الشرعي (المنصوص عليه قرآنياً) سوى النص، وفي هذا الخصوص لدينا آيات الأحكام قطعية الصدور. ومجموعة أحاديث ظنية الثبوت. أما العقل فقد اختلفوا حول قيمته المعرفية وحجية أحكامه، ومدى قدرته على إدراك أحكام الشريعة. وعندما ذهب الشيعة إلى حجية العقل واعتباره مصدراً من مصادر التشريع، فيفرقون بين المستقلات العقلية، وهي قضايا يمكن للفقه أن يستنبط منها حكماً شرعياً مباشرة بلا حاجة إلى بيان شرعي. كوجوب الشيء يستلزم وجوب مقدمته. وغير المستقلات العقلية التي تحتاج إلى ضميمة شرعية. وبتفصيل أكثر: كما يمكن للعقل أن يكشف وجود الشيء وعدمه في عالم التكوين عن طريق كشفه للعلاقة بين الشيء وضده أو ملازمه، كذلك يمكن للعقل أن يكشف عن وجود حكم أو عدمه في عالم التشريع عن طريق تلك العلاقة. (الصدر محمد باقر، دروس في علم الأصول، ح1، ص 120). وبشكل آخر، العقل عند الأصوليين والفقهاء أداة للإدراك، كإدراكه لعلاقة التضاد بين السواد والبياض، التي تعني استحالة اجتماعهما في جسم واحد. وبعد إدراك العقل لتلك العلاقة يستطيع أن يستفيد منها في اكتشاف وجود الشيء أو عدمه. وعن طريق علاقة التضاد بين السواد والبياض يستطيع أن يثبت عدم السواد في جسم إذا عرف أنه أبيض، لاستحالة اجتماع البياض والسواد في جسم واحد. كذلك في عالم التشريع، فكما يُدرك العقل العلاقة بين الأشياء ويستفيد منها في الكشف عن وجود شيء أو عدمه، كذلك يدرك العلاقات القائمة بين الأحكام، ويستفيد من تلك العلاقات في الكشف عن وجود حكم أو عدمه. فهو يدرك مثلاً التضاد بين الوجوب والحرمة، فيستخدم علاقة التضاد بينهما لنفي الوجوب عن الفعل إذا عرف أنه حرام. (المصدر نفسه). أو كما يمكن للعقل أن يكشف وجود الشيء وعدمه في عالم التكوين عن طريق تلك العلاقات، كذلك يمكن للعقل أن يكشف وجود الحكم أو عدمه في العالم التشريعي عن طريق تلك العلاقة. بهذا الشكل يكون العقل مصدراً للتشريع بمعنى كشفه عن وجود الحكم الشرعي. وهذا يعزة مكانة العقل في عملية تشريع الأحكام في منطقة الفراغ.

– من جانب آخر أن ما حكم به العقل حكم به الشرع باعتباره سيد العقلاء. وهذا متفق عليه عندهم بشكل ما. فعندما يحكم العقل بحُسن العدل وقُبح الظلم مثلاً، يحكم الشرع بوجوب العدل وحرمة الظلم.

– من جهة ثالثة يُعد العقل المصدر الوحيد للقاعدة العملية الأولية، سواء كانت الاحتياط العقلي، أوكانت البراءة وقبح العقاب بلا بيان.

هذه هي مصاديق دليلية العقل في التشريع. فالكلام تارة عن قدرة العقل على التشريع، وهذا لا ريب فيها عندنا مهما ارتاب الفقهاء، وأخرى الكلام حول نسبة أحكام العقل إلى الشريعة، وتقدم أعلاه التفصيل.

الموقف من العقل

ليس المطلوب من العقل إصدار أحكام شرعية مثلها مثل آيات الأحكام كي يتطلب من إدراك ملاكاتها الحقيقية. بل المراد من العقل قدرته على ملء الفراغ التشريعي وفقاً لمقتضيات الحكمة، وهذا اتجاه ثالث يتبناه الاتجاه الأخلاقي. وبالفعل أمضى الإسلام جملة أحكام كانت سائدة آنذاك، منها أحكام البيع والتجارة باستثناء عدد من الضوابط والقيم الأخلاقية، كحرمة الربا، وأن تكون تجارة عن تراضٍ. فامضاء الإسلام لتلك الأحكام إمضاء للعقل. وهذا اعتراف بمرجعيته وإمضاء لأحكامه. الشريعة شجبت أحكام العقل التعسفي والسلطوي، وليس العقل المتزن، الذي يرتكز للحكمة ومبادئ التشريع، ويتخذ من الأخلاق مقياساً لمستوى الإلزام في الحكم إضافة إلى ملاكاته.

إن حرمة نسبة أي حكم إلى الله تعالى ما لم يكن منصوصاً عليه، بات أمراً مفروغاً عنه، تؤكده آية “ويقولون على الله ما لا يعلمون”. يستثنى من الحرمة ما سنّه النبي وله جذر قرآني. وأيضاً مصاديق الأحكام الكلية. وهذا العدد من الأحكام لا يغطّي حاجة الفرد والمجتمع والدولة إلى الأنظمة والقوانين والتشريعات. والكلام يفترض مجتمعاً مسلماً يروم تطبيق الشريعة، وهناك من يدعو لها ويرفع شعارها. فهل ثمة مصادر للتشريع سوى العقل وحده عندما يلتزم بمبادئ التشريع؟. بينما يشترط الفقهاء وجود نص أو قياس على نص، كما يذهب الشافعي لذلك صراحة: (ليس لأحد أبداً أن يقول في شيء حلٌ ولا حُرّم إلا من جهة العلم. وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس)، (الرسالة للشافعي، ص39)؟. إن موقف الفقهاء من العقل سلبي، يقول الشافعي مؤسسة علم أصول الفقه: وعندما يعرّف الاجتهاد يستبعد العقل. الاجتهاد يعني حكماً “على مثل” (المصدر نفسه). (الاجتهاد لا يكون إلا لمن عرف الدلائل عليه، من خبر لازم: كتاب أو سنة أو إجماع….)، (المصدر نفسه، ص53). فهناك موقف سلبي من العقل، رغم أنهم يقلدون في كثير من المسائل عقولاً بشرية أضفوا عليها طابع العصمة والعدالة المطلقة. إن حرمة نسبة الحكم إلى الله في ما لم يرد فيه نص، لا يمنع من اتخاذ العقل مصدراً للتشريع مادام الحكم قد استوفى شروطه. هذه هي سيرة البشرية، كانت وما تزال تعتبر العقل المصدر الأول للتشريع وفي ضوئه يتم تشريع الأنظمة والقوانين وفقاً لمتطلبات الواقع. ثم جاءت الرسالات لتمضي بعضه وتصحح الآخر وتضيف تشريعات جديدة. فلا مشكلة للدين مع العقل في مجال التشريع، بل المشكلة مع شرط العدالة وتحقق الرحمة والسعة والمساواة. واستيفاء الحكم لملاكاته من مصالح ومفاسد. لقد أكدت الأدلة ثقة الدين والشريعة بالعقل مصدراً للتشريع، وهو ما يهمنا، إذ يعتبر الاتجاه الأخلاقي الذي أسسنا له خلال سلسلة بحوث أن العقل مصدر تشريعي مستقل يوازي النص، في ملء الفراغ التشريعي، بل ويُرتكز له في تحديد فعلية أحكام الشريعة. إضافة إلى حاكمية الأخلاق. النص لا يسقط اعتبار العقل، بل (ما حكم به العقل حكم به الشرع). وأما الأدلة فهي كثيرة نذكر منها:

أولاً – إن مساحات الاشتراك بين التشريعات الوضعية والشرعية يؤكد مرجعية العقل في التشريع. مادامت تستوفي ملاكاته وتقوم على مبادئه: (العدل وعدم الظلم، السعة والرحمة، المساوة). وهي مبادئ أخلاقية – عقلية كونية مشتركة، ارتكزت لها أحكام الشريعة، وقد مهد هذا لاكتشاف الجذر الأخلاقي لها.

ثانياً – اشتراك الكتاب والحكمة والعقل بالتشريعات القرآنية، اعتراف بالعقل مصدراً للتشريع. إذ ليست الحكمة سوى قرار عقلي عقلاني، يضع الشيء في محله. وقد اشتمل الكتاب على تشريعات جديدة كأحكام العبادات، وهناك مجموعة أحكام (أوامر ونواهٍ)، صرّح الكتاب أنها من الحكمة (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ). كما أن معظم الأحكام الأخلاقية في القرآن أحكام إرشادية لحكم العقل، ومرَّ استعراض ما يكفي من أدلة، والرد على جميع الاعتراضات المحتملة.

ثالثاً – النهي عن كثرة السؤال مع ختم التشريع إحالة غير مباشرة على العقل إذ لا مصدر آخر غيره، مع حاجة الناس المستمرة له. إما نص موحى أو عقل يعمل بمقتضيات الحكمة. تشريع سماوي أو وضعي. ونحن نشترط في الحكم الوضعي أن يكون وفقاً لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في ضوء الواقع وحاجته، ومن وحي القيم الأخلاقية والدينية، كي تتحقق العدالة التي هي شرط في التشريع.

رابعاً- دلت القرائن على إرادة خصوص الحكم الشرعي أو ما يرتبط به، في النهي عن كثرة السؤال، وهناك مجموعة آيات: تبدأ بـ “ويسألونك..). فالآية لا تنهى عن مطلق السؤال بل عن الأسئلة التي يترتب عليها حكم شرعي، يُثقل عليهم، ويحد من حريتهم. وهي دعوة للاقتصار على ما يرد من أحكام. والاكتفاء بها دون غيرها. وقد جاء في بعض الروايات عن علي قال: لما نزلت هذه الآية: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) [آل عمران: 97 ] قالوا: يا رسول الله ، كل عام؟ فسكت. فقالوا: أفي كل عام؟ فسكت ، قال: ثم قالوا: أفي كل عام؟ فقال: “لا.. ولو قلت: نعم لوجبت”، فأنزل الله: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) إلى آخر الآية. وهذا  يعزز انصراف الآية للأحكام الشرعية دون غيرها. أو شاملة لها كحد أدنى. وأيضاً: لا يمكن صرف آية “اليوم أكملت لكم دينكم”، في آية ختم النبوة المتقدمة، عن سياقها التشريعي، مادام قد سبقتها وتلتها آيات تشريعة، تعزز دلالة السياق وتمنع انصرافه لأية دلالة بعيدة عنه، مع عدم وجود قرينة صارفة في المقام. وكل هذا يؤكد محدودية أحكام الشريعة وأن الإرادة الإلهية انعقدت على عدم تمدد الشريعي، ليعود المرء إلى رشده وقيمه الأخلاقية وضميره الإنسان والالتزام بالحكمة في مواكبته للواقع وضروراته. وبالتالي:

منطق التشريع في الكتاب قائم على الحد من ترقب السماء في كل نازلة في الحياة الدنيا، واعتماد العقل والأخلاق لضبط السلوك البشري.

خامساً- نفهم أن الأساس حرية الإنسان ما لم يرد حكم صريح في المسألة. وليس الأصل اشتغال ذمته، فيلجأ للبراءة العقلية أو الشرعية أو كلتاهما، كما يملي الفقهاء.

سادساً: إن نسبية الأحكام العقلية لا يلغي اعتبارها مع صحة المنهج ومقدماته. بل هي الأساس كما تقدم.

سابعاً- حجية الحكم مرتهنة لملاكاته لا لقدسيته مهما كانت جهة التشريع، والحكم العقلي سيكون حجة إذا استوفى شروطه. وكان هذا أحد دوافع البحث عن المبادىء والقيم التي ارتكزت لها الشريعة لتبنيها في عملية تشريع الأحكام في منطقة الفراغ. كيف يمكن للشريعة أن تترك الناس بلا تشريعات تواكب تطورهم الحضاري؟. إذاً لا بد من فهم مغاير للمتداول عن الحكم الشرعية، التركيز على العقل والتفكير بدلا من كثرة السؤال.

***

ماجد الغرباوي - كاتب وباحث

مقدمة: إن التباس الإلهي بالبشري أحد مواطن هشاشة الوعي الديني ونقاط ضعفه. مثاله الواضح، امتثال الحكم الفقهي بصفته حكماً إلهياً، تترتب عليه آثار أخروية، أسوة بأحكام الشريعة المنصوص عليها قرآنياً، وهو ليس كذلك، بل هو حكم اجتهادي بشري، قد يُصيب وقد يُخطئ. ولا ريب في تداعياته الأخلاقية، وما ينعكس على الفرد من آثار سلبية، قد تصادر حريته وتشل إرادته. وهذا استدراج مخيف، يفضي لعبودية الفرد من حيث لا يشعر، لجهله بحقيقة الأمور. إن الإلتباس مع عدم البيان عمل لا أخلاقي، ومخالفة صريحة للقيم الإنسانية والدينية. لذا فتفكيك الخطاب الفقهي، وفرز الإلهي عن البشري، ضرورة، لتحري حدود الإلزام ضمن شروط فعليته. والنظر بإمكانية الأخذ بالأحكام الفقهية باعتبارها وجهات نظر اجتهادية بشرية. امتثالها يقتضي الحذر عندما تتستر بقداسة النص الشرعي تحت عنوان شمول الشريعة، فتأخذ صفة القداسة ويلتبس الأمر على المكلّف، على حساب حريته، عندما يعيش حالة ترقب خشية الخطأ في امتثالها. ولي تجارب مرة في هذا المجال، لكن الوعي كان أقرب لي، فلم أمكث طويلا حتى فقت لعقلي ووعي عندما راحت الأسئلة تطرح نفسها بقوة، وتدعو لمراجعة جميع بداهاتي وثوابتي. الاستنارة نعمة، تحتاج إلى جرأة تطرق مواطن الخوف لتكتشف الحقيقة.

عندما قلت: إن فرز الإلهي عن البشري ضرورة تنويرية أعني بها تحري الحقيقة لاستعادة الوعي المستباح فقهياً، وتعزيز الثقة بالعقل باعتباره مصدراً موازياً للنص في تشريع الأنظمة والقوانين، وفق مقتضيات الحكمة وضرورات الواقع ومبادئ التشريع والقيم الأخلاقية التي تمثل جذر الأحكام الشرعية، كما تقدم تفصيله. فمهمتنا مع الفقه مهمة صعبة، تستدعي وعياً جديدا، يتخطى المعنى الدوغمائي للقداسة ويفهم النص الديني فهماً موضوعياً وفق معطيات العلوم الإنسانية الحديثة، كي يكون فهماً مُنتجاً، يساهم في نهضة المجتمع حضارياً، فليس ثمة ما يبرر قداسة الماضي، والتمسك به في كل شاردة وواردة، سوى رهاب القداسة.

كما أنها مهمة صعبة لتجذر التراث بشكل عام، والفقه ضمن العلوم الدينية هو روح التراث وقوامه، يغطي المساحة الأعظم منه. كما أن العقل العربي مازال مرتهناً للتراث، يعتبره مرجعية أساساً في شؤون الدين والدنيا، وعلى هذا الأساس لا يتجاوز الفقيه وأحكامه في كل مسائله الحياتية. ثمة حقيقة أن الفقه تولى المرجعية الدينية والفكرية للمسلمين منذ وفاة الرسول ومازال فاعلاً، وما من قانون أو دستور إلا وراعى أحكام الشريعة، إما باتخاذ الشريعة مصدراً وحيداً للتشريع أو أحد مصادره. وأنا متفهم لكل هذه الإشكاليات، وكل شيء عندي له حسابه، ضمن منهج يتطلع لتحرير العقل، وقد سردت أدلة كافية لصحة ما ذهبت إليه حول الجذر الأخلاقي للأحكام الشرعية، ودور العقل في تشريع الأنظمة والقوانين لملء الفراغ التشريعي والقانوني، بعد نزع قدسية الأحكام الفقهية وكشف حقيقتها وبشريتها. ليس ثمة فوضى في نقد التراث أو نقد التراث الفقهي، مادام هناك منهج علمي ومبادئ صحيحة.

منهج نقد التراث

تتطلب دراسة التراث عدة معرفية وخبرة بمناهجه ومصادره وموضوعاته، أو يغدو فوضى خارج الضوابط العلمية. فثمة وجهات نظر تزهد بقيمته المعرفية، تصفه بالتخلف وترميه بالجهل والانحطاط، وتحمّله مسؤولية تراجع الدور الحضاري للعرب والمسلمين. في مقابل قدسية مبالغ فيها يتبناها السلفيون، ومن يتبعهم. وتبقى الموضوعية: قراءة التراث ضمن سياقه التاريخي، فهناك منجزات علمية على صعيد الفلسفة وعلم الكلام والفقه وعلوم القرآن والحديث والدراية، تجاوز بعضه الزمن، ومازال بعضها الآخر يفرض حضوره العلمي والمعرفي. دراسته ضمن سياقه التاريخي تسمح بنقده وتعريته والكشف عن القيمة المعرفية لمبادئة ومقولاته الأولية، فمهما بالغوا بقدسية التراث يبقى منجزاً بشرياً في إطار ظرفه الزماني والمكاني، يحتفظ بتاريخيته، وعدم تعاليه على النقد. ويبقى مرتهناً في إطلاقه وتأثيره لمتانة مبانيه ومبادئه وأسسه، بما في ذلك الفقه الإسلامي الذي يشتغل على نصوص الكتاب والسنة. رغم أن الفقه وفتاوى الفقهاء غدت سلطة مقدسة، تترتب على مخالفتها عقوبات دنيوية فضلاً عن العقوبات الأخروية. وهي قدسية مريبة لا أساس لها سوى فهم خاطئ لدور الدين في الحياة، ودور الإنسان فيها، ورغبة الفقيه في تحصين سلطته بالمقدّس، وتوظيف الفتوى لصالح مكانته الاجتماعية والسياسية، وتلبية لطموحاته المذهبية والطائفية. يؤكد ذلك موقف كل فقيه من الآخر المختلف مذهبياً، رغم وحدة مصادر التشريع، واتفاق فقهاء المسلمين على أكثر من 90 بالمئة من أحكام الشريعة1.

ويُقصد بالتراث: (ما أنجزه السلف من دراسات وبحوث، فكرية وعقدية وثقافية وفقهية ما زالت تفرض نفسها مرجعيات تؤثر في وعينا وتفكيرنا وفهمنا، وتحتفظ بقدر كبير من الاحترام والقداسة، خاصة في الأوساط الدينية والتراثية المحافظة)2.

يمكن الإشارة لبعض ضوابط دراسة ونقد التراث في ضوء المبادئ الأخلاقية، وما يحقق نهضتنا التي طال انتظارها:

- يشترط تحري الموضوعية ونزع الأحكام المسبقة في قراءة التراث.

- أنسنة التراث عبر دراسته تاريخياً تمهيدا لنقده، بوصفه تراكماً بشرياً، مهما كان مصدره، ومهما كانت قيمته المعرفية.

- تقديم العقل على النص.

- التأكيد على القطيعة التامة مع البنية الأسطورية للتراث، وتركيز النقد على أدلته وبراهينه.

اعتماد التأويل في قراءة النص المقدّس للتخلص من التفسير الدوغمائي.

- استبعاد كل نص يقوم على ثنائية تهدر الحقوق العادلة للأنسان. خاصة حريته وإرادته.

- تفكيك النصوص التي تكرّس ثقافة تمجيد الموت، وهجاء الحياة، والتحريض على العنف، وتكريس منطق الكراهية، والاستعلاء.

- إضاءة النصوص الأخلاقية والإنسانية.

التراث والنهضة

التراث يمثل الآن عقبة، فما فتئ الوعي العربي والإسلامي مرتهناً للتراث وقيمه الأخلاقية والعلمية. يستفز نقده العقل التراثي. من هنا تأتي صعوبة تفكيك مقولاته وثوابته ما لم يتسلح المرء بالعلم والجرأة التي تتطلبها النهضة الحضارية.

لا مراء حول قيمة الجهود المكرّسة لنقد مرجعيات التفكير الديني، وإشكاليات العقل التراثي. سواء اتفقنا أم اختلفنا معها. فهي جهود مهمة، اتسمت بثرائها الفكري والفلسفي. واستأثرت باهتمام الباحثين والدارسين. وتكمن أهميتها بحيوية مناهجها، وقدرتها على طرح الأسئلة، واختراق الممنوع واللامفكر فيه. فجميعها تراكم معرفي لمقاربة الحقيقة، وترشيد الوعي، ضمن مشاريع حضارية هادفه وفاعلة. وهذا لا يعني عدم وجود ملاحظات وتحفّظات أساسية حول مرتكزاتها التي انقلبت بدورها إلى بديهيات فرضت نفسها على الباحث3.

طالما أكدت: ليست مرجعيات التفكير الديني سوى مصفوفة نصوص تتولى عملية التفكير وإنتاج المعرفة، فنحن بحاجة لمنهج فهم النص ضمن سياقه التاريخي، دون أولوية له على العقل، من أجل فهم واقعي، ينأى عن التبرير ورهاب القداسة. فالكلام عن منهج التفكير بين من يتولى النص عملية التفكير نيابة عنه وبين من يجعل النص احد مصادر المعرفة. بين من يكتفي بنافذة ويغلق جميع نوافذ المعرفة الاخرى بين من يفكر داخل النص أو خارجه الاول تكون محكوما لقبلياته والثاني يكون موضوعا للتفكير.

لا نضيف جديدا أن النص الديني، يتمتع إضافة لقدسيته، بهيمنة روحية لا تسمح بمقاربته نقدياً، رغم أنها هيمنة مشروطة، كما في مفتتح سورة البقرة: (الم، ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْوَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)4. وهو إيمان صادق، يعيشه الإنسان مشاعر روحية متوهجة، وممارسات طقوسية مخلصة، ليست كافية ما لم يصحبها وعي يتفادى التسليم الأعمى: (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا)5. فثمة شرط يتكرر بالكتاب الكريم يؤكد على الوعي وأهميته ودوره: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)6، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)7 في فهم القرآن وبالتالي فهم الدين وغاياته ومقاصده. مما يعني وجود مضمرات تتراءى للقراءة الواعية، يؤدي أهمالها لدوغمائية تُفقد الدين قدرته على مواكبة الواقع، وحاجات الإنسان. وهذه إحدى المؤاخذات على الاتجاه السلفي وأهل الحديث في جميع المذاهب الإسلامية، ممن يرفض التأمل والتأويل، ويجمد على ظاهر النص، فانتهى بهم الأمر إلى التجسم عندما جعلوا لله جسدا، ويداً وعرشاً: بناء على ظاهر بعض الآيات: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)8، (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)9. وهو مذهب المجسمة والحشوية10. لا ريب أن ظهور اللفظ في معناه، كما هو مقرر لدى الأصوليين حجة11. والكلام ليس عن الصريح والمجمل من اللفظ، فكلاهما واضح، الثاني يهمل لتكافؤ المعاني المشتركة بالنسبة للفظ. وليس للأول سوى معنى واحد في نظام اللغة فيحمل عليه اللفظ. وإنما الكلام عن القسم الثالث، عندما يكون للفظ أكثر من معنى، وأحدهما أقرب للفظ من سائر معانيه12. فهنا يكون ظهور اللفظ في أقرب معانيه حجة، وأن ما يريده واضعه / الله يقصده. وتارة تدل القرآنية المتصلة أو المنفصلة على إرادة معنى دون غيره فيؤخذ بالقرينة، ويقدم على ذي القرينة، وفقاً للقاعدة الأصولية: (إن ظهور القرينة مقدم على ظهور ذي القرينة، سواء كانت القرينة متصلة أو منفصلة)13. وهذا ينطبق على آية: يد الله فوق أيديهم. فإن معنى اليد هي اليد الضاربة، لكن هناك قرائن مفصلة تصرف اللفظ عن معناه الظاهر، كقوله: "ليس كمثله شيء". فيكون المراد باليد القوة والمنعة والسلطة.

العقل التراثي راهناً يُعد تحدياً كبيراً أمام التنوير، يصّر على تقليد السلف، ويمنح الفقيه وصايا تارة تكون مطلقة كما بالنسبة لولاية الفقيه المطلقة، على حساب حرية الفرد وكرامته. ويرفض كل مبادرة من شأنها تحديث مناهج وأدوات قراءة النص من أجل فهمٍ أكثر قدرة على مواكبة الواقع. فهمٌ يؤكد على مركزية الإنسان، ويقيم مصالحة بين الدين والعصر، لتفادي طاقته الروحية، التي يرتهن لها الاستقرار النفسي والسلوكي والاجتماعي، ويُعد طاقة إيجابية تبعث على الخير والأمن والسلامة والتآخي. وليس أمامنا لتجاوز محنة الاتجاه الدوغمائي سوى مواصلة التنوير، وبث الوعي، مع تفكيك مستمر للخطاب السلفي. والكشف عن كل ما يرتبط به من دواعٍ سياسية وسلطوية.

الفقه والنص

يستمد النص الديني سلطته وشرعيته من قدسيته لا من أدلته وبراهينه ومدى مطابقته للواقع، فيُقدم على العقل، ويتعالى على النقد والمراجعة، لتقتصر مهمة المتلقي على شرح وبيان معانيه، وتبرير تناقضاته الأخلاقية، وتعارضه مع القوانين الكونية أحياناً. كل ذلك بفعل الفهم الدوغمائي لمعنى القداسة، الذي مازال العقل التراثي والعقل الأشعري يتعهده، ويتبناه قاعدة في فهم النصوص الدينية. والأحكام الشرعية، هي الأخرى ترتهن شرعيتها لقدسيتها لا لملاكاتها، فتمهّد لتوظيفها أيديولوجياً وسياسياً. وهنا تكمن رثاثة العقل الدوغمائي، حينما يتجمد على ظواهر النصوص، ويتوقف عن سبر أغوارها والبحث عن مضمراتها في سياق الرؤية الكلية للدين وأهدافه ومقاصده، التي تكتظ بها المرجعية الأولى للدين، فثمة نصوص كثيرة تؤكد المقاصد الأخلاقية للدين، وتمنح الإنسان ومصالحه أولوية. غير أن تكوين الوعي التراثي للدين يستمد وجوده من مقولات كلامية تم تأسيسها في ضوء صراع السلطة، وتنافس محموم لاحتكار رأس المال الرمزي للإسلام، على أساس حديث الفرقة الناجية.

بينما يرتهن الاتجاه الأخلاقي فعلية وسلطة الحكم لفعلية موضوعه وشروطه وقيوده من جهة، ولملاكاته ومبادئه من جهة ثانية، فيمنع تكريسه خارج سياقاته مهما كانت قدرة الفقيه على الإلتفاف على الروايات. ونضيف ثالثاً، وفق الفهم الأخلاقي للأحكام، ارتهان شرعية الحكم لعدم تعارضه مع القيم الأخلاقية لحاكميتها كما تقدم على الأدلة الأولية، فتكون شرطاً في فعلية الحكم. مادامت مأخوذة في ملاكات الحكم، ومع تعارضه معها تنتفي فعليته وشرعيته.

بهذا يتضح حجم الاختلاف بين الاتجاهين وما يترتب عليهما على الصعيدين الديني والأخلاقي. الأول يعتقد أن النص معطى نهائي له وجود ميتافيزيقي مسبق تفرضه قداسته، لا دليل عليه سوى هاجس القداسة والحاجة لفقه تقليدي يلبي حاجات سياسية وطائفية وأيديولوجية. بينما ينتزع الثاني القداسة بالمعنى الدوغمائي عن النص. ويفرض شروطاً على إطلاقه وحجته، بهذا الشكل لا يتعالى النص على تاريخيته، ويمكن أن يفقد فعليته مع عدم فعلية شروطه أو بعضها. وقد تم الاستدلال على الجذر الأخلاقي عقلاً وقرآناً.

إذاً، الأخلاق شرط تتوقف عليه فعلية الحكم الشرعي، ومعيار لمدى شرعيته. وهي صمام أمان يحول دون تكريس الحكم الشرعية لمصالح طائفية أو سياسية أو أيدولوجية. ويقصد بها هنا خصوص الأخلاق الأصيلة، التي هي مشاعر إنسانية كونية، يمكن الاحتكام لها في تبرير الفعل السلوكي. وهي من معطيات العقل العملي، دون الأخلاق النسبية المكتسبة التي تستمد وجودها من توافقات عقلائية تتغير من وقت إلى آخر تبعاً لمصالحهم. الأخلاق الأصيلة ثابتة لا تتغير، رغم إمكانية الالتفاف عليها. كحُسن العدل وقُبح الظلم. ومرت أدلة كافية تؤكد هذا الكلام.

وبالتالي نريد بشرط الأخلاق ضبط المدونة الفقهية، وتفادي توظيفها خلافاً لمقاصد الشريعة. وليمارس الدين دور الهداية والتسديد: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)14، (هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)15، ويأخذ العقل دوره في فهم الواقع وضروراته والمشاركة في ملء الفراغ التشريعي والقانوني، بحكم قدراته على ذلك. فثمة أحكام شرعية انتفت فعليتها بانتفاء فعلية أحكامها، وهناك منطقة فراغ تشريعي تتسع مع ايقاع الواقع، تستدعي أحكاما تلائمه، وتحقق العدالة والمساواة.

من جهة ثانية فإن شرط الأخلاق في فعلية الحكم الشرعي يشجع على التحقق من فعلية كل حكم ضمن أحكام الشريعة، خاصة الموقف من الآخر وكيفية التعامل معه، التي صدرت ضمن ظروف حرب وتراشق مستمر، وتحد شرس، فكانت ثنائية الإيمان والكفر، تقصي الآخر، من رحمة الله وتحرمه النجاة يوم الحساب.

يمكن الالتفاف على الضمير الديني بفتوى فقهية. والشواهد كثيرة، حينما يستبيح الفقيه ثروات البلاد بعنوان "مجهول المالك". أو يسوّغ العمالة بعنوان الولاية الشرعية ووجوب طاعة ولي الأمر. بينما لا يتخلى الضمير الأخلاقي عن قيمه ومبادئه، مهما كان حجم الإغراءات المادية أو الدينية. الضمير الديني يقبل الترويض. الضمير الأخلاقي يأبى التسويف.

وبالتالي، ليس للتراث سلطة تعيق الحداثة بدءا بتعدد القراءت والمناهج وزوايا النظر واختلاف الفهم. فيبقى نسبياً مرتهناً لقيمته العلمية ومدى قدرته على تحدي الإشكالات.

نخلص: أن الموقف الأخلاقي من التراث ينطلق من قيم ومبادئ إنسانية كونية شاملة، محايدة، ترفض القيم الأخلاقية النسبية التي تُمليها نصوص تراثية وفقاً لقبلياتها الطائفية، فتهدر بذلك كرامة الإنسان، الذي هو قيمة عظمى وفقاً لمنظومة ذات القيم الأخلاقية الأصيلة. وهل يصدق هذا المعيار على النصوص المقدسة، شديدة الفرز على أساس ثنائية الإيمان والكفر أم لا؟ تبقى علامات استفهام شائكة مرَّ الكلام حولها16.

***

ماجد الغرباوي – باحث بالفكر الديني

15 – 4 2023م.

.....................

1- الغرباوي، ماجد، الهوية والفعل الحضاري، مؤسسة المثقف – أستراليا، وأمل الجديدة، سوريا، ط 2019م، ص 174.

2- المصدر نفسه.

3- الغرباوي، ماجد، النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعيات التفكير الديني، مؤسسة المثقف – أستراليا، وأمل الجديدة، سوريا، ط 2018م، ص 8.

4- سورة البقرة: الآيات 1-4.

5- سورة الفرقان: الآية 73 .

6- سورة الحاقة: الآية: 12.

7- سورة محمد: الآية 24.

8- سورة الفتح: الآية 10.

9- سورة الفجر: الآية 22.

10- الشهرستاني، الملل والنحِل، منشورات الشريف الرضي، ص 95.

11- الصدر، محمد باقر، دروس في علم الأصول، طبعة المؤتمر 2012م، ج2، ص107.

12- المصدر نفسه.

13- المصدر نفسه، ص110.

14- سورة البقرة: الآية 2.

15- سورة الأعراف: الآية 203.

16-

www.almothaqaf.com/c1d-2/968516

 

 

مقدمة: ثمة مواقف متباينة من التراث، بعامة، والنص الديني خاصة، بين من يدعو إلى قطيعة تامة مع التراث والالتحاق بالغرب وحضارته، محملاً إياه أسباب تخلف الأمة، وهي دعوى ظهرت مع بدايات الصدمة الحضارية، وانقسام الموقف من التراث. كما دعا لذلك سلامة موسى الذي قال: (إنّ أسوأ ما أخشاه أن ننتصر على المستعمرين ونطردهم، و ننتصر على المستغلّين ونخضعهم، ثمّ نعجز عن أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا ونعود إلى دعوة: عودوا إلى القدماء)[1]. وآخر دعا لتكريسه، وبعثه من جديد، رافعاً شعار الخطأ في التطبيق لا بالتشريع، وهو اتجاه سلفي. بينما ذهب ثالث إلى موقف معتدل قاده جمال الدين الإفغاني، من أجل نهوض حضاري قائم على تراث الأمة وجذرها الديني – الإسلامي، وبذات الوقع الاستفادة من التجربة الغربية لتطوير الواقعين العربي والإسلامي. وسنتوقف عند النصوص الدينية، كيف يمكن التعامل معها؟

المطلوب فهم النص / الحكم، ضمن سياقه التاريخي، بعيداً عن التقديس. أو افتراض وجود ميتافيزيقي للحكم يحول دون إدارك ملاكاته. فربَ ظرف ما وراء صدوره، يمنع إطلاقه أو تعميمه. أو كان ثمة سبب لصدوره وقد انتفى موضوعه، فيفقد النص / الحكم فعليته. وما لم يؤخذ السياق في فهم النص تتغير جملة من الأحكام كالموقف الشرعي من الآخر وفقاً لفتاوى الفقهاء. والكلام عن النص الديني وخصوص النصوص التشريعية. مثاله مفتتح سورة التوبة التي تأمر بقتال المشركين أينما كانوا، التي كانت ناظرة لمجموعة محاربة، ترفض السلم وتتشبث بالعنف، وتصرّ على نصب العداوة والبغضاء لهم. فالآية كانت ناظرة لها بالذات، ولم تستبح دماء المسالمين منهم، وهم كل من نأى بنفسه عن محاربة المسلمين. بشكل أدق كان الحكم موقفاً من عدوانيتهم لا من شركهم. الشرك قضية فكرية لا تُعالج بالقتل بل المناظرة والأدلة المقنعة: (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَٰنَكُمْ)[2]، وقد استعرض الكتاب صور مختلف لمحاججات الرسول مع أهل الكتاب، دون أن يأمر بملاحقتهم وقتلهم. وليس هذا تبريرا بل يستمد صدقيته من آيات محكمات كثيرة، تدعو للتسامح والرحمة وعدم الظلم والعدوان. وتحرّم سفك الدماء وقتل النفس المحترمة، والبدء بالقتال، وتأمر بالجنوح للسلم والاستجابة لأية هدنة ممكنة. أو بالتعبير الأصولي أن الحكم في الآية كان ناظراً لقضية خارجية محددة، تمنع من إطلاقه أو تعميمه. وعندما يجرد الحكم من ظرفه الزمكاني، يبدو مطلقاً، يمكنهم الاستدلال به على وجوب قتل المشركين أينما وجدوا، تحت قاعدة "المورد لا يخصص الوارد"[3]، فالقاعدة تجرّد الحكم من سياقه التاريخي. وعلى هذا الأساس هدرت الحركات الدينية المتطرفة كرامة الآخر، واستباحت دماءه دون رحمة أو شفقة امتثالاً لقوله: (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ)[4]. رغم إمكانية السلم والهدنة والصلح في الآية ذاتها. وقد أجهزوا على ناس أبرياء لا ذنب لهم سوى ولادتهم في بيئة دينية مختلفة. إن منطق التكفير يشكل خطرا على قيم الدين ورسالته التي يفترض أنها رسالة سلام. ولا تخفى الدوافع السياسية للخلفاء وفقهاء السلطان وراءه. تكتشف ذلك عندما تتحرى تاريخيتها، وتبحث عن أسبابها وفرز الإلهي عن البشري ومختلف التأثيرات السياسية والثقافية. إن دراسة النص تاريخياً تكشف تفاصيله، أسباب صدوره، مقاصده، وفعلية شروطه. وقد قمت فعلاً بدراسة حديث الغدير في كتاب: "مضمرات العقل الفقهي"[5]، دراسة تاريخية - تحليلية، فانتهى البحث إلى نتائج مغايرة للمشهور. وربما صادمة للبعض، بعد تقصي أسباب صدوره وإجراء مقارنة بين الروايات التي نقلت الحدث التاريخي، ودراسة ظرف صدوره، ودلالاته ومدى تأثر فهم وتفسير حديث الغدير بصراع السلطة وامتدادتها على امتداد القرون الأربعة الأولى. وهكذا عندما تدرس تاريخ بعض الأحكام الشرعية، تكتشف دلالات مغايرة في ضوء سياقها التاريخي. والحالة أوضح بالنسبة لفتاوى الفقهاء والأحكام الفقهية، حيث هيمنت النزعة الطائفية والأيديولجية، وراح الفقيه يشرعن سلوك السلطان، مهما كان ظالماً، ومهما كان حجم الدماء التي سفكت. وظل الفقيه وفياً لطائفته وتوجهه السياسي. وبالتالي فإن التعرّف على تاريخ النص وتاريخ الحكم الشرعي شرط للتحرر من سلطته ومركزيته، تمهيداً لاستعادة العقل دوره في عملية تشريع الأحكام في منطقة الفراغ التشريعي. يقول إركون: (لكي تتحرر من شيء ما ينبغي أن تكشف عن أصله أو جذره الأول)[6]. القراءة الأحادية للتراث، ضرب من الخداع، حينما تزوّر الحقائق، وتشوّه الواقع، وتعكس لك صورة مثالية عن تاريخك ومقدّساتك .. هدم اسوار القداسة ونقد الموروث أول خطوات النهوض الحضاري.

النص التاريخي

إن جميع النصوص التاريخية والتراثية كانت ناظرة لواقع مغاير لواقعنا. وتعالج قضايا كانت مرتهنة لظرفها، وقد مرَّ عليها قرون، وهي نصوص بشرية وعقول مفكّرة مثلنا، لها غاياتها ومقاصدها. تتأثر بقبلياتها وثقافتها وأيديولوجيتها، فهي غريبة عن واقعنا وإشكالياتنا ومعاناتنا، وينبغي لنا الاستفادة من التجربة التاريخية وتوظيف قيمها الإنسانية، والبحث عن مرجعيات تنجح في تسويات الواقع وحاجاته.

إن أسطرة الرموز التاريخية والدينية لا يغير من الحقيقة. كل ما صدر بعد وفاة الرسول نصوص ثانوية بشرية تشتغل على المدونة الأولى، ومن الخطأ الاستسلام لها بدعوى القداسة عندما تحجب النص الأول وتحل محله. وهذا ما يفعله العقل التراثي، فإنه يتخد من النصوص الثانوية / الروايات مرجعية أولى في فهم النص الأول / القرآن. وكانوا يدينون أي مقاربة للنص القرآني بعيدا عن الروايات. وهذا النوع من التفسير يتمسك به السلفيون، ويسمى: التفسير بالأثر، حيث يغادر العقل، ويحرّم الاجتهاد في التفسير بلا دليل روائي. لا فرق في ذلك بين مذهب وآخر. نحن نعاني بشدة من قداسة الرموز التاريخية الذين مازالوا يفرضون علينا فهمهم للنص. يتعذر النهوض مع وجود عقول مرتهنة للماضي بكل حمولته، ويرفضون الاجتهاد مقابل النص مطلقاً، بدعوة قدسيته وعجز العقل عن إدراك ملاكاته. الأمر برمته مرتبط بالحداثة ومناهج التفكير من أجل نهضة تمهّد لمجتمعات آمنة مستقرة، تتبنى القيم الأخلاقية، وتسعى لضمان حياة حرة كريمة للإنسان. أو بعبارة أخرى: هدف التنوير استعادة مركزية الإنسان وتحقيق التوازن الروحي والمادي، مما يستدعي تجديد مناهج التفكير، بعيدا عن البنية الأسطورية أو القروسطية.

ليس المطلوب مقاطعة التراث مطلقاً، بقدر فهمه وفقاً لسياقه التاريخي، والتحرر من سلطته وهمينته المعرفية، فثمة قيم تعزز المشاعر الإنسانية، وتكسبها مَنَعَةً وقوة. وثمة تجارب تُغني تجاربنا، ومنجز بشري يستحق الاشادة والاهتمام، قد سجل حضوره وساهم في تطور الحضارة الإنسانية في إحدى مراحلها. المطلوب إحداث قطيعة أبستومولوجية مع البنية الخرافية أو القروسطية للتراث، في ظل تطور معرفي أقصى المعرفة الماضية، وأبطل بريقها السحري. ولا يختلف الأمر بالنسبة للروايات التاريخية والدينية، فهناك نصوص تقاوم تحديات الحاضر، وتفرض حضورها، بما تكتنزه من قيم إنسانية وروحية. والكلام عن روايات وأحكام فقهية فرضتها شروط مغايرة، غدت مع مرور الأيام مرجعيات تشريعية يرتكز لها الفقيه رغم نسبيتها وعدم إطلاقها، بفعل القداسة وتقديم النص على العقل، كروايات الصحابة عند السُنة والأئمة عند الشيعة. أو كما اشترط الشافعي: "القياس على مثال"، مهما كانت قيمته المعرفية، حتى لو كان أثراً فيقّدم على العقل. بهذا الشكل تراجع العقل النقدي، أمام العقل التراثي، الذي اقتصرت مهمته على التلقي، والتبرير والتفسير. وبالتالي فهناك ما يدعو لتفادي تداعيات النص، كمرجعية مطلقة، بعيداً عن النقد والمراجعة. وبعيداً عن معطيات العلوم الإنسانية الحديثة، التي ساعدت على فهمٍ جديد للنص ودلالاته. ومكّنت الناقد على اكتشاف مضمراته، وما يريد قوله وما يستبعده ويهمّشه. ليس الدليل والبرهان رهان النص على صدقيته، بل قدسيته، وعقول تم ترويضها لتقبلها بالمعنى الدوغمائي لمفهوم القداسة. وهذا أحد دواعي القول بعصمة الرعيل الأول، وبعض امتداداتهم. العصمة هي ركيزة النصوص الثانوية التي هي عمدة الفقه والاستدلال الفقهي. والتنظير لها ضرورة لتفادي عدم شرعية النصوص الشارحة والمبينة التي صدرت بعد وفاة الرسول. عدم القول بالعصمة يؤدي إلى انهيار القسم الأعظم من المنظومة الفقهية إضافة إلى زعزعة يقينيات عقدية وتلاشي النسخة الرسمية للدين والمذهب التي ارتبطت بها مصالح المؤسسات الدينية ورجال الدين.

النص سلطة، من شأنها إعادة تشكيل الوعي، وفق محدداته وزاوية نظره، حداً لا يمكن للعقل مغادرته. بعد أن تغدو النصوص حقيقة مطلقة بفعل قداستها. وهيمنتها التي تستمدها من المفهوم الدوغمائي للمقدس. وركود العقل النقدي. فتتعالى النصوص على النقد والمراجعة، بفعل أوهام القداسة وأسطرة الرموز التاريخية لإضفاء مبررات نفسية، يتفادى بها الفقيه ارتياب العقل ليتحول مفهوم النقد إلى وسوسة شيطانية، دواؤها الاستعاذة والاستغفار والتسليم المطلق لعقول كانت مؤثرة ضمن ظرفها الزماني والمكاني. وسلبها تاريخيتها يربك التفكير الفقهي والعقدي القائم على أساس الفرقة الناجية، ويلتبس الحق بالباطل، ويحول دون حلحلة إشكالات مازالت تتحدى. وأخطر تلك التداعيات الارتياب من العقل وقدرته على التشريع في منطقة الفراغ وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع والأخلاق في إطار الواقع وحاجاته.

إن التخلي عن التراث تخلٍ عن سلطة النص وقيمه وقبلياته، والبراءة من مضمراته وأنساقه. النص حزمة مشفّرة، والتخلي عنه تخلٍ واعٍ عن حمولته المعرفية وإحالاته المرجعية. فهو ليس بريئاً ولا مهادناً بل منحازاً لمصدره وقبلياته. وهو ليس مجرد نسيج لغوي، بل سلطة تستمد صدقيتها من قبليات المتلقي ومن قوة بيانه، وقدراته البلاغية والتعبيرية، وأسلوبه في توظيف المجازات داخل النسق اللغوي، وحجم الإحالات المرجعية في إيحاءاته ورمزيته وقدرته على استغفال القارئ. والنصوص الدينية أثرى وأقدر على مقاومة النقد والتفكيك، حينما تتجدد دلالاتها مع كل مقاربة نقدية. فلا يمكن تسوية الإشكالية ما لم نفهم تقنية أداء النص، وحجم رهاناته على ثقافة الفرد وقبلياته. بهذا يتضح أهمية نقد النص ومضمراته في تسوية إشكاليات مرجعيات التفكير الديني. ولم تعد دراسة النصوص متنا وسندا كافية في زعزعة يقينيات العقل التراثي[7].

الفرد يتأثر بالنص رغم علمه بضعفه أحيانا، مما يعني أن مركز اشتغال النص خارج وعي المتلقي، فهو يستهدف بنية المقولات الأساسية التي يراهن عليها في وجود حقيقته. وهذه مهمة أخرى في دراسة نقد النص، تتطلب عدة معرفية، وقدرة على التفكيك والتنقيب في أعماق النص وقبليات المتلقي، وكيفية وعيه للنص، ومدى تأثير البيئة الثقافية عليه، ورصد قنوات الإرتباط، ومعادلات إشتغال النص داخلها[8].

مستويات سلطة النص

تفشل كل محاولات نقد النص من داخله. التخلي مطلقاً عن سلطة النص والخروج من مداراته شرط لصدقية مراجعته تمهيداً لكشف أنساقه المضمرة، وما يخفي ويبدي. وما يصرّح به وما يتستّر عليه ويمرره كبداهات تستوحي شرعيتها من قدسيته. على جميع مستويات النصوص وسلطته، التي هي:

- سلطة النص على المستوى التشريعي:

عندما يفرض النص متبنيات عقدية وتصورات خاطئة عن الواقع، فتكون مهمة النقد هنا، بيان:

- بيان حقيقة الواقع وخصائصه، ومدى صدق مفاهيم النص عليه.

- تحديد مدى فعلية الحكم، سيما آيات الأحكام التي يتخذ منها الفقيه دليلاً على الحكم، فربما يستدل بآية قد انتفت فعلية حكمها بانتفاء موضوعه، كما في المثال المتقدم. فلا يحق له الافتاء بوجوب مطاردة المشركين مثلاً، مادام موضوع آيات سورة التوبة قضية خارجية. وهذه قضية مهم على مستوى تشريع الأحكام. فكان من فتوى صدرت على هذا الأساس، سيما فتاوى الحركات الدينية المتطرفة.

- سلطة النص على المستوى العقدي:

حينما تنظّر تلك الروايات لمفاهيم عقدية تتعارض مع العقل والقرآن، فتكون مهمة الناقد:

- فضح منطق الرواية وما ترتكز إليه من مقدمات. وهذا النوع من الروايات منحاز دائماً لمنطق الفرقة الناجية، ويسعى لتعزيز احتكار الحقيقة، والانفراد بالنجاة والخلاص يوم الحساب.

- اكتشاف النسق العقدي الذي يستبطنه كل نص فقهي تشريعي. الذي أعني به ذلك النسق الذي تتوقف عليه حجية النص / الرواية / الحديث، كمفهوم عدالة الصحابة أو العصمة. وحينئذٍ سيكتشف الناقد حجم الروايات المحسوبة على الشريعة ولم تكن جزءا منها، لاختصاص التشريع بالله تعالى، وهي مجموع آيات الأحكام المصرّح بها قرآنياً. أو بشكل أدق الكشف عن البعد الأيديولوجي في النص، وبيان حقيقة موضوعيته واستقلاليته.

- سلطة النص على مستوى البيان:

تتولى جملة واسعة من الروايات مهمة شرح وبيان نصوص الكتاب أو تحديد دلالات الآيات والروايات الشارحة والمبيّنة. وهي آراء بشرية نسبية تتأثر بقبليات مصدرها وبالواقع وأنساقه الثقافية. فتكون مهمة الناقد الكشف عن صدق حجيتها، ومدى قدسيتها. كل النصوص الثانوية آراء شخصية واجتهادات فردية، لا إطلاق لها، بل تتغير تلك الآراء من بيئة ثقافية إلى غيرها. وعلينا رفع الغبش عن عيون الناس من خلال الحقائق التي يكتشفها الناقد.

- سلطة النص في تفسير الظواهر الكونية:

ومعيار الناقد في هذه الحالة، معطيات العلوم الحديثة والكشوفات العلمية، وجميع القوانين الكونية. وهنا ينبغي التمييز بين ما تقدمه الآيات من تفسير بعض الظواهر الكونية وبين الروايات التراثية. الأولى كما تقدم في كتاب الهوية والفعل الحضاري، ليست بصدد بيان وشرح الظواهر الكونية بل كانت تأتي في سياق هدف الرسالات الذي يتطلب تحشيد كل الممكنات البيانية لتعزيز الإلوهية أولاً والتوحيد ثانياً، إضافة لتفنيد حجج المناوئين (المشركون، الملحدون وأهل الكتاب). فعندما يستعرض حركة الشمس والقمر فهو يستعرضها ضمن تفنيد معتقد عبادة النجوم الذي كانوا يعتقدون أنها آلهة تعبد من دون الله، فاستعرضت حركتها الآية لتؤكد أنها أجرام مخلوقة، تتحرك وفق قوانين صارمة.

وأما الروايات فإنها تحيل على البنية لأسطورية للعقل التراثي، ومهمة النقد هي كشف حقائق الأمور من خلال الأدلة العلمية. فالعقول اليقظة تقارن بينهما، وترفض التفسير الأول جملة وتفصيلاً بعد أن ثبت خطأه علمياً. والعقل التراثي المستقيل، الذي يرفض الخروج من مدار التفسير الخرافي للظواهر الكونية فهذا لا فائدة ترتجى من ورائه. وإهماله أفضل من صرف الجهد والوقت في توعيته.

إن الروايات التي قدمت تفسيرا للظواهر الكونية ليست قليلة، مثلاً: ما ورد عن ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (أوّل ما خلق الله من شيء القلم، فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء، فخلقت منه السماوات، ثم خلق " النون " – يعني الحوت - فبسطت الأرض على ظهر النون، فتحرّكت الأرض فمادت، فأثبت بالجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض، قال: وقرأ: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)[9].

التنوير اليوم كفاح ومكابدة لاستعادة مركزية الإنسان وحريته بعد تحريره من سجون المقدس والتراث[10].

نخلص: أن قراءة النص / الحكم الشرعي ضمن سياقه التاريخي يتيح لنا معرفة خلفياته، وأسباب صدوره، ومدى فعليته. بهذا الشكل يمكن التخلي عن سلطته واتاحة المجال للأخلاق والعقل يأخذ دوره في عملية تشريع الأنظمة والقوانين لملئ الفراغ التشريعي

***

ماجد الغرباوي

باحث بالفكر الديني – أستراليا

29 – 3 -2023م

...........................

 

[1] - الجابري، د. محمد عابد، الخطاب العربيّ المعاصر، المركز الثقافيّ العربي، الدار البيضاء، دار الطليعة ، بيروت، لبنان، مايو 1982م،ص:37.

[2] - سورة البقرة، الآية: 111.

[3] - قاعدة أصولية معروفة في علم أصول الفقه.

[4] - سورة المائدة: الآية 54.

[5] - الغرباوي، ماجد، مضمرات العقل الفقهي، الكتاب الرابع من كتب متاهات الحقيقة، ط 2020م، مؤسس المثقف، وأمل الجديدة، بدءا من ص 36 وما بعدها.

[6] - محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم. ترجمة: هاشم صالح. دار الطليعة.بيروت، 2009.ط4. ص280.

[7] - الغرباوي، ماجد، النص وسؤال الحقيقية.. نقد مرجعيات التفكير الديني، ط 2018م، مؤسس المثقف وأمل الجديدة، ص 8.

[8] - المصدر نفسه.

[9] - أخرجه أكثر من مصادر كالحكم في المستدرك: (2/540).

[10] - أنظر:

https://www.almothaqaf.com/c1d-2/968208

 

لا مراء حول قيمة الجهود المكرّسة لنقد مرجعيات التفكير الديني، وإشكاليات العقل التراثي. سواء اتفقنا أم اختلفنا معها. فهي جهود مهمة، اتسمت بثرائها الفكري والفلسفي. واستأثرت باهتمام الباحثين والدارسين. وتكمن أهميتها بحيوية مناهجها، وقدرتها على طرح الأسئلة، واختراق الممنوع واللامفكر فيه. فجميعها تراكم معرفي لمقاربة الحقيقة، وترشيد الوعي، ضمن مشاريع حضارية هادفه وفاعلة. وهذا لا يعني عدم وجود ملاحظات وتحفّظات أساسية حول مرتكزاتها التي انقلبت بدورها إلى بديهيات فرضت نفسها على الباحث. كانحياز محمد عابد الجابري للعقل المغربي ضد العقل المشرقي في مشروعه "نقد العقل العربي"، حتى اضطر جورج طرابيشي لتأليف كتاب مهم بعنوان: "نقد نقد العقل العربي". أو رهان مشاريع أنسنة المقدّس على إقصاء مطلق الدين كشرط أساس للنهضة، في مجتمع يستأثر التراث بمعظم مرجعياته العقيدية والفكرية والثقافية بل وحتى السياسية. فهي رهانات خاسرة.

المشكلة ليست في الدين كوحي إلهي، وإيمان يثري التجارب الروحية، بل في تحري مقاصده وغاياته وتوظيفه، وفهم دور الإنسان في الحياة، وقيمة العقل في تطوّره حضاريا. فثمة فهم أفقد الدين بُعده الإيجابي، وقدرته على تهذيب النفس وتنمية روح التقوى وكبح دوافع الشر. سببه فهم مبتسر لا يميّز بين القضايا المطلقة والقضايا النسبية في النصوص المقدسة. ولا يميّز بين الدين والفكر الديني، ويصر على تجريد التراث من تاريخيته والإذعان لسلطته وأحكامه. فمشكلة المشاريع الفكرية عدم تجاوزها ليقينيات مضمرة، يتأثر بها الباحث لا شعوريا، وهي على نوعين: الأول يقع ضمن فرضيات البحث. والثانية تتولد من خلاله. فتنشأ تراكمات يقينية لا شعورية جديدة. وهو أمر خارج عن إرادته أحيانا، بفعل النظام المعرفي القائم على ثقافة الفرد، فكل قراءة تخضع لإكراهات المنهج، وتستمد وجودها من ذات القبليات. وهذا لا يبرر التراخي والتحيّز المطلق. ويتطلب يقظة دائمة لتفادي الإنزلاقات الأيديولوجية.4600 النص وسؤال الحقيقة

إن حركة الفكر لا ترتهن لأي منجز، فهي حركة دؤوبة تفرضها تجدد الإشكاليات، وكيفية فهمها ومعالجتها، وما يستجد من وعي واستفهامات ملحّة. خاصة إشكاليات الفكر الديني ومرجعياته، فثمة مساحات لم تستأثر باهتمام الباحثين، رغم خطورتها المعرفية. وما زالت مقاربة النصوص وطريقة أدائها وهي تفرض حقيقتها ومحدداتها وسلطتها تنتظر جهودا تتقصى حركة النص في طيات العقل التراثي، فهو قوامه وأساس بنيته. وليست مرجعيات التفكير الديني سوى مصفوفة نصوص تتولى عملية التفكير وإنتاج المعرفة. من خلالها يفسر العقل التراثي ظواهر الأشياء، ويفرز الحق عن الباطل. خاصة الروايات الضعيفة ذات التأثير الأقوى في تزييف الوعي، وتكريس الجهل والأمية والتخلف. ولا يكفي وعي النص ظاهرا في تفكيك تلك المرجعيات وإعادة تشكيل العقل، فهو ليس مجرد نسيج لغوي، بل سلطة تستمد صدقيتها من قبليات المتلقي ومن قوة بيانه، وقدراته البلاغية والتعبيرية، وأسلوبه في توظيف المجازات داخل النسق اللغوي، وحجم الإحالات المرجعية في إيحاءاته ورمزيته وقدرته على استغفال القارئ. لذا تجد النصوص الدينية أثرى وأقدر على مقاومة النقد والتفكيك، حينما تتجدد دلالاتها مع كل مقاربة نقدية. فلا يمكن تسوية الإشكالية ما لم نفهم تقنية أداء النص، وحجم رهاناته على ثقافة الفرد وقبلياته. بهذا يتضح أهمية نقد النص ومضمراته في تسوية إشكاليات مرجعيات التفكير الديني. ولم تعد دراسة النصوص متنا وسندا كافية في زعزعة يقينيات العقل التراثي.

الفرد يتأثر بالنص رغم علمه بضعفه أحيانا، مما يعني أن مركز اشتغال النص خارج وعي المتلقي، فهو يستهدف بنية المقولات الأساسية التي يراهن عليها في وجود حقيقته. وهذه مهمة أخرى في دراسة نقد النص، تتطلب عدة معرفية، وقدرة على التفكيك والتنقيب في أعماق النص وقبليات المتلقي، وكيفية وعيه للنص، ومدى تأثير البيئة الثقافية عليه، ورصد قنوات الإرتباط، ومعادلات إشتغال النص داخلها. وهذا ما قام به كتاب: (النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعيات التفكير الديني)، فيندرج ضمن مشروع نهضوي طموح لاستعادة وعي الفرد بعد نقد العقل الديني و مرجعياته المرتهنة في معارفها لقدسية التراث وأوهام الحقيقة، بعيدا عن المناهج العلمية، والكشوفات المعرفية الحديثة. فالكتاب يلاحق البنية المعرفية للعقل التراثي، لنقد مقولاته ومضمراته ويقينياته، وتحري مدى مطابقتها للواقع، وصدقية النصوص المؤسسة لها. ولا يكتفي بالنقد والتفكيك والتحليل، بل يواصل حفره وتنقيبه في بقع معرفية مُستبعَدة ومهمّشة، تقع ضمن المتواري واللامفكر فيه، يتوقف على استدعائها فهم الواقع ومعرفة الحقيقة. وكيفية اشتغال النص وفرض حقيقته ومحدداته، خاصة التباس المقدّس بالمدنس، والديني بالبشري، بسبب التباس المفاهيم وتزوير الوعي.

إن نقد النص هو تعبير آخر عن سؤال الحقيقة، وهذه إحدى مهام الكتاب وهو يلاحق مرجعيات التفكير الديني بحثا عن مضمراتها، لفرز ما هو نسبي، وفضح مراوغات النص وتقنياته في وجود الحقيقة، لاستعادة الوعي وإعادة تشكيل العقل وفق نظام معرفي يرتكز للدليل والبرهان في معارفة وعلومه، من أجل نهضة حضارية نستعيد بها إنسانيتنا، ونستنشق رحيق الحرية، بعيدا عن سطوة التراث، وأسطرة الرموز الدينية.

لست مع متاهات التفكيك، غير أني أسعى لأقصى ممكنات الغوص في أعماق الظواهر الاجتماعية والدينية لإدراك الحقيقة، وتقديم قراءة موضوعية، تنأى عن المراكمة فوق ركام الخراب المعرفي ودوامة التخلّف. وأطمح لرؤية مغايرة وفق مبادئ عقلية متحررة من سطوة الخرافة واللامعقول وأوهام الحقيقة، ورهاب النص وقدسيته، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب. يتمثل قيم التسامح والمواطنة، ويعترف بالآخر اعترافا حقيقياً. فالمشكلة الأساس تتعلق ببنية العقل، والنظام المعرفي، ونوع المفاهيم والمقولات المؤسسة لها، وطبيعة الثقافة التي تنتمي لها. نحن بحاجة مستمرة لنقد جميع الثوابت والقناعات. فالفهم المبتسر للدين أحد الأسباب الرئيسية وراء التخلّف الحضاري، وهذا يتطلب نقد مرجعيات الفكر الديني بمنهج عقلاني جريء.

نأمل أن تكون أفكار الكتاب إضافة حقيقية تساهم في فتح آفاق رحبة لمعرفة مستنيرة، تزعزع يقينيات العقل الدوغمائي، وتجرد رجل الدين من سطوته، ليستعيد الفرد وعيه، ومكانته الحضارية.

كان هذا الكتاب ردا على سؤال عن الروايات الدينية، وطرق فرز الصحيح عن الضعيف منها. وأحسب أنه رسم صورة واضحة لدور النص وخطورته على الوعي، كمرجعية معرفية للعقل الديني، وبيان طرق اشتغاله ومراوغاته. فثمة مصفوفة يقينيات لا دليل على صدقيتها سوى روايات موضوعة، وقد ذكرت أهمها.

***

ماجد الغرباوي

1 – 7 – 2018

..............................

* مقدمة كتاب النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعيات التفكير الديني، ماجد الغرباوي، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا وأمل الجديدة، دمشق – سوريا، الطبعة الأولى: 2018م

 

تغرد ، نبض القصيدة

شحوب المعنى

رقة

أناقة الكلمات

تعود معرفتي بالأستاذة الدكتورة بشرى البستاني إلى عشر سنوات مضت، عندما نشرت أول دراسة نقدية في صحيفة المثقف، عام 2012-01-20م. فكانت مناسبة لاكتشاف عالمها الإبداعي، وتحري معالم تجربتها الكتابية والشعرية. اتسمت دراستها بعمق ودقة وبعد نظر، ومقاربة للنص بأسلوب نقدي يمتلك أدواته المعرفية، ويجيد توظيفها. فترىها تلاحق أنساقه المضمرة بمهاره، وما يريد قوله وما يستبعده على مستوى النقد الثقافي، وتتألق في مقاربتها النقدية له، تستنطقه فيبوح لها بنقاط قوته وضعفه. تحاكم صوره واستعاراته ومجازاته، ومدى قدرته على الإداهش، والتعبير عن نفسه كنص أدبي. إنها ناقدة مدهشة في عملية التفكيك والتحليل، تتمتع بثقافة وعمق معرفي، يكشف عن شخصية فكرية ونقدية وأدبية. دأبها الإبداع والعطاء. لقد كان حضورا مفاجئا لشخصية مميزة، اكتشفت بعد التعرف على أبعاد خفية على القارئ أنها صاحبة رأي في مجال تخصصها. ثم راحت تكشف عن شاعريتها رويدا رويدا من خلال نصوصها التي أثرت صفحات المثقف. حداً لفتت انتباه أسرة التحرير وجميع الأدباء، فكان التكريم يليق بها وبمنجزها، وبالفعل بعد مشاركتها بملف يوم المرأة، حظيت بدرع المثقف للثقافة والأدب والفن. لعام 2012 م. رغم حداثة مشوارها في النشر. لكنه حضور مترع بالإبداع والتميز.

في هذا الوقت، حيث الربيع والزهور، وزقزقة العصافير، وانفتاح القلوب على الحب. تواصلنا، حول كيفية إرسال جائزة المثقف، وبالفعل لبيّنا طلبها، فكانت بداية تواصل مع شخصية، شعرت معها بالفخر والاعتزاز. وهكذا بدأنا نتابع ما تنشره، بلهفة وخشوع في محراب الشعر والإبداع. فكانت أول قصائدها على صفحات المثقف بعنوان: الضحية. وكان مطلعها:

يقولون في مدينتها

أن الخيول ترى في الليل

أجنحة الملائكة فتصهل.

سألته: هل ترى الخيول في مدينتكم أجنحة الملائكة؟.

وكما احتضنت المثقف بفخر نصوص الشاعرة البستاني، احتضنت هي بصدق المثقف ومشاريعها الأدبية والفكرية والثقافية، من خلال قوة حضورها، ومشاركتها في الجدل النقدي المستمر آنذاك حول ما يُنشر من نصوص أدبية. ومساهماتها المميزة في ملفات القسم الأدبي، سيما يوم المرأة. كما كانت أول المشجعين على فتح باب "هايكو". وبالفعل قدمت عام 2015 دراسة من جزئين بعنوان: "الهايكو العراقي والعربي بين البنية والرؤى". وأثرت صفحة الهايكو بقصائد جميلة. بشرى البستاني من المؤسسين لقسم الهايكو في صحيفة المثقف بمعية الشاعر القدير الأستاذ جمال مصطفى والشاعرة القديرة ميادة أبو شنب المشرف الأدبي آنذاك. ويعود لها ولثلة من الأدباء في تطور هذا الباب.

كانت الدهشة تملأ عيون القراء، مع كل قصيدة تنشرها الشاعرة الجميلة، فانعقد الاجماع تكريمها ثانية، ففازت هذه المرة بجائزة الإبداع الصادر عن مؤسسة المثقف في سيدني – أستراليا لعام 2016. وهي أعلى جائزة تمنحها المؤسسة، يشرف عليها سبعة من كبار الشخصيات الفكرية والأدبية والنقدية. فراحت تزهو بها الجائزة.

بشرى البستاني صوت شعري متفرّد، رغم تعدد الكتابات حول منجزها الشعري. ونصوصها تبقى طازجة، متدفقة، محلقة بألحانها، وتميّز نبرة صورها المعبرة عن مشاعر المرأة المتيمة بالحب بالوطن بالحياة . تنساب بين أناملها الكلمات وتغفو على أوتارها النغمات، تسمو وتسمو، تتألق في صورها الشعرية. تلهب مشاعر قرائها، وتُسكر سامعيها، أنها لحن غافٍ، وموسيقا ساحرة، تخذلني الكلمات وأنا أكتب عن بشرى. هي شلال تغمرك بألحانها حينما تنشد شعرا. تردد كلمات في أعماق الروح. دمها ينبض شعرا وحبا وجمالا، ورشاقة كلماتها تحكي رشاقة أسلوبها. تنأى عن الابتذال، وتحتفظ بمكانه مميزة لدى قراءها وطلابها، وكل من يقرأ لها.

اكتوت الشاعرة د. بشرى البستاني بنار الحرب. وترك الغزو جُرحا في أعماقها، لا يندمل مهما بكت العراق في قصائدها، ومهما سالت دموعها. تشهد لها قصائدها وهي تتدفق مشاهد باذخة يطغي عليها الحنين والألم. ثم عاشت غربتين، غربة التخلف التي سادت مدينتها الموصل، وغربة المنفى الطوعي، تقول:

فتبكي جروحي

وأنسى الذي كان ما بينَنا

من مَلامْ ….

والجبالُ تلوبُ: العراقُ،

العراقُ متاحفُ نخلٍ، مرايا، وعاجٌ

**

والعراقُ عباءةُ أمّي،

وثوبُ العذارى،

اللواتي يمُتْنَ على السفحِ

من ظمأٍ وأغترابْ.

ولك أن تقرأ تعليقات القراء والأدباء بعد نشرها لقصيدة موسيقى عراقية، وانظر مشاعر الاعجاب والاندهاش. الوطن لا مساومة عليه لدى بشرى، والمرأة همها ورسالتها، وهي تشاهد ما حل بنساء بلدها على يد التخلف الديني والثقافي، فهي منحازة للعراق دائما:

لم يكن من خيارْ..

عراقيةً كانتِ السعفةُ الشاردهْ

عراقيةً كانت الومضة الواعدة

فسلامٌ على الأرضِ في وجدِها

وسلامٌ على وترِ لا ينامْ.

***

ماجد الغرباوي – باحث بالفكر الديني

رئيس تحرير المثقف

............................

* طُلب مني كتابة شهادة بالأستاذ الدكتورة بشرى البستاني، الشاعرة المبدعة، والباحثة القديرة والناقدة الجديرة، فكان هذا النص مشاركة بالاحتفاء بمنجزها. متمنيا لها دوام العافية والعطاء 

 

 

إن حاجة الشيعة للإمام نابعة من صميم عقيدتهم بوجود 12 إماما، كانوا يمثلون القيادتين الدينية والسياسية، رغم تفاوت أدوارهم حتى آلت الأمور إلى إمامة شكلية في زمن علي الهادي. وبشكل أوضح في حياة الحسن العسكري، عندما أحال على الفقهاء للإجابة على أسئلتهم الشرعية. فانقلبت حاجة الشيعة للإمامة من حاجة حقيقة إلى حاجة رمزية ساعدت على تقبل فكرة غيابه مع وجود وسطاء أو سفراء بينه وبينهم، رغم قوة الزلزال. فالشيعة لم يخسروا بغيبته سوى القيادة الفعلية، التي راحت تذوي في حياة الإمامين الآخيرين، حتى تفوقت الحاجة الرمزية على الحاجة الحقيقة لوجود الإمام. وبالفعل كانت رمزيته وما تزال وهو غائب أقوى وأثرى للخيال الشيعي، يؤكد هذا ما نشاهده عند مواليه وشيعته. فالحاجة إليه باتت ضرورة نفسية، تنعش أمل الشيعة، وتطفئ قلقهم. ولو كانت هناك حاجة حقيقية للإمام، أو توقفت بعض القضايا الدينية والقيادية لتمرد الشيعة ضد عقيدة الانتظار، بل وربما كفروا بالتشيع وعقيدته، لكنه لا توجد حاجة حقيقية بل هناك حاجة نفسية لرمزيته، وستبقى مهما طالت غيبته.

أحيانا تَحط ُّ المعاصرة من قيمة الرمز وقدسيته، بينما تزدهر في غيابه حداً تُلهب رمزيته الخيال الميثيولوجي، فيجرّده من بشريته ويحلّق به في مدارات الأسطرة واللامعقول، ليُعيد انتاجه باستمرار في إطار ضروراته العقيدية والآيديولوجية. وهذا أمر طبيعي في غياب أي حبيب، فإنك تُسقط عليه كل الخصال الحميدة. وتتجسد أكثر رمزية الإمام في غيابه عندما يعلّق الشيعة آمالا واسعة على دولته المعهودة، وهي آمال لازمتهم على امتداد تاريخ الأئمة، فكانت سلوى وملهاة تداعب أحلامهم، وكان الأئمة يجدون في المهدي ودولته مفرا من المأزق العقائدي، الديني، فيدارون مشاعرهم بكلام يداعب أحلامهم حدَ الهوس بالمهدي ومستقبل دولته، ليتخلصوا من السؤال المرير: متى يظهر المهدي؟.

أما المعاصرة فعلى العكس، حيث عانى الأئمة من معاصريهم، وتخلى عنهم الناس في أحلك الظروف، كما فعلوا مع الإمام الحسن بن علي، والإمام جعفر الصادق، وشككوا بإمامة موسى الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، وهكذا بالنسبة لعلي الهادي والحسن العسكري، بل الأخير واجه سيلا من التشكيك أضرّ بمصداقيته، بينما يزخر المهدي الغائب برمزية هائلة، لأنه لم يعاصر أحدا، ولم يحتك بالوسط الاجتماعي، سواء كان له وجود حقيقي أم لا، لكن غيابه شحنة رمزية عالية تنعش طموحات التشيع. فتجد الشيعة اليوم يعلّقون آمالا عريضة على ظهوره.

إن صورة المهدي في الخيال الشيعي تتجدد وتتضخم حداً يختلط فيها الوهم بالحقيقة، خاصة لدى من يدعي مشاهدته ولقاءه.

لقد تطوّرت صورة المهدي في الخيال الشيعي من الرمزية إلى الأسطورة، والأسطورة تقاس بقوة رمزيتها وإيحاءاتها وقدرتها على الاستجابة، لا بمقدار صدقيتها ومطابقتها للواقع، لذا لا أحد يثيره طول عمر المهدي، بل أن طول عمره الخرافي يعزز أسطرته، ويلهب الخيال حد الهوس والتفنن في اجتراح حكايات أسطورية حوله. ويتجسد هذا الأمر في مناجاته وهو غائب، حيث يذوب فؤاد المناجي شوقا، وترق دموعه، ويبدأ بمغازلته والتودد إليه حتى يرتوي ضمأ روحه الهائمة، وتهجع مطمئنة على أمل لقاء جديد.

المهدي لعبة الخيال الشيعي، وآمله المتجدد، وأفقه نحو المستقبل والآخرة، وطموحه إثر إخفاقات الحياة ومتاعبها. إنه رمز الإنسان الكامل. به تسمو أرواح المؤمنين، وتنتعش آمالهم وأحلامهم. ويبقى طيفه يداعب خيالهم، فعيونهم ولهى تطارد كل خيال لعله المهدي، فتشرق ابتسامة الشوق قبل حرارة اللقاء. 2345 مدارات عقائدية ساخنة

 

ماجد الغرباوي

...................

* مقطع من كتاب مدارات عقائدية ساخنة.. حوار في منحنيات الأسطرة واللامعقول الديني، مؤسسة المثقف ودار أمل، الطبعة الثانية، ص، 165 – 167

للاطلاع على الكتاب

https://www.almothaqaf.com/k/majed-al-gharbawi-s-books

 

أفهم النقد الثقافي، بأنه: تحري الأنساق المضمرة في النص الأدبي، والتعرف على مرجعياتها وبيئتها وسلطتها المعرفية، ودورها في بناء النص وتشكيله وأسلوبه. أو أنه مصطلح يراد به: الكشف عن الأنساق المضمرة في النص الأدبي بما فيها النسق الثقافي المهيمن، ومستوى معاناة المجتمع من إكراهاته وسلطته. فالنقد الثقافي يعمل بمنهج نقدي إركيولوجي، مستفيدا من معطيات العلوم الإنسانية، على تقصي تلك الأنساق ضمن المنسي واللامفكر فيه، والمهمّش، والمهمل، والمحرّم، والممنوع، وما ترسب في أخاديد الوعي، وصولا للكشف عن كيفية تشكل مفاهيمها ومقولاتها المؤسسة، ومدى تأثيرها في بناء النسق الدلالي للنص.

النص الأدبي وفقا للنقد الثقافي، وثيقة غير مرئية، تتضمن أنساقا يتجلى فيها العمق التاريخي، والبعد الاجتماعي والأنثربولوجي والنفسي والسياسي والفكري. فالنص ليس مجرد فيض من المشاعر، والصور الشعرية الجميلة بل تجلٍ لأنساق ثقافية مضمرة، تتحكم في توظيف مختلف الأنواع البلاغية من مجاز واستعارة وكناية وبديع وجناس وطباق وترادف، في بناء النص، وأسلوب الخطاب، وطبيعة المتلقي. فالثقافة الغائرة وقبليات الكاتب تفرض سلطتها على نسق النص وبنائه، لتخفي وتظهر ما يتلاءم معها. يعي الكاتب ذلك أم لا، بل بعضها عصي على الإدراك لولا مناهج النقد وقدرتها على التنقيب في حقول النص ومساراته. 

فعندما يتناول الشاعر المرأة وهمومها في نصوصه، تشاركه فعل الكتابة قبلياته، وما اختزنت ذاكرته من مقولات ومفاهيم وأنساق تتعلق بها، وبالمجتمع والتاريخ والاجتماع البشري، وعلاقتها بالثقافة والبيئة والمقدس والممنوع والمحرم والعادات والتقاليد.. قد يعي الكاتب بعضها خلال فعل الكتابة، لكن إيقاع اللاوعي أقوى تأثيرا. وهنا يأتي دور النقد الثقافي حينما يوظف منهج التفكيك والحفر وينقب في أخاديد المضمر والمنسي والمهمش، داخل النص وخلفياته ومرجعياته، فربما يكتشف ما هو ضد النص، فيكتشف مثلا ذكورية غاطسة في أعماق الكاتب وهو يكتب دفاعا عن المرأة وحقوقها. وهذا ما اتهم به الناقد الثقافي السعودي عبد الله محمد الغذامي في كتابه: النقد الثقافي، نصوص أدونيس، رغم حداثتها. فيعتقد كما جاء في كتابه أن نصوص أدونيس لا تنتمي للحداثة قدر انتمائها لثقافة ذكورية أو فحولية، سلطوية. وهي ثقافة تاريخية ضاربة في أعماق البنى المعرفية والثقافية للمجتمع العربي. أو حينما يكتب الشاعر عن قيم الحرية والوطنية، وينسى ضعفه أمام إغراءات المال والسلطة وحب الظهور والتفاخر.

الناقد الأدبي لا يهتم دائما بخلفية الشاعر قدر اهتمامه بالصور الجمالية في نصه، فهي موضوعه وحقل اهتمامه، من خلالها يستكشف حجم الإبداع في النص، ومستواه مقارنة بنصوص أخرى، فتقتصر أدوات النقد الأدبي ومناهجه على الصور الأدبية، الجمالية، البلاغية في النص وكيفية تركيبها، وثراء مفرداتها. أو أسلوب السرد، وطريقة توظيف الحدث، وحركة الأشخاص في القصة والرواية. فتركيز الناقد منصب على ذات ظاهر النص، لا يتجاوزه إلا بمناهج نقدية أخرى. فالنص الأدبي نص أدبي من أي شخص صدر، ومهما كان إنتماؤه وخلفيته الفكرية والثقافية والعقدية. بينما تستمد قيمة النص في النقد الثقافي من قبليات الكاتب وما يتجلى من مبادئ وقيم يشي بها النص.

من هنا يتضح أن النقد الثقافي يغاير النقد الأدبي، رغم وحدة موضوع اشتغالهما على النص الأدبي. فالنقد الأدبي مهمته تفسيرية بيانية، لكشف أوجه الجمال والإبداع، وأسلوب بناء النص، وطريقة توظيف الأنواع البلاغية، وقراءة نقدية لدلالته ونسقه الجمالي الظاهري، فلا يبتعد الناقد الأدبي عن ظاهر النص وأنساقه الواعية، ولا يتوغل بعيدا عن الوعي غالبا. عكس النقد الثقافي الذي يتجاوز النقد الأدبي ويغور في أعماق النص لتفكيك أنساقه الثقافية والمعرفية بحثا عن حقيقته. فيكون النص طريقا لأنساقه المضمرة في متاهات مترامية أبعد من الوعي.

وإذ كان النقد الأدبي ينتمى لما يعرف بالنظرية الأدبية، فإن النقد الثقافي يستمد قدرته النقدية من العلوم الإنسانية، ومناهج النقد والتفكيك والإركيولوجيا والفلسفة والمنطق، ويستفيد من مختلف علوم اللغة والألسنيات، والتأويل، إضافة للأنثربولوجيا وعلم النفس وطرق التفكير وأسلوب الخطاب.

وكما يختلف النقد الثقافي عن النقد الأدبي فأيضا يختلف عن الدراسات الثقافية التي تهتم بدراسة الظواهر الثقافية، وتاريخها، ومصاديقها وتأثيراتها. فمهمة النقد الثقافي مهمة مركبة، تختلف في مرجعياتها ومناهجها، وتستقل عن غيرها من العلوم والمناهج رغم استفادتها منها. فالنقد الثقافي صار علما مستقلا ضمن علوم اللغة أو أبعد منها.

هذا ما أفهمه من النقد الثقافي في كلماتهم. وهذا القدر صحيح بشكل عام بعيدا عن تداعياته. فالنص، أي نص، ليس بريئا، بل يراوغ ويخفي أكثر مما يظهر، ويضمر أكثر مما يقول، وليس النص الأدبي فيضا من المشاعر والصور الشعرية بل يكتسب ديناميته من أنساقه وثقافته اللامرئية، التي تعكس مرجعيات فكرية وعقيدية وثقافية وسياسية ودينية. والنص الأدبي، كأي نص، عبارة عن صور شعرية وشفرات جمالية ومجازات شكلية تستبطن أنساقا ثقافية يشتغل عليها النقد الثقافي. من هنا تطورت القراءات التأويلية، مستفيدة من التراكم الدلالي للنصوص، خلال تفكيكها، وفقا لمنهج التفكيك الذي يحفر داخل طبقات النص ومخاتلاته، في رحلة لاستكشاف أنساقه التي تتداخل تارة وتتعارض أخرى، أو تتكامل، وقد تشكل دوائر داخلية فتنتج معرفة جديدة. حتى باتت المعرفة التأويلية واستنطاق النصوص أهم حينما تكتشف مرجعياتها، وطريقة أدائها داخل النص. إن ما يمارسه النص، أي نص، من استغفال للقارئ يكتشفه المنهج التفكيكي، ويكتشف دوافعه وغاياته، عندما يتمادى في تفكيك النص أكثر. وكلما زادت مراوغات النص كلما تراكمت دلالاته. فثراء النص يعرف بمقاومة التأويل وقدرته على المراوغة، واستجابته المخادعة لأداة النقد، فكلما عوّل الناقد على إحدى دلالات النص، تبدد يقينه مع مواصلته التفكيك. فالنص القوي لا يعطي نفسه بسهولة، ولا يبوح بأسراره وشبكة دلالاته، حتى أجد النص أكثر خيانة عندما يمارس غوايته ويتستر على الممنوع والمحرّم والمسكوت عنه.

وهذا ينطبق أيضا على النص الأدبي الذي هو موضوع النقد الثقافي، فالنص الأدبي بجميع أجناسه ليس بريئا، بل أكثر قدرة على المراوغة متسترا بالشكل الجمالي، أو بجاذبية السرد كما في القصة والرواية، أو يتوارى خلف الأحدث، فكم أخفى الكاتب على قارئة والمتلقي قضايا، يتوقف عليها فهم أحداث النص ودلالاته، لا يمكن كشفها لولا النقد الثقافي. ولعل أبسط مثال حينما يوظف الشاعر نصا يستدر به تعاطف المتلقي، ليخفي جنايته. أو يراكم ما يخفي دوافعه الجنسية، ويتحدث عن كبت المرأة وحريتها في ممارستها. فعندما تتمتع المرأة بحرية مفتوحة، سيكون الرجل / الشاعر / الكاتب، شريكها. فالدفاع عن مطلق حرية المرأة دفاعا عن جشع جنسي يتوقف إشباعه على مدى حريتها. أو نصوص التصوف والعرفان حينما تتستر على إيروتيكية الكاتب، فترى الناقد الأدبي يحلّق بعيدا مع صورها، مأسورا بصوفيتها ومعانيها ودلالاتها العرفانية، بينما تكشف ذات النصوص عن رغبات جنسية مكبوتة، حينما يتناولها النقد الثقافي، ليفضح دوافعها اللامرئية والغائبة عن ظاهرها. وهذا هو الفارق التطبيقي بين كلا النقدين.

ولا أجد تعارضا بين القراءتين، لكي تصادر إحداهما لصالح الأخرى. فلكل من النقد الأدبي والنقد الثقافي أدواته ومناهجه وغاياته وطرقه في تناول النص الأدبي. لكن الغريب أن الغذامي أعلن بتدشينه النقد الثقافي موت النقد الأدبي بعد استنفاد أغراضه وتآكل المعايير البلاغية، كما يقول. وبات عديم الجدوى، لا يخدم أهداف الحداثة، والاستقلال والتحرر والنهضة، حينما يتلبس الأديب بالوطنية متسترا على تعاطفه مع الاستعمار أو تبرير وجوده مثلا. فقيمة النص ليس بشكله الجمالي وابداعه الفني بل بما يضمر من قيم ومبادئ. فتارة يتستر الشاعر على قيم البداوة والفحولة وهو متلبس بها، شعر بذلك أم لم يشعر. فنصوص أدونيس ونزار قباني مثلا لا تصنف ضمن نصوص الحداثة، كما يرى الغذامي، ولو كتبت بلغتها، ما دام المطمور في أعماقهما قيما ذكورية، سلطوية، وحب التسلط والسيطرة والمال. وهي قيم عاجزة عن تبني قضايا المرأة تبنيا حقيقيا، بل تتستر هذه النصوص على ذكورة غائرة في أعمق اللاوعي. وبالتالي تهاوت القيمة الجمالية للنص تحت مطرقة النقد الثقافي وسلبت النقد الأدبي شرعيته.

بتقديري أن هذه الرؤية لا تبرر موت النقد الأدبي، ويبقى حقلا معرفيا، له موضوعه، واختصاصه، ووظيفته، من خلال دراسة ظاهر النص ودلالالته، وصور البلاغة والجمال، وطرق التعبير، وكيفية بناء النص، وتركيب الجملة، واجتراح الصورة الشعرية، وأسلوب توظيف المفردة الشعرية من حيث ثرائها، ومناسباتها، وموقعها داخل النص. وطبيعة الظواهر الاجتماعية والسياسية والنفسية التي يعبّر عنها. أو ما يسجله من معاناة على صعيد الفرد والجماعة. فالنص الأدبي تجربة شعورية يعيشها الكاتب، ويتمثلها في خياله حينما يكتب النص، فيعبر عن مشاعره أو موقفه أو استعراضه لقضية ما، أو استشراف للمستقبل أو نبوءة. وهذا ما ينتظره المتلقي ويتفاعل مع إيقاعه ولحنه. فنتائج النقد الثقافي نخبوية، عكس نتائج النقد الأدبي، فلماذا يموت الأخير لصالح الأول؟.

الناقد الثقافي يريد فرض إملاءاته على النص الأدبي، وهذا ما يتستر عليه بشكل لا شعوري، فهو ليس شخصا مجردا، موضوعيا، بل متحيزا لقبلياته لا شعوريا، وخاضع لسلطة أنساقه الثاوية بعيدا عن الوعي في قراءاته وفهمه وأحكامه، فلا يمكنه مصادرة النقد الأدبي الذي تبقى مهمته، في دراسة ظواهر النصوص وملاحقة الإبداع والصور الجميلة مشروعة، يتوقف عليها كشف ميزات النص ومستوى أدائه البلاغي والجمالي. النقد الأدبي يرصد نقاط القوة والضعف في النص وفقا لمناهجه: الفنية، البلاغية، البنائية، التاريخية، النفسية، الظاهراتية، الأسلوبية وغير ذلك. وهو  مشغول بالوعي، ولا ينسى اللاوعي والعمق النفسي والأيديولوجي للكاتب حينما يوظف مناهج أخرى، فتجد أغلب النقاد يواصل مسار النقد لتحديد علاقة النص بعمقه النفسي والثقافي، ومدى علاقته بمرجعياته، وواقعه وبيئته وظروفه. فهو أيضا يمارس النقد الثقافي ولو بحدود. وعليه، لا تنتهي مهمة النقد الأدبي بالنقد الثقافي، فلكل واحد وظائفه، ولا يوجد ما يبرر التخلي عن أحدهما لصالح الآخر، خاصة أن النقد الثقافي لم يمر دون مؤآخذات، وبحاجة إلى مزيد من التنظير والمراجعة كي تستتب أسسه، ويرسو على نظرية ومنهج يختص به، فثمة تمادٍ واسقاطات تضر بالنقد الثقافي ومشاغله، ينبغي التخلص منها للتوفر على قراءات موضوعية.

ثمة ملاحظة، إن تمادي النقد الثقافي في التفكيك سيدخل النص وكاتبه والناقد في دوامة الحفر والتنقيب، وبعثرة الأنساق، وتفكيك بناه ونصوصه الداخلية. فعندما يتقصى الناقد الثقافي بنية النص التحتية، وصولا لمقالاتها التأسيسية ومفاهيمها الأولية، ستواجهه علاقة الجدل القائمة بين مقولات البنية الواحده، وبينها وبين البنى والأنساق الأخرى، فلا يقف التفكيك عند حد، وربما يصبح التفكيك لأجل التفكيك، وينقلب النقد إلى فوضى تضر بالنص ومهمة الناقد الثقافي، فلا بد من مبدأ وغاية تعطي للنقد قيمة ومعنى، وتحد من تهوره في التفكيك لأجل التفكيك.

ثم الناقد الثقافي ينسى قبلياته، ومرجعياته وأنساقه، وما تفرضه من سلطة في مسار التفكيك، فالناقد، يحسب نفسه موضوعيا، غير متحيز، لكن الواقع شيء آخر، فهو يحاكم أنساق النص الأدبي وفقا لأنساقه الغائرة، بعيدا عن الوعي. فيُسقط من حيث يشعر أم لا قناعاته الشخصية المتولدة عن بنية معرفية، ومهيمن ثقافي يخصه. وبالتالي هو الآخر يطاله التفكيك ليدخل الناقد في دوامة جديدة من تفكيك الأنساق المضمورة. وهكذا سيتعقد الأمر إذا أخذنا بنظر الاعتبار حال المتلقي وقبلياته، فستتعقد وظيفة الناقد، ويبقى في دوامة التفكيك. من هنا ينبغي للنقد الثقافي تحديد منهج النقد، وعدم الاستغراق في التفكيك، للتخلص من متاهته مع عدم وجود مرجعية ومبدأ ينطلق منه. وربما الاكتفاء بمنهج الحفر الإركيولوجي في بنى وأنساق النص المضمرة يكفي في استظهار ما تستبطنه، ويخدم النقد الثقافي. كما سنتعرف من خلال هذا المنهج على المعرفة وسلطتها، والعلاقة الجدلية بينهما، وحجم تأثر النص بهما.

فالنقد الثقافي معني بتحديد سقف للتفكيك والتنقيب داخل حقل النص الأدبي بما يخدم هدف النقد الثقافي، وهو الكشف عن خلفيات النص الفكرية والثقافية، كما فعل د. علي الوردي، الذي توصل إلى  نتائج مبهرة، حينما فضح الأدب العربي ودوره في تكريس قيم الاستبداد، والبداوة، والظلم. فقد أثبت الوردي في كتابه: أسطورة الأدب الرفيع، أن الأدب العربي أدب مجون وخمرة وتكريس لقيم السلطة والاستبداد والعشيرة. وهذا القدر من النقد الثقافي ضروري لفهم النص في سياق خلفياته، وعدم الاكتفاء بإبداعه وشكله الجمالي، وسياقات النص البلاغية. فهناك حاجة ماسة لتكريس قيم الفضيلة، وفضح قيم الرذيلة والخيانة التي تتستر بالنص الأدبي وجماله.

لا أحد يجادل في شاعرية الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد، وبراعته الأدبية في نصوصه وقصائده، حتى استمات بعض النقاد في الدفاع عن مواقفه انتصارا لإبداعاته، واستدعى كل شعراء السلطة عبر التاريخ لتبرير موقفه الممالئ لصدام حسين. لكن الناقد الثقافي يفهمه بشكل آخر، ويحمله مسؤولية تزوير الحقيقة، وتضليل الشعب من خلال نصوصه الخلابه، عندما اعتبر استبداد الحاكم عدلا، وجريمته بحق شعبه شهامة، وهدر الثروات كرماً، وسلطويته هيبة، وعدوانه شجاعة، وسحقه لانتفاضة العراقيين رجولة، وإذلالهم حكمة، وسحقهم سياسة، وقمعهم ومصادرة حرياتهم ضرورة. فحوّل صدام حسين المثقل بإثم الضحايا، الذي لا تغادر جسده رائحة الدماء البريئة، حوله إلى ملاك يزخر بالفضيلة والفروسية والنبل والكرم والشهامة والمروءة، فأي جريمة أكبر مما ارتكب شاعر السلطة والبلاط؟. خاصة إن قوة نصوصه ستجعلها خالدة، تضيع في طياتها الحقيقة لولا ترصد النقد الثقافي الذي كشف زيفها، وفضح قيم البداوة التي تمجد الظلم والعدوان، تلك القيم الثاوية في أعماقه. بل ويكشف النقد الثقافي عن ذيليته حد الانسحاق، وخضوعه الطوعي لهيمنة السلطة والمال وحب الظهور، لمعالجة نواقص نفسيه في أعماقه.

إن صفة التملق والتبعية وتزوير الحقائق، لا تخص عصرا دون آخر، ولا شاعرا دون غيره، بل أن أجمل النصوص الأدبية أكثرها خيانة، حينما تتستر على بشاعة الواقع، لتطمس الحقيقة، وتزور الوعي. فالأدب العربي متهم بتخلف المجتمع أيضا، حينما ساند الاستبداد والدكتاتور، والقائد الضرورة. ودافع عن شرعية الظلمة وسلطاتهم المفتوحة، وتمجيده لقيم البداوة والعشيرة والعبودية، والتبعية والانقياد، وثقافة القوة والعنف والإرهاب والقتل والسلب. فثناء الشاعر على حروب الخليفة، الخالية من أي مبدأ أخلاقي، يُعد تزويرا للحقيقة، وتسترا على الظلم والعدوان، وإرساء قيّم وضيعه، تبرر وتشرعن سلوك السلطة، مهما تمادت في ظلمها وتعسفها ضد الآخر أو ضد شعبها. وأيضا عندما يتغنى الشاعر بالجواري والأنس والليالي الحمراء والبذخ والإسراف، يتخفي على واقع الظلم والعبودية واستغلال الجواري من قبل السلطان وحاشيته. فيركز على شاعرية الجمال، ويخفي بؤس العبيد والغلمان والجواري وما يتعرضن له من إهانة، وطعن بشرفهن وحيثياتهن. فبدلا من إدانة العبودية وسلوك الخليفة والسلطان يتغنى بجمال الجواري وصوتهن وفتنتهن. فارتكب الشاعر من حيث يدري أو لا يدري جريمة تكريس عبودية الإنسان خدمة لشهوات السلطان. فالأدب من وجهة نظر النقد الثقافي مدان، وشريك في جرائم التاريخ لتزويره الحقائق عندما يتعمد التستر عليها، ويضفي على الجريمة طابعا جماليا. لذا فالنقد الثقافي غامر بالقيمة الجمالية للأدب، ليعضّد جهود النهضة عبر نقد المرجعيات الفكرية والثقافية والفكرية والعقدية المسؤولة عن تخلف المجتمع.

ويمكننا في هذا السياق أن نتساءل عن مشروعية النقد الثقافي في العراق والعالم العربي . بمعنى هل هناك نقد ثقافي عربي أو عراقي . وإجابتنا عن هذا التساؤل الكبير تعدد بتعدد زوايا النظر، فإذا كان المقصود بلحاظ أدوات النقد الثقافي من إطر فكرية وفلسفية ومناهج نقدية، فأغلبها تنتمي لبيئة أخرى، ولن يبقى سوى الإضافات التي جرت على يد أصحاب هذا الفن. لأنه نشأ وترعرع وتطور منذ ثمانينات القرن المنصرم في أحضان البيئة الثقافية الأمريكية.

وإذا كانت زاوية النظر أبعد من أدوات النقد الثقافي فلا شك بوجود منجز مهم، عربي وعراقي، راح يتصاعد وتراكم بمرور الأيام بفعل التنظير والكتابة، وما صدر من كتب ودراسات منشورة، التي منها:

عبد الله محمد الغذامي في كتبه الثلاثة: النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية الغربية. وكتاب: تأنيث القصيدة والقارئ المختلف، وكتاب: نقد ثقافي أم نقد أدبي. إدوار سعيد في كتابه الإمبريالية والثقافة. وكتاب: النظرية والنقد الثقافي، للناقد العراقي محسن جاسم الموسوي.  مدخل إلى نظرية النقد الثقافي المقارن، للباحث الجزائري حفناوي بعلي. تمارين في النقد الثقافي للدكتور صلاح قنصوة. وكتب وأعمال د. عزالدين مناصرة في النقد الثقافي المقارن. وكتاب: النقد الثقافي: ريادة وتنظير وتطبيق “العراق رائدا”، تأليف حسين القاصد. وآخرين.

أما بالنسبة للنقاد الثقافيين العرب فيقع على رأسهم أدورد سعيد، وعبد الله محمد الغذامي، حفناوي بعلي، عز الدين المناصرة، صلاح قنصوه، بل العنوان يشمل كل من كتب في هذا المجال.

وأما بالنسبة للنقاد العراقيين، نذكر د. محسن جاسم الموسوي. وحسين القاصد. حيث أكد الأخير من خلال الأدلة في الفصل الأول من كتابه: (النقد الثقافي: ريادة وتنظير وتطبيق “العراق رائدا”)، على ريادة العراق متمثلة بالجهود التنظيرية للنقد الثقافي، أمثال: د. علي الوردي، د. علي جواد الطاهر، د. محمد حسين الأعرجي. وآخرين، بل وخطّأ بعض ما توصل  له الناقد السعودي الغذامي، حول العراق، وأدان تغافله المتعمد لجهود الوردي وغيره من النقاد الثقافيين العراقيين وريادتهم، مع استفادته منهم. كما أدانه في التستر عن قبلياته وثقافته الغائرة في لاوعيه، والتي في ضوئها مارس نقده الثقافي.

 ***

ماجد الغرباوي

.........................

* ينظر كتاب: الهوية والفعل الحضاري، ماجد الغرباوي، مؤسسة المثقف في سيدني – استراليا، ودار أمل الجديدة في دمشق سوريا، الطبعة 2019م، ص: 197 وما بعدها.

«المشروعية» من المفردات التي درسها الباحثون منذ أمد ليس بقريب. وقد استوفى اغلب المنظرين في حقل العلوم السياسية دراسة المصطلح في ضوء متبنياته الفكرية والعقيدية. فالبحث فيها بدأ عندما تساءل الانسان عن مصدر السلطة، وعن الشخص او الهيئة التي لها الحق في ممارستها. لكنه تبلور أكثر وتحددت معالمه في القرنين التاسع عشر والعشرين، اي بعد اندلاع الثورات وظهور عصر الجمهوريات، ثم استؤنف البحث مجدداً بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران وقيام الدولة الاسلامية، حيث سجل الباحثون الاسلاميون اضافات حقيقية في هذا المجال، وأثروا مساحات مازالت بحاجة الى دراسة وتحليل، ولاسيما ان النظام الاسلامي فيها قد اعتمد ولاية الفقيه مبدأً في الحكم، فكانت حافزاً كبيراً لاثراء البحث في هذه المساحة من الفقه السياسي، فجاءت البحوث التي قدمها بعض الفقهاء والمختصين، واسعة وغنية، وشاملة لجميع مفردات النظام السياسي، فدخلت المكتبة الاسلامية قائمة كبيرة من الكتب ذات البعد العلمي المستوعب في هذا الحقل. ان ما يترتب على مشروعية الانظمة أو عدم مشروعيتها من آثار كبيرة، سواء على مستوى الشعوب أو الحكومات، جعل هذا البحث يتقدم على غيره من ابحاث الفكر السياسي.

ثمة دلالات يختزنها مصطلح المشروعية لابد من استجلائها لتحديد المفهوم، فالمشروعية كغيرها من المصطلحات لها دلالاتها الاصطلاحية اضافة الى دلالاتها اللغوية. واذا كان المعنى اللغوي للكلمة قد انحصر في «الشرعي» أي ما سوّغه واجازه الشرع، فانه اصطلاحاً أعم من ذلك، فيشمل الشرعي والقانوني. فتارة يراد بالمشروع «الشرعي» فقط، فيقال: نظام مشروع اي مستند الى الشرع ويعتمد المبادئ الشرعية والاسس الدينية أو حينما نسأل عن مشروعية قضية ما فانا نسأل عن ادلتها الشرعية. ونقول:هل ان العمل الفلاني مشروع ؟ اي هل هناك دليل شرعي على جوازه.

واخرى يراد بالمشروع «القانوني»، فالمشروع هو ما طابق القانون.

ويرى آخرون «قبول الشعب» دلالة مستقلة للمصطلح، وليست منضمَّة الى «القانوني». فالنظام المشروع هو النظام الذي قبله الشعب.

والقانون الذي يستند اليه الشعب في مشروعيته، هو القانون المصادق عليه من قبل الشعب. وعليه ستكون للمشروعية ثلاث دلالات اصطلاحية «شرعي، قانوني، مقبول من قبل الشعب». لذا عندما يوصف نظام من الانظمة بالمشروعية ينبغي ان نعرف ما المراد من ذلك، فربما نجد نظاماً يلتزم بالقانون الذي صادق عليه الشعب، مباشرة او بواسطة مجالس نيابية، وفي هذا الحال سيكون «مشروعاً» اصطلاحاً الا انه ليس شرعياً، لان اطلاق المصطلح على نظام معين ـ كما هو في عرف الفقهاء والمفكرين السياسيين ـ يختزن أكثر من دلالة، ولا تجد نظاماً يستوفي الدلالات الثلاث الا نظام الجمهورية الاسلامية في ايران كما سنشير الى ذلك، والا فالمراد من المصطلح عند اطلاقه على غير الدولة الاسلامية دلالاته الاخرى.

وفي ضوء ما تقدم، يمكن ان نضع مقياساً لمعرفة مقدار مشروعية اي نظام من الانظمة. كما ان دائرة ضبط المصاديق قد اتضحت هي الاخرى، فالانظمة التي لا تلتزم بالقانون او ان القانون لا يشكل سلطة عليا يخضع لها الجميع، يخرج عن تلك الدائرة، وهكذا الانظمة التي ليس للشعب اي دور فيها، او ان ارادة الرأي العام مسحوقة فيه، ومثال ذلك اغلب دول الشرق التي مازالت شعوبها تعاني ازمة المشروعية، حيث ان ديكتاتورية السلطة والاستبداد بشتى انواعه هو الصفة الطاغية في الحكم، فليست هناك ارادة حقيقية للجماهير ولا سيادة تامة للقانون بل ان ارادة الحاكم الاعلى هي منشأ مشروعية القوانين والقرارات الحكومية. وحتى الممارسات الديموقراطية التي نشاهدها هنا وهناك تعمل وفق آلية تراعي الحدود المسموح بها من قبل السلطة العليا، وليست ممارسات حرة في اطار القانون. اضافة الى ان اغلب الانظمة في العالم لم يجرِ التصويت عليها من قبل الشعب، والدول التي صادق فيها الشعب على أصل النظام قليلة جداً، فتبقى ممارسات الشعوب لحريتها في تقرير مصيرها في اطار النظام المفروض عليها. فالارادة الجماهيرية ارادة مشلولة غير قادرة على فرض متبنياتها العقيدية والفكرية. لذا عندما نطبق «مقياس المشروعية» سننتهي الى عدم مشروعية اغلب الحكومات التي تمارس السلطة بمنطق غير المنطق المشروع.

فهذه التجربة لاتصلح ان تكون نموذجاً لدراسة المشروعية، لان الارادة الحقيقية للشعب هي تحقيق نظام حكم آخر يستطيع ان يجسد الفرد فيه متبنياتها الفكرية والعقيدية. وكذلك لا يمكن اعتبار اية ممارسة ديموقراطية ـ ان وجدت ولو مستقبلاً ـ مشروعة، لان النظام لم يستوف مشروعيته المطلوبة لكي يتمكن من ممارسة السلطة.

وفي مقابل هذا النموذج هناك النموذج، الذي يمكن ان يصدق عليه انه نظام مشروع الا انه ليس شرعياً، فقد تجاوزت مساحة محددة من سكان العالم ازمة المشروعية بعد ان تأسست على مبادئ واسس ذات مرجعيات فكرية تقاطع الرؤية الدينية وتنأى عن التفكير الآيديولوجي، غير ان للفرد في ظلها دوراً من خلال مشاركته الفاعلة في شتى المجالات، بل وفرض نفسه رقماً حقيقياً في المعادلة التي تحكم العلاقة بين الشعب والسلطة. فصار الرأي العام احد شواخص مشروعية النظام السياسي، فلا يتمكن النظام الحاكم تخطي الارادة العامة لشعبه، واصبح الشعب يشكل تحدياً صعباً للممارسات اللامشروعة للسلطة.

فهذه الانظمة مشروعة وليست شرعية بمعنى مطابقتها للقانون المصادق عليه من قبل الشعب بواسطة مجالس نيابية. فمشروعيتها تقاس بمقياس ليس للدين دور في تكوينه، وانما الالتزام بالقانون فقط هو الاساس في قياس مشروعية النظام.

والذي يؤكد مشروعية هذا النموذج من الانظمة، هو تعامل شعوبها على اساس مشروعية السلطات الثلاث ومشروعية القانون الحاكم. فيلتزم بالقوانين والمقررات من هذا المنطلق. فالقانون سلطة عليا يمثل مشروعية النظام ويحتكم اليه الشعب لتأمين الحقوق وتحديد الواجبات.

ومن جانب آخر نجد أن الدوائر الحاكمة هناك تدرك ان مشروعية ممارسة السلطة تتوقف على مدى الالتزام بالقانون، فهي تخشى القوانين، وبالتالي تخشى سلطة الشعب التي تنبثق عنها مشروعية النظام. لهذا نجد هؤلاء يتحايلون على القانون بمواد قانونية اخرى لتسويغ بعض المخالفات دون تخطّي الخطوط الحمراء التي ترسمها القوانين. وبهذا تمارس الحكومة السلطة تحت مظلة المشروعية التي يقرها الشعب والقانون.

غير ان تلك المشروعية لم تراع المبادئ الدينية، بل احدثت قطيعة مع الدين والتراث وكل مايمت الى الماضي بصلة كما في الدول الغربية، مما فوت جملة من الحقوق ولاسيما حقوق الاقليات، اضافة الى سلبيات اخرى تكفلت بعض الابحاث المختصة باحصائها. ولعل السبب وراء بعض الاخفاقات على صعيد التطبيق هو تجاهل البعد الاخلاقي واختزال الانسان الى كائن مادي لا يمكن السيطرة عليه في خضم الحريات الواسعة.

***

ماجد الغرباوي - كاتب وباحث

2018-08-23

......................

* عن مجلة التوحيد، العدد 92، كانون الثاني، 1998م / رمضان 1418هـ، ص5

 

لعبت فتاوى الفقهاء دورا كبيرا في تعميق ظاهرة التطرف الديني، سيما الفقهاء ذوي الخلفيات الثقافية المتحجرة، كما ساهمت الحركات المتطرفة بدورها في تثبت وجودهم الاجتماعي والسياسي. اذ الفقيه يشرعن سلوك الحركات المتطرفة ويغذيها بفتاوى تكفيرية، والمتطرفون الدينيون يعمقون شرعية الفقيه ويمنحونه نفوذا كبيرا من خلال الاستجابة لأوامره. ولولا فتاوى الفقهاء لما كان هناك تطرف ديني. وهذه هي احدى اشكاليات الحركات الاسلامية، وهي ثقة بعض الحركات بفقهاء لا يفقهون الواقع ولا يدركون مقاصد النص وشروطه، بل يصدق انهم مقلدون اكثر من كونهم مجتهدين. أدمنوا تقليد من سبقهم من الفقهاء، واسقطوا فتاواهم على حاضر الامة الاسلامية. ثم اخذوا يجتهدون في تحديد موضوعات الجهاد فكانوا في كل يوم يضيفون مفردة جديدة حتى اصبح الجهاد مقدمة لتحقيق اهداف سياسية وليست دينية. وخاضت الحركات الاسلامية معارك مع الانظمة السياسية تحت راية الجهاد في سبيل الله من اجل اسقاط تلك الانظمة، كمقدمة لقيام الدولة الاسلامية التي تتبنى مبدأ الحاكمية الالهية.

وتعتبر فتاوى ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وقود الحركات الاسلامية المتطرفة في جهادها ضد الحكومات والانظمة القائمة، باعتبار وحدة الموضوع. فالراهن الاسلامي ينطبق عليه ما ينطبق على التتار وقائدهم جنكيز خان من فتاوى واحكام. والثابت تاريخيا ان ابن تيمية قد افتى بقتالهم رغم دخولهم الاسلام واقامتهم الشعائر وبناء المساجد، لكنهم كانوا يسجنون المعارضة، ويحكمون بقانون وضعي (الباسق)، وهو خليط من الشرائع اليهودية والمسيحية والاسلامية، ولا يحكمون بما انزل الله. وهذا ما تتصف به الحكومات الاسلامية اليوم، فانها لا تحكم بما انزل الله، وانما بقوانين وضعية، فتنطبق عليهم فتاوى ابن تيمية ويجب قتالهم قتال اهل الكفار. (ولم يؤثر فقيه حتى الان في تاريخ الامة كما اثر الامام احمد بن تيمية ومجموعة فتاويه، فهو المرجع الاول والاخير لهم. يذكر اسمه باستمرار، وهو ما يزال يفعل في روح الامة، يعبر عن واقعها منذ محمد بن عبد الوهاب مؤسس الحركة الاصلاحية الحديثة حتى محمد عبد السلام فرج صاحب الفريضة الغائبة)1.

لقد اتخذت الحركات الاسلامية من فتاوى ابن تيمية مرجعا نهائيا، فاسقطت الماضي على الحاضر، وفرضت عليه احكامه، دون الاخذ بنظر الاعتبار طبيعة المتغيرات الزمانية، وضرورات الاحكام. فدخلت على اساس تلك الفتاوى معارك مع الانظمة الحاكمة وبررت قتال الحكومات القائمة. لانها ترى فيها نسخة مكررة للتتار، فتقتضي وحدة الموضوع تطابق الحكم. ويمكن الرجوع الى كتاب الفريضة الغائبة لحركة الاجهاد الاسلامي كنموذج للحركات الاسلامية التي مارست الجهاد في ظل مرجعية آراء ابن تيمية وفتاواه ضد التتار. يقول صاحب كتاب الفريضة الغائبة.

1 - لا فرق بين كل من يخرج عن حكم الله وبين التتار، ولا فرق بين الحكم بالباسق ايام التتار والحكم بشرائع اليوم المستقاة من القوانين الغربية. فكلاهما واحد، حكم بغير الله.

2 - لا فرق بين تمتمة التتار بالشهادتين وكفرهم بالشريعة وكره المسلمين للخروج معهم الى القتال في صفهم، وكره العلماء على الفتيا  لهم سواء كانوا فقهاء او صوفية وبين حكام اليوم الذين يقيمون الشعائر ولا يحكمون بما انزل الله، ويجبرون الشباب المسلم على القتال في صفهم بناء على قانون التجنيد الاجباري، ويوظفون العلماء والمشايخ للفتيا لهم تبريرا لاحكامهم.

3 - لا فرق بين مواليهم وهم شرار الخلق سواء كانوا زنادقة او منافقين لا يؤمنون بالاسلام الا ظاهرا مثل اهل البدع كالرافضة والجهمية والاتحادية ونحوهم او من اهل الفسق والفجور، لا يحجون البيت وان كان فيهم من يصلي ويصوم، لا فرق بين رعية الامس ورعية اليوم من اهل الزندقة والنفاق الذين يؤمنون بعقائد ومذهب ونظريات ما انزل الله بهما من سلطان او الذي يحجون الى البيت تجارة وشهرة وعمالة ونفاقا، ولا يصلون ويصومون رياء للناس.

4 - ولا فرق بين ان يقاتل مسلمو الامس تحت قيادة ملكهم جنكيز خان، فمن دخل في طاعتهم جعلوه وليا ولهم حتى ولو كان كافرا ومن خرج عن طاعتهم جعلوه عدوا حتى ولو كان مسلما، لا يطلبون الكفار تحت امرتهم بالجزية ويطالبون المسلمين بتعظيمهم وتكبيرهم. لا فرق بين هؤلاء ومسلمي اليوم الذين لا يحاربون تحت لواء الاسلام يدخلون في طاعتهم الكفار ولا ياخذون منهم الجزية، ويطالبون المسلمين بتعظيمهم اكثر من تعظيمهم لخالقهم فنشأت بطانات النفاق الموالية للحكام في كل العصور.

5 - ولا فرق بين ان يعظم مسلمو الامس محمدا وجنكيز خان ويجعلون للثاني الانقياد في الانفس والاموال، ويقربون له بالنيابة، ويدينون له بالسمع والطاعة، ويحاربون المسلمين ويعادوهم اذا ما خرجوا عليه وكأنه فرعون او غرور، وهو اعظم فسادا، يعتبر من اطاعه معه ومن عصاه كان ضده حتى ولو يعظمون محمدا وملوكهم، ثم يدينون لملوك بالانقياد، يحابون معهم، ويعادون من يخرجهم عليهم.

6 - لا فرق بين من يصادق تتار الامس ويدخل في طاعتهم الجاهلية وبين مسلمي اليوم الذي يقبلون حكم الكفر، ولا فرق بين من عادى حكم تتار الامس ورفض شريعتهم وخرجوا على طاعتهم وبين من عادى حكام اليوم وخرج على طاعتهم.

7 - ولا فرق بين قضاة وعلماء وفقهاء الامس ايام التتار وبينهم اليوم، فقد قدم حكام الامس الاشرار وابعدوا الاخيار كما يفعل حكام اليوم، وعلى رأس هؤلاء قاضي القضاة الذي يفتى لهم بما يريدون، فيقضون على قوة الاسلام ومناعته بمحو التعارض بين الاسلام من ناحية واليهودية والنصرانية من ناحية اخرى. وهو مثل ما يفعله حكام المسلمين اليوم من حديث عن الاخاء الديني وبناء مجمع الاديان، وبأن المسلم هو الذي يؤمن بابراهيم واسحاق ويعقوب وبكل ما انزل الله حتى يضيع التعارض بين المسلمين واعدائهم. وبان العرب اقرباء اليهود من جد واحد، العرب من اسماعيل واليهود من اسحاق، وانهم والنصارى اهل كتاب.

ثم يستنتج عدة احكام فيما يتعلق بقتال المرتدين سواء كانوا تتار الامس او مسلمي اليوم، فيفتي بـتحريم اعانتهم، واعتبار اموالهم غنائم حرب، ووجوب قتالهم، ولا ينضم اليهم الا منافق. ثم يستشهد بفتاوى ابن تيمية في كل واحدة من هذه المفردات وغيرها.

***

ماجد الغرباوي

باحث بالفكر الديني

2018-06-28

..............

* بحث مستل من كتاب: تحديات العنف، ماجد الغرباوي، العارف للمطبوعات، بيروت لبنان والحضارة للأبحاث، بغداد – العراق، ط 2008، ص321 وما بعد.

هوامش

1- حنفي، د. حسن، الحركات الدينية، مكتبة مدبولي، القاهرة ، ص114.

2 - المصدر نفسه، ص 163- 168.

 

الجهاد وفق المنطق القرآني عمل لا يضاهيه عمل متى اكتملت شروطه الموضوعية، لانه تضحية بالمال والنفس من اجل القيم والمبادئ وحماية الوطن والدين. وقد جعل الله تعالى للمجاهدين درجة سامية، لا ترقى لها الاعمال. كما ان الجهاد اقصر الطرق الى الجنة، واقربها الى مرضاة الله تعالى. وقد حثت النصوص على الجهاد، وأنبـّت القاعدين والمتقاعسين ورمتهم بشتى الاوصاف. بل نسبت بعض النصوص الذل والانحطاط الى ترك الجهاد، (فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلا وفقرا في معيشته ومحقا في دينه)[1]. ويكفي ان الله فضل المجاهدين درجة ورضا عنهم وارضاهم (انظر آيات الجهاد). ولا شك في كل ذلك، ولا نقاش في منزلته وهو كما مر من مصاديق القوة المشروعة، للدفاع عن النفس. ولكن المشكلة في صدقية الجهاد مع عدم اكتمال شروطه الموضوعية. فالجهاد ليس واجبا كالصلاة والصوم يجب على الانسان القيام به على كل حال، وانما حالة استثنائية تتطلبها الضرورة ومن ثم تعود الحياة الى طبيعتها. مما يعني ان الجهاد متوقف على فعلية موضوعه المتوقفة فعليته على مجموعة قيود وشرائط. وسيأتي ان شاء الله تعالى تفصيل ذلك. وليس الامر مقتصرا على الاسلام، فروح الجهاد التي هي الدفاع عن النفس والمال والوطن، امر لا يختلف فيه اثناء، وتفرضه كل القيم والقوانين والانظمة والدول.

وقد اختلف المسلمون في تحديد موضوع الجهاد، هل هو مطلق الكافر او الكافر المحارب، وهل هو مطلق المشرك او المشرك المحارب. وسيأتي تفصيلات الموضوع في الفصل المختص، لكن نشير هنا الى دور مفهوم الجهاد في تطرف بعض الحركات الاسلامية. وهي الحركات التي اتخذت من فريضة الجهاد ذريعة لشن حرب على عدد من حكومات دول مسلمة (بل وشعوب مسلمة كما يفعل المتطرفون بالشعب العراقي اليوم تحت ذرائع واهية لا تمت الى الدين والانسانية والاخلاق )، اما اعلان الجهاد ضد حكومات بلدان مسلمة فلان السلطات فيها (بنظر هذه الحركات) لا تحكم بما انزل الله، ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون، الظالمون، الفاسقون. وعنوان الكفر يكفي وفقا لاراء هذه الحركات في تنجـّز وفعلية فريضة الجهاد. كما ان الغرب كافر، بل وبعضه يصدق انه محارب، فيجوز شن هجمات مسلحة ضده. واما بعض الشعوب المسلمة كما بالنسبة الى الشعب العراقي فلانه ساعد على اسقاط الطاغية، ولانه يختلف مذهبيا مع تلك الحركات!. اذن فحكم الجهاد بنظر هذه الحركات فعلي لفعلية موضوعه بسبب الكفر الواقعي او بسبب عدم الحكم بما انزل الله.

وظل الجهاد امنية تداعب احلام الحركات الاسلامية، وهدف تطمح الى تحقيقه بأي ثمن. الا ان موقفها اختلف، تبعا للرأي الفقيهي الذي تتبناه كل واحدة منها، فهناك من يرى فعلية الجهاد على كل حال، وهناك من يلتزم بتوفر شروطه الموضوعية. لكن المؤكد ان جميع الحركات الاسلامية تطمح في تفعيل الجهاد لاستثماره في تعبئة طاقات الامة وتوظيفها باتجاه الاهداف التي تؤمن بها، فهي حركات ايديولوجية ترتكز الى المشاعر والاحاسيس اكثر من العقل والعقلانية، واذا لم يصدق هذا الحكم راهنا على بعضها فهو بلا شك يصدق على اغلبها في الزمن الماضي. فللجهاد خصوصيته في ثراء المخيال الحركي وقدرته على دفع العاملين نحو العمل والتضحية والتخلي عن النقد والمخالفة والتمرد. وهو ما تريده الحركات الاسلامية لضمان استمرارها وتحقيق اهدافها. لذا كان الجهاد حاضرا باستمرار في احاديث وادبيات ومنتديات الحركات الاسلامية، فالهب مشاعرها واجج احاسيسها، الى درجة بات طموحا لكل فرد بحد ذاته، وليس مجرد وسيلة لتحقيق غايات اكبر من القتل. وقد تشكلت حركات اسلامية على قاعدة وجوب الجهاد، وكردة فعل على تقاعس الحركات والمسلمين عنه. كما بالنسبة الى حركة الجهاد المصرية.

وقد نظرت ادبيات الحركات الاسلامية للجهاد واجتهدت في سعة موضوعه ليشمل الانظمة والحكومات. فليس موضوع الجهاد عندها الكافر او المشرك المحارب، بل ولا مطلق الكافر او المشرك، وانما يشمل موضوع الجهاد الحكومات والانظمة الفاسدة ايضا. أي ان مكافحة الانظمة الظالمة والثورة ضدها ليست من مصاديق الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وانما من مصاديق الجهاد. والجهاد هو احد ادوات الدعوة الاسلامية لدى بعض الفقهاء، وليس هناك طولية بينه وبين الدعوة. خلافا للرأي الآخر  - كما سيأتي  - القائل بوجود طولية بين الجهاد والدعوة. وعليه لا يجوز وفقا للرأى الثاني القيام بالجهاد قبل الدعوة والانذار والتنبيه والنصح والمجادلة بالتي هي احسن. او بكلمة اخرى الجهاد هو المرحلة الاخيرة بعد نفاد الوسائل السلمية حينما يتعرض الامن الاسلامي للخطر. وليس الجهاد واجبا على كل حال. ولكي نطلع على رأي الحركات الاسلامية نعود ثانية الى كتاب معالم في الطريق، انجيل الحركات الاسلامية، لنقف على رأيها في الجهاد. فقد استهل سيد قطب فصل (الجهاد في سبيل الله) بملخص فقهي للامام ابن القيم الجوزية، في كتابه زاد المعاد[2]. وفيه يظهر الموقف النهائي للرسول (ص) من الآخر موقفا صارما عنيفا بلا رحمة ولا هوادة، وان الجهاد اداة الدعوة الى الله، سيما بعد آية السيف، دون ان يفصل في حيثيات القتال او يذكر اسبابه وخلفياته، ويبدو كأنه جهاد ابتدائي، وانه في نهاية المطاف وسيلة الاسلام الى الله، وموقفه الوحيد امام مخالفيه. وبهذا الشكل تتلاشى شروط الجهاد، ويصبح فعليا في كل زمان ومكان، وبهذه الاستعارة لرأي فقيه سني متشدد نحج سيد قطب في اقحام (الثورة ضد الحكام) في موضوع الجهاد. ولما كان الجهاد فعليا فالثورة على السلطات الحاكمة بغير ما انزل الله فعلي ايضا. يقول قطب: (الضبط التشريعي للعلاقة بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الاخرى، على النحو الملحوظ في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن زاد المعاد، وقيام ذلك الضبط على اساس ان الاسلام لله هو الاصل العالمي الذي على البشرية كلها ان تفيء اليه، او ان تسالمه بجملتها، فلا تقف لدعوته باي حائل من نظام سياسي، او قوة مادية، وان تخلي بينه وبين كل فرد، يختاره اولا يختاره بمطلق ارادته، ولكن لا يقاومه ولا يحاربه، فان فعل ذلك احد كان على الاسلام ان يقاتله حتى يقتله او حتى يعلن استسلامه.

ان هذا الدين اعلان عام لتحرير الانسان في الارض من العبودية للعباد، ومن العبودية لهواه ايضا، وهي من العبودية للعباد، وذلك باعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها واشكالها وانظمتها واوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في ارجاء الارض، الحكم فهيا للبشر بصورة من الصور .. او بتعبير آخر مرادف: الالوهية فيه للبشر في صورة من الصور.. وذلك ان الحكم الذي مرده فيه الى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض اربابا من دون الله. ان هذا الاعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده الى الله، وطرد المغتصبين له، الذين يحكمون الناس بشرائع من عند انفسهم، فيقومون مقام الارباب، ويقوم الناس منهم مكان العبيد ... ان معناه تحطيم مملكة البشر لاقامة مملكة الله في الارض.قيام مملكة الله في الارض، وازالة مملكة البشر وانتزاع السلطان من ايدي مغتصبيه من العباد ورده الى الله وحده .. وسيادة الشريعة الالهية وحدها والغاء القوانين البشرية ..  كل اولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان، لان المتسلط على رقاب العباد، والمغتصبين لسلطان الله في الارض، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان، والا فما كان أيسر عمل الرسل في اقرار دين الله في الارض، وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وتاريخ هذا الدين على ممر الاجيال)[3].

وبهذا الاسلوب التعبوي يواصل سيد قطب موضوع الجهاد، فلا يترك مجالا للتفكر او التردد، حتى انه يصف القائلين بالحرب الدفاعية بالمنهزمين، والخائفين الذين يخشون المستشرقين[4]. والكتاب لا يشتمل على استدلال علمي او فقهي، وانما مجرد خطابة ادبية تحريضية تلهب المشاعر والاحاسيس، ولا شك في مصداقية الرجل واخلاصه، الا ان للجهاد شروطه وموضوعه المحدد المعروف لدى الفقهاء. ثم ان مناسبات الحكم والموضوع واحكام الظروف الزمانية والمكانية تلعب دورا كبيرا في تحديد فعلية الحكم الشرعي. فمن قال ان الجهاد في ظل الراهن الاسلامي واجب، وبالشكل الذي يتصوره سيد قطب بحيث يعلن حربا على الجميع ولا يستثني احدا؟. فهناك فرق كبير بين ظروف الدعوة وظرفنا الحالي، اذ كان الرسول يدافع عن الدين الجديد وعن جماعة المؤمنين الذين يتربص بهم الاعداء في كل مكان. بينما تجد الدعوة الاسلامية الان وسائل اكثر تأثيرا وفاعلية لو احسنت استخدامها. فالجهاد مشروط باعلان الحرب على المسلمين. والا فالمسؤولية مناطة بالوسائل السلمية. وحتى الحرب ورفع السلاح لها شروطها، واولها التكافؤ من حيث القدرات القتالية. لكن سيد قطب لا يرتضى هذا النمط من التفكير، وانما يريدها حربا شاملة فـ (الذي يدرك طبيعة هذا الدين على النحو المتقدم يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للاسلام في صورة الجهاد بالسيف، الى جانب الجهاد بالبيان، ويدرك ان ذلك لم يكن حركة دفاعية، بالمعنى الضيق الذي يفهم اليوم من اصطلاح الحرب الدفاعية، كما يريد المهزومون امام ضغط الواقع الحاضر وامام هجوم المستشرقين الماكر ان يصوروا حركة الجهاد في الاسلام، اما كان حركة اندفاع وانطلاق لتحرير الانسان في الارض .. بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع البشري، وفي مراحل محددة لكل مرحلة منها وسائلها المتجددة...)[5].

وقد نجحت ثقافة سيد قطب في وجود جيل من الاسلاميين المؤمنين بافكاره ونظرياته، وراحت تصر على ممارسة العنف كاسلوب وحيد لازالة الحكومات والانظمة السياسية في المنطقة، وقيام الدولة الدينية، ولمحاربة الفساد في العالم. ففي الوقت الذي تخلت فيه بعض الحركات الاسلامية عن منطق العنف، ازداد بعضها الآخر في تطرفه، فلم يجد سوى السيف وسيلة لتحقيق اهدافه الدعوية، اقتداء بمنطق سيد قطب في كتابه معالم في الطريق. ففي شريط تسيجيلي نسبته وكالات الانباء الى ايمن الظواهري الرجل الثاني في تنظيم (القاعدة) يستهزئ فيه بالاساليب السلمية، ويحث الاسلاميين على حمل السلاح في تحقيق اهدافهم السياسية والدينية، ويدعوهم الى ازاحة الحكام بالسيف، لا بالاساليب السلمية وانما بالسيف والجهاد فقط[6]. وليس الامر متوقف على حركة او شخص واحد، بل كل الحركات الاسلامية التي تتبنى الحاكمية كما يفهمها المودودي وسيد قطب، تفضي الى وجوب ممارسة العنف ضد الحكومات القائمة. أي (ينتج عن فكرة الحاكمية، تكفير النظام القائم، وتكفير الحاكم والخروج عليه، وجواز قتاله، واغتنام اموال الدولة، ومحاربة الجيش والبوليس، واعتبار الخدمة فيهما كفرا. فلا طاعة الا لامام، ويجب عصيان امارة الكفر والسفه والجاهلية. تؤدي فكرة الحاكمية اذن الى تقويض شرعية النظام القائم. الحاكمية في نقطة البداية والخروج على النظام هي النتيجة. وهو الاستدلال المتبع في الجماعات الجذرية التي ينقلب فيها الوعي الديني الى وعي سياسي، مثل جماعة الجهاد)[7].

وتعتبر حركة الجهاد في مصر اوفى الحركات الاسلامية لفكر سيد قطب في الجهاد. وقد تقدم في الفصل السابق لمحة موجزة عن تاريخ هذه الحركة. اذ قامت الحركة على احياء فريضة الجهاد بعد ان تخلى عنها المسلمون، من هنا سمى محمد عبد السلام فرج كتابه عن فرضية الجهاد: (الفريضة الغائبة). للتدليل على غياب الجهاد او تغييبه. ويعتبر كتاب الفريضة الغائبة زبور الحركة. وقد تأثر به اعضاء التنظيم رغم صغر حجمه.

يؤكد صاحب الكتاب على فعلية الجهاد، واستشهد لاقواله بنصوص من الكتاب الكريم واقوال الرسول (ص)، اضافة الى خزين التراث. والمتحصل من الكتاب ان الجهاد هو طريق الدعوة الى الاسلام، وهو اسلوب المجاهدين في تحرير البلدان الاسلامية من سلطة الحكومات التي لا تحكم بما انزل الله، وليس امام الحركة الاسلامية سوى الجهاد لتحقيق اهدافها في اقامة حكومة اسلامية. يقول محمد عبد السلام فرج: (اننا نهدف الى اقامة الدولة الاسلامية باسلوب الجهاد وبقوة السلاح)[8].

ويرد صاحب الكتاب على جميع الشبهات التي تريد تأجيل الجهاد، او تدعو الى اعتماد الاساليب السلمية في التغيير، ونستعرض هنا رده على تلك الآراء رغم طولها، ليتضح مدى اصرار الحركة على فريضة الجهاد، ورفضها لكل الاساليب السلمية، اذ يستعرض الكاتب في كل نقطة ملخصا للرأى الآخر في المسالة او الشبهة كما يسميها، ثم يبين رده عليها[9]. وفكر حركة الجهاد المصري، او فكر الفريضة الغائبة، باتت تتبناه كل الحركات الاسلامية المتطرفة سيما تنظيم القاعدة وما تشعب عنها من مجموعات وحركات وتنظيمات، كجماعة الزرقاوي (تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين)، وانصار السنة، وجند محمد، وغيره. أي اننا باستعراض ما جاء في كتاب الفريضة الغائبة سنلخص بالحقيقة فكر جميع الحركات المتطرفة، فهو يغنينا عن تتبع كل الحركات منفصلة بعضها عن البعض الاخر:

1 - لا يمكن اقامة الدولة الاسلامية عن طريق الجمعيات الخيرية خاصة وانها تحت اشراف سيطرة الدولة وتحت سيطرة السلطة. في رده على من يعتقد بامكانية اقامة الدولة الاسلامية انطلاقا من الجمعيات الخيرية التابعة للدولة والتي تحث الناس على اقامة الصلاة وايتاء الزكاة، وعلى فعل الخير فكلها اوامر من الله لا يمكن التفريط فيها. ففي رأي المؤلف: طريق مسدود، ولا مجال للتفكير بهذا الطريق[10].

2 - يمكن اقامة الدولة الاسلامية عن طريق طاعة الله وتربية المسلمين، وكلما اجتهد المسلمون في العبادة صفت سرائرهم، اذ كل ما يحيط بهم من شرور انما نتج عن ذنوبهم وسيئات اعمالهم، فمن جنس الاعمال سلط الله عليهم حكامهم.

يقول: في الحقيقة هذا الطريق لا ينسخ طريق الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وطريق الجهاد. فالجهاد هو اعلى درجات الطاعة، وركن الاسلام الركين، وذروة سنام الاسلام، ومن ضمن الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر أي مواجهة الحكام وجها لوجه. ومن يرى ذلك الطريق قائما انه لا يفهم دولة الاسلام فاراد ان يستبدل بها فلسفات غربية او انه جبان لا يقف بصلابة مع الحق في مواجهة الباطل، ومع الله في مواجهة الحكام. ويذكر المؤلف الحكمة المأثورة عن مالك بن انس التي تدعم هذا الرأى وهي (انا الله ملك الملوك، قلوب الملوك بيدي فمن أطاعني جعلته عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشغلوا انفسكم بسبب الملوك ولكن توبوا الي أعطفهم عليكم) وحديث الرسول (من لم يغز او تحدث نفسه بالغزوات مات ميتة الجاهلية) وكذلك حديث (افضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)[11].

3 - اما قيام الحزب الاسلامي فليس طريقا لاقامة الدولة الاسلامية، فهو كالاحزاب السياسية الاخرى، يزايد على الجمعيات الخيرية في آرائها ومناهجها، وبالتالي فانه يساعد على تدعيمها وترسيخ قواعدها عن طريق الاشتراك في عضوية المجالس التشريعية التي تشرع بغير ما انزل ال[12]له.

4 - اما الاجتهاد من اجل الحصول على المناصب حتى تمتلئ الدولة بالطبيب المسلم والمهندس المسلم والقاضي المسلم والجندي المسلم... وبالتالي يسقط نظام الكفر من تلقاء نفسه دون جهد وتقدم دولة الاسلام فهو من ضرب الخيال او المزاحِ. فمهما بلغ الامر من تربية كوادر اسلامية للدولة الا انهم سيظلون عاملين فيها ومن نباتها، ولن يصل الامر الى ان تصل شخصية اسلامية أي منصب قيادي الا اذا كانت موالية للنظام فبدل من ان تبتلع الكوادر المسلمة الدولة، تنتهي الدولة الى ابتلاعهم[13].

5 - اما الدعوة من اجل تكوين قاعدة عريضة شعبية تستطيع ان تطالب بالاسلام نظاما وشريعة وكبديل عن الجهاد فانها لا تقيم الدولة الاسلامية، لان الذي سيقيمها هي القلة المؤمنة، الجيل القرآنى الجديد، الصفوة المصطفاة، والقرآن يدين الكثرة، ويؤثر الكيف على الكم. وكيف تنجح الدعوة وتحصل على هذه القاعدة العريضة واجهزة الاعلام في يد الدولة في حين ان الوثوب الى السلطة يمكن الدعاة من الدعوة الى الله وتكوين القاعدة العريضة من خلال السيطرة على اجهزة الدولة، فلا يجب انتظار ان يكون الناس مسلمين حتى تقام الدولة الاسلامية، لان الدولة الاسلامية هي الطريق الذي من خلاله يستطيع الناس ان يكونوا مسلمين. فالاسلام ليس دينا عاجزا او ناقصا بل هو دين عملي وصالح للتطبيق وقادر على قيادة المسلم والكافر والفاسق والصالح والعالم والجاهل. واذا كان الناس قادرين على يعيشوا تحت حكم الكفر والظلم فانهم يكونون أقدر على ان يعيشوا تحت حكم الايمان والعدل. ولا يعني ذلك التوقف عن الدعوة، دعوة الناس الى الاسلام لان الاساس هو اخذ الاسلام ككل، انما الحذر ممن يريدون اخذ جزء من الاسلام وهو الدعوة دون الجزء الآخر وهو الجهاد.

ويذكر المؤلف بعض آيات تؤيد الكيف على الكم مثل: (وقليل من عبادي الشكور)، (وان تتبع اكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله)، (وما اكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)، (وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله)، (ويوم حنين اذ اعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا، وضاقت عليكم الارض بما وجبت). وكذلك يذكر حديث الرسول: (ولينزعن الله الهيبة من قلوب اعدائكم وليقذفن في قلوبكم الوهن) فلما سئل: او من قلة نحن يومئذ يا رسول الله!؟ اجاب ( بل انتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل). ويستشهد على امكان قيام الدعوة بعد الحصول الى السلطة بسورة (اذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله افواجا). ولتحديد انواع الهجرة يستشهد المؤلف بالحديث المشهور (فمن كانت هجرته الى الله ورسوله كانت هجرته الى الله ورسوله، ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها او امرأة ينكحها فهجرته ال ما هاجر اليه). ويستشهد بوجوب القتال كطريق لاقامة الدولة الاسلامية بآيتين (كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى ان تحبوا شيئا وهو شر لكم)، (قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)[14]

6 - اما الهجرة الى بلد آخر واقامة الدولة هناك ثم العودة مرة اخرى فاتحين، فان الاقرب ان يقيموا الدولة الاسلامية في بلدهم ثم يهاجروا الى غيرها غازين خارجين من بلدهم فاتحين. ان الهجرة من بلاد المسلمين غير شرعية لان الهجرة لغة هي ترك الشيء الى غيره. واصطلاحا ترك ما نهى الله عنه، والهجرة في الاسلام على نوعين: الاول، الانتقال من دار الخوف الى دار الامان، كهجرة المسلمين الى الحبشة وهجرتهم من مكة الى المدينة في بداية الاسلام. والثاني، الهجرة من دار الكفر الى دار الايمان مثل استقرار الرسول في المدينة وهجرة المسلمين اليه وهو النموذج الذي اخذه البعض (التكفير والهجرة) بالهجرة الى الجبل ثم العودة الى الوادي وكلقاء فرعون كما التقى به موسى من قبل ثم يخسف الله بفرعون وجنوده الارض، وكلها شطحات ناتجة عن ترك الاسلوب الصحيح لاقامة الدولة الاسلامية وهو اسلوب القتال[15].

7 - والانشغال بطلب العلم كطريق لاقامة الدولة الاسلامية، فالعلم اساس الجهاد ولا يمكن الجهاد على غير علم، والعلم فريضة على آية حال لا يعني ترك امر شرعي من اجل امر شرعي آخر، فالجهاد كالعلم، كلاهما امران شرعيان، وكيف يمكن ترك فرض العين وهو الجهاد من اجل فرض الكفاية وهو العلم؟ وكيف يمكن التمسك بالسنن او الدعوة اليها وترك فرض الجهاد؟ وكيف لا يدرك من يتعمق في العلم فريضة الجهاد وعقوبة تأخيره او التقصير فيه؟ لا يمكن ان يكون العلم جهادا بديلا عن الجهاد لان الجهاد هو القتال بل يمكن ان يتم الجهاد دون علم وتفقه اذا ما نوى الانسان الشهادة واستشهد قبل ان تتاح له الفرصة ويسنح له الوقت للعلم. ولما كان العلم يقتضي العمل فانه لا يمكن العلم بفريضة الجهاد دون العمل بها كالعلم بالصلاة يقتضى الصلاة، والعلم بالصيام يقتضي الصيام. وليست احكام الجهاد صعبة الفهم لان كل احكام الاسلام سهلة المنال ومنها احكام الجهاد، والعلم بها ممكن في وقت قصير، ومن اراد ان يزداد فله ما اراد، العلم متاح للجميع في أي وقت يشاء العالم. اما الجهاد فلا يحتاج الى تأخير بحجة طلب العلم، فالعلم لا مدة له، وتأخير الجهاد بحجة طلب العلم هو في حد ذاته جهل، لم يكن المجاهدون الاوائل الذين فتحوا البلاد علماء، ولم يحتجوا بطلب العلم على تأخير الجهاد ولكن العلم لديهم علم الحديث وعلم الفقه وأصوله، ولقد انتصر الاسلام على ايديهم ولم ينتصر على ايدي علماء الازهر، حملة العلم يوم ان دخل نابليون وجنوده صحن الازهر وداسه بالخيل والنعال ولم يستطع علماء العلم امام ذلك شيئا. فالعلم ليس هو السلاح الذي يواجه به المسلمون الكفار بل القتال. وذلك لا يعني تحقير العلم بل يعني انه لا يمكن استبدال القتال به، والقتال في الاسلام تنفيذ لشرع الله، فقد كان العذاب ينزل على الامم السابقة مباشرة من الله في حين انه ينزل على الكفار بقتال المسلمين لهم دون ان يتدخل الله في السنن الكونية كما كان الحال قبل الاسلام. والقتال ضد الكفار، والامام الكافر اولى بالقتال، فالكفر هذا يعني المعصية، والا فانه لا ينعقد لكافر ولو طرأ على الامام الكفر وجب عزله، وكذلك لو ترك اقامة الصلوات او الدعاء اليها (لو طرأ عليه كفر او تغير للشرع او بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه وتنصيب امام عادل ان امكنهم. ويستشهد المؤلف لاثبات القتال كفريضة بآية (كتب عليكم القتال)، وكذلك (قاتلوهم يعذبهم الله بايديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين). كما يستشهد على وجوب الخروج على الحاكم بحديث (ان تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهانا وبواحا). ويستشهد برأي القاضي عياض في قوله باجماع العلماء على ان الامامة لا تنعقد لكافر. وينتهي بنص لابن تيمية مؤداه ان كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الاسلام الظاهر المتواترة فانه يجب قتلها باتفاق ائمة المسلمين وان تكلمت بالشهادتين[16].

8 - اما تحديد ميدان الجهاد ببقعة معينة يحتلها العدو مثل القدس كارض مقدسة فهو في حقيقة الامر صحيح، لان تحرير الاراضي المقدسة امر شرعي واجب على كل مسلم ومسلمة. ولكن لما كان المؤمن (كيسا فطنا) طبقا لحديث الرسول ويعلم ما ينفعه وما يضره فان تحرير بقعة من الارض تحت اقدام العدو لا يكون الحل الجذري لتحرير اراضي المسلمين لثلاثة اسباب: الاول، ان قتال العدو القريب اولى من قتال العدو البعيد، (وكأن قتال الحكام العرب اولى من قتال اسرائيل!). والثاني، ان النصر الذي سيدفع ثمنه من دماء المسلمين لن يكون لصالح الدولة الاسلامية، التي لم تقم بعد بل لمصالح حكام الكفر وتثبيت لاركان دولتهم الخارجة عن شرع الله. بل ينتهز الحكام اتجاهات المسلمين وعواطفهم الوطنية لتحقيق اغراضهم غير الاسلامية وان كان ظاهرها الاسلام. فالقتال يجب ان يكون تحت راية مسلمة وقيادة مسلمة وبهدف اسلامي. والثالث، ان هؤلاء الحكام هم السبب في وجود الاستعمار في البلاد، وان القضاء على الاستعمار قضاء جذريا انما يتطلب القضاء على اعوانه في الداخل. وهذا لن يتم الا بقيام الدولة الاسلامية، وتطبيق الشرع الاسلامي، وجعل كلمة الله هي العليا. فميدان الجهاد ليس اذن تحرير الارض المحتلة والقدس بل (اقتلاع تلك القيادات واستبدالها بالنظام الاسلامي الكامل ومن هنا تكون الانطلاقة). وكأن تحرير العرب اولا هو الطريق الى تحرير فلسطين[17].

9 - اما القول بان الجهاد في الاسلام للدفاع فقط وان الاسلام لم ينتشر بالسيف فهو قول باطل ترد عليه آيات القرآن واحاديث الرسول. القتال في الاسلام لرفع كلمة الله في الارض سواء هجوما او دفاعا. وقد انتشر الاسلام بالسيف ولكن في مواجهة انظمة الكفر وحكام الجاهلية دون ان يكره احدا. فواجب المسلمين رفع السيوف في وجه كل من يحجب الحق ويظهر الباطل حتى يصل الحق للناس. وفي هذا المعنى كتب الرسول رسائل لحكام عصره وملوكه كما هو معروف في تاريخ الدعوة الاولى وفي عصر الفتوح. لذلك نسخت آية السيف آيات الدعوة حتى لم يبق لاحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ ان نزلت سورة براءة. نسخت آية السيف كل آية في القرآن فيها ذكر الاعراض والصبر على أذى الاعداء، واصبحت كل هذه الآيات منسوخة بآية السيف وبالتالي لا يمكن الاستدلال بها على ترك القتال والجهاد. وعلى هذا أجمع فقهاء المسلمين ولم يشذ عنهم الا الامام السيوطي. وتعطيل الجهاد بحجة النسأ ليس ايقافا للغزو فقط بل لنية الغزو وهو معارض لآيات القرآن واحاديث الرسول. والامر المتفق عليه ان الجهاد الذي يتطلب الاخذ باسباب القوة. واستشهد المؤلف بجملة نصوص من بينها كتب الرسول الى الملوك والامراء[18]

10 - اما القول بان جيوش المسلمين على مر العصور كانت قليلة العدد والعدة، وواجهت جيوشا باضعاف حجمها وبان ذلك كان خصوصية الرسول وصحابته وليس لغيره او لغيرهم، حادثة فريدة في التاريخ لا تتكرر، فانه انكار لقوانين التاريخ وبوعد الله النصر للمؤمنين، وطالما انتصر المسلمون في تاريخهم بالكيف لا بالكم. فالجهاد قائم، والنصر قادم طالما اخذ المسلمون باسباب القوة، واعدوا العدة ولا يصلح هذه الامة الا ما صلح به اولها[19].

11 - اما القول بأننا اليوم نعيش في مجتمع مكي أي في بداية الدعوة فان المقصود بهذا القول ترك الجهاد في سبيل الله، ويعني هذا القول ايضا لو كان المقصود به اسقاط الجهاد كفريضة وترك الصوم والصلاة والتعامل بالربا فان كل هذه التشريعات انما سنت في المدينة. وقد اكتمل الدين (اليوم اكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الاسلام دينا). ولا يمكن ان نبدأ من جديد كما بدأ الاسلام في مكة والمسلمون ضعفاء. انما نأخذ الان بما انتهى اليه الشرع فنحن لسنا في مجتمع مكي او في مجتمع مدني بل في مجتمع مسلم يحكمه مسلمون لا يحكمون بشرع الله، وبالتالي يكون حكمه حكم دار الكفر[20].

12 - اما القول بان الفرض هو الصلاة والصيام والحج الى آخر الفروض دون الجهاد، فذلك ايضا مخالف لنص القرآن الذي قال (كتب عليكم الصيام) كما قال (كتب عليكم القتال). ان الجهاد فرض كالصلاة والصيام سواء بسواء. الجهاد فرض بنص من القرآن، والقتال يعني المواجهة والدم. وهو فرض عين وليس فرض كفاية، يتعين في ثلاثة مواضع: الاول، اذا التقى الزحفان، وتقابل الصفان، حرم الانصراف على المسلمين، والتراجع عن القتال، فالقتال فرض عليهم المواجهة. والثاني، اذا نزل الكفار ببلد تعين على اهله قتالهم، وهو القتال ضد الاعتداء، والغزو الاجنبي. والثالث، اذا ما استنفر الامام القوم للقتال، واعد العدة واستباح ديارهم واحتلهم بل واصبح يملك زمام الامور من خلال حكام المسلمين الذين انتزعوا القيادة منهم، وبالتالي فجهادهم فرض عين، بعد له كل مسلم ومسلمة بكل حبة عرق. ولا حاجة لاستئذان الوالدين فيه لان مثله كالصوم والصلاة[21].

13 - اما القول بان الجهاد مراحل ابتداء من جهاد النفس الى جهاد الشيطان ثم جهاد الكفار والمنافقين في النهاية اعتمادا على تقسيم ابن القيم فهذا جهل بالدين او جبن وخوف في الدنيا. فابن القيم قسم الجهاد الى مراتب او انواع وليس الى مراحل، والا توقفنا عن مجاهدة الشيطان حتى ننتهي من مجاهدة النفس. والحقيقة ان هذه المراتب الثلاث تسير في خطوط متوازية مع العلم بان مجاهدة النفس ومجاهدة الشيطان تجعلنا اكثر ثباتا في الجهاد مع العدو. وعندما كان يؤذن للجهاد، كان المسلمون جميعا يخرجون بمن فيهم مرتكب الكبيرة وحديث العهد بالاسلام. اما الحديث المشهور (رجعنا من الجهاد الاصغر الى الجهاد الاكبر) فانه حديث موضوع كما نبه الى ذلك رشيد رضا وحسن البنا وسيد قطب الغرض منه ابعاد المسلمين عن قتال الكفار[22].

14 - اما خشية الفشل أي ان تقام الدولة ثم يحدث بعد يوم او يومين رد فعل مضاد يقتضي عليها فلا اساس له لان المهم هو قيام الدولة الاسلامية تنفيذا لامر الله بصرف النظر عن النتائج، والهدف من هذا التخوف هو تثبيط المسلمين عن تأدية واجبهم الشرعي واقامة شريعة الله على الارض دون العلم بان قيام الدولة الاسلامية مستحيل. وقوانين الاسلام قادرة على القضاء على كل مفسدة، وان قوانين الاسلام وكلها عدل تجد ترحيبا عاما بها من غير المسلمين قبل المسلمين.

فلا يتخوف من ذلك الا المنافقون. وواضح ان التفاؤل هو الذي يسود دون مراعاة القوى المعارضة والفساد في التاريخ. ويستشهد المؤلف في ذلك بآية من سورة الحشر (الم تر الى الذين نافقوا يقولون لاخوانهم الذين كفروا من اهل الكتاب لئن خرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم ابدا وان قوتلتم لننصرنكم، ولئن نصروهم ليولون الادبار ثم لا ينصرون) وكذلك آية (ان تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم)[23].

15 - اما غياب القيادة الاسلامية لعملية الجهاد وعدم وجود امير يقود الناس فانه قول يردده من بيدهم السلطة الذين ضيعوا القيادة ثم يبكون عليها بعد ان او اوقفوا مسيرة الجهاد. صحيح ان الرسول قد اوصى بضرورة الامارة ولكنه جعلها بايدي المسلمين دون غيرهم. ثم ياخذ في تفصيل الموضوع[24].

16 - اما التخوف من الدخول في القتال بحجة ان اعداء المسلمين فيهم الكفار وفيهم المصلون واستحالة قتال المؤمنين ولان القاتل والمقتول في النار طبقا لحديث الرسول فقد افتى ابن تيمية في هؤلاء المتخوفين بأنهم اجهل الناس بدين الله. فقتال قتال الاعداء واجب وفرض حتى ولو كان فيهم المسلم والمؤمن، كما هو الحال في تترس الكفار بالمسلمين. واحتمال قتل المسلمين حماية لمجموعهم، ويكون المسلمون شهداء، فالمهم هو مصلحة الامة ودفع الضرر عنها، يبقون على نياتهم سواء كانوا مكرهين او لا اذ تصعب التفرقة. اما الممتنعون عن القتال فهم من البغاة المتأولين، انقسم فيهم العلماء، وهم في الحقيقة الامر من جنس الخوارج الذين يجب قتالهم. وللتمييز بين السرائر يذكر حديث الرسول (اما ظاهرك فكان علينا واما سريرتك فالى الله) ردا على عذر العباس يوم بدر انه خرج مكره[25].

هذه هي النقاط التي اثارها مؤلف كتاب الفريضة الغائبة بخصوص الجهاد، وقد رد عليها واحدة واحدة، واكد في كل منها على وجوب الجهاد وفعليته. غير ان الردود لم تتوفر على خصائص الاجوبة العلمية، وانما هي لون من الوان الخطاب الحماسي التعبوي، فلا تنطبق عليها مواصفات الرأي العلمي، ولا يمكن مقارنتها بادلة الفقهاء، الذين لهم ادلتهم في فعلية او عدم فعلية وجوب الجهاد، وليس الامر كما يتصوره صاحب كتاب الفريضة الغائبة، وسنأتي على ذكر الادلة وفقا للرأي الفقهي لاحقا. لكن يمكن توجيه النقد الى منهج الكتاب بشكل سريع ومكثف:

فالمؤلف كان انتقائيا في تعامله مع النصوص، اذ اختار منها ما يدعم توجهه الجهادي، بينما اهمل النصوص المعارضة والتي تدعو الى السلم، والصبر، والصلح.

ثانيا، اقام اراءه على احكام مسبقة، فآية السيف عنده نسخت كل احكام التسامح والعفو والرحمة، وابقت باب الجهاد فعليا في زمان ومكان. بينما هي مسألة خلافية، ولم يحسم الامر فيها بين الاولين والآخرين من الفقهاء.  واعتبر قيام دولة اسلامية امرا واجبا شرعا على جميع المسلمين، لذا وجب الجهاد من اجل اقامتها، وليس السعي الى قيام دولة اسلامية من القضايا المتفق عليها فقهيا، الا عند بعض الفقهاء. كما ان اقامتها حتى لدى القائلين بها، لا تنحصر باسلوب العنف واعلان الجهاد، وانما هناك طرق سلمية للوصول الى السلطة، لا تدعو الى اراقة الدماء واعلان الحرب والجهاد، وهي طرق باتت معروفة وواضحة، وسهلة وممكنة.

وفي بعض الفقرات نشاهد المؤلف يقيس الجهاد على الصوم، فكما كتب الله الصيام كتب الجهاد، وسكت عن الشروط التي ذكرتها آية الصوم، والجهاد ايضا  له شروطه الموضوعية، التي لا يكون فعليا قبل فعليتها. كما ان الجهاد ليس واجبا كالصلاة والصوم التي يجب على الانسان الاتيان بهما على كل حال لاسقاط الواجب المترتب عليه، وانما هو فعل تضطر له الامة المسلمة عندما تتعرض للخطر. واما في حالات السلم فلا مبرر لاعلان الجهاد. ثم ان شرط الجهاد، حتى مع فعليته، هو التكافؤ، وهذا القدر لا يتحقق لوجود نقص ذاتي. ثم من قال ان مطلق الكفر والشرك موضوع للجهاد، ومن قال ان تغيير الانظمة السياسية موضوعا للجهاد؟

وايضا فقد استدل على جواز بعض الفرق الاسلامية بنصوص فقهية قديمة، وهذا اشد خطر من الكفر والشرك، اذ فيه استباحة دماء معصومة. وغيرها من نقاط الضعف . وسنتناول الموضوع اكثر تفصيلا في الفقرات القادمة.

وثمة ملاحظة اساسية، ان المؤلف وظف جملة من النصوص الخام، ولم يعمل فيها القواعد والاصول المتبعة في علمي الدراية والرواية، ولم يقارن بينها، وانما رجح بعضها على البعض الآخر بلا مرجح او دليل او منهج علمي. كما استعان بفتاوى ابن تيمية وتلميذه ابن القيم التي صدرت في ظل ظروف اخرى. وهذا منهج خطأ وخطير، اذ لكل فتوى ظروفها الموضوعية التي تحدد اتجاهها ودرجة الزامها. ولا يجوز العمل بالفتاوى الصادرة في زمان غير زماننا، بل يجب على الفقهاء والعاملين الجد في استنباط فتاوى تتناسب والظرف الراهن من جميع الجهات. فما يصدق سابقا لا يصدق الان ضرورة، وبالعكس. كما لا يمكن العمل برأي فقيه لم يعرف شيئا عن زماننا، ولم يطلع على ظروفنا وحاجاتنا.

***

ماجد الغرباوي

باحث بالفكر الديني

2018-04-28

...................

* بحث مستل من كتاب: تحديات العنف، ماجد الغرباوي، العارف للمطبوعات، بيروت لبنان والحضارة للأبحاث، بغداد – العراق، ط 2008، ص302 – 321.

هوامش

[1] - الكليني، فروع الكافي، ج5، بابا فضل الجهاد، ص 2، الحديث رقم: 2.

[2]- لخص الامام ابن القيم سياق الجهاد في الاسلام في كتاب زاد المعاد في الفصل الذي عقده باسم : (فصل في ترتيب هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث الى حين لقي الله عز وجل)، يقول: اول ما اوحى به تبارك وتعالى، ان يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك اولى نبوته، فأمره ان يقرأ في نفسه (فأنذر)، فنبأه بقوله: (اقرأ) وارسله بـ (يا ايه المدثر)، ثم امره ان ينذر عشيرته الاقربين، ثم انذر العرب قاطبة، ثم انذر العالمين. فاقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا حزية، ويؤمر بالكف والصبر والصفح. ثم اذن له في الهجرة واذن له في القتال. ثم امره ان يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله، ثم امره ان يقابل المشركين حتى يكون الدين كله لله ... ثم كان الكفار معه بعد الامر بالجهاد ثلاثة اقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة .. فأمر بان يتم لاهل العهد والصلح منهم عهدهم، وان يوفي لهم به ما استقاموا على العهد، فان خاف منهم خيانة نبذ اليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد. وامر ان يقاتل من نقض عهده .... ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الاقسام كلها، فامر ان يقاتل عدوه من اهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، او يدخلوا في الاسلام، وامره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان، وامره  فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم اليهم .. وجعل اهل العهد في ذلك ثلاثة اقسام: قسما امره بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم. وقسما لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه. فامره ان يتم لهم عهدهم الى مدتهم. وقسما لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، او كان لهم عهد مطلق، فامر ان يؤجلهم اربعة اشهر، فاذا انسلخت قاتلهم ... فقتل الناقض لعهده، واجل من لا عهد له اوله عهد مطلق، اربعة اشهر. وامره ان يتم للموفي بعهده عهده الى مدته، فاسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم الى مدتهم. وضرب على اهل الذمة الجزية ... فاستقر امر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة اقسام: محاربين له، واهل عهد، واهل ذمة... ثم آلت حال أهل العهد والصلح الى الاسلام فصاروا معه قسمين: محاربين واهل ذمة، والمحاربون له خافون منه، فصار اهل الارض معه ثلاثة اقسام: مسلم مؤمن به، ومسلم له آمن، وخائف محارب... واما سيرته في المنافقين فانه امر ان يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم الى الله. وان يجاهدهم بالعلم والحجة، وامر ان يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وان يبلغ بالقول والبليغ الى نفوسهم، ونهى ان يصلي عليهم، وان يقوم على قبورهم، واخير انه ان استغفر لهم فلن يغفر الله لهم ... فهذه سيرته في اعدائه من الكفار والمنافقين. عن كتاب معالم في الطريق، ص 55 و56.

[3]- معالم في الطريق، مصدر سابق، ص 58-61.

[4]- تردد هذا الوصف عدة مرات في فصل الجهاد من كتاب معالم في الطريق، انظر على سبيل المثال: ص 59و 81.

[5] - المصدر نفسه، ص 64.

[6] - وكالات الانباء، يوم 16/6/2005.

[7] - حنفي، د. حسن، الحركات المتطرفة، مصدر سابق، ص 114.

[8] - المصدر نفسه، ص 121.

[9] - نقلا عن المصدر نفسه، ص 169- 183.

[10] - المصدر نفسه، ص 169.

[11] - المصدر نفسه.

[12] - المصدر نفسه، ص 70.

[13] - المصدر نفسه.

[14] - المصدر نفسه، ص 171.

[15] - المصدر نفسه، ص 172.

[16] - المصدر نفسه، ص 173.

[17] - المصدر نفسه، ص 174.

[18] - المصدر نفسه، ص 175.

[19] - المصدر نفسه، ص 178.

[20] - المصدر نفسه، ص 178.

[21] - المصدر نفسه، ص 179.

[22] - المصدر نفسه.

[23] - المصدر نفسه، ص 180.

[24] - المصدر نفسه.

[25] - لمصدر نفسه، ص 182.

 

الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة اسلامية متفق عليها، وقد تردد ذكرهما في عدد كبير من آيات الكتاب الحكيم. فهما مبدأ قرآني لا ريبة فيه. وقد امتدح الله تعالى الآمرين بالمعروف والناهيين عن المنكر في اكثر من آية واعتبرها صفة ملازمة للايمان. والمقصود بهما الأمر بما أمرت به الشريعة والنهي عما نهت عنه. واكدت النصوص اهمية هذه الفريضة وضرورة تعهدها والالتزام بها. كما حذرت من التخاذل والتقاعس في مسئوليتها. فولدت هذه النصوص شعورا لدى المؤمن الملتزم باهميتهما، التي تصل حد توقف قبول الاعمال عليها في احيان كثيرة. وليس الموقف واحدا على طول التاريخ فهناك من يبرر القتل في سبيلهما، في مقابل من لا يسمح بتعرض النفس الى الاذى المادي او المعنوي. أي انها تقف عند حدود عدم الحاق الاذى بسبب الامر بالمعروف او الناهي عن المنكر. وقد اشترط الفقهاء شروطا لهذه الفريضة. فهي فريضة منضبطة ولها مبرراتها، كما لها حد معين من التضحية، وليست مطلقة او متروكة لتقدير الشخص نفسه. لكن بعض الحركات الاسلامية اتخذت من فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر اساسا لوجودها، وربطت نفسها بها ومن اجلها، حتى اصبحت مبررا لقيام دولة اسلامية، ولو بالقوة والعنف، اذا توقف العمل بهما عليها. وايضا صار الامر بالمعروف والنهي عن المنكر سببا ودافعا لنشوء وتأسيسي حركات اخرى، استجابة لقوله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ [1] (. وبهذا الشكل تفاقمت الفريضة في حدودها وصلاحياتها ومسؤولياتها. بل استمدت بعض الحركات الاسلامية من فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وجودها، ووجدت فيها ضالتها، فانطلقت تتحرك بصلاحيات مفتوحة تستمد شرعيتها من الفريضة نفسها. وقد ساعد على ذلك عدم وجود مفاهيم محدد للمعروف والمنكر، فهما بطبيعتهما فضفاضان يمكن تأويلهما وتوظيفهما وفقا لاجتهاد الاشخاص والحركات، فكانت مركزا للاجتهادات والتأويلات، واسهلها صياغة المصالح الحزبية موضوعات ناجزة لتفعيل الفريضة واتخاذها ذريعة لتحقيق اهدافهم السياسية.

لكن الصحيح ينبغي ان لا تترك هذه الفريضة لارادة الاشخاص، والا ففوضى وعدم استقرار، سيما اذا عرفنا ان سقف الامر بالمعروف والنهي عن المنكر يتمدد حسب المصلحة الاسلامية، وحينئذ من سيحدد هذه المصلحة؟ واساس المشكلة يكمن في تعدد القراءات والفهم بحسب الفقهاء وقبلياتهم وثقافاتهم وفهمهم للاحداث والقضايا الساخنة والمصيرية، ومدى استجابتهم لضرورات الزمان والمكان.

ان موضوع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الاحكام الشرعية المنصوصة المتفق عليها بين المسلمين، والقيم الاخلاقية، وليس العقيدة او الدين، بل ولا الاحكام الاجتهادية. فموضوعهما القيم والاخلاق الاسلامية، التي هي اخلاق انسانية، وتأكيد الالتزام بالواجبات الالهية، والنهي عما حرم الله تعالى من افعال واعمال واخلاق ذميمة وقد اشترط الفقهاء لممارسة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر شروطا، لا تجب الفريضة في حالة اختلالها، فهي ليست وظيفة كيفية خاضعة لمزاج الافراد، وليست مطلقة في مصاديقها بل تبقى الآيات والاحكام الاخرى مقيدات ومحددات لها. كما انها واجب كفائي، أي اذا قام بها البعض سقطت عن الباقين. واما شروطها لدى الفقهاء فهي:                                    

1 - معرفة المعروف والمنكر، ليأمن الغلط في الامر والانكار. اذ ربما ينهي الناهي عن عمل ليس محرما في الشريعة او ليس متفق على تحريمه، وربما يأتي ارتاكبه باعتباره مباحا في نظر من يفتي باباحته. ومثاله عندما جوز الامام الخميني لعب الشطرنج، خلافا للمشهور بين العلماء. فحينئذ لا يصدق النهي عن المنكر في مثال هذه اللعبة، لان اللاعب ربما يعمل وفقا لرأي من يرى جوازه. وامثلة اخرى كثيرة. لهذا نضع قيد الاتفاق على المحرم المنهي عنه في الشريعة، وهو ما نص على حرمته. بل ربما يصبح النهي في هذا المثال خرقا للحرية الشخصية التي يعاقب عليها القانون. كما لا يصح نهي غير المسلم عن عمل حلال في شريعته، بل يصبح تدخلا في شؤونه الخاصة الممنوعة قانونا. لكن يجوز النهي من اجل سلامة المجتمع، وحينئذ يجب تحويل القضية الى دعوى قانونية، اذا رغب المجتمع في ذلك. فيأتي ارتكابه للمحرم بنظر المسلمين وبشكل علني يضر بسلامة المجتمع مخالفة قانونية، تأخذ مجراها في الدوائر المختصة دون تدخل الافراد. او أي جهة اخرى غير مخولة قانونا.

2 – احتمال التأثير، فلو غلب على ظنه، أو علم أنه لا يؤثر، لا يجب. فكثير من الناس لا يؤثر فيهم الامر ولا يرتدعون بالنهي.

3 - اصرار واستمرار الفاعل على فعل المنكر. فلو لاح منه ما يدل على الامتناع أو أقل سقط الانكار. مما يعني انها ليست قضية ارهابية او مقصودة بذاتها وانما من اجل اصلاح الفرد والمجتمع فاذا حصلت أي علامة على المطلوب سقط الواجب، واما الاستمرار بالنهي الى عمل سلبي مضر.

4 - الا يكون في الانكار مفسدة، او تداعيات جانبية. فلو ظن توجه الضرر إليه أو إلى ماله، أو إلى أحد من المسلمين، سقط الوجوب[2].

5 - لا يلجأ الى الضرب الا بعد فشل سائر الاساليب. والحد الاعلى للضرب ان يبقى ما دون الكسر والجروح، فان توقف الردع على الكسر او الجرح او القتل وجب كونه باذن الامام او نائبه الخاص، وربما العام، الفقيه العادل الذي بيده ادارة الموضوع بالنحو الذي لا يسيء للنظام العام، ويوصله بعد الدرس والتأمل الى النتائج المطلوبة المناسبة للمصلحة الاسلامية العليا التي تفترض التحرك نحو مواقع الفساد، وذلك كما في حالة الثورة على الحاكم الظالم والنظام الجائر التي يمكن الوصول بها الى قتله او جرحه، او قتل اعوانه او جرحهم، تمهيدا لاسقاطه[3].

ثم للانكار مراتب تبدأ من القلب ثم اللسان واخيرا اليد[4]. فاذا تحقق المطلوب في مرتبة اللسان لا يجوز الانتقال الى مرتبة اليد. لكن بعضا يلجأ فورا الى اسلوب العنف والاكراه بشكل فج. مما يؤلب الآخرين على الدين والرسالة، ويعكس عنهما صورة سوداوية مشوهة.

وتارة يكون المخاطب في هذه الفريضة هو الفرد، فيكون موضوعها المفردات التي تصادفه في حياته داخل محيطه (العائلة/ المدرسة/ العمل/ الجمعية/ النادي/ ...). أي جزء او شريحة صغيره من المجتمع. فممارسته لهذه الفريضة مراعيا لكل شروطها الفقهية، لا شك انه سيزيد من تقويم الناس ودفعهم نحو الفضيلة والخير، من خلال الالتزام باوامر الله تعالى والانتهاء عن نواهيه. وفي هذه الحدود يكون الفرد الملتزم دينيا محددا بمستويين من الفعل، هما القلب والسان. بأن يمارس النهي عن المنكر من خلال الانكار بقلبه اولا، ومن ثم باللسان، والكلام والحوار، فتأتي آيات اخرى لتعرفنا بكيفية الحوار وشروطه، وهو الحوار بالحسنى والموعظة، وتحاشي نفور الناس من الدين بسبب الاساليب الخاطئة التي يعتمدها الفرد خلال ممارسته لهذه الفريضة. فينقلب عمله الى فعل سلبي يكون ضرره اكثر من نفعه. كما لا يصار الى المرحلة الاخيرة، وهي التغيير باليد الا بشروط، فلا يسمح معها للفرد بهذا اللون من التغيير ما لم تتم الموافقة عليه مسبقا من قبل الفقيه او الحاكم الشرعي، الواعي، غير المسكون بالعمل الثوري[5]، ويضمن النتيجة وعدم الضرر، وجملة شروط اخرى يذكرها الفقهاء في محلهم[6].

واخرى يكون الخطاب موجها للجماعة وليس الفرد، فيكون موضوعها المفردات التي يتعذر على الفرد معالجتها. وهنا يمكن تصور العمل الجماعي ضمن اطر متعددة، فيمكن للجماعة ان تعمل ضمن مؤسسة او حزب او جمعية، او أي تشكيل آخر، لكن في جميع الاحوال تستمد مرجعيتها من هذه الفريضة بالذات. وحينما تكون بشكل منظم فأنها ستندرج في اطار مؤسسات المجتمع المدني. والشرط الاول في هذه المؤسسات هو العمل ضمن القانون، فحينما تجد مؤسسات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر تصادما بين الفريضة والقانون عليها حل التعارض والتصادم في اطار القانون والاساليب المتبعة في الانظمة الديمقراطية. واما اذا تصورنا ان المجتمع ليس مجتمعا مدنيا وان الحكومة غير منتخبة بشكل صحيح ودستوري، فالكلام آنئذ يختلف كليا. لكن كما هو المفترض اننا نعمل في اطار مجتمع مدني وقوانين تستمد شرعيتها من ارادة الافراد بشكل مباشر او غير مباشر والحكومة منتخبة بشكل دستوري.

واللافت في آيات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر انها تثني على الامرين بالمعروف والناهيين عن المنكر، لكنها توجه الامر الى الجماعة والامة: (ولتكن مّنكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون[7](. حتى ان الفقهاء اختلفوا في دليل الوجوب (بعد ان اعتبروا وجبوهما على الفرد مفروغا عنه باجماع الامة كما يعبرون) هل هو عقلي فيكون ما ورد في الكتاب والسنة ارشادات لحكم العقل، ام الوجوب شرعي؟. وعمدة الدليل الشرعي روايات عن الرسول (ص). واما الآيات فقد خصت هذا الامر بالجماعة دون الفرد[8]. ومهما يكن فهل اختصاص الامر بالجماعة دون الفرد هدفه السيطرة والتقنين وابعاد الفرد بما هو فرد عن هذه الوظيفة الحساسة؟ ربما باعتبارها وظيفة لا يمكن السيطرة عليها اذا خضعت للاجتهادات الشخصية والخطابات الايديولوجية. فلا تؤدي وظيفتها، فوضعت في عهدة الجماعة المنظمة التي تأخذ على عاتقها دراسة الموضوع والظروف المحيطة به ومدى صلاحية ممارسة النهي اذا كان منكرا او الامر اذا كان معروفا، فيحد هذا العمل المنظم من السلبيات التي قد تتلاشى اذا حظيت بدرجة عالية من الحيطة والتخطيط ورعاية مصالح الوطن والمسلمين.[9].

***

 ماجد الغرباوي

باحث بالفكر الديني

2018-02-28

..................

* بحث مستل من كتاب: تحديات العنف، ماجد الغرباوي، العارف للمطبوعات، بيروت لبنان والحضارة للأبحاث، بغداد – العراق، ط 2008، ص296 – 301.

 هوامش

[1] - سورة آل عمران، الآية: 104

[2]- انظر: المحقق الحلي (676هـ)، شرائع الاسلام، تحقيق: صادق الشيرازي، طهران، الاستقلال، ط3، 1409هـ، ج1 ص 258. والشروط متفق عليها بين الفقهاء تقريبا. انظر الكتب الفقهية التي تعرضت للموضوع بالاخص الرسائل العملية للفقهاء.

[3] - فضل الله، السيد محمد حسين، فقه الشريعة، بيروت، دار الملاك، 1420هـ - 1990م، ج1، ص 630.

[4] - المحقق الحلي، مصدر سابق..

[5]- الفقيه المسكون بالعمل الثوري مثله مثل الطبيب الجراح، الذي يعالج جميع الامراض بالعملية الجراحية لادنى احتمال، وهو على العكس من الطبيب الاخصائي الذي يحاول معالجة المرض بالادوية والعلاج الطبيعي، والفقهاء هنا كالاطباء مع الفارق.

[6]- انظر: فضل الله، مصدر سابق، ج1 ص633.

[7] - سورة آل عمران، الآية: 104

[8]- انظر على سبيل المثال: شرح اللمعة الدمشقية، الشهيد الثاني، تحقيق: باشراف محمد كلانتر، 1410هـ، قم، الامير، ج2 ص409.

[9] - انظر للكاتب: التسامح ومنابع اللاتسامح .. فرص التعايش بين الاديان والثقافات، مركز دراسات فلسفة الدين، 2006م، بغداد.

 

 

لقد صار النص الديني ذخيرة حية في الصراعات السياسية، واخذ كل فريق يحشد ما لديه من نصوص وروايات لاثبات شرعيته او للطعن بمعارضه. العنف الذي مارسته الحركات الاسلامية كان تجسيدا لرؤى ومفاهيم دينية مثل: (الجهاد، الحاكمية، والجاهلية، وكفر او انحراف السلطات الحاكمة، بل والشعوب المسلمة على بعض الآراء)[1] تمت قراءتها وفقا لفهم هذه الحركات. ولكي نفهم اسباب ظهور العنف علينا دراسة هذه المفاهيم وتحديد مدى تأثيرها على الفكر الحركي للحركات الاسلامية، وتقصي الاسباب الاخرى التي كانت وراء ظهوره على نمط من السلوك من قبل جماعات كان يفترض ان تكون مثالا للتسامح والعفو والرحمة، لأنها وليدة قيم دينية اتسمت بانسانيتها العالية. لكن قبل ذلك نؤكد ان السبب الرئيس وراء العنف والتطرف الديني هو سبب عقائدي فكري، فتكون الاسباب الاخرى اسبابا مساعدة وثانوية، فنحن لا ننكر دور المستوى المعاشي لافراد الحركات الاسلامية - مثلا - في ممارسة العنف لكنه ليس دورا اساسيا، والا فان زعيم القاعدة، اقصد اسامة بن لادن كان مليارديرا معروفا. وينتمي اغلب افراد الحركات الاسلامية الى الطبقة الوسطى، والامر نفسه بالنسبة الى المستويات الدراسية، فرائد البنا الاردني الذي قاد تفجير مدينة الحلة العراقية – مثلا - كان خريج كلية الحقوق، مرفّها، وقد عاش فترة في امريكا[2]، كما ان عمر احمد عبد الله[3] الذي قاد تفجير مسرح في دولة قطر مهندسا الكترونيا ويتقاضى راتبا شهريا عاليا. وايضا ما تبقى من اسباب خارج دائرة الفكر والعقيد فانها اسباب ثانوية قياسا الى السبب الرئيس. وهذا الكلام تؤكده بيانات احصائية ودراسات ميدانية جرت على عينات مختلفة من افراد الحركات الاسلامية المتطرفة، وقد تبين منها ان افراد هذه الحركات يتمتعون بمستويات دراسية وعلمية جيدة، وقد حاز اغلبهم على شهادات اكاديمية تراوحت بين الاعدادية والدكتوراه. وهو مستوى يفترض انه يوفر قدرا لا بأس به من الوعي يحول دون اقتحام الموت والمخاطرة بالارواح، بينما الواقع خلاف ذلك فكثير من العمليات الانتحارية قام بها افراد حازوا على شهادات دراسية متقدمة ويتمتعون بمواقع وظيفية مميزة. مما يدفعنا للتنقيب عن اسباب اخرى لهذه الظاهرة. وينبغي دراسة الفهم العقدي الثاوي وراء اقتحام الموت والزهد بالحياة، رغم الرفاهية التي يتمتعون بها هؤلاء الشباب[4].

الاسباب الفكرية والعقدية

يتصف النص الديني بثرائه الدلالي ومرونته واستجابته لكل القراءات والتفسيرات، مما أغرى الاتجاهات الكلامية والسياسية بتوظيف النص لاثبات شرعيتها، او لنفي الآخر المخالف والمعارض، حتى تشابهت الادلة واستدل كل طرف بنفس الادلة التي استدل بها خصمه السياسي والفكري، بعد قراءتها وتفسيرها وفق توجهاته الفكرية والعقدية والسياسية. فحصلت الاختلافات والتباينات وظهرت الفرق والمذاهب الكلامية والفقهية. وعلى هذه الوتيرة استمرت القراءات والتفسيرات، فهي في كل عصر تقدم (او يفترض ان تقدم) فهما يستمد وجوده من ثقافة المجتمع وحاجاته الفكرية والعقدية. الا ان القراءات راهنا باتت في كثير من الاحيان مزيجا من التراث والحاضر، بل طغى الاول على الثاني، فاصبحت القراءة الجديدة نسخة مشابهة لقراءات تمت في ظرف يختلف زمانيا ومكانيا، وبذلك لم تستوف هذه القراءات شروطها الموضوعية فاحدثت خللا كبيرا في التفكير وانتاج المعرفة. فالقراءات التراثية الراهنة جردت النص من تاريخيته، ولم تراعي اسباب نزوله، ولا تحديد غاياته واهدافه، رغم اهمية كلا الامرين في فعلية وفهم تلك النصوص. فالنص مطلقا صار فعليا ويمارس دوره على كل حال، فنتج عن ذلك قدر كبير من الارتباك بل والشطط في سلوك المسلمين، سيما بعض الحركات الاسلامية التي تطرفت كثيرا في ممارسة العنف باسم الدين والاسلاموفقا لتلك القراءات.

وعندما نتحدث عن النص ذاته يجب عدم اهمال الاتجاهات السياسية ودورها في تطور ووجود القراءات المختلفة للنص الديني. اذ لعبت السياسة دورا وكرست النص لصالح السلطة الحاكمة، كما كان لها دور في اقصاء المعارضة السياسية وتهميشها والتنكيل بها، حتى صار النص مدار كل شيء، والملجأ في كل ازمة سياسية وغيرها. وحينما لا يستجيب النص بشكل كاف يخضع لعمليات تأويل وافتراء بغية تطويعه لصالح هدف ما، سياسي او غير سياسي. حتى اختلط الصحيح بغيره من الاحاديث، وتغلغل المفترى والموضوع والضعيف في وسط الاحاديث الموثقة، والتبس الامر حتى على اصحاب الاختصاص من ذوي الثقافة المحدودة، وصار النص مطلقا حجة شرعية وفقا لبعض الآراء الفقهية فسبب كارثة فكرية واخلاقية وسلوكية، ستبقى تداعياتها تتفاقم ما دامت تلك النصوص تشكل مساحة واسعة من العقل الاسلامي.

ويمكن رصد اول توظيف للنص في هذا المجال (أي مجال حسم الصراعات السياسية) هو احداث السقيفة، حيث روى ابو بكر عن الرسول (ص) قوله: (الائمة من قريش) ليسلب الانصار حقهم في الترشيح لمنصب خلافة المسلمين. ثم صادر ملكية فدك (وهي ارض ورثتها فاطمة الزهراء عن ابيها كما هو مشهور في الروايات التاريخية) برواية (نحن معاشر الانبياء لا نورث)، كما اكد الامام علي حقه بالخلافة بنصوص رويت عن الرسول، بينما انكر رجال السلطة ذلك، فهو مثال للاثبات والانكار بالنص. وبهذا الشكل صار النص الديني ذخيرة حية في الصراعات السياسية. واخذ كل فريق يحشد ما لديه من نصوص وروايات لاثبات شرعيته او للطعن بمعارضه. ولما آلت الخلافة الى معاوية بدأ النص يؤدي دورا جديدا، ليس فقط لتأكيد شرعية الحكم وانما لتزكية الحاكم، وتبرئته، وتجنيبه تداعيات المحاسبة الجماهيرية، وتخويله سلطة الفتك بالمعارضة بعد ملاحقتها وتوجيه التهم اليها. فقد رويت في معاوية روايات وضعته على مستوى رفيع في الدنيا والآخرة، كما رويت روايات تدين الامام علي الخصم السياسي الاول له. وانتشرت بين الناس احاديث لم تكن معروفة من قبل، فثبتت لمعاوية البشارة بالجنة، وكتابة الوحي، وصحبة الرسول، وانه من خيرة المؤمنين[5]..، بينما صار الامام علي يسب على منابر المسلمين وفقا لقرار اموي لمدة ستين عاما، ولم يترك سبه الا في عهد عمر بن عبد العزيز[6]. وكما أدى النص دورا وجوديا لتزكية السلطان المتمثل في معاوية ايضا مارس النص دورا عدميا ينفي ما كان للمعارضة المتمثلة بالحزب الهاشمي او الشيعي من صفات ايجابية. وليس الامر مقتصرا على زمن الامويين والعباسيين، بل ما زال النص فاعلا مؤثرا في المعادلات السياسية والاجتماعية والدينية، وما زال يلعب دورا في تأجيج نار الفتن، وشرعنة ممارسات واعمال ابعد ما تكون عن قيم الدين والانسانية.

وفي هذا الاتجاه، أي اتجاه تكريس شرعية سلطة الامويين، انبثق جدل كبير بين المسلمين حول فاعل الكبيرة وما هو الموقف الشرعي منه؟ هل هو مؤمن؟ ام كافر؟ فانتهى الجدل الى نشوء مذهب الارجاء الذي راح ينظـّر لنظرية ارجاء امر فاعل الكبيرة الى الله. واستطاعت هذه المفاهيم، التي هي نتاج قراءات متحيزة للنص الديني، نزع فتيل المعارضة والاحتجاج على ارتكاب الكبائر من قبل السلطان الاموي المعروف باسرافه الاخلاقي والادبي. ولم يقف الجدل عند حد فاعل الكبيرة وانما امتد الى مفاهيم اخرى تناولت حقيقة الايمان، صفات الباري، امكانية رؤية الله تعالى يوم القيامة، مسألة خلق القرآن. والاخطر كان مسألة الجبر والاختيار، عندما صيغت المسألة بسؤال: (هل الانسان مخير ام مسير ومجبر في اعماله وسلوكه). فاستطاع الاتجاه الاموي اثبات الجبر، وان الانسان مجبر في افعاله، ولما كان مجبرا فليس من العدل مؤاخذة او محاسبة عمل هو مجبر عليه، وما يصدر (وهذا هو اللازم المهم في المسألة) عن الخليفة والسلطان الحاكم، هو مجبر عليه، ولا حول ولا قوة له في رده، فليس من حق الرعية محاسبته. وربما ليس من حق الباري تعالى ايضا محاسبته، لانه انسان مجبر، وهو مجرد آلة تنفذ ما يصدر لها من اوامر. بل على العكس من ذلك ربما يؤجر على افعاله القبيحة وتجاوزاته باعتباره ينفذ الارادة الالهية الذي هو مجبور عليها. ولم ينته الجدل حول مسالة الجبر والاختيار الا بظهور فرقة الجبرية في مقابل فرقة المرجئة. فقالت الجبرية ان افعال العباد مقدرة ازلا وانها تصدر عن ارادة الهية لا يتدخل بها العبد، كما قالت القدرية بحرية الارادة وان الانسان خالق افعاله حتى يكون للجزاء الاخروي معنى وتعليل، وقد اطلقت الاخيرة على المعتزلة[7].وبهذا الشكل كانت القراءات والتفسيرات الكلامية للنص الديني تلعب دورا كبيرا في تكريس سلطة الحاكم السياسي وتبيح له ممارسة العنف مع المعارضة السياسية، وتسمح له بتعذيبهم ونفيهم وابعادهم وقتلهم.

والجدير بالذكر ان المسائل الكلامية المتقدمة كانت نواة تشكل الاتجاهات الكلامية في الاسلام، وعلى اساسها تكونت الفرق والمذاهب. فبالنسبة لمسالة مرتكب الكبيرة، التي قال فيها الاتجاه الاموي بالارجاء، ذهب الخوارج الى ان فاعل الكبيرة كافر، لان الايمان قول وعمل. بينما كانت المسألة ذاتها البداية لاعتزال المعتزلة والقول برأي ثالث هو ان فاعل الكبيرة منافق ومرتكب لكبيرة يستحق عليها العقاب بل الخلود في النار كما ذهب الى ذلك الخوارج، لكنه لا يخرج عن ربقة الاسلام، فلا ينفى الايمان عنه بسبب كبيرته، لكن ايضا لا ينفى العقاب الاخروي. وهكذا تشعبت الآراء والاتجاهات، وظهرت مفاهيم جديدة طالما اختلف حولها المسلمون، وعصفت بوحدتهم وفتت تماسكهم. وراح ضحية الجدل الكلامي في المسائل المتقدمة عدد كبير من المسلمين الذين هم ضحايا العنف السياسي والكلامي معا، او ضحايا الرأي والكلمة.

لسنا بصدد كتابة تاريخ الفكر الكلامي عند المسلمين او تقصي المذاهب الكلامية والاتجاهات الفكرية، وانما نهدف الى بيان دور الفكر والعقيدة في ظهور الحركات الاسلامية المتطرفة فاقتضى ذلك العودة السريعة الى الوراء للتعرف على خلفية المسألة تاريخيا. اذ تبين ان تداعيات الخلافات الكلامية والمذهبية بين المسلمين ما زالت حية فاعلة بمستويات مختلفة. وما زال امتداد تلك الافكار يتحكم بالفعل السياسي حاضرا ويوجهه بنفس الاتجاه. وليس هناك دليل ادل من سلوك المسلمين اليوم الذي يتسم بالعداء والكراهية وبغض الآخر وتكفيره والاستهانة به وتهميشه. وهي الطريقة ذاتها في تعامل الفرق والمذاهب الاسلامية فيما بينها في القرون الخمسة الاولى. ولا نجداستثناء الا لدى الليبراليين الذين تخلوا عن قيم الفرقة الناجية، وقيم احتكار الحقيقة. واما عامة المسلمين سيما الحركات الاسلامية فهي اشد ظلامية وسوداوية. والمفارقة ان ادبيات هذه الحركات، سيما الحركات التي تمثل الوعي الديني، مليئة بمفاهيم الوحدة الاسلامية وعدم التفرقة بين المسلمين الا ان عملهاخلاف ذلك، فبعض الحركات الاسلامية تستبيح دماء المسلمين لا لشيء سوى انهم يعتنقون مذهبا آخر في الفقه والعقيدة. لذا نؤكد ثانية ثمة مفاهيم ورؤى فكرية وعقدية ثاوية في لا وعي الحركات الاسلامية التي تشبعت بكراهية الآخر والحقد عليه وتكفيره والتخطيط للاطاحة به وتدميره واغتياله. ولولا تلك المفاهيم والبنى لا يتحرك الانسان باتجاه الموت بهذا القدر من الاستهانة بالحياة وعدم التفكير بتداعيات الفعل الارهابي على مستقبل المسلمين والعقيدة الدينية. من هنا علينا متابعة تلك المفاهيم في هذا الاطار وتقصي مدياتها وطاقتها وقدراتها الفعلية. فمن تلك المفاهيم التي ما زالت فاعلة ومؤثرة، مفهوم الحاكمية، مفهوم الجاهلية، مفهوم النهي عن المنكر، مفهوم المرتد، مفهوم الفرقة الناجية، مفهوم الجهاد، و....

***

ماجد الغرباوي - كاتب وباحث

...............................

[1] - تحديات العنف، ماجد الغرباوي، 2009م، دار العارف، بيروت – لبنان، والحضارية للابحاث، بغداد – العراق، ص270-282.

[2]- انظر صحيفة الشرق الاوسط في 13/ 3/ 2005.

[3]- المصدر نفسه 23/3/2005.

[4]- ابراهيم، د. سعد الدين، مصدر سابق، ص 400. حيث يقول عن افراد الحركات الاسلامية المصرية:

اولا: انهم شبان، فحوالي 90% من الذين شاركوا في تلك الاحداث العنيفة[4] كانوا في العشرينات والثلاثينات من اعمارهم.

ثانيا: انهم ممن تلقوا تعليما عاليا. فحوالي 80% من هؤلاء المتطرفين كانوا اما طلبة جامعة او خريجي جامعة.

ثالثا: انهم متفوقون دراسيا ولديهم دوافع قوية. فاكثر من نصف هؤلاء كانوا طلبة او متخرجين من الكليات ومجالات التخصص الراقية في الجامعات المصرية مثل الطب والهندسة والصيدلة والكلية الفنية العسكرية. ومن المعروف ان مثل هذه الكليات لا يدخلها الا الطلبة المتفوقون في امتحانات الثانوية العامة في مصر.

رابعا: انهم ينتمون الى الطبقة الوسطى الدنيا. فاكثر من 70% منهم ينحدرون من اصول اجتماعية متواضعة، وان لم تكن فقيرة. كما ان معظمهم يمثلون اول جيل يتلقى تعليما جامعيا في اسرهم.

خامسا: انهم ينتمون الى اصول ريفية او من المدن الصغيرة في الاقاليم، الا انهم حين اصبحوا متطرفين كانوا يعيشون في المدن المصرية الكبرى حيث توجد هذه الجماعات المتطرفة.

[5]- كرواية: «الأمناء ثلاثة انا وجبريل ومعاوية»، انظر: نور الدين عتر، منهج النقد في علوم الحديث، ص 302.

[6]- كما في رواية الاعمش. قال: لما قدم ابو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى كثر من استقبله من الناس جثا على ركبتيه ثم ضرب صلعته مراراً وقال: يا اهل العراق أتزعمون اني اكذب على الله ورسوله واحرق نفسي بالنار؟ والله قد سمعت رسول الله يقول: «ان لكل نبي حرماً وان المدينة حرمي، فمن احدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين». قال: واشهد ان علياً احدث فيها؟؟. فلما بلغ معاوية قوله اجازه واكرمه وولاّه امارة المدينة. انظر: شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي، ج4، ص 67 «فصل في ذكر الاحاديث الموضوعة في الإمام علي».

والروايتان مجرد امثلة لروايات كثيرة وظفت لتكريس السلطة او نفي المعارضة.

[7]- ابو ريان، د. محمد علي، تاريخ الفكر الفلسفي في الاسلام، بيروت، دار النهضة العربية، ط 2، ص 45.

 

لم يكن العنف، كما هي مسيرة التاريخ، وليد الساعة او نتاج ظروف طارئة او موجة عارمة يرتقب تفتتها. بل ساد العنف علاقة الانسان باخيه الانسان منذ فجر التاريخ، عندما تجرأ قابيل ابن آدم على قتل اخيه هابيل حسدا لمجرد انه كان اوفر حظا في قبول قربانه، فقد جاء في الذكر الحكيم ملخصا لتلك الحادثة التاريخية: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق اذ قربا قربانا فتقبل من احدهما ولم يتقبل من الاخر، قال لا قتلنك قال انما يتقبل الله من المتقين، لان بسطت الي يدك لتقتلني ما انا بباسط يدي اليك لاقتلك، اني اخاف الله رب العالمين، اني اريد ان تبوأ باثمي واثمك فتكون من اصحاب النار وذلك جزاء الظالمين، فطوعت له نفسه قتل اخيه فقتله فاصبح من الخاسرين)(1). ومنذ ذلك التاريخ ظل الانسان يمارس العنف بابشع صوره وكأنها ارادة الله تعالى: (وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين)(2).

وايضا لم يختص العنف بعصر او زمان دون آخر بل ظل ملازما للانسان طوال حياته، يؤثر فيه ويتأثر به، حتى قيل يولد الانسان وهو يحمل جرثومة العنف بين جنبيه، يفكر دائما باللجوء للقوة والبطش بغية تطويع الاخر واضطهاده واستغلاله، فضلا عن الارتكاز اليه في الدفاع عن النفس وتحقيق اهدافه، وتوظيفه لمواجهة الاخطار الخارجية وتسوية الخصومات الداخلية. والعنف يغور عميقا في الطبيعة البشرية، يخالطها ويتلبس بها ويسكنها. يقول  فرويد في كتاب قلق الحضارة خلال وصفه للانسان ومدى علاقته بالعنف: (ليس الإنسان ذلك الكائن الهادئ والمسالم ذو القلب المتعطش للحب، والذي يقال عنه إنه يدافع عن نفسه إذا ما هوجم؛ إنه على العكس من ذلك، كائن يختزل في أعماق ذاته قدرا من العدوانية. فالإنسان هو بالفعل ميـّال إلى إشباع حاجاته العدوانية على حساب بني جنسه، واستغلال عمله دون تعويض، واستعماله جنسيا دون رضى منه، والاستحواذ على كل ما يملكه الآخر، وإهانته، وتعذيبه، وتقتيله كقاعدة عامة. فعدوانية الإنسان الشرسة قائمة، إما تنتظر إثارة تأتيها من الخارج، و إما أنها تندرج في الوصول إلى هدف يكون من الممكن الوصول إليه بأساليب غير عنيفة. فكلما ضعفت القوة الأخلاقية التي تحد من هذه العدوانية وتحدها، صارت الظروف مواتية لكي تظهر هذه العدوانية بشكل تلقائي، وتكشف أن وراء الإنسان حيوان مفترس لا يقيم أي اعتبار لبني جنسه. فكل من استعادت ذاكرته الفواجع التي واكبت نزوح الشعوب أو غزوات جنكيز خان وقبائل المغول وحروب تيمور لنك أو تلك التي تسبب فيها استيلاء تقاة الصليبيين على القدس، دون أن ننسى فواجع الحرب الأخيرة (1914- 1918) ينحني احتراما أمام تصورنا هذا ويعترف بصحته) (3).

ولما تشكلت المجتمعات البشرية كان العنف سيد الموقف في ترويض الناس واخضاعهم لسلطة رئيس القبيلة او المجموعة، وأداة ماضية للاضطهاد والبطش، او لشن هجوم عدواني او صد آخر مماثل، حتى اذا ظهرت معالم الدولة السياسة او الكيان السياسي عاد العنف الاساس في تطبيق القانون وأداة الحاكم المستبد في قمع المعارضة والتفرد بالسلطة. وليس الجانب الاخر من الحضارات سوى صفحة سوداء من الظلم والعدوان والاضطهاد وممارسة العنف بشتى اشكاله. ومن يراجع تاريخ الحضارات يفاجأ بهول المأساة التي مرت بها الانسانية من جراء العنف والتعسف الاستبدادي، فالحضارات السومرية والبابلية والفرعونية وغيرها لم تشيد الا على جماجم المستضعفين من ابناء البشرية، رغم تستر بعض الباحثين على هذه الحقيقة، واصرارهم على طمس الجانب الاخر من تاريخ الحضارات(4)، ذلك التاريخ الذي يحكي قصة معاناة الانسان في ظل العنف والاستبداد، وفداحة الخسائر التي قدمها على هذا الطريق(5).

ولما يبصر الانسان الحياة حتى وجد نفسه مضطهدا مقهورا تحاصره اكثر من سلطة، تقمعه وتضطهده وتقتل فيه كل بادرة ابداع وتألق، وظل الانسان في رحلة شاقة اسيرا تتقاذفه اهواء الطواغيت وتسيره ارادة السلاطين، ولم ير النور الا اذا تداركته يد الرحمة وعاش في ظل سلطة تعي دوره وتحترم مكانته، وتخطط باستمرار لانتشاله من واقعه التعيس، وهي حالات نادرة، لم تستطل حتى تغتالها يد الغطرسة، وتطيح بها نزوات العنف والاستبداد، او تستغلها بعض النفوس الضعيفة باسم الدين، فيعود الانسان ادراجه ليكابد مرارة الحياة من جديد(6). وكأن الحياة مشاهد متواصلة من العنف والعنف المضاد، اذ (ليست هناك لحظة واحدة لا يفترس فيها كائن حي من طرف كائن آخر. وفي أعلى سلم الكائنات الحية يوجد الإنسان الذي لا يفلت شيء من قبضة يده المخربة. فهو يقتل لكي يتغذى، ويقتل لكي يكتسي، ويقتل لكي يتظاهر، ويقتل لكي يتعلم، ويقتل لكي يدافع عن نفسه، ويقتل لكي يتسلى، و يقتل من أجل القتل. هل يتوقف هذا القانون (قانون القتل) عند الإنسان، أي قبل الإيقاع بالإنسان؟  طبعا، لا.

فمن هذا الكائن الذي يستطيع القضاء على هذا الذي يقضي على الكائنات جميعا (الإنسان)؟ إنه الإنسان المكلف بذبح الإنسان.

لكن كيف يستطيع الإنسان أن ينفذ هذا القانون، قانون القتل، وهو كائن أخلاقي متسامح، وهو الذي ولد من أجل أن يحب، وهو الذي يبكي الآخرين كما يبكي على نفسه، والذي يجد متعة في البكاء، والذي يخترع حكايات وتخيلات لكي يبكي، وهو الكائن الذي قيل له إنه سيحاسب على آخر قطرة دم أراقها ظلما؟. إنها الحرب، إنما هي الحرب التي ستقوم بتنفيذ هذا القرار)(7).

اذن لم تكن حادثة ابني آدم قضية تاريخية عابرة يذكرها القرآن للتسلية او لمجرد انها قصة تاريخية او سردا لمسيرة الانسان على الارض، وانما تعكس الحادثة طبيعة العلاقات التي مر بها الانسان خلال مراحل حياته، التي بدأها  بلجوء قابيل الى العنف تعبيرا عن غضبه وحقده على اقرب الناس اليه، وهو اخوه، تاركا اساليب اخرى يمكن التعبير بها عن مشاعره المتأزمة وشعوره بالغبن واليأس والاحباط لعدم قبول عمله وقربانه كما في التعبير القرآني. بينما لم يلجأ هابيل الى نفس الاسلوب ورفض الارتكاز الى العنف مطلقا. ورغم ندم قابيل الا ان التاريخ البشري بدأ عنيفا في اول خطواته، ولم تسوده يد الرحمة الا قليلا منذ ذلك الحين. بل (ان قتل هابيل بيد قابيل تحول كبير وانعطاف حاد في مسار التاريخ، باعتبارها اكبر حادثة تمر على الانسان، وتقدم اعمق تفسير علمي واجتماعي. كما انها تمثل نهاية المرحلة الاولى، اي نهاية النظام الاخوي، والمساواة في الانتاج والصيد (هابيل)، وظهور الانتاج الزراعي والملكية الخاصة وتشكـّل اول مجتمع طبقي. وهي اول نظام تسوده التفرقة والاستغلال وعبادة المال وعدم الايمان، وبداية الخصومة والتنافس والاعتداء والعبودية وقتل الاخ (قابيل)·

ثم ان بقاء قابيل، بعد ذهاب هابيل، حقيقة موضوعية تاريخية. اذ صار الاخير يتحكم بالدين والحياة والاقتصاد والحكم والمستقبل . ... وقد ذهب هابيل من غير ذرية، بينما انحدرت جميع البشرية من نسل قابيل)(8). فحادثة ابني آدم تمثل في رأي شريعتي نهاية مرحلة ودخول في مرحلة جديدة. وهذا يعني ان قراءة  الحادثة من زاوية اخرى يفضي الى نتيجة تكرس العنف سببا للانعطاف التاريخي الذي مرت به البشرية، بعد ان قضى العنف على مرحلة المساواة والاخوة وانتقل بالانسان الى مرحلة الانتاج. أي ان العنف كان السبب وراء التحوّل التاريخي للانسان في تلك المرحلة بالذات. ورغم عدم وجود ادلة كافية تشهد لتلك الحقبة التاريخية، لكننا لسنا بصدد مناقشة آراء شريعتي من هذه الجهة، وان ما يهم البحث هو اكتشاف تأثيرات العنف على حياة الانسان. فطالما قاد العنف مسيرة شعوب ومجتمعات باتجاهات لم تخطط لها، او لم تتأهل لها لولا العنف الذي فرض المرحلة التاريخية عليها. ومثالها الواضح الحروب والصراعات التي اجتاحت بعض البلدان وزجت بها في إتون التخلف الحضاري والاقتصادي، وعادت بها الى الوراء عشرات السنين لتعاني ألم المكابدة والكدح من جديد.

ثم الغريب ان تكون حادثة القتل (قتل قابيل لهابيل) اول خطوة في تاريخ الانسان فرضت نفسها على الكتب المقدسة حتى خلدت بخلودها. وربما الحكمة اقتضت ان تبقى جرس انذار على مخاطر العنف، وقدرته الكبيرة على تحويل مسار الاحداث، والتحذير ايضا من مفاجأته التي تغزو الانسان على حين غرة، ما لم تتداركه يد الرحمة ويؤوب الانسان الى رشده قبل ارتكابه عملا يكلفه حياته احيانا. اذ عندما يستولي العنف على مشاعر الانسان يفقده صوابه فلا يتردد في ارتكاب أي عمل، ومع أي شخص كان، حتى لو كان هابيل اخاه، الذي لم يجد غيره نديما وعونا على الحياة، وانيسه الذي كان يحطم به سكون الوحدة ويدفع به طود الوحشة. لكنه العنف الذي يصدر عن الانسان نفسه وبارادته مع قدرته على التحكم به، حتى سولت له نفسه قتل اخيه، ربما لقضية تافهة لا تستحق هذا القدر من العنف والحماقة، لولا الحسابات الخاطئة للانسان عندما يغادر ساحة العقل ويترنح في ميدان الهوى والنفس والمصالح الشخصية والكبرياء والنرجسية المفرطة و...، التي تبرر له الاستهانة بحياة ومقدرات وكرامة الآخرين. وتارة يصل التعنت بالارء والقيم الشخصية حدا يتمنى معه صاحبه سحق الناس جميعا من اجل الحفاظ على مصالحه ورد اعتباره، او تشبثا برأيه انطلاقا من ايمانه بصحته ونهائيته. انها مأساة الانسان الذي يرتكب العنف ويعاني منه في وقت واحد.

ولا اعتقد ثمة شخص او جهة لا تقدر خطورة العنف وتداعياته على الفرد والجماعة لكنها تمارس العنف بارادتها وفق تصورات غالبا ما تكون خاطئة لا تحظى برصيد كاف ٍ من الصحة والعقلانية التي تؤهلها لان تكون قاعدة لممارسة العنف ضد الآخر، مهما كان الآخر في توجهاته واتجاهاته الفكرية والعقيدية.

ثمة ملاحظة مستوحاة من الآية الكريمة، التي لا تنقضي دلالاتها لغزارتها وثرائها، وهي ان تسوية العنف والعودة الى مائدة السلام تتوقف على جميع الاطراف، وما لم يستجب الجميع لمبادرات الاسلام ويتخلوا عقيدة وفكرا وثقافة وسلوكا عن العنف، فان الاخير سيبقى قنبلة موقوتة تتفجر متى استوفت شروطها، لذا وقع العنف وقتل قابيل هابيل رغم ان الاخير لم يشارك اخاه اسلوبه العنيف في تسوية القضايا (لان بسطت الي يدك لتقتلني ما انا بباسط يدي اليك لاقتلك، اني اخاف الله رب العالمين، اني اريد ان تبوأ باثمي واثمك فتكون من اصحاب النار وذلك جزاء الظالمين). لكن رغم ذلك وقع القتل وصدر العنف من قابيل، لانه كان كامنا في لا وعيه، وكان يمثل بالنسبة له عقلا وثقافة واستراتيجية. لذا لا يصار الى مجتمع مسالم ما لم يتخل عن العنف بكل صوره واشكاله، والا فالخطر يبقى كامنا فيه يبحث عن مناسبة ليطفو على السطح.

وايضا يمكن استنطاق الحادث التاريخي بشكل آخر، كما جاء في الآية الكريمة، فنشاهد ان الاحباط الذي اصاب قابيل بسبب عدم قبول قربانه كان السبب وراء قتله لاخيه، وليس الغضب والثورة الا تجسيدا لحالة اليأس المتفاقمة في نفسه. مما يعني ان اليأس والاحباط سيكون حاضرا في تفسير كثير من مظاهر العنف في البلاد الاسلامية. وليس بالضرورة اليأس من الماديات، وانما اليأس السياسي او اليأس النفسي عندما يشعر الفرد بالعجز عن الاتيان بعمل صالح يقربه من الله تعالى ويخلصه من النار فيضطر الى ارتكاب عمل ارهابي بقصد تحقيق مرضاته تعالى. وهو فهم خاطئ، وتجوز على الله تعالى، فلا يعرف قيمة الاعمال الا الله، وربما عمل صغير يدخل الانسان الجنة، بينما اعمال كثيرة لا تتوفر فيها شروط النية الصالحة لا تشفع للانسان في الآخرة. وهو موضوع آخر سنتناوله في فصول لاحقة.

وما زال العنف باشكاله المختلة تحديا قاهرا لأجندة اي مشروع طموح يروم المجتمع تطبيقه عبر وسائل سلمية ترتكز الى منطق الحوار الديمقراطي. والاخطر على ذلك المجتمع ومؤسساته السياسية عندما يتحول العنف الى ارهاب عدواني مسلح يطال كل شيء، فان درجة اخفاقه او نجاحه في مشروعه، ومدى قدرته على الصمود في مواجهة تلك التحديات، ستكون رهن ما تتركه العمليات الارهابية من تأثيرات سلبية. من هنا  كان الفعل الارهابي وما يزال، التحدي الاخطر لكل مشروع على الاصعدة كافة. وبات الارهاب مفهوما مرعبا يثير القلق لدى الانظمة والشعوب على السواء بفعل مساحة الدمار التي تلحقها العمليات الارهابية بالانفس والممتلكات والمباني العامة. وقد رفع القلق والخوف من الارهاب درجة تأهب الاجهزة الامنية سيما في الدولة المستهدفة بالعمليات الارهابية، وصار يؤرق أعلى المستويات الحكومية والحزبية، وكلفت نفقات محاربة الارهاب كما تسمي ذلك الدول الكبرى مبالغ باهضة وزاد من نفقات ميزانية الامن والانفاق العسكري(9). وربما تسبب الارهاب في فقدان مناصب حكومية او استبعاد حزب وفوز اخر. فعندما استهدفت العمليات الارهابية بعض الدول اخفق قادتها السياسيون في تحقيق نصر في الانتخابات التي تلت العمليات بثلاثة ايام، حتى لم يشفع له ما يتمتع به حزبه من رصيد جماهيري كان من المفترض ان يؤهله بالفوز بها(10).

ومنذ اندلاع العمليات الارهابية اصبح الارهاب تهمة خطيرة تفضي الى عقوبات صارمة سياسية وقضائية وربما مقاطعة اقتصادية. ويكفي أن تتهم حركة سياسية أو دولة بالارهاب لان تصدر بحقها كثير من الاجراءات القانونية. لذا اخذت الحركات والاحزاب بل الدولة المتهمة بالارهاب تتشبث بكل الوسائل من اجل دفع تهمة الارهاب عنها، خشية ان تطالها عقوبات تفقد معها مصداقيتها ومكانتها، سيما اذ كان طرف الادعاء الدول الكبرى والدول الصناعية المتقدمة تكنولوجيا، أي الدول الغنية صاحبة القرارات والتأثير الحقيقي في المؤسسة الدولية المعنية بالامر. والاكثر من هذا اصبح الارهاب مبررا للقيام بعمليات عسكرية ضد بعض الدول أو الحركات السياسية، كما صار مسوغا لكثير من الاجراءات والقوانين الدولية والمحلية ضد شعوب كاملة، كاجراءات بعض مطارات ومؤسسات الدول الغربية، ضد المسلمين خاصة، لكثرة التهم التي حامت حولهم في مجال الارهاب

والجدير بالذكر (إن التطرف والعنف باسم الدين ليسا منحصرين في الدين الإسلامي وحده؛ ومع أن البوذية أقل الأديان ذكرا للعنف، فقد وجدت في التسعينات الماضية منظمة بوذية إرهابية في اليابان استخدمت الغاز في مترو طوكيو، مبررة ذلك باسم مكافحة الخروج على البوذية والعودة للبوذية "الأصلية." كما أن العديد من حاخامات إسرائيل مجدوا اغتيال رابين وبرروه توراتيا. أما بعض القسس اللوثريين والبروتستانتيين المتطرفين في أمريكا، فقد أنشئوا ميليشيات صغيرة تهاجم المراكز الطبية التي تمارس الإجهاض، ومنهم من هاجموا نوادي خاصة بالمثليين جنسيا؛ وهؤلاء المتطرفون يدينون المسيحيين اللبراليين كما يهاجمون المسيحيين المحافظين باعتبار أن أولئك انتهازيون وهؤلاء جبناء! وحركات السيخ تطورت في التسعينيات لترفع شعارات دينية مع شعار الانفصال، فمارست سلسلة عمليات دموية ضد الهندوس والدولة الهندية)(11)

***

ماجد الغرباوي

10 - 7 - 1917

............................

* بحث مستل من كتاب: تحديات العنف، ماجد الغرباوي، العارف للمطبوعات، بيروت لبنان والحضارة للأبحاث، بغداد – العراق، ط2008، 29 – 38.

الهوامش والمصادر:

1- سورة المائدة، الآيات: 27 – 30.

2- سورة البقرة، الآية: 36.

3- الدكالي، محمد، تأملات فلسفية في ثنايا العنف، مجلة فكر ونقد،مصدر سابق.

4- للاطلاع على بعض مشاهد الاستبداد في الحضارات القديمة، انظر على سبيل المثال: مكاوي، د. عبد الغفار، جذور الاستبداد ... قراءة في ادب قديم، سلسلة عالم المعرفة (192)، الكويت المجلس الوطني للثقافة والفنون.

5- الغرباوي، ماجد، اشكاليات التجديد، سلسلة كتاب قضايا اسلامية معاصرة ، 2001 - ، بيروت، دار الهادي، ص 153.

6-  جوزيف دوميسر عن  المصدر نفسه.

7- الدكالي، محمد، تأملات فلسفية في ثنايا العنف، مصدر سابق.

8- شريعتي، د. علي، اسلام شناسي (جامعة مشهد)، (بالفارسية)، ج1، ص 26.

9- قال « معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام »، الذي يحظى بوزن كبير على الساحة الدولية، ان الانفاق العسكري العالمي قفز 11 في المائة عام 2003 نتيجة زيادة هائلة سببها الحرب التي تشنها الولايات المتحدة على الارهاب.

وقال المعهد ان انفاق الولايات المتحدة يشكل نحو نصف اجمالي الانفاق العسكري البالغ 956 مليار دولار والذي زاد 18 في المائة بالاسعار السائدة عامي 2002 و2003.

وأضاف في تقريره السنوي لعام 2003: ان الحرب التي قادتها الولايات المتحدة في العراق « لم تساعد الديمقراطية في العالم العربي، بل أتاحت جبهات وحوافز للارهاب وهو العامل الذي فاق أي أثر رادع». وزاد الانفاق العسكري الاميركي بسبب مبدأ الضربات الوقائية الذي يتبعه الرئيس جورج بوش ردا على هجمات 11 سبتمبر (ايلول) التي اتهم تنظيم «القاعدة» بارتكابها.

واقترح البيت الابيض زيادة مطردة في الانفاق العسكري على مدى الخمس سنوات القادمة ليصل الى 487.8 مليار دولار ابتداء بزيادة سبعة في المائة في السنة المالية 2005 .

ولكن مع تضخم عجز الميزانية الاتحادية، فإن هناك ضغوطا لخفض الانفاق العسكري. ويعادل هذا الانفاق، من الدول الغنية التي تشكل 16 في المائة من سكان العالم، ثلاثة أرباع اجمالي الانفاق العسكري العالمي. وتفوق الميزانية العسكرية لهذه الدول الدين الخارجي للدول الفقيرة مجتمعة وعشرة أمثال ما يجري انفاقه على المساعدات. انظر جريدة الشرق الاوسط اللندنية الصادرة يوم 10/6/2004.

10- كما حدث بالنسبة الى رئيس وزراء اسبانيا خوسيه ماريا اثنار، الذي خسر الانتخابات عندما  طالت العمليات الارهابية مدريد العاصمة قبيل التصويت، واسفرت عن قتل 200 شخص وجرح 1400 فجاءت النتيجة لصالح الحزب الاشتراكي ضد الحزب الشعبي.

11 - الحاج، عزيز، انما هم باسم الله يقتتلون، مقال منشور في موقع ايلاف الالكتروني، يوم، 3/5/2006.

http://www.alhadhariya.net/dataarch/thqafaumajtma/index248.htm

 

أَغدو وأنا المُتَيمُ ... شفقاً

يَتَوهجُ فوقَ شَفَتَيكِ

 *** 

يَتهادى حُلماً / ماجد الغرباوي 

نافرةً هوتْ زنابقُ البحرِ

 توقاً الى رَعشةِ اندهاشٍ

سَرَقَتها آلهةُ النارِ

فَطافَتْ بها سبعةً ..

 تَتَهجد ...

تُرتّـلُ قداساً مكتومةً أنفاسهُ

وتَطوفُ حولَ مَدارٍ

 مشدودٍ لذلك الفجر

لأولَ يومٍ تَمايلتْ فيه الريحُ

تُشاكسُ دَمدَمات المَطر

وتُدندنُ أغنياتٍ مهمَلةً

لا تُداعبُ زَغبَ العَصافير

***

أَغدو وأنا المُتَيمُ ... شفقاً

يَتَوهجُ فوقَ شَفَتَيكِ

حينما يُغازلُ دفؤكِ لهاثَ أنفاسي

فَتُراودُ أَحلامي جَمراتُ شَوقٍ

وحَفنةُ آهاتٍ تُطاردُ ظِلاً

يُسابقُ البَنَفسَجَ عطرُهُ

***

ضاحكةً عيونُ المَها 

تُلامسُ شغافَ قلبٍ

يَسهو في مِحرابهِ

يتبتلُ ساعةً وأخرى

يَعكفُ ..

يُرتّلُ آياتٍ ..

 مرَ بِها طيفُكِ ساعةَ سحرٍ

فظلّتْ مَركونَةً في زوايا ذكرياتٍ

وبقايا أُمنياتٍ تَسربلتْ

حُزناً سَرمدياً

جادَ به تَموز

فما عادَ لنا فرحٌ

والموتُ يَنشرُ راياتَهُ السود

فوقَ سحابات بلدٍ خانتْ به

نفوسٌ أدمنتْ الغدر

 ***

ماجد الغرباوي

17 - 7 -2016

لم يكن العنف، كما هي مسيرة التاريخ، وليد الساعة او نتاج ظروف طارئة او موجة عارمة يرتقب تفتتها. بل ساد العنف علاقة الانسان باخيه الانسان منذ فجر التاريخ، عندما تجرأ قابيل ابن آدم على قتل اخيه هابيل حسدا لمجرد انه كان اوفر حظا في قبول قربانه، فقد جاء في الذكر الحكيم ملخصا لتلك الحادثة التاريخية: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق اذ قربا قربانا فتقبل من احدهما ولم يتقبل من الاخر، قال لا قتلنك قال انما يتقبل الله من المتقين، لان بسطت الي يدك لتقتلني ما انا بباسط يدي اليك لاقتلك، اني اخاف الله رب العالمين، اني اريد ان تبوأ باثمي واثمك فتكون من اصحاب النار وذلك جزاء الظالمين، فطوعت له نفسه قتل اخيه فقتله فاصبح من الخاسرين)(1). ومنذ ذلك التاريخ ظل الانسان يمارس العنف بابشع صوره وكأنها ارادة الله تعالى: (وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين)(2).

وايضا لم يختص العنف بعصر او زمان دون آخر بل ظل ملازما للانسان طوال حياته، يؤثر فيه ويتأثر به، حتى قيل يولد الانسان وهو يحمل جرثومة العنف بين جنبيه، يفكر دائما باللجوء للقوة والبطش بغية تطويع الاخر واضطهاده واستغلاله، فضلا عن الارتكاز اليه في الدفاع عن النفس وتحقيق اهدافه، وتوظيفه لمواجهة الاخطار الخارجية وتسوية الخصومات الداخلية. والعنف يغور عميقا في الطبيعة البشرية، يخالطها ويتلبس بها ويسكنها. يقول فرويد في كتاب قلق الحضارة خلال وصفه للانسان ومدى علاقته بالعنف: (ليس الإنسان ذلك الكائن الهادئ والمسالم ذو القلب المتعطش للحب، والذي يقال عنه إنه يدافع عن نفسه إذا ما هوجم؛ إنه على العكس من ذلك، كائن يختزل في أعماق ذاته قدرا من العدوانية. فالإنسان هو بالفعل ميـّال إلى إشباع حاجاته العدوانية على حساب بني جنسه، واستغلال عمله دون تعويض، واستعماله جنسيا دون رضى منه، والاستحواذ على كل ما يملكه الآخر، وإهانته، وتعذيبه، وتقتيله كقاعدة عامة. فعدوانية الإنسان الشرسة قائمة، إما تنتظر إثارة تأتيها من الخارج، و إما أنها تندرج في الوصول إلى هدف يكون من الممكن الوصول إليه بأساليب غير عنيفة. فكلما ضعفت القوة الأخلاقية التي تحد من هذه العدوانية وتحدها، صارت الظروف مواتية لكي تظهر هذه العدوانية بشكل تلقائي، وتكشف أن وراء الإنسان حيوان مفترس لا يقيم أي اعتبار لبني جنسه. فكل من استعادت ذاكرته الفواجع التي واكبت نزوح الشعوب أو غزوات جنكيز خان وقبائل المغول وحروب تيمور لنك أو تلك التي تسبب فيها استيلاء تقاة الصليبيين على القدس، دون أن ننسى فواجع الحرب الأخيرة (1914- 1918) ينحني احتراما أمام تصورنا هذا ويعترف بصحته) (3).

ولما تشكلت المجتمعات البشرية كان العنف سيد الموقف في ترويض الناس واخضاعهم لسلطة رئيس القبيلة او المجموعة، وأداة ماضية للاضطهاد والبطش، او لشن هجوم عدواني او صد آخر مماثل، حتى اذا ظهرت معالم الدولة السياسة او الكيان السياسي عاد العنف الاساس في تطبيق القانون وأداة الحاكم المستبد في قمع المعارضة والتفرد بالسلطة. وليس الجانب الاخر من الحضارات سوى صفحة سوداء من الظلم والعدوان والاضطهاد وممارسة العنف بشتى اشكاله. ومن يراجع تاريخ الحضارات يفاجأ بهول المأساة التي مرت بها الانسانية من جراء العنف والتعسف الاستبدادي، فالحضارات السومرية والبابلية والفرعونية وغيرها لم تشيد الا على جماجم المستضعفين من ابناء البشرية، رغم تستر بعض الباحثين على هذه الحقيقة، واصرارهم على طمس الجانب الاخر من تاريخ الحضارات(4)، ذلك التاريخ الذي يحكي قصة معاناة الانسان في ظل العنف والاستبداد، وفداحة الخسائر التي قدمها على هذا الطريق(5).

ولما يبصر الانسان الحياة حتى وجد نفسه مضطهدا مقهورا تحاصره اكثر من سلطة، تقمعه وتضطهده وتقتل فيه كل بادرة ابداع وتألق، وظل الانسان في رحلة شاقة اسيرا تتقاذفه اهواء الطواغيت وتسيره ارادة السلاطين، ولم ير النور الا اذا تداركته يد الرحمة وعاش في ظل سلطة تعي دوره وتحترم مكانته، وتخطط باستمرار لانتشاله من واقعه التعيس، وهي حالات نادرة، لم تستطل حتى تغتالها يد الغطرسة، وتطيح بها نزوات العنف والاستبداد، او تستغلها بعض النفوس الضعيفة باسم الدين، فيعود الانسان ادراجه ليكابد مرارة الحياة من جديد(6). وكأن الحياة مشاهد متواصلة من العنف والعنف المضاد، اذ (ليست هناك لحظة واحدة لا يفترس فيها كائن حي من طرف كائن آخر. وفي أعلى سلم الكائنات الحية يوجد الإنسان الذي لا يفلت شيء من قبضة يده المخربة. فهو يقتل لكي يتغذى، ويقتل لكي يكتسي، ويقتل لكي يتظاهر، ويقتل لكي يتعلم، ويقتل لكي يدافع عن نفسه، ويقتل لكي يتسلى، و يقتل من أجل القتل. هل يتوقف هذا القانون (قانون القتل) عند الإنسان، أي قبل الإيقاع بالإنسان؟ طبعا، لا.

فمن هذا الكائن الذي يستطيع القضاء على هذا الذي يقضي على الكائنات جميعا (الإنسان)؟ إنه الإنسان المكلف بذبح الإنسان.

لكن كيف يستطيع الإنسان أن ينفذ هذا القانون، قانون القتل، وهو كائن أخلاقي متسامح، وهو الذي ولد من أجل أن يحب، وهو الذي يبكي الآخرين كما يبكي على نفسه، والذي يجد متعة في البكاء، والذي يخترع حكايات وتخيلات لكي يبكي، وهو الكائن الذي قيل له إنه سيحاسب على آخر قطرة دم أراقها ظلما؟. إنها الحرب، إنما هي الحرب التي ستقوم بتنفيذ هذا القرار)(7).

اذن لم تكن حادثة ابني آدم قضية تاريخية عابرة يذكرها القرآن للتسلية او لمجرد انها قصة تاريخية او سردا لمسيرة الانسان على الارض، وانما تعكس الحادثة طبيعة العلاقات التي مر بها الانسان خلال مراحل حياته، التي بدأها بلجوء قابيل الى العنف تعبيرا عن غضبه وحقده على اقرب الناس اليه، وهو اخوه، تاركا اساليب اخرى يمكن التعبير بها عن مشاعره المتأزمة وشعوره بالغبن واليأس والاحباط لعدم قبول عمله وقربانه كما في التعبير القرآني. بينما لم يلجأ هابيل الى نفس الاسلوب ورفض الارتكاز الى العنف مطلقا. ورغم ندم قابيل الا ان التاريخ البشري بدأ عنيفا في اول خطواته، ولم تسوده يد الرحمة الا قليلا منذ ذلك الحين. بل (ان قتل هابيل بيد قابيل تحول كبير وانعطاف حاد في مسار التاريخ، باعتبارها اكبر حادثة تمر على الانسان، وتقدم اعمق تفسير علمي واجتماعي. كما انها تمثل نهاية المرحلة الاولى، اي نهاية النظام الاخوي، والمساواة في الانتاج والصيد (هابيل)، وظهور الانتاج الزراعي والملكية الخاصة وتشكـّل اول مجتمع طبقي. وهي اول نظام تسوده التفرقة والاستغلال وعبادة المال وعدم الايمان، وبداية الخصومة والتنافس والاعتداء والعبودية وقتل الاخ (قابيل)·

ثم ان بقاء قابيل، بعد ذهاب هابيل، حقيقة موضوعية تاريخية. اذ صار الاخير يتحكم بالدين والحياة والاقتصاد والحكم والمستقبل . ... وقد ذهب هابيل من غير ذرية، بينما انحدرت جميع البشرية من نسل قابيل)(8). فحادثة ابني آدم تمثل في رأي شريعتي نهاية مرحلة ودخول في مرحلة جديدة. وهذا يعني ان قراءة الحادثة من زاوية اخرى يفضي الى نتيجة تكرس العنف سببا للانعطاف التاريخي الذي مرت به البشرية، بعد ان قضى العنف على مرحلة المساواة والاخوة وانتقل بالانسان الى مرحلة الانتاج. أي ان العنف كان السبب وراء التحوّل التاريخي للانسان في تلك المرحلة بالذات. ورغم عدم وجود ادلة كافية تشهد لتلك الحقبة التاريخية، لكننا لسنا بصدد مناقشة آراء شريعتي من هذه الجهة، وان ما يهم البحث هو اكتشاف تأثيرات العنف على حياة الانسان. فطالما قاد العنف مسيرة شعوب ومجتمعات باتجاهات لم تخطط لها، او لم تتأهل لها لولا العنف الذي فرض المرحلة التاريخية عليها. ومثالها الواضح الحروب والصراعات التي اجتاحت بعض البلدان وزجت بها في إتون التخلف الحضاري والاقتصادي، وعادت بها الى الوراء عشرات السنين لتعاني ألم المكابدة والكدح من جديد.

ثم الغريب ان تكون حادثة القتل (قتل قابيل لهابيل) اول خطوة في تاريخ الانسان فرضت نفسها على الكتب المقدسة حتى خلدت بخلودها. وربما الحكمة اقتضت ان تبقى جرس انذار على مخاطر العنف، وقدرته الكبيرة على تحويل مسار الاحداث، والتحذير ايضا من مفاجأته التي تغزو الانسان على حين غرة، ما لم تتداركه يد الرحمة ويؤوب الانسان الى رشده قبل ارتكابه عملا يكلفه حياته احيانا. اذ عندما يستولي العنف على مشاعر الانسان يفقده صوابه فلا يتردد في ارتكاب أي عمل، ومع أي شخص كان، حتى لو كان هابيل اخاه، الذي لم يجد غيره نديما وعونا على الحياة، وانيسه الذي كان يحطم به سكون الوحدة ويدفع به طود الوحشة. لكنه العنف الذي يصدر عن الانسان نفسه وبارادته مع قدرته على التحكم به، حتى سولت له نفسه قتل اخيه، ربما لقضية تافهة لا تستحق هذا القدر من العنف والحماقة، لولا الحسابات الخاطئة للانسان عندما يغادر ساحة العقل ويترنح في ميدان الهوى والنفس والمصالح الشخصية والكبرياء والنرجسية المفرطة و...، التي تبرر له الاستهانة بحياة ومقدرات وكرامة الآخرين. وتارة يصل التعنت بالارء والقيم الشخصية حدا يتمنى معه صاحبه سحق الناس جميعا من اجل الحفاظ على مصالحه ورد اعتباره، او تشبثا برأيه انطلاقا من ايمانه بصحته ونهائيته. انها مأساة الانسان الذي يرتكب العنف ويعاني منه في وقت واحد.

ولا اعتقد ثمة شخص او جهة لا تقدر خطورة العنف وتداعياته على الفرد والجماعة لكنها تمارس العنف بارادتها وفق تصورات غالبا ما تكون خاطئة لا تحظى برصيد كاف ٍ من الصحة والعقلانية التي تؤهلها لان تكون قاعدة لممارسة العنف ضد الآخر، مهما كان الآخر في توجهاته واتجاهاته الفكرية والعقيدية.

ثمة ملاحظة مستوحاة من الآية الكريمة، التي لا تنقضي دلالاتها لغزارتها وثرائها، وهي ان تسوية العنف والعودة الى مائدة السلام تتوقف على جميع الاطراف، وما لم يستجب الجميع لمبادرات الاسلام ويتخلوا عقيدة وفكرا وثقافة وسلوكا عن العنف، فان الاخير سيبقى قنبلة موقوتة تتفجر متى استوفت شروطها، لذا وقع العنف وقتل قابيل هابيل رغم ان الاخير لم يشارك اخاه اسلوبه العنيف في تسوية القضايا (لان بسطت الي يدك لتقتلني ما انا بباسط يدي اليك لاقتلك، اني اخاف الله رب العالمين، اني اريد ان تبوأ باثمي واثمك فتكون من اصحاب النار وذلك جزاء الظالمين). لكن رغم ذلك وقع القتل وصدر العنف من قابيل، لانه كان كامنا في لا وعيه، وكان يمثل بالنسبة له عقلا وثقافة واستراتيجية. لذا لا يصار الى مجتمع مسالم ما لم يتخل عن العنف بكل صوره واشكاله، والا فالخطر يبقى كامنا فيه يبحث عن مناسبة ليطفو على السطح.

وايضا يمكن استنطاق الحادث التاريخي بشكل آخر، كما جاء في الآية الكريمة، فنشاهد ان الاحباط الذي اصاب قابيل بسبب عدم قبول قربانه كان السبب وراء قتله لاخيه، وليس الغضب والثورة الا تجسيدا لحالة اليأس المتفاقمة في نفسه. مما يعني ان اليأس والاحباط سيكون حاضرا في تفسير كثير من مظاهر العنف في البلاد الاسلامية. وليس بالضرورة اليأس من الماديات، وانما اليأس السياسي او اليأس النفسي عندما يشعر الفرد بالعجز عن الاتيان بعمل صالح يقربه من الله تعالى ويخلصه من النار فيضطر الى ارتكاب عمل ارهابي بقصد تحقيق مرضاته تعالى. وهو فهم خاطئ، وتجوز على الله تعالى، فلا يعرف قيمة الاعمال الا الله، وربما عمل صغير يدخل الانسان الجنة، بينما اعمال كثيرة لا تتوفر فيها شروط النية الصالحة لا تشفع للانسان في الآخرة. وهو موضوع آخر سنتناوله في فصول لاحقة.

وما زال العنف باشكاله المختلة تحديا قاهرا لأجندة اي مشروع طموح يروم المجتمع تطبيقه عبر وسائل سلمية ترتكز الى منطق الحوار الديمقراطي. والاخطر على ذلك المجتمع ومؤسساته السياسية عندما يتحول العنف الى ارهاب عدواني مسلح يطال كل شيء، فان درجة اخفاقه او نجاحه في مشروعه، ومدى قدرته على الصمود في مواجهة تلك التحديات، ستكون رهن ما تتركه العمليات الارهابية من تأثيرات سلبية. من هنا كان الفعل الارهابي وما يزال، التحدي الاخطر لكل مشروع على الاصعدة كافة. وبات الارهاب مفهوما مرعبا يثير القلق لدى الانظمة والشعوب على السواء بفعل مساحة الدمار التي تلحقها العمليات الارهابية بالانفس والممتلكات والمباني العامة. وقد رفع القلق والخوف من الارهاب درجة تأهب الاجهزة الامنية سيما في الدولة المستهدفة بالعمليات الارهابية، وصار يؤرق أعلى المستويات الحكومية والحزبية، وكلفت نفقات محاربة الارهاب كما تسمي ذلك الدول الكبرى مبالغ باهضة وزاد من نفقات ميزانية الامن والانفاق العسكري(9). وربما تسبب الارهاب في فقدان مناصب حكومية او استبعاد حزب وفوز اخر. فعندما استهدفت العمليات الارهابية بعض الدول اخفق قادتها السياسيون في تحقيق نصر في الانتخابات التي تلت العمليات بثلاثة ايام، حتى لم يشفع له ما يتمتع به حزبه من رصيد جماهيري كان من المفترض ان يؤهله بالفوز بها(10).

ومنذ اندلاع العمليات الارهابية اصبح الارهاب تهمة خطيرة تفضي الى عقوبات صارمة سياسية وقضائية وربما مقاطعة اقتصادية. ويكفي أن تتهم حركة سياسية أو دولة بالارهاب لان تصدر بحقها كثير من الاجراءات القانونية. لذا اخذت الحركات والاحزاب بل الدولة المتهمة بالارهاب تتشبث بكل الوسائل من اجل دفع تهمة الارهاب عنها، خشية ان تطالها عقوبات تفقد معها مصداقيتها ومكانتها، سيما اذ كان طرف الادعاء الدول الكبرى والدول الصناعية المتقدمة تكنولوجيا، أي الدول الغنية صاحبة القرارات والتأثير الحقيقي في المؤسسة الدولية المعنية بالامر. والاكثر من هذا اصبح الارهاب مبررا للقيام بعمليات عسكرية ضد بعض الدول أو الحركات السياسية، كما صار مسوغا لكثير من الاجراءات والقوانين الدولية والمحلية ضد شعوب كاملة، كاجراءات بعض مطارات ومؤسسات الدول الغربية، ضد المسلمين خاصة، لكثرة التهم التي حامت حولهم في مجال الارهاب

والجدير بالذكر (إن التطرف والعنف باسم الدين ليسا منحصرين في الدين الإسلامي وحده؛ ومع أن البوذية أقل الأديان ذكرا للعنف، فقد وجدت في التسعينات الماضية منظمة بوذية إرهابية في اليابان استخدمت الغاز في مترو طوكيو، مبررة ذلك باسم مكافحة الخروج على البوذية والعودة للبوذية "الأصلية." كما أن العديد من حاخامات إسرائيل مجدوا اغتيال رابين وبرروه توراتيا. أما بعض القسس اللوثريين والبروتستانتيين المتطرفين في أمريكا، فقد أنشئوا ميليشيات صغيرة تهاجم المراكز الطبية التي تمارس الإجهاض، ومنهم من هاجموا نوادي خاصة بالمثليين جنسيا؛ وهؤلاء المتطرفون يدينون المسيحيين اللبراليين كما يهاجمون المسيحيين المحافظين باعتبار أن أولئك انتهازيون وهؤلاء جبناء! وحركات السيخ تطورت في التسعينيات لترفع شعارات دينية مع شعار الانفصال، فمارست سلسلة عمليات دموية ضد الهندوس والدولة الهندية)(11)

***

ماجد الغرباوي – باحث بالفكر الديني

......................

الهوامش والمصادر:

* تحديات العنف، ماجد الغرباوي، العارف للمطبوعات، بيروت لبنان والحضارة للأبحاث، بغداد – العراق، ط2008، 29 – 38.

1- سورة المائدة، الآيات: 27 – 30.

2- سورة البقرة، الآية: 36.

3- الدكالي، محمد، تأملات فلسفية في ثنايا العنف، مجلة فكر ونقد،مصدر سابق.

4- للاطلاع على بعض مشاهد الاستبداد في الحضارات القديمة، انظر على سبيل المثال: مكاوي، د. عبد الغفار، جذور الاستبداد ... قراءة في ادب قديم، سلسلة عالم المعرفة (192)، الكويت المجلس الوطني للثقافة والفنون.

5- الغرباوي، ماجد، اشكاليات التجديد، سلسلة كتاب قضايا اسلامية معاصرة ، 2001 - ، بيروت، دار الهادي، ص 153.

6- جوزيف دوميسر عن المصدر نفسه.

7- الدكالي، محمد، تأملات فلسفية في ثنايا العنف، مصدر سابق.

8- شريعتي، د. علي، اسلام شناسي (جامعة مشهد)، (بالفارسية)، ج1، ص 26.

9- قال « معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام »، الذي يحظى بوزن كبير على الساحة الدولية، ان الانفاق العسكري العالمي قفز 11 في المائة عام 2003 نتيجة زيادة هائلة سببها الحرب التي تشنها الولايات المتحدة على الارهاب.

وقال المعهد ان انفاق الولايات المتحدة يشكل نحو نصف اجمالي الانفاق العسكري البالغ 956 مليار دولار والذي زاد 18 في المائة بالاسعار السائدة عامي 2002 و2003.

وأضاف في تقريره السنوي لعام 2003: ان الحرب التي قادتها الولايات المتحدة في العراق « لم تساعد الديمقراطية في العالم العربي، بل أتاحت جبهات وحوافز للارهاب وهو العامل الذي فاق أي أثر رادع». وزاد الانفاق العسكري الاميركي بسبب مبدأ الضربات الوقائية الذي يتبعه الرئيس جورج بوش ردا على هجمات 11 سبتمبر (ايلول) التي اتهم تنظيم «القاعدة» بارتكابها.

واقترح البيت الابيض زيادة مطردة في الانفاق العسكري على مدى الخمس سنوات القادمة ليصل الى 487.8 مليار دولار ابتداء بزيادة سبعة في المائة في السنة المالية 2005 .

ولكن مع تضخم عجز الميزانية الاتحادية، فإن هناك ضغوطا لخفض الانفاق العسكري. ويعادل هذا الانفاق، من الدول الغنية التي تشكل 16 في المائة من سكان العالم، ثلاثة أرباع اجمالي الانفاق العسكري العالمي. وتفوق الميزانية العسكرية لهذه الدول الدين الخارجي للدول الفقيرة مجتمعة وعشرة أمثال ما يجري انفاقه على المساعدات. انظر جريدة الشرق الاوسط اللندنية الصادرة يوم 10/6/2004.

10- كما حدث بالنسبة الى رئيس وزراء اسبانيا خوسيه ماريا اثنار، الذي خسر الانتخابات عندما طالت العمليات الارهابية مدريد العاصمة قبيل التصويت، واسفرت عن قتل 200 شخص وجرح 1400 فجاءت النتيجة لصالح الحزب الاشتراكي ضد الحزب الشعبي.

11 - الحاج، عزيز، انما هم باسم الله يقتتلون، مقال منشور في موقع ايلاف الالكتروني، يوم، 3/5/2006.

http://www.alhadhariya.net/dataarch/thqafaumajtma/index248.htm

 

منذ مطلع القصيدة تفاجؤنا الشاعرة ميادة ابو شنب في نصها الجديد (استِعارةٌ مَوسِميّة) باسلوب رمزي، يدعو للتأمل في سياقات النص بحثا عن مآلاته ضمن المنحى الفكري والثقافي لها. فهي شاعرة رهيفة ترتكز في كتاباتها الى خلفية فكرية وثقافية، يؤكد ذلك ديوانها الأول الصادر سنة 2002م بعنوان: "بريد السنونون" إذ تجد الشاعرة تعمل في أكثر نصوصها على ثيمتين: "حرية المرأة". و"تداعيات العلاقة بالرجل المتخلف" او (الصحراوي) كما تسميه، حيث لازمها خوف مرير من رجل لا يفهم المرأة الانسان، ينهش كرامتها وانسانيتها .. يتشبث بجسدها .. يتحكم بارادتها .. يصادر حريتها في التعبير عن ذاتها وتطلعاتها .. ذلك الانسان الذي يرتاب في سلوك المرأة مهما كان حضاريا، لذا كتبت على الغلاف الخلفي للديوان تعبيرا عن هموم جميع النساء، في نضالهن ضد سلطة الرجل الدكتاتور:

أخافك خريفا مراهقا

وأنا ورقة شجر

أخافك بردا وثلوجا

وأنا تائهة

يغرقني رذاذ المطر

وبكل حواسي الأنوثية

أخافك رجلا صحراويا

يدعي التحضر

 في نصها الجديد، (استِعارةٌ مَوسِميّة) ظلت الشاعرة وفية لمنهجها في الكتابة الواعية لأهدافها فعالجت في نصها الجديد موضوع الغربة والاغتراب والبعد عن الأحبة والأوطان، واشكالية العلاقة العاطفية ضمن اطار يرواح بين التفاؤل واليأس. الا انها في هذا النص اختلفت في اسلوبها الكتابي عندما عمدت لتوظيف الرمز كآلية للتعبير عن همومها، فنجحت في التقاط مفاصل مشهد عصي على الوصف، من خلال اسلوب بديع في كتابة النص، فعبّرت رمزيا عن مشاعرها، باستعارات وتشبيهات راقية، جسّدت خوفها وقلقها، فكانت مفاجأة صادمة عندما وعت ان ميسانها (الحبيب / الوطن) .. الحب المستعر في روحها، ينسل او يتلاشى، في غفلة من الزمن، تاركا احلامها في مهب لحن (ذؤابة) ضوء لقيط، تأبى الروح ان تأنس به او تتفاعل معه، بل تشعر معه بغربة حقيقية، وتراجع شعوري لا ارادي:

يتسلّلُ من ظِلِّ قوسِ النّصرِ مَيْساني،

ليُؤنسَني بلحنِ الضّوءِ اللّقيط.

كأنها تريد في هذا المقطع ان تضع ميسانها / الحبيب / الوطن أمام معادلة قاسية، اما انت او البديل الطبيعي لغيابك ضوء لقيط لا تخفى خصائصه، لهذا استخدمت أدوات التعريف في اشارة بليغة تعني ذلك الضد، الآخر / المراوغ / المخادع المعهود. لتؤكد فداحة الخسارة، لذا راحت تعاتبه برقة وعفوية، تصوّر مشهدا وجدانيا، عاطفيا، تمر به كل أنثى حينما تعيش سعادة حالمة ثم تنهار في لحظة غياب يعكس واقع وحقيقة مرّة، فتتوسل اليه بانبهارها وضعفها، وتكتب برقة تؤجج مشاعرنا، فنتفاعل مع محنتها.. حضور رمزي او مؤقت، وغيباب واقعي، معادلة قاهرة، تبعثر الروح في عنفوانها، فلا تجد الشاعرة سوى الكلمات:

أتَفقدُني خِلسةً في خريفِ خوائِكَ،

رعشةَ رهامٍ ...

تَميدُ في أنفاسِ المَغيب.

فهي تعيشه لحظة سحرية، لا يتوارى عن عينها ووجدانها، مهما كان البعد، ومهما بعدت الشقة، لذا رغم اليأس تعود الشاعرة لتعزف سيمفونية الآمل، ما يعكس قوة تعلقها بميسانها / بحبيبها، وعمق العلاقة الروحية والعاطفية، فاختارت اسلوبا رمزيا بارعا في التعبير عن امنياتها المشوبة باليأس، ضمن قدسية الامكنية والازمنة التي احتضنت حبهما:

أستعيرُ حواسَكَ الموسِميّة،

ألامسُني ... بأناملكَ الطّيفِ

في فَجْرِ أنوثَةِ السّنابل.

انها ذكريات موجعة تقصّدت الشاعرة تسويقها برمزية باذخة، تعلم جيدا قوة ايقاعها في نفس الحبيب، وظلت تصعّد من نبرتها، لتعكس حالة الوجد التي ألهمت الشاعرة صوفية عفيفة، فوظّفت استعارات موفقة، للتعبير عن غليان الروح وذهولها، فهي تعي جيدا ان همس الحبيب ولثماته المستعرة بنار الشوق، كفيلة بتسكين جراح الغربة، لذا لا تتردد ان يعلو صوتها:

ألثِمُني ... بجمرِ شفةٍ تَسْكنُ حُلمَ المَوقدِ.

أهمسُ لي سيمفونيةَ البونِ

في مدِّها اللّجلاجِ ...

وأعاتبُ الوترَ

إنْ حادَ عن جَزْرِ الوَميض.

ورغم المحنة، محنة الفراق، تتشبث الشاعرة بكل وسيلة بما فيها السحر، ومصابيح الجن، وتسعيد كل تجارب الحب الطويلة، رغم تجهّم الليل ومحنته، فقد تبدو ناجحة وتحقق بعض امنياتها، لكن النتيجة التي اعترفت بها في آخر المطاف قاسية، حيث لا دواء سوى الصبر لقهر النزف المختال في مدار الجرح كما تقول:

سأفركُ كُلَّ مصَابيح الجنّ المنسِيّة

من سَالفِ الحبِّ

وغابرِ النّشوةِ والأنِين

مع تَغلغُلِ اللّيلِ الأيهَمِ في عهدِ الوعودِ،

فَلن يَقهرَ النّزفَ المختالَ في مَدارِ الجِراح

إلا تَمائمَ الصّبرِ على هَوْدجِ السّنين.

ايقاع العنوان

منذ الوهلة الأولى تنساب من خلال عنوان القصيدة (استعارة موسمية) موسيقا تبعث على الترقب، حيث استطاعت الشاعرة من خلال كلمتين بليغتين ان ترسم مشهدا يختزل قصيدة كاملة. فـ "الاستعارة" و"موسومية" يعزفان على ذات اللحن .. تعبيرا آخر عن التوجّس المضاعف، ولهما قوة جذب تؤسر القارئ، وتضطره لمتابعة الشاعرة وهي تعزف الحانها من خلال حوار ينطلق من اعماق النفس المشدودة لحيثيات المكان.

على بساطِي الخَمرِي ... يَختالُ

ذاكَ الضّياعُ المَنفِي.

يدخلُ جنّةَ ... ناري،

ينفخُ شهوةَ التّشردِ في لهيبِها الأسطوري،

بنية النص بلاغيا

اولا: الضياع والغربة والخوف من خسارة الحبيب وتبدد الحلم كان المحور الأساس لبنية النص حيث عبّرت الشاعرة عن هذه المفاهيم من خلال اصطفافات بلاغية لا تخلو من تشبيهات واستعارات، منها:

- الضّياعُ المَنفِي

- التّشردِ

- (تنزح هالة شمالك

إلى أقاليم النسيان)

- عهدِ الوعودِ

- النّزفَ المختالَ

كما ان الترادف كان سمة النص، حيث استخدمت الشاعرة كلمات تنتمي لذات الحقل الدلالي بمستويات متفاوتة فراحت ترسم صورا شعرية تتألق في فضاء القصيدة، وتبعث على التأمل، باستغراق وذهول يتوالد باستمرار وانت تصغي لموسيقا النص .

ثانيا: بدأت الشاعرة نصها بأفعال مضارعة كي تمنح المشهد الشعري ديناميكية وحيوية واستمراية تضع القارئ في مدارتاته، وتشده لمتابعته، مثلا:

- (يَختالُ ذاكَ الضّياعُ المَنفِي)، .. لاحظ كيف تصوّر الضياع في حركته، وطبيعة تحركه، فرغم كونه ضياعا منفيا الا انه يتباهى منتصرا، بل راح يصعّر خده عندما منحته الشاعرة حيوية أقوى بوصفه مختالا. انه ضياع مربك يختزل اليأس وشيئا من أمل متزلزل، لذا راح يختال ويتباهي معلنا انتصاره، في لحظة غياب الحبيب.

- (يدخلُ جنّةَ ... ناري،)، ..استخدام آخر للفعل المضارع، يجسّد حيوية "دخول" يلهب مشاعر القارئ، خاصة وان الشاعرة أتت بتضاد صاعق، رغم إلفته في النصوص الشعرية بل واستهلاكه، الا انه بدى حيويا فاعلا ضمن اشتغالات النص ولغته العامرة ..

كيف تكون النار جنة؟ انه انزياح بديع، صوّر حجم المحنة النفسية والألم، فكانت النار جنة مقارنة بجحيم الفراق والبعد والشوق الملتهب.

(ينفخُ شهوةَ التّشردِ في لهيبِها الأسطوري)، .. في هذا المقطع كان للفعل المضارع دوره ايضا في اضفاء حيوية على المشهد الشعري، من خلال استمرارية النفخ .. فهو لا يتوقف، نفخ يؤجج الشرود والذهول، تشرّد عصي على الوصف .. انه اسطوري.

فأي لهيب في أعماق الشاعرة حتى تعذّر عليها وصفه، ولم تجد له ما يناسبه من الصفات سوى الاسطورية؟ .. انها كلمة تضع السامع في مدارات قصية، هكذا شاءت الشاعرة ان تصوّر لهفتها.

(يتسلّلُ من ظِلِّ قوسِ النّصرِ مَيْساني،)، وهذا فعل رابع، ضمن مجموعة الأفعال المضارعة في القصيدة، حيث ارادت الشاعرة التدرج في تسلل نيسانها / حبيبها، كي تُبقى (ولو أثرا منه) لا شعوريا. فهي تصوّر مشهدا في غاية الألم، تصف فيه كيف يتسلل حبيبها، بعد حضور عقدت عليه آمالها، ثم يذوي ويبتعد بشكل متدرج.

ثالثا: رغم ترميز النص وثرائه الدلالي، الا ان المنحى التأويلي فيه ضل متوازنا لا يتطلب جهدا تؤيليا كبيرا. وهذا ليس نقصا بل ضرورة فرضتها معمارية النص وميكانيكية اللغة. فمثلا من السهل على القارئ فهم السياقاتات اللغوية والبلاغية لعبارة: "قوس النصر" رغم ما تحمل في ثناياها من خزين تأويليي، إذ اتضح من استخدام قوس النصر، مكانة الحبيب، حتى كان هدفا للتنافس بما يتصف من خصائص وسمات تدعو لذلك. فهنا لا بد من التأويل لكنه ليس منغلقا ولا صعبا ولا عصيا على الفهم.

ورغم ان عبارة: "فَجْرِ أنوثَةِ السّنابل"، تستفز الشعور التأويلي للقارئِ، لكن بقليل من التأمل في دلالات اللغة وسياقات النص تفهم، ان مشاعر الأنثى في أول بلوغها مرهفة، تفعل بها اللمسات الرومانسية فعالها، وتضعها في مدار خيال خصب.

رابعا: نقطة اخيرة، ان كثافة الترميز برأيي اقتضتها صعوبة المشهد، مشهد غياب الحبيب / الأحبة / الوطن في ظل غربة قاتلة، وللضرورات أحكامها، وليس هناك أي خلل بنائي بسبب الكثافة الرمزية.

يبقى للنقاد من السيدات والسادة رأيهم النقدي المحترم، وهذه مجرد وجهة نظر وملاحطات اولية لنص باذخ في مشهده الشعري.

شكر وتقدير للجهد الادبي الباذخ الذي صاغ النص، حتى فرض نفسه علينا، فكانت هذه قراءة انطباعية أولية مغامرة. تحياتي للشاعرة الفاضلة الاستاذة ميادة ابو شنب التي نجحت في نصها تصوير الغربة والبعد عن الأحبة والأهل والأوطان، وهي حالة لا يشعر بها سوى مغترب أكتوى بنار الغربة.

***

ماجد الغرباوي 

 

 

خرجتُ مسرعاً بعد لقاء قصيرٍ، تداولتُ فيه مع صديقٍ حميمٍ حديثاً ودياً، حتى إذا خطوت عدة خطوات تبارت سهامٌ تقذفُني، فلما أخطأتني كدتُ أفقد صوابي .. تشبّثتُ بأهداب الليل أستجير بظلمته. ما هي إلا برهة حتى استقر سهم في قلبي، فتبددت أحلامي، واستسلم دمي، فرحت أتلمّس نبضي .. أتابعه كيف يعلو يعانق السماء ثم ينحني مع الأرض في دورانها .. تارة أرمقه أهيم برشاقته، وأخرى أُهادنه حينما يتحدى غروري. فمسّني طائف من الجن .. لم أستعذ منه إلا به، رحت أتوسّل إليه، لم يبال وتمادى يغور في أعماق قلبي .. قلبي الذي لم تخطفه السهام، يترنحُ الآن تحت وطأته، لم يكن طائشاً فطال سُهادي. فكرتُ أن أنتزعه لحظة، أتفقد جُرحي، وأمسح فوق روحي التي ترنّحت، تستغيث بعزيمتي الخاوية، فلم تستجب إرادتي.

تحركت أناملي تتلمس موضع السهم، أين استقر؟ .. هل سيتحكّم بنبضي أو يُمسك شراييني؟ .. هل سيستبيح أسراري ومشاعري؟ هل سأفقد صوابي وهو يعبث في أخاديده؟ قلبي الذي استوعب الناس جميعا، كيف تتمزق أنسجته، ويمتلئ سُحباً داكنة؟ ماذا لو جفاني وحطّم مشاعري؟. رحِت أُطيل النظر، أستعيد حياتي، ما إن طِفتُ فوق السحاب، أو أتخذت من البحر مركبا إلا وتدفّقت تتطاير شرراً، تُلاحق أنفاسي، وترهق لهاثي، فأتوارى أتدثّر بدثار الخيبة، ثم أفيق، أستيعد أنفاسي، أُيمم وجهي صوب ناصية القدر الأزلي، أرى الحياة مشهد بؤس، أو حطام ألم، لا يفقه لغتها سوى حكيم اعتزلها، أو عاشق هام في أرجائها. ليست الحياة أنا وأنت، هي قلبي حينما يصغي لآهات المتعبين، ويواصل رحلته من أجل المعذّبين .. الحياة عتمة حينما ينطفئ نور قلبي، قاحلة يغزوها المتسوّلون. كم أرهقنا أنفسنا بحثاً عن معنى يشدنا إليها، متى ندرك أنها وَهمٌ ما لم تفض قلوبنا حباً. كم أخاف على قلبي، أخاف على نبضه المتدفق حيوية .. ماذا سيفعل به ذلك السهم الذي باغتني؟

على غير هدى تحرّشت به، فشعرت بألم لذيذ، يراقص قلبي لتنساب نوباته المتعبة فوق أوردتي، تحمل أكداس آهات اللحظة الأخيرة، تلك اللحظة التي تحطّم فوقها غروري، فما عاد جميلا بما يكفي.

كيف أستجمع قواي لأسترد أنفاسي، وأستعيد أملي الذي تبخّر مع حرارة السهم؟ .. كيف أحتفظ بقلبي الذي تسكن إليه نجوم السماء .. أخذني الذهول حيث يشتهي فلم أعد أعرف سوى الصمت، مذهولاً تعصف بي الأوهام، فسمعت هاتفا يقول: (الصمت أبلغ من أي كلام)، فهدأت روحي، غير أن عيني لم تفارقه وهو يغور بعيداً في أحشائي، حتى إذا اختفى يأستُ مستسلماً، لولا بارقة حينما شَعرتُ به يَتَلبَسُني، ينسجُ من الفجر طيفاً ثملاً، وينثر الروح ياسميناً، ندىً فوق ذاكرتي. لا يشبه العشق .. لا يدانيه الحب .. عرفت كل ذلك عندما خانني قلبي وأفشى إليه بسرّي.

 ***

ماجد الغرباوي

4 - 10 - 2015

ثبت ان الدولة الاسلامية هي محور مشروع الحركات الاسلامية قاطبة، فهي حركات سياسية اكثر منها حركات دينية دعوية كما تعلن عن نفسها دائما. 

تبقى الاهداف السياسية سببا اساسا وراء تصاعد العنف من قبل الحركات الاسلامية المتطرفة، سواء صرّحت بذلك أم لا، لان (اقامة الدولة) بالنسبة لهم استراتيجية وليس تكتيكا او وسيلة كما توحي به بعض النصوص السياسية، وقد نظـّر للدولة الاسلامية جمع من المفكرين الحركيين من مختلف المذاهب الاسلامية. وكشاهد ننقل نصا صريحا من كتاب الحكومة الاسلامية، ينظّر فيه المودودي لمبررات قيام الدولة الاسلامية باعتباره كان الملهم لسيد قطب في متابعة التنظير لمشروع الدولة الدينية، يقول المودودي:

ان المطالبة بالحكومة الاسلامية والدستور الاسلامي تنبع من الشعور الاكيد بان المسلم اذا لم يتبع قانون الله، كان ادعاؤه الاسلام باطلا لا معنى له.

1- يقرر القرآن ان الله تعالى هو مالك الملك، ومن ثم فهو صاحب الحق في الحكم بداهة، كما يقرر ان تنفيذ اوامر احد غيره، او حكم احد سواه في ارضه وعلى خلقه، انما هو باطل وكفر مبين. والصواب ان يحكم الحاكم بقانون الله ويفصل في الامور بشريعة الخالق بوصفه خليفة لله ونائبا عنه في ارضه.

2- وبناء على هذا سلب الانسان حق التقنين لانه مخلوق ورعية، وعبد ومحكوم، ومهمته تتركز في اتباع القانون الذي سنه مالك الملك. وقد اباح الاسلام بالطبع مزاولة الانسان الاستنباط والاجتهاد وتفريعاتهما الفقهية، لكنه شرط ذلك بالا يخرج عن اطار حدود الله. كذلك اعطى المؤمنين حق التقنين فيما لم يرد فيه حكم صريح من الله ورسوله، على ان تراعي في التقنين روح الشريعة ومزاج الاسلام، لان سكوت الشارع عن اصدار حكمه في بعض المسائل يعني ان للمؤمنين الحق القانوني في سن احكامها وضوابطها. لكن الامر الاساس الذي لا غمة فيه ولا خفاء ان من يترك قانون الله ويؤمن بقانون آخر وضعه بنفسه او شرعه له غيره من البشر انما هو طاغوت باغ خارج عن طاعة الحق، وان من يبغ الحكم بهذا القانون الوضعي، ويعمل على تنفيذه فهو باغ عات عن امر ربه ايضا.

3- ان الحكومات الصحيحة العادلة في ارض الله هي التي تتأسس وتحكم بالقانون الذي بعثه الله على ايدي انبيائه واسمها الخلافة.

4- ان كل ما يصدر من اعمال من قبل آية حكومة تقوم اساسا على شرعة اخرى غير شرعة الله وقانونه الذي جاء به الانبياء من لدن رب الكون والهه باطل لا قيمة له ولا وزن، مهما اختلفت هذه الحكومات فيما بينها من تفاصيل في الشكل والنوع، وحكمها غير شرعي البتة، فاذا كان مالك الملك الحقيقي لم يعطها سلطانا، فانى لها ان تكون حكومات شرعية.

ان القرآن الكريم يرى كل ما تقوم به هذه الحكومات محض عدم لا وزن له ولا قيمة، وقد يقبل المؤمنون – واعني بهم رعايا الله الاوفياء – وجود هذه الحكومات باعتبارها امرا خارجا عن ارادتهم وقدرتهم، لكنهم لا يعترفون بها وسيلة حكم شرعية، وسلطة تفصل في امورهم وقضاياهم، اذ لا يحق لهم طاعة الخارجين على حاكمهم الاصلي (الله) او قبولهم حكما في مجريات حياتهم، ومن يفعل ذلك فقد خرج من زمرة المؤمنين الاوفياء مهما ادعى الاسلام والايمان1 .

ثم اعتبر سيد قطب وجود الدولة الاسلامية شرطا اساسا لتطبيق الشريعة بعد قيام المجتمع او الامة الاسلامية، على طبق المراحل التاريخية للدعوة الاسلامية، لان قطب يفترض التطابق التام بين مرحلة البعثة والراهن الاسلامي، واراد استنساخ نفس الخطوات الدعوية بعد تجريدها من تاريخيتها والقفز على ظروفها. لذا طالب الجماعة المسلمة باعتزال المجتمع وهجرته وعدم الالتحام به تشبها بما حدث للصحابة عندما اضطروا للهجرة بسبب الظروف القاسية التي مرت بها الدعوة الاسلامية واتباعها. يقول سيد قطب في بيان الخطوات الدعوية: (فكيف تبدأ عملية البعث؟ انه لا بد من طليعة تعزم هذه العزمة، وتمضي في الطريق. تمضي في خضم الجاهلية الضاربة الاطناب في ارجاء الارض جميعا. تمضي وهي تزول نوعا من العزلة من جانب، نوعا من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة)2 . ويضيف: (ان اولى الخطوات في طريقنا هي ان نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته. وألا نعدل نحن عن قيمنا وتصوراتنا قليلا او كثيرا لنلتقي معه في منتصف الطريق. كلا اننا واياه على مفرق الطريق، وحين نسايره خطوة واحدة فننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق)3 . بعد ذلك تأتي الخطوة السياسية وهي قيام الدولة الاسلامية او كما يعبر عنه قطب بـ (سلطان) يكفل تطبيق الشرائع في هذا المجتمع، فيؤكد: (لا بد ان يكون للمؤمنين بهذه العقيدة من سلطان على انفسهم وعلى مجتمعهم ما يكفل تنفيذ النظام والشرائع في هذا المجتمع حتى يكون للنظام هيبته، ويكون للشريعة جديتها .. فوق ما يكون لحياة هذا المجتمع من واقعية تقتضي الانظمة والشرائع من فورها)4 .

غير ان الدولة الاسلامية اصبحت، في ظل التبريرات المختلفة لضرورتها، هدفا برر بدوره استخدام العنف والقوة للوصول الى السلطات او لقيام الخلافة الاسلامية كما في استراتيجية بعض الحركات الاسلامية كحزب التحرير. وكلما ازداد شعور تلك الحركات بضرورة قيام دولة اسلامية تأخذ على عاتقها مسؤولية تطبيق الشريعة ازدادت قناعتها باستخدام القوة والعنف حتى في المجتمعات التي تقوم على الديمقراطية. فعكست النتائج صورة شوهاء عن الاسلام والمسلمين قبل الحركات الاسلامية ذاته. حتى بات من العسير على الشعوب المسلمة اقناع الآخر برفضها هي ايضا للعنف والحركات المتطرفة، ثم سرت عدوى الاتهام والادانة الى الاسلام والفكر الديني، فعمقت ازمة المسلمين امام بقية الشعوب.

بل ثبت ان الدولة الاسلامية هي محور مشروع الحركات الاسلامية قاطبة، فهي حركات سياسية اكثر منها حركات دينية دعوية كما تعلن عن نفسها دائما. ويؤكد ذلك امتهان الحركات الاسلامية للعمل السياسي وعدم الاكتفاء بالدعوة والارشاد وتبليغ الاحكام. وقد تقدم (في مقال سابق) عن بعض الحركات انها ترى اسقاط الانظمة مقدمة لقيام الدولة الاسلامية، التي هي بدورها مقدمة لتطبيق الشرعية، التي تقع مسؤولية تطبيقها على عاتق تلك الحركات.

 ***

ماجد الغرباوي - كاتب وباحث

..............................

هوامش

*  تحديات العنف، ماجد الغرباوي، 2009م، دار العارف، بيروت – لبنان، والحضارية للابحاث، بغداد – العراق، ص 293- 296.

1- النص بطوله نقلا عن: الاسلام دين وامة وليس دينا ودولة، مصدر سابق، ص 269

2 - معالم في الطريق، مصدر سابق، ص 9.

3 - المصدر نفسه، ص 19.

4 - المصدر نفسه، ص 34.

ان تكفير المجتمعات المسلمة جريمة كبرى، لا ترتكز لأي أساس ديني، سوى رؤى واجتهادات شخصية مشحونة بخطاب عاطفي .. رؤى تخالف أبسط قيم الدين الحنيف

 طالما نظّر الاسلاميون لمفاهيم ورؤى تشبّعت بكراهية الآخر وتكفيره، والتخطيط للاطاحة بكل منجزاته. فسيد قطب، مثلا،نظّر بكثافة مروّعة، لمفاهيم خطيرة كانت وراء اقتحامالموت والاستهانة بالحياة، وعدم التفكير بتداعيات الفعل الارهابي على مستقبل المسلمين والعقيدة الدينية، كفهوم الحاكمية الالهية التي أدان بموجبها جميع الحكومات، وبرر اسقاطها بالعنف. وكذلك مفهوم جاهلية المجتمع، ذلك المفهوم الخطير الذي أدان به جميع الشعوب المسلمة، واعتبرها (جاهلية)، منبوذة، يجب تقويمها ولو بالقوة، من هنا تجد المتطرفين في ممارساتهم للقتل لا يكترثون لحيثية الانسان ولو كان مسلما. فسيد قطب إذاً لم يكتف بتكفير الحكومات والانظمة السياسية الحاكمة، وانما شملت ادانته كافة المجتمعات الاسلامية. يقول في كتابه معالم في الطريق: (نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الاسلام او أظلم. كل ما حولنا جاهلية. تصورات الناس وعقائدهم، عادتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم، وآدابهم، شرائهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة اسلامية، ومراجعة اسلامية، وفلسفة اسلامية، وتفكيرا اسلاميا، هو كذلك من صنع هذه الجاهلية)1. فهي مجتمعات مدانة (بنظر سيد قطب)، لا تتصف بصفات اسلامية، وعليها العودة الى الاسلام، والاقرار بعقيدة لا اله الا الله بمدلولها الحقيقي الذي يعني (لا حاكمية الا حاكمية الله) كشرط اساس لاسلامها، والا فتشملها أحكام الجاهلية، مما يبرر هجرتها وربما قتالها حتى تفيء لامر الحاكمية الالهية.

يقول سيد قطب: (كذلك ينبغي أن يكون مفهوماً لأصحاب الدعوة الإسلامية أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين، يجب أن يدعوهم أولاً إلى اعتناق العقيدة- حتى لو كانوا يدّعون أنفسهم مسلمين، وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون!- يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو "أولاً" إقرار عقيدة: "لا إله إلا الله" - بمدلولها الحقيقي، وهو رد الحاكمية لله في أمرهم كله). كما يجب عليهم تحمل مسؤولياتهم (وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحـق لأنفسهم، إقرارها فـي ضمائرهم وشعائرهم، وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم)2.

ولا يخفى مدى خطورة مفهوم المجتمع الجاهلي كما ينظّر له سيد قطب في مؤلفاته التي تشكل رؤية دينية سياسية تنظيمية يعمل في اطارها "الاخوان المسلمين"3، التنظيم السياسي الذي كان ينظـّر له سيد قطب خاصة. فتصوّر هل يمكن قيام مجتمع متسامح في ظل خطاب تكفيري يعتبر المجتمع الاسلامي الراهن، مجتمعا جاهليا تجري عليه احكام الجاهلية ابان الدعوة الاسلامية؟ أي يجب التعامل معه على أساس انه مجتمع كافر معاد للاسلام والرسالة، سلوكا وعقيدة. فسيد قطب يرى: (إن العالم يعيش اليوم كله في جاهلية من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها. جاهلية لا تخفف منها شيئا هذه التيسيرات المادية الهائلة، وهذا الإبداع المادي الفائق!. هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية وهي الحاكمية. إنها تسند الحاكمية إلى البشر، فتجعل بعضهم لبعض أربابا، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم، والشرائع والقوانين، والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله للحياة ، وفيما لم يأذن به الله .. فينشأ عن هذا الاعتداء على سلطان الله اعتداء على عباده وما مهانة الإنسان عامة في الأنظمة الجماعية، وما ظلم الأفراد والشعوب بسيطرة رأس المال والاستعمار في النظم الرأسمالية إلا أثرا من آثار الاعتداء على سلطان الله، وإنكار الكرامة التي قررها الله للإنسان)4.

لكن الأخطر – كما يقول الشيخ يوسف القرضاوي- ما تحتويه التوجهات الجديدة في هذه المرحلة لسيد قطب، هو ركونه إلى فكرة (التكفير) والتوسع فيه، بحيث يفهم قارئه من ظاهر كلامه في مواضع كثيرة ومتفرقة من كتاب (في الظلال القرآن) ومما أفرغه في كتابه (معالم في الطريق) أن المجتمعات كلها قد أصبحت (جاهلية). وهو لا يقصد بـ (الجاهلية) جاهلية العمل والسلوك فقط، بل (جاهلية العقيدة). (إنها الشرك والكفر بالله، حيث لم ترض بحاكميته تعالى، وأشركت معه آلهة أخرى، استوردت من عندهم الأنظمة والقوانين، والقيم والموازين، والأفكار والمفاهيم، واستبدلوا بها شريعة الله، وأحكام كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم)5. ويضيف: (وهذه مرحلة جديدة تطور إليها فكر سيد قطب، يمكن أن نسميها مرحلة الثورة الإسلامية، الثورة على كل الحكومات الإسلامية، أو التي تدعي أنها إسلامية، والثورة على كل المجتمعات الإسلامية، أو التي تدعي أنها إسلامية. فالحقيقة في نظر سيد قطب أن كل المجتمعات القائمة في الأرض أصبحت مجتمعات جاهلية. تكون هذا الفكر الثوري الرافض لكل من حوله وما حوله، والذي ينضح بتكفير المجتمع، وتكفير الناس عامة، لأنهم أسقطوا حاكمية الله تعالى ورضوا بغيره حكما، واحتكموا إلى أنظمة بشرية، وقوانين وضعية، وقيم أرضية، واستوردوا الفلسفات والمناهج التربوية والثقافية والإعلامية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية وغيرها من غير المصادر الإسلامية، ومن خارج مجتمعات الإسلام، فبماذا يوصف هؤلاء إلا بالردة عن دين الإسلام؟!. بل الواقع عنده أنهم لم يدخلوا الإسلام قط حتى يحكم عليهم بالردة، إن دخول الإسلام إنما هو النطق بالشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وهم لم يفهموا معنى هذه الشهادة، لم يفهموا أن لا إله إلا الله منهج حياة للمسلم، تميزه عن غيره من أصحاب الجاهليات المختلفة، ممن يعتبرهم الناس أهل العلم والحضارة)6.

فهذا النمط من الخطاب لا يؤسس ولا يساعد على وجود مجتمع متسامح، بل ينتج حركات اسلامية متطرفة تستبيح قتل المسلم قبل غيره. وهذا ما نشاهده اليوم من تبنٍّ كامل لهذه الافكار من قبل الحركات الدينية الاسلامية المتطرفة (كداعش واخواتها). وبالتالي ما لم يتم نقد هذا الفكر وتفكيكه ومناقشته وبيان نقاط ضعفه وتحديد المرجعيات التي تمت وفقها هذه القراءة، ليس هناك تفاؤل بقيام مجتمع متسامح. بل يتفاقم هذا الفهم وتتطور هذه القراءة لتتجذر داخل الفكر الديني الى درجة يصبح الفكر المضاد، فكرا منحرفا ضالا كافرا. فكيف يمكن التعايش آنئذ بين الأفكار والعقائد والأديان المختلفة؟.

ان تكفير المجتمعات المسلمة جريمة كبرى، لا ترتكز لأي أساس ديني، سوى رؤى واجتهادات شخصية مشحونة بخطاب عاطفي .. رؤى تخالف أبسط قيم الدين الحنيف الذي ضمن لغير المسلم حرية العقيدة فكيف بالمسلمين، وكان رسول الله يكتفي بشهادة الشهادتين كي يُصان دم المرء، وعِرضه وماله. من هنا يبنغي الحذر في التعامل مع هذا اللون من الخطابات المضللة.

 ***

ماجد الغرباوي - كاتب وباحث

.....................

 * - بحث مستل من كتاب: تحديات العنف، ماجد الغرباوي، 2009م، دار العارف، بيروت – لبنان، والحضارية للابحاث، بغداد – العراق، ص 290- 293.

 1- معالم في الطريق، مصدر سابق، ص 19.

 2- المصدر نفسه، ص 35.

 3- وتمثلهم الان جميع الحركات الاسلامية المتطرفة، كداعش والقاعدة وغيرهما.

 3- معالم في الطريق: المقدمة.

 4 - شبكة اسلام أون لاين، مذكرات الشيخ يوسف القرضاوي، الحلقة الثانية: وقفة مع سيد قطب. وانما اخترنا القرضاوي، رغم وجود هذه الافكار في كتب سيد قطب واضحة وجلية، باعتباره شاهدا عليها، وقد ناقشها ورد عليها من داخل الوسط التنظيمي ذاته الذي ينتمي اليه سيد قطب. فهو شاهد غير منحاز ولا مشكوك في عدالته من هذه الجهة. وقد صنف كلام قطب على المرحلة الثورية..

 5- المصدر نفسه.

مفهوم الحاكمية من المفاهيم الزئبقية المغرية، تستهوي الانسان الثوري، وتنطلي بسهولة عليه، ويمكن توظيفه لخدمة اغراض شخصية واخرى سياسية

كان اول مرة طرح فيها مفهوم الحاكمية الالهية1 في حرب صفين، عندما طالب الخوارج الامام علي بالاستجابة لمبادرة معاوية، وهتفوا: (لاحكم الا لله)، (الحكم لله وليس لك يا علي)، في اشارة الى المصاحف التي رفعها جيش معاوية على الرماح. وقد استجاب الامام علي لنداء التحكيم لكنه وصف دعواهم بأنها: (كلمة حق يراد بها باطل)2. وبالفعل فان مفهوم الحاكمية من المفاهيم الزئبقية المغرية، تستهوي الانسان الثوري، وتنطلي بسهولة عليه، ويمكن توظيفه لخدمة اغراض شخصية واخرى سياسية. فالمفهوم يوحي بدلالات واسعة، تجعل الانسان المؤمن يضحي حينما يتعامل مع المفهوم بسذاجة عالية، وقد استقطب في حرب صفين عددا كبيرا من الخوارج ممن طالبوا الامام بوقف القتال والتفاوض مع معاوية، لكنه لم ينطل على العقول اليقظة، لانه مفهوم ملتبس في حدوده وتفصيلاته، فلا ينبغي الانسياق مع ايحاءاته العاطفية. يقول احد الباحثين: (وعمليا فان كلمة الحاكمية الالهية كانت وراء استغلال الدهاة وضلال السذج، فقد استغلها ادهى الدهاة عمرو بن العاص عندما رفع المصاحف على اسنة الرماح ليعلي باطل معاوية على حق علي. وانخدع بها الخوارج فخذلوا عليا وهو اتقى الاتقياء، ومكنوا معاوية من الانتصار بحجة لا حكم الا لله... حكمت الرجال في دين الله)3.

ابو الاعلى المودودي والتأسيس

اعاد ابو الاعلى المودودي طرح مفهوم الحاكمية الالهية ثانية في العصر الحديث، واعتبره جزءا من نظريته السياسية حول الدولة الاسلامية. وهنا ملخص عن نظريته كما جاء في كتيب: (منهاج الانقلاب الاسلامي):

1- ليس لفرد او اسرة او طبقة او حزب او لسائر القاطنين في الدولة نصيب من الحاكمية، فان الحاكم الحقيقي هو الله، والسلطة الحقيقية مختصة لذاته تعالى وحده، والذين من دونه في هذه المعمورة انما هم رعايا في سلطانه العظيم.

2- ليس لاحد من دون الله شيء من امر التشريع والمسلمون جميعا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا لا يستطيعون ان يشرعوا قانونا ولا يقدرون ان يغيروا شيئا مما شرع الله لهم.

3- ان الدولة الاسلامية لا يؤسس بنيانها الا على ذلك القانون المشروع الذي أتى به النبي من عند ربه مهما تغيرت الظروف والاحوال. والحكومات التي بيدها زمام هذه الدولة لا تستحق طاعة الناس الا من حيث انها تحكم بما انزل الله وتنفذ امره تعالى في خلقه.

من هنا يتضح لنا ان الدولة الاسلامية لا تعد ديمقراطية بالمعنى الشائع لانها لا تجعل ارادة الشعب هي اصل التشريع، ولكنها حكومة الهية (ثيوقراطية Theocracy) مع اختلاف جذري في المدلول الاوربي للكلمة، لان الحكومة الاسلامية لا تعرف طبقة السدنة (رجال الدين) الذين يتولون وحدهم في الدولة الثيوقراطية، بالمفهوم الاوربي، التقنين او التفسير طبقا للشريعة الالهية. ومن هنا فان الثيوقراطية الاسلامية يمكن ان تكون ( ثيو – ديمقراطية) Theo democracy او الحكومة الالهية الجمهورية. وذلك لانها خولت للمسلمين حاكمية (او سيادة) شعبية محدودةA limited popular sovereignty تحت سلطة الله القاهرة. ولا تتألف السلطة التنفيذية الا بآراء المسلمين. وبيدهم يكون عزلهم من منصبها وكذلك جميع الشؤون التي لا يوجد عنها في الشريعة حكم صريح لا يقطع بشيء الا باجماع المسلمين.

وكلما مست الحاجة الى ايضاح قانون او شرح نص من نصوص الشرع لا يقوم بيانه طبقة او اسرة مخصوصة وحدها بل يتولى شرحه وبيانه كل من بلغ درجة الاجتهاد من عامة المسلمين.

من هذه الوجوه يعد الحكم الاسلامي ديمقراطيا الا انه – كما تقدم ذكره من قبل – اذا وجد نص من نصوص الكتاب والسنة في شأن من الشؤون فليس لاحد من امراء المسلمين او مجتهد او عالم من علمائهم ولا للمجلس التشريعي بل ولا لجميع المسلمين في العالم ان يصلحوا او يغيروا منه كلمة واحدة، من هذه الجهة يصح اطلاق كلمة الثيوقراطية4.

وانما اقتبسنا النص بطوله لانه يلخص فكرة المودودي عن الحاكمية الالهية كاملة.

سيد قطب والحاكمية الالهية

ثم جاء سيد قطب واخذ فكرة الحاكمية الالهية وجاهلية المجتمع عن المودودي وصاغهما باسلوبه الادبي المعروف، مشحونة هذه المرة بدلالات اكثر ثورية. وقدم قطب فكرة الحاكمية على مستويين: نقدي وبنائي. (الجانب النقدي يرى ان العالم الاسلامي المعاصر عالم جاهلية وطاغوت، وان انظمة الحكم في العالم الاسلامي صارت جزءا منه. والجانب البنائي يقول بضرورة اقامة الدولة الاسلامية التي تطبق الشريعة، لاعادة المشروعية الى مجتمعات المسلمين ودولهم)5.

ويعتبر كتاب معالم في الطريق مستودعا لكلا النظريتين اللتين نجد جذورهما مبثوثة ايضا في تفسيره: "في ظلال القرآن". (وقد اصبح معالم في الطريق هو الذي يلهم كل المجموعات الرافضة. ومع ان المضامين الثلاثة التي قام عليها الا وهي: الحاكمية الالهية والعبودية لله والجاهلية ليست جديدة تماما، فقد قالها المودودي من قبل الا ان الجديد هو حسن تقديمه وصياغته والبرهنة عليها. لا بأدلة منطقية او علمية فهذا ما يستبعد في مثل هذا الكتاب، ولكن بنصوص اعطيت بريقا ليس لها ... واصبح الكتاب وثيقة ملتهبة)6. ويضيف: (اذن كان سيد قطب قد بعث افكار المودودي، ومن ثم فلا تعد جديدة، فان الجديد الذي يمكن ان ينسب اليه هو تصوره للجهاد، وانه لم يكن للدفاع كما يذهب الى ذلك المنهزمون كما ارتأى. وانما هو اداة الاسلام لحمل رسالته وتوصيلها للعالم اجمع، وهو التصور الذي ادى لظهور جماعة الجهاد، واثر اثرا كبيرا على فهم هيئات اسلامية لمضمون الجهاد وكان للاسف الشديد مضمونا يشطح بالجهاد بعيدا عن حقيقته ويحمله ما لا يحمله، بل ونقيض ما يحمل)7.

والنظرة المنصفة، ان سيد قطب لم يقتصر على النقل والاقتباس عن المودودي وانما اعطى للمفهومين ابعادا ثورية جديدة، واعاد صياغتهما وتسويقهما بشكل الهب مشاعر الحركات الاسلامية، ووضعها على مفترق طرق مع الانظمة والمجتمعات الاسلامية. اذ بات المفهوم يعني نزع أي مظهر من مظاهر السلطة لغير الله تعالى حتى على مستوى المشاعر والاحاسيس ولم يقتصر على السياسة والحكم. يقول قطب: (ان الناس عبيد الله، ولا يكونون عبيدا لله وحده الا ان ترتفع راية لا اله الا الله. لا اله الا الله كما يدركها العربي العارف بمدلولات لغته، لا حاكمية الا الله، ولا شريعة الا من الله، ولا سلطان لاحد على احد، لان السلطان كله لله)8. ويضيف: (كانوا يعرفون – أي العرب- أن الألوهية تعني الحاكمية العليا، وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد الله سبحانه بها، معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام، وردّه كله إلى الله، السلطان على الضمائر، والسلطان على الشعائر، والسلطان على واقعيات الحياة، والسلطان في المال، والسلطان في القضاء،والسلطان في الأرواح والأبدان)9. اذن لم يقتصر قطب في بيان مفهوم الحاكمية على ابعاده المعرفية وانما نجح في صياغة خطاب تحريضي ارتكز اليه التطرف الديني في ممارسته للعنف باسم الجهاد وباسم الحاكمية الالهية، يقول: (كانوا يعلمون – أي العرب- أنلا إله إلا اللهثورة على السلطان الأرضي الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب، وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها الله، ولم يكن يغيب عن العرب، وهم يعرفون لغتهم جيداً ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة،لا اله إلا الله، ماذا تعني هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياستهم وسلطانهم، ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة- أو هذه الثورة- ذلك الاستقبال العنيف، وحاربوها هذه الحرب التي يعرفها الخاص والعام)10.

وبايجاز، فان لازم مفهوم الحاكمية عند المودودي وسيد قطب رفض حاكمية البشر وضرورة الثورة عليهم (لذلك خرجت الجماعات الدينية على النظم القائمة كما فعلت الخوارج من قبل)11. بل (وينتج عن فكرة الحاكمية، تكفير النظام القائم، وتكفير الحاكم والخروج عله، وجواز قتله، واغتنام اموال الدولة، ومحاربة الجيش والبوليس، واعتبار الخدمة فيهما كفرا. فلا طاعة الا لامام، ويجب عصيان امارى الكفر والسفه والجاهلية. تؤدي فكرة الحاكمية اذن الى تقويض شرعية النظام القائم)12.

نقد مفهوم الحاكمية الالهية

يمكن تسجيل عدة ملاحظات اساسية على مفهوم الحاكمية الالهية عند سيد قطب، اهمها:

اولا - لا دليل على ارادة الحاكمية الالهية من قوله تعالى لا اله الا الله. اذ الواضح من كلمة (لا اله الا الله) انها بصدد تنزيه الخالق وتأكيد وحدانيته ونفي الشرك عنه. ومسألة الالوهية واثبات وحدانية الله تعالى تختلف موضوعا ومفهوما عن مسألة الحكم. فدعوى سيد قطب تبقى مجرد تأويل ووجهة نظر خاصة به. غير ان الاسلوب الادبي للكاتب قد اجج مشاعر اعضاء الحركات الاسلامية، الى درجة اصبح المعنى الجديد مسلمات ونهائيات لا تقهر.

ثانيا- ان مفهوم الالوهية واضح في دلالاته بينما مفهوم الحاكمية ما زال مبهما، غير واضح كما هو المفهوم الاول، فكيف يكون المبهم شعارا للمسلمين جميعا، على اختلاف مستوياتهم العلمية والثقافية؟.

ثالثا – لو كانت الحاكمية مرادفة لمفهوم الالوهية، لحظيت بنفس القدر من التوضيح والاهتمام في القرآن الكريم. بل اكثر من ذلك ان مصطلح الحاكمية غير موجود قرآنيا، وانما هو مفهوم اشتقاقي او تلفيقي ان صح التعبير، مشتق وملفق من عدة مفاهيم اخرى، اجتهد في اعادة صياغتها المودودي ومن بعد سيد قطب.

رابعا – اذا كان المراد من مفهوم الحاكمية الحكومة والحكم فهي من القضايا التي لم يتفق عليها عموم المسلمين، فمنهم من ذهب الى وجود نظام سياسي اسلامي ومنهم من نفى ذلك، وقبل ذلك اختلفوا في النظرية السياسية. والقائلون بوجود نظام سياسي في الاسلام لم يتوفروا على تفصيلات كافية في الموضوع وانما اختلف المجتهدون والمنظرون فيها. فيكف يكون المختلف فيه رديفا للواضح البين كالالوهية؟.

خامسا- اعتبر سيد قطب الحاكمية مصداقا لعبودية العبد، ولا يكون العبد عبدا حقيقيا لله تعالى الا باقرار الحاكمية الالهية، يقول (ان الناس عبيد الله، ولا يكونون عبيدا لله وحده الا ان ترتفع راية لا اله الا الله. لا اله الا الله كما يدركها العربي العارف بمدلولات لغته، لا حاكمية الا الله، ولا شريعة الا من الله، ولا سلطان لاحد على احد، لان السلطان كله لله)، وهذا النوع من الفهم لم تؤكده الوثائق التاريخية ولا المفاهيم العقدية التي بين ايدينا. وليس لدينا نص واحد يؤكد ان النبي (ص) كان يطالب الناس باقرار الحاكمية الالهية كشرط لاسلامهم، وانما كان يقول لهم قولوا لا اله الا الله، واشهدوا ان لا اله الا الله واني رسول الله. وبالفعل كان يتحقق اسلام الفرد ويصان عرضه وماله ودمه بشهادة ان لا اله الا الله محمدا رسول الله وكفى. ولم يطلب الرسول من أي مسلم التخلي عن ولائه لاهله وعشيرته او التمرد على الاعراف والقوانين الا ما تعارض مع العقيدة الاسلامية وثوابت الشريعة.

سادسا – الخطاب الذي اعتمده سيد قطب في بيانه لمفهوم الحاكمية الالهية خطاب تحريضي، يقول كما تقدم: (كانوا يعلمون – أي العرب- أن لا إله إلا الله ثورة على السلطان الأرضي الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب، وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها الله، ولم يكن يغيب عن العرب، وهم يعرفون لغتهم جيداً ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة، لا اله إلا الله، ماذا تعني هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياستهم وسلطانهم، ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة- أو هذه الثورة- ذلك الاستقبال العنيف، وحاربوها هذه الحرب التي يعرفها الخاص والعام).

فسيد قطب صريح في ادانة الحكومات القائمة، لأنها حسب رأيه بلا استثناء حكومات معتدية، غاصبة، لحقوق الحاكمية الالهية، يجب الثورة عليها لاسترداد ذلك الحق ولو بالقوة والعنف. وهذا اللون من الخطاب يؤسس للعنف وشرعية العمل المسلح ضد كل انظمة الحكم، سيما وقد اعتبر قطب الجهاد والعمل المسلح مبدأ اساسيا لتحقيق اهداف الدين في اقامة دولة اسلامية. كما ان النص المتقدم لا يخفي الاهداف السياسية من التنظير للحاكمية الالهية، والعمل على تحقيق تلك الاهداف بممارسة العنف والجهاد واعلان الثورة. من هنا يتضح حجم المفاهيم الثورية المتولدة عن هذا اللون من مفهوم الحاكمية، وهو حزمة كبيرة من مشاعر ثورية لم ترتكز على اسس نظرية متينة، وانما مفاهيم براقة مواربة لا تثبت على معنى محدد، وتمتلك مرونة كبيرة يمكن توظيفها لاي هدف وباي اسلوب، وهذا احد الاسباب الاساسية في تفاقم العنف على يد الحركات الاسلامية المتطرفة.

 *** 

ماجد الغرباوي - كاتب وباحث

....................

1 - بحث مستل من كتاب: تحديات العنف، ماجد الغرباوي، 2009م، دار العارف، بيروت – لبنان، والحضارية للابحاث، بغداد – العراق، ص 280- 290.

2- نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة رقم: 40.

3- جمال البنا، الاسلام دين وامة وليس دينا ودولة، القاهرة، دار الفكر الاسلامي، ص 279

4- النص مقتبس عن: جمال البنا، مصدر سابق، ص 267-268.

5- السيد، رضوان، الاسلام المعاصر والليبرالية، مجلة قضايا اسلامية معاصرة، العدد: 24-25، 2003 - 1424 ، ص 176.

6- جمال البنا، مصدر سابق، ص 277.

7- المصدر نفسه، ص 281.

8- قطب، سيد، معالم في الطريق، بيروت، دار الشروق، 1399هـ - 1979م، ص 24. ويرى الدكتور حسن حنفي ان كتاب معالم في الطريق ليس مؤلفا ذا بناء محكم وانما هو (مجرد تأملات تعبر عن عذاب

9- المصدر نفسه، ص 22.

10- المصدر نفسه، ص 22.

11- حنفي، د. حسن، الحركات الدينية المعاصرة، الكتاب الخامس ضمن موسوعة الدين والدولة في مصر 1952-1981، القاهرة، مكتبة مدبولي، ص 127.

12- حنفي، د. حسن، الاصولية الاسلامية، القاهرة، مكتبة مدبولي، ص 114.

 

من يشكك في إحدى ثوابت الفكر الديني، مرتد (وفقا لشريعة الفقهاء)، يجب قتله، على الضد من الحكم القرآني!!. او زنديق ما دام حاذقا يُجيد لعبة الكلام والتلاعب بالألفاظ

ثمة سؤال تتوقف عليه حدود حرية الإعتقاد التعبير في الإسلام: هل الدين نموذج نهائي، يصادر حرية الرأي والإعتقاد والتعبير، ويفرض رؤية أحادية تلازم الإنسان مدى الحياة؟ أم الدين نسق قيمي يستجيب لمتطلبات العصر والزمان، ويتجدد مع كل قراءة تستوفي شروطها الموضوعية؟

الإسلاميون ومن قبلِهم رجال الدين والفقهاء يعتقدون أن الدين منجز اإلهي نهائي، يصادر حرية الرأي والاعتقاد والتعبير، فمن ينكر إحدى ضرورات الدين وفقا لهذا المنطق، مرتد، (سواء كان مسلما بالفطرة او استجد له رأي بعد اسلامه)[1] .. وملحد زنديق، حينما يتمرد، يجادل في قضايا الخلق والوجود، او يطرح إشكالات يعجز عن تفنيدها صاحب الحقيقة المطلقة!!. (وهذا لا يشمل المعاند والأحمق البتة). ولم يكتف الخطاب الديني بضرورات العقيدة موضوعا للردة بل راح يوسّع من مساحات المحرّم والممنوع، وراحت تتناسل الضرورات لتشمل ضرورات المذهب والطائفة بل ضرورات الشعائر أيضا!!، فتحوّل الفكر الديني الى حقل ألغام شاسع، لا يعرف المرء كيف يتفادى مخاطر التحرّش في ثوابته، وصارت البدع والأساطير والخرافات طقوسا مقدّسة .. مرتد وفاسق ومنحرف من لا يؤمن بها، أو يناقش في شرعيتها، وبهذا الشكل أصبحت الردة سيف يلاحق حرية التعبير، تتمدد سطوتها كلما اتسع مجال التنظير الفكري لدى المسلمين. ومع كل بدعة تُقمع الحريات، ويتراجع الوعي، ويضمر دور المثقف التنويري، حداً يعيش حالة من القلق والخوف والترقب. وطالما راح ضحية التعبير عن الرأي شخصيات استباح الجلاّدون جلودهم، وراحت سياطهم تصب جام غضبها انتقاما لزيف الآلهة، وأصنام الفكر الديني المتعجرفة. ولم يكتف رجل الدين بمصطلح الردة والزندقة والالحاد بل راح ينحت صيغ جديدة كمفهوم (إزدراء) الأديان أو إزدراء مقام المرجعيات الدينية، وهو مفهوم يتصف بقدرة هائلة على الإطاحة بمن تسوّل له نفسه التحرّش أو التشكيك بثوابت الخطاب الديني الرسمي، لان رجل الدين لا يخشى الحرب والمنازلة بقدر خوفه من الرآي الذي يزلزل قناعات الناس ويضع مبانيه على محك السؤال.

إن الخطاب الديني كغيره من الخطابات الأيديولوجية، يمارس التضليل وتزييف الوعي .. يقفز فوق الحقائق، ويقمع المعارض، بأمضى الأسلحة (أي الفتوى)، أداة الفقيه في فرض آرائه والدفاع عن حدوده. فالمعارض فكريا وعقيديا، أو من يشكك في إحدى ثوابت الفكر الديني، مرتد (وفقا لشريعة الفقهاء)، يجب قتله، على الضد من الحكم القرآني[2]!!. أو زنديق ما دام حاذقا يُجيد لعبة الكلام والتلاعب بالألفاظ، وما برح قادرا على فضح الحقيقة، وهتك المستور، بل ما دام يحمل رأيا آخر، وقناعة آخرى. أو لم يقتنع بعقيدة رجال الدين والفقهاء فهو مرتد أيضا، مطرود من رحمة الله. وكلا من المرتد والزنديق محكوم عليه بالضلال والموت، وقائمة من حُزت رؤوسهم بسيف الدين طويلة عبر التاريخ[3]. خاصة والارتداد مفهوم ملتبس، يستجيب بسهولة لأهواء فقهاء الضلال، حتى بات مطيّة الحركات التكفيرية، المتطرفة، التي راحت تستبيح طوائف اسلامية كاملة بحجة الارتداد، حتى ولو كان الارتداد خلافا فكريا وعقيديا، او فقهيا بين فقيه وآخر. وهذا بالضبط ما فعله ابن تيمية حينما (كفّر الفلاسفة والمتصوفة والجهمية والباطنية والاسماعيلية والنصيرية والامامية، والاثنى عشرية والقديرية) . وجاء من بعده سيد قطب في جاهلية القرن العشرين، ليؤسس منهجا تكفيريا، يستمد من ابن تيمية وخطه السلفي شرعية استباحة دماء الناس الابرياء، ويوظّف آيات القتال والحرب التي نزلت في وقائع تاريخية محددة لزهق كل معارض ومخالف لرؤيته (العقيدية – الفقهية).

والمغالطة الأساس في الخطاب الديني، حينما يوائم بين الدين (كنصوص مقدسة) والفكر الديني (كفكر بشري). والحقيقة إن الفكر الديني قراءة للدين، وفهم له، يختلف من شخص لآخر ومن فقيه لغيره، وفقا لتطور البيئة الثقافية، وليس هو ذات الدين، كما يحاول الخطاب الديني الأيديولوجي أن يوهم القارئ والمتلقي به، ليمنح آراءه قداسة تتعالى على النقد والمراجعة.

وأيضا يغالط إذا اعتبر التنظيرات الفكرية في شتى المجالات ضرورة من ضرورات الدين، لأنها مجرد آراء واجتهادات شخصية، وليست ضرورة من ضرورات الدين.

والغريب أن التكفير وأحكام الردة، تطال دائما مساحة الفكر الديني الذي هو فكر بشري، فكيف يؤاخذ الانسان حينما يناقش ويجادل في فكر بشري مهما كان مصدره؟. وحتى لو صدق الارتداد فان القرآن الكريم اكتفى بالمؤاخذة الآخروية بحق المرتد (عن الإسلام)، ولم يجعل أي مؤاخذة دنيوية عليه. وما صدر من أحكام في بداية البعثة كان مقتضى أمن المجتمع المسلم، وليست أحكاما شرعية كي يتشبث بها الفقهاء ويعقدوا عليها اجماعهم الذي هو دليلهم الأساس في حكم المرتد، ثم استغلها السلطان والسياسي لاقصاء المعارضة وانزال أقسى العقوبات، أي القتل بحقه، على مدى التأريخ.

ثم كيف نقسّر تطور العقل البشري، ومسيرته الزاخرة بالانجازات المعرفية والفكرية والفلسفية، اذا قلنا ان الدين نموذج الهي نهائي؟. ولماذا منح الله العقل قدرة هائلة على الخَلق والابداع، حتى راكم رؤى ونظريات أفرزت نظاما اجتماعيا – سياسيا كفل للانسان حقوقه، من خلال مبادئ: التعددية، المجتمع المدني، التداول السلمي للسلطة، وضمان الحريات العامة، وهي منجزات بشرية نافست الخطاب الديني، واستقطبت أنظار الشعوب، حتى بات الغرب محكوما في نظر الشرق بثنائية: النموذج / العدو. بل أصبح همّ الانسان الشرقي اللحاق بالغرب وتطبيق نموذجه الحضاري، وأمنيته دائما ان يعيش في ظل قوانينه وأنظمته. وبالفعل من يعيش في الغرب يشعر بقيمة ما أنجزه العقل البشري، وكيف اعاد للانسان مكانته وحيثيته، من خلال ضمانات دستورية، كفلت معيشته، وأمنه، وحريته، وهذا غاية ما يطمح له الانسان، بينما تعثرت التجارب الدينية واخفقت في تطبيق النموذج الديني، لذا تلجأ لقمع الحريات ومصادرة حرية الرأي بالذات.

وأيضا، لماذا لم يخلق الله عقلا على مقاسات النموذج الديني، عقلا يتحرك باتجاه واحد، يأبى الخلق والابداع؟ لكنه تعالى خلق عقلا خلاقا مبدعا منافسا: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) ، لكنه لم يجعلهم كذلك بل (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) [4]!!!.

وعَود على بدءْ، فالاسلام لا يصادر حرية الرأي والمعتقد والتعبير، حتى لو اتخذ المسلمون الأوائل اجراءات احترازية في بداية الدعوة، فانها ليست أحكاما نهائيا، لان المنطق القرآني قائم على الاختلاف باعتباره أحد مقومات الخلق، وسرّ ديمومة الحياة على الأرض. به تستقيم وتستمر وتتطور وترقى بالانسان وتطلعاته. فالمبدأ القرآني لمن يتقصى آياته: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)[5]، و(وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)[6]، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[7] (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ)[8]. وحرية التعبير ملازمة للاختلاف، فما دام الاختلاف مشروعا فان التعبير عن هذا الاختلاف مشروع أيضا. بل تجد في رمزية القصص القرآنية ما يؤكد ذلك من خلال قصة الخلق، حينما وقف إبليس يجادل الباري جل وعلا في شرعية السجود لآدم، فلم يصدر الخالق حينها أي عقوبة جسدية بحقه، بل أصغى الى مبررات اعتراضه، وأجّل أمره الى يوم القيامة[9].

هذا الكلام بمجمله لا ينفي الفرق بين حرية التعبير والاساءة، فالثانية عمل ترفضه كل القيم والمبادئ الانسانية، بينما حقيقة حرية التعبير انها تكشف عن رأي وفهم وقراءة اخرى، يجب احترامها، مهما كان مستوى الاختلاف معها.

للأسف أن أجواء القمع الفكري والعقيدي كرست الحس التكفيري، وصنعت مافيات دينية تتحكم بوعي الشعوب المسلمة، تفرض عليها خطابا دينيا رسميا، يحرّض على الكراهية والتنابذ. ومحاكم التفتيش في تزايد مرعب، تلاحق الناس في كل مكان، حتى راحت أقلام التنوير تتشبث بكل معجزة لتفادي سطوتهم.

نحن بحاجة ماسة لخطاب ديني يعي دور العقل، ولا يراهن طويلا على سذاجة الناس، لأن التطور الاعلامي سيلاحق رثاثة الوعي، ويعيد للانسان قدرته على النقد والتلقي الواعي، وحينئذ ستسقط كل الأقنعة المزيفة.

 ***

ماجد الغرباوي - باحث بالفكر الديني

2-2-2015

.......................


[1] - أجمع الفقهاء على تعريف المرتد، وحكمه، ودليلهم هو الإجماع ورايات، ينسب بعضها للنبي وقد بينت ما فيه الكفاية عدم حجية الأدلة، وعدم وجود أي مؤاخذة دنيوية على المرتد، والقرآن واضح في ذلك لا لبس فيه، وهو قول عدد من الفقهاء. أنظر كتابي: تحديات العنف، مصدر سابق، وكتاب: التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الآديان والثقافات، ط 2008م، العارف للمطبوعات والحضارية، بيروت – بغداد.

[2] - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (سورة المائدة، الآية:54). لايوجد فيها حكم بقتل المرتد. وأيضا (سورة النساء، الآية: 137): إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا

[3] - الأمثلة كثيرة سواء من قتل أو من صدرت بحقه فتوى تكفير وارتداد، مثالا: بشار بن برد، ابن المقفع، والحلاج، فرج فوده، السباعي

[4] - سورة هود، الآية، 118.

[5] - سورة الإنسان، الآية: 3.

[6] - سورة الكهف، الآية: 29.

[7] - سورة يونس، الآية 99.

[8] - سورة الغاشية، الآيتان: 21 و22.

[9] - قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (سورة ص، الآيتان 75و76)

ثمة أزمة حادة تواجه الشريعة الاسلامية، بل تواجه الدين بأسره، لا تنفع معها تبريرات الفقهاء ومكابراتهم.. أزمة حقيقية، تضغط باتجاه مراجعة نقدية تطال الفكر الديني، وفق قراءة معاصرة تواكب مسار الحضارة، وتُعيد النظر في ثوابت الشريعة، بعيدا عن سلطة التراث والسلف والتراكمات التأويلية التي تكرّس اللامعقول وتحرّض باستمرار ضد الآخر، حتى صار الدين إما يدفع باتجاه العنف والارهاب، او يستقطب باتجاه الخرافة والسحر والشعوذة وجلد الذات، وتصديق هلوسات وأكاذيب بعض رجال الدين، وتقديس الماضي والتراث، وأسطرة الشخصيات التاريخية، واستبدال العبادة بطقوس فلكلورية، انقلبت معها مفاهيم الخير والعمل الصالح، وبات الارهاب دينا، والخداع دينا، والتبست المفاهيم حد الاحتراب فضلا عن الكراهية والتنابذ والاقتتال.

ان مسؤولية التجديد ستخرج من يد الفقهاء، اذا تمادوا في تكاسلهم ولا مبالاتهم تجاه ما يجري. لقد صار الدين مع جمودهم وتخلّف الدعاة شبحا يطارد احلامنا، وباتت شعارات تطبيق الشريعة والاسلام هو الحل والحاكمية الالهية وولاية الفقيه تستفزنا، خاصة مع تمادي بعض الحركات الاسلامية في تطرفها، وارتكابها مجازر يندى لها جبين الانسانية. بل نَسَفَ سلوكهم أغلب ما كتبه المفكرون الاسلاميون عن الاسلام وحضارته ومستقبله في بناء الدولة والمجتمع، وسفّه جميع احلامهم، بل كذّب جميع التأويلات التي اعتادها الكاتب الاسلامي في تبريره لأحكام الاسلام وتشريعاته ونظمه، لكثير من القضايا كـ: المرأة والرق ونظرته للآخر، مما حدا بنا العودة لمراجعة أصل التشريع، واستدعاء ذلك السؤال الخطير، الذي نهرب من مواجهته دائما: (هل الخطأ في التشريع أم في التطبيق؟ أم الخطأ في تعميم الأحكام واطلاقاتها؟).

للامس القريب كنا نردد ما تردده الحركات الاسلامية وجميع الدعاة المخلصين، حينما نواجه اي خطأ سلوكي: (ان الخطأ في التطبيق)، حتى راحت بعض المذاهب والفرق الاسلامية تعوّل على ظهور (المهدي المنتظر)، لتعذر تطبيقها من قبلنا. ولا ادري ما فائدة تشريعات ودين لا يمكن تطبيقه من قبلنا، حتى يظهر المهدي ويرعى تطبيقه بنفسه!! .. وماذا نفعل اذا لم يظهر او تأجل ظهوره آلاف أخرى من السنين؟ ثم ماذا يريد ان يقدّم المهدي من حلول اسطورية لهذه المشكلة؟ هل سيُشرّع لنا أحكاما جديدة؟ وهذا مستحيل، لتعذّر التشريع بعد الوحي. أم سيوظّف عقله وفقاهته؟، اذاً فلماذا لا نوظّف نحن عقولنا بدلا من انتظاره؟. لا ادري هل نعي شيئا من سلوكنا ام نخدع انفسنا ونحسب اننا على حق وغيرنا على باطل!!!. لا اخفيكم، أجد هروبا في فكرة الانتظار، بل اجد فيها إدانة لنا من حيث لا نشعر، والفقهاء قادرون على فقه الشريعة وتقديم قراءة اخرى للدين. فأرى من الأفضل مقاربة المشكلة في بعدها التشريعي، مع مراجعة مكثّفة لآرائنا وفتاوانا، وفق رؤية علمية، واقعية، ترتكز لمنطق القرآن الكريم في اطار مقاصد الشريعة وغاياتها، سنكتشف حينئذٍ حجم الهوّة بين التشريع والواقع.

لقد ارهقنا التوجيه والتأويل، وصار لا هَمَّ لنا الا تبرير ما جاء في الشريعة من أحكام صدرت قبل اكثر من 1400 عام لواقع آخر. فمن اوصلنا لهذه الحالة؟ وهل كان بالامكان تداركها قبل ان تتحول الى عبء يثقل كاهلنا؟

نعم كان بالامكان تداركها لو كان هناك فقهاء يعون الشريعة وغاياتها ومقاصدها، ويدركون دور الزمان والمكان في تشريع الأحكام، ويستطيعون اكتشاف منطق القرآن ومنهجه في تقنينها، ويفهمون طبيعة المجتمع قبل وبعد تشريعها. لكنهم للاسف الشديد لا يدركون مقاصد الشريعة ولا يفهمون غاياتها. سواء تغيّر الواقع أم لم يتغير، ولا يعرفون شي عن فلسفة التشريع سوى التعبّد حرفيا بما جاء من نصوص، وما قاله السلف. فالمرأة هي المرأة، والمجتمع هو المجتمع. والفقيه لا يفهم الا فعلية الأحكام وصلاحيتها (اطلاقا) لكل زمان ومكان، وعلينا الانصياع لفتاواه من دون اي اعتراض.

نحن لا نشكك في صلاح الشريعة الا من حيث فعلية أحكامها، في ضوء مبادئهم الاصولية، لتغيّرالأحكام بتغير موضوعاتها كما هو مقرر عندهم، وقد تغيرت فعلا بفضل التطور الحضاري (فكرا وثقافة ووعيا ومسؤولية) فلماذا الجمود؟ ولماذا الاصرار؟ متى تأخذهم الغيرة على دين الله؟ ومن المسؤول عن تردي واقع المسلمين وضياعهم؟ ومن يتحمل مسؤولية الانكفاء والرِدّة المفجعة في صفوف الشباب؟ ولماذا يبقى المسلم في موقع الدفاع، يبحث عن اعذار وتبريرات، وفي الدين من السعة والرحمة ما يمكنه البقاء ملتزما بدينه، مسالما في سلوكه، يفتخر بانتمائه. بينما الان يقف حائرا مرعوبا حينما تواجهه سهام الريبة والشك. ويقف مدهوشا بين نظرتين، نظرة الغرب للانسان بما هو انسان، ذكرا او انثى، بلا كراهية ولا بغضاء ولا تمييز، وهو في تطور مستمر. ونظرة الفقهاء المحرّضة ضد الآخر، فغير المسلم في نظرهم كافر، مشرك، نجس، لا يحل طعامه، ولا تؤكل ذبيحته، يستحب النظر له بحنق وكراهية، لا يجوز معاشرته والاقتران به، بل يتمادى بعضهم فيعتبر نساءهم إماء، واموالهم غنائم. وارضهم ارض كفر يجوز لك فيها ما لا يجوز في ارض الاسلام، مهما كان الحاكم المسلم، طاغية، فاجرا، جلادا، مستبدا، دكتاتورا.

يجب ان نمزق جدار الصمت، ونقول الحقيقة، باسلوب علمي منطقي استدلالي، يحافظ على قيم الدين ومبادئة، في اطار مقاصد الشريعة وغاياتها، ونعلن صراحة حاجة الأحكام الى اعادة نظر للتأكد من فعليتها واطلاقها (الازماني والاحوالي) المفترض من قبل الفقهاء، وفقا للمتغيرات الزمانية والمكانية، كبعض العبادات، وغيرها من التشريعات كقضايا المرأة في الإرث والحقوق الشخصية، ومأساة قيمومة الرجل عليها مطلقا، والرق وعودته المخجلة على يد (داعش واخواتها). وايضا هناك أحكام الربا والتباس مفهومه الذي يُعيق حركة الاقتصاد (وقد تجاوزت ايران هذه المعضلة بعد ان ادركت ان مفهوم الربا الذي تتحدث عنه الآية غيره المعمول به في البنوك العالمية، وهي خطوة شجاعة تحسب لها، كما استبدلت العقوبات الجسدية بالسجن والغرامات لمّا عرفت ان المراد من القضاء هو استئصال الجريمة وليس الانتقام، واذا كان للسلف ظرفهم فلنا ظرفنا وضروراتنا).

ثم ماذا عن باقي الأحكام الولائية التي صدرت في ظل حروب مستعرة وعدوانية جاهلية مشهود لها تاريخيا لمعالجة واقع خارجي محدد ومؤقت، كحكم المرتد، وحكم المشرك والكافر، ووجوب قتالهم، واخذ الجزية؟ هل تبقى سارية المفعول يتخذها المتطرفون الاسلاميون ذريعة لتشويه سمعة الدين وسماحته؟ انها خطيئة الصحابة عندما تشبثوا بفعلية هذا النمط من الأحكام حتى استُغلت لمحاربة المسلمين كما بالنسبة لحروب الردة، وجاء من بعدهم فقهاء السلطان، تبريرا لسلوك السلاطين والخلفاء في التوسّع من اجل كسب الثروات واشغال المسلمين بما يتيح لهم التفرد والاستهتار بالسلطة.

لا شك ان اعادة النظر في فعلية كثير من الأحكام بات مسؤولية كل الفقهاء، للحفاظ على ما تبقى من الدين، وانتشاله من التخلف والتراجع الحضاري المروع، وعدم اعطاء ذريعة للجهلة والمتخلفين والمتزمتين يفعلون ما يشاؤون. ويجب معالجة كل هذه الأحكام وغيرها، لانها السبب وراء كثير من المآسي .. فما كان للمتطرفين الاسلاميين وغيرهم ارتكاب مثل هذه الافعال لولا وجود فتاوى فقهية تبرر لهم ذلك، بل تلزمهم، على اساس فعلية الأحكام الشرعية مطلقا، في كل زمان ومكان. فمتى نعي ونمزّق جدار الصمت ونقول الحقيقة علانية، ان الشريعة كانت لظرف غير ظرفنا ولزمان غير زماننا، ويجب ان يبقى من أحكامها ما يُلائم وضعنا وحاجاتنا، وارتباطنا بخالقنا، كالعبادات، لنكون أكثر تقوى وعفة، بفضل ايماننا بالغيب واليوم الآخر، ونكون أكثر إتزانا، نفسيا وخُلقيا، كي نؤسس لعلاقات اجتماعية تُعمّق اواصرنا الانسانية، ويسود العدل والسلام، باسم الدين وشريعة سيد المرسلين. اما غير ذلك ففعليته مشروطة بفعلية موضوعه، المتوقف اساسا على فعلية مقدماته وشروطه وقرائنه وكل شي يخصه كي يكون فعليا، وهذا لعَمري بات شُبه مستحيل بعد الف واربعمئة سنة تطور الانسان خلالها اجتماعيا وثقافيا وعقليا، وبات بفعل المراجعة والنقد المتواصل يراعي شرعة حقوق الانسان، ويتطلع لكمال انسانيته، فكيف يمكن للدين ان يمارس دوره في ضوء فهم مبتسر يزرع بذور الفتنة والاقتتال من خلال فرز حاد للانسان على اساس ايمانه واسلامه، فإما ان يكون مسلما او كافرا مشركا يجب استئصاله وقتله؟ ولماذا نأخذ بهذه الآيات ولا ناخذ بآيات اخرى تحث على التسامح والمحبة، وتخاطب الرسول "لست عليهم بمسيطر".

لا يمكن معالجة التطرف الاسلامي والتخلف الديني بمعزل عن مراجعة أحكام الشريعة وفعليتها، لتشبّث المتطرفين الاسلاميين بها، لانهم مؤمنون، متدينون، ملتزمون، يقصدون مرضاة الله بافعالهم الشنيعة جهلا وتخلفا. ولا يتحركون الا مع وجود حكم شرعي او فتوى فقهية، من هنا جاءت اهمية المراجعة والنقد، كي نجفف منابع التبرير الجهادي والسلوك المنحرف والمتخلف. لكن كيف نجفف منابع الارهاب وآيات الحرب والجهاد بنظر الفقهاء مطلقة صالحة لكل زمان ومكان؟. لقد قدمنا بانفسنا ذريعة للهجوم على القرآن الكريم وعلى ديننا الحنيف بسبب تخلفنا فقهيا. انهم يعتقدون ان آيات القتال تخاطبهم، وهم مأمورون بها، فهل حقا هم المخاطبون بها؟ لماذا يصمت الفقهاء ولا يقولون الحقيقة. هل انخرام قاعدة اصولية صنعوها بانفسهم أهم عند الفقهاء من دماء المسلمين وحيثياتهم؟

كل المحاولات لتجفيف منابع الارهاب الديني فاشلة، ما لم نَعُدْ لفقه الكتاب الكريم، كي نعي شروط فعلية آياته، ونعلن بصراحة بلا مواربة: (لا فعلية ولا اطلاق لآيات الحرب والجهاد، بعد انتفاء موضوعها). فهي آيات عالجت واقعا محددا في حينه وانتهى الأمر. بل بامكان الفقهاء الافتاء بحرمة التشبث بها لتبرير سلوكهم العدواني ضد الآخر، من باب المصلحة العامة وحقنا لدماء المسلمين.

المسؤولية الان بصراحة على عاتق الفقهاء كي يقولوا كلمتهم، او يطلقوا رصاصة الرحمة على ما تبقى من الدين. فلا يكفي الشجب الخجول، ما لم يُعلنوا قناعاتهم بلا مواربة. لكن الفقهاء للاسف الشديد اما مشغول بالافتاء لحركات التطرف، يشعل نار الفتن، ويبرر سفك الدماء باسم الدين، ويعمق مشاعرنا الخرافية، او جالس في بيته قديسا، تُقبّلُ الناس البسطاء يديه، لا يغادر القرن الأول، ولا يدري بما يدور حوله، ولا يتصدى لأي مسؤولية شرعية خارج اطار مسؤولياته الفقهية التقليدية، ويفرض على الاتقياء من المؤمنين دفع "حقوهم الشرعية من خمس وزكاة"، يفعل بها ما يشاء هو وحاشيته، مع انها مخصصة للفقراء والمساكين واصلاح شؤون المسلمين.

الغاء الشريعة أم فقه الشرعية؟

ثمة سؤال ترتعد له فرائص الفقيه: (هل يمكن الاستغناء عن بعض الأحكام القرآنية؟ وهل يمكن اعادة النظر في فعلية أحكام الشريعة التي صدرت لواقع ما قبل 1400 عام؟،).

لا نقول الغاء الشريعة، لكن نطالب بفقه الشريعة في ظل التحولات الزمانية والمكانية، والأخذ بنظر الاعتبار واقع المسلمين رجالا ونساء، وتقديم قراءة جديدة للدين. والفرق هائل بين الالغاء والفقه. الثاني لا يغادر الشريعة ومبادئ الدين من أجل رؤية متجددة في الفقه. وهذا ما ندعو له.

لا شك ان النفي سيكون جواب الفقيه بلا تردد، ما دام مكبّلا بتقليد السلف، وعدم مخالفة المشهور. ويشكو قصورا في وعي الشريعة ومقاصدها، ويلازمه خوف يفرض عليه الاحتياط في الفتوى بكل انواعها، من أجل براءة ذمته الشخصية، على خلاف مبادئ القرآن في السعة والرحمة. لكن ماذا عن الناس وما يواجهونه من احراجات؟ هذا لا يهمه. وماذا عن مصادرة سماحة الشريعة وسهولتها؟ هنا يصمت الفقيه، متعللا بقواعد اصولية صنعها بنفسه ثم جعلها سلطة عُليا توجه وعيه، وتتحكم بفتاواه، كالاحتياطين العقلي والشرعي، واستصحاب الحرمة وبقاء الأحكام كما هي، الى غير ذلك. والأغرب ان بعض الفقهاء يفتي خلاف قناعته الفقهية مراعاة للمشهور!!!.

اما لو عدنا لمنطق القرآن فسنجد متسعا كبيرا، خاصة والفرق واضح بين الدين والشريعة، والخلود قرآنيا للدين وليس للشريعة. قال تعالى: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب" (الشورى: 13).

لكن بخصوص الشريعة يقول تعالى: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ" (المائدة: 48).

فالدين ثابت، وهو الايمان بوحدانية الله عزوجل وملائكته وكتبه ورسله وعدم التفريق بينهم، كما جاء في الآية الكريمة: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" (البقرة: 285).

والفرق ان الشريعة تقصد مصلحة الانسان، وقد أقر الفقهاء ان الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، وتتناسب معها طرديا، فترتفع درجة الالزام كلما كانت المصلحة اقوى، والعكس صحيح بالنسبة للحرمة عندما تكون هناك مفسدة. وليست المصالح والمفاسد مطلقة في كل الازمان والاحوال، وانما نسبية، تختلف تبعا لمصالح الفرد والمجتمع. وهذه القاعدة اذا لم تنطبق على جميع الأحكام فانها بلاريب تنطبق على ما يخص التشريعات الشخصية والاجتماعية، كالأحكام الخاصة بالمرأة، او الرق. ناهيك عن الأحكام الولائية والقضايا الخارجية.

كما ان وجود شريعة لكل حقبة زمنية أقرب للعدل والانصاف، وهما مبدآن قرآنيان صريحان، تدور حولهما كثير من الآيات القرآنية.

وعندما ندعو لذلك، نؤكد، ان عملية ترقية الأحكام اضافة الى كونها تراعي المصالح، عملية منضبطة وفقا للمنطق القرآني. فنراه يكرّس السعة والرحمة علة، عندما يستبدل شريعة باخرى او حكما بآخر، كي لا تتحوّل الأحكام الى إصر وغل يعيق حياة الناس، رغم انها لم تكن كذلك عند تشريعها (لانه خلاف العدل والانصاف وخلاف رحمة الله ورأفته بالناس بل فيه ظلم عظيم لهم). وهذا ما تؤكده الآية اذ تقول: (الّذين يتّبعون الرّسول النّبيّ الأمّيّ الّذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التّوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطّيّبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال الّتي كانت عليهم فالّذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوا النّور الّذي أنزل معه أولئك هم المفلحون). ﴿الاعراف: 157) ..

اذاً نستفيد من الآية امكانية التخلي عن الحكم عندما يتحول الى غل يكبل حركة الفرد والمجتمع. وهذا منطق قرآني سليم، فلماذا لا نهتدي به في فقه الاحكام الشرعية راهنا؟.

ثم بما ان تطور الشرائع سُنة الهية ثابتة، فمجتمعنا أولى بتشريعات تناسب أفقه الجديد (وعيا ودورا ومسؤولية). ولا سبيل لذلك مع انقطاع الوحي، سوى فقه الشريعة في ضوء مقاصدها وغاياتها، والارتكاز الى العقل، والاستفادة من معطيات العلوم الحديثة، وتجارب الأمم، ومراعاة مصالح الناس، والنظر الى المستقبل، والكف عن استفتاء الموتى في واقع لم يعيشوه، واستحضار الماضي والتراث في معالجة مشاكلنا وحاجاتنا. وهذا مبرر عقلائي آخر وفق منطق القرآن الكريم، الذي يتطلع لخير الانسان، ويتحرى اليسر ووضع الاغلال عنهم. وينبغي ان نتذكر دائما لو كانت الشرائع صالحة لكل زمان ومكان لخلدتها الكتب السماوية، لكنها ركزت على الاديان ومبادئها وقيمها وتاريخها ومسارها، واهملت ما يتعلق بالتشريعات، لهدف لا يخطأه الوعي، والعقل المتوقد، فمتى يعي الفقهاء مسؤولياتهم؟؟.

والأهم، يمكن مقاربة الموضوع اصوليا، حيث ان فعلية اي حكم تتوقف على فعلية موضوعه المتوقف اساسا على فعلية جميع شروطه وقرائنه ومقدماته. وعندما نقارن موضوعات الأحكام نجد واقعا مباينا، وامرأة مختلفة وشخصا مغايرا. فالانسان لا يقاس بجسده، والحكم لا ينصب عليه بما هو كائن بشري، والا ما الفرق بين شخص وآخر، حينما نصف الأول مؤمنا، والآخر كافرا او مشركا ونرتب عليهما حكما شرعيا؟ أليس بما يحملانه من أفكار وعقائد ومواقف ومسؤوليات؟ .. فالأحكام لا تقصد المرأة ككائن بشري، وانما تقصدها وعيا وثقافة ودورا ومسؤولية وواقعا اجتماعيا، ولا شك ان المرأة بهذا الفهم هي غيرها في زمن التشريع. فاذا كان اخضاع المرأة للرجل ضمن ضوابط في ذلك الزمان تحريرا لها من واقع أسوء يصادر حيثيتها وكرامتها وانسانيتها، فانه اليوم يُعد عبودية وامتهانا، بعد ان اثبتت جدارتها في كل مناحي الحياة، بل بات الرجل رغم مكابرته يعتمد على عقلها وتدبيرها. فالنظرة الدونية لها باتت ادانة للدين والتراث وسيرة السلف الصالح. فالمرأة ما عادت متخلفة، ولا عورة، بل غدت تنافس الرجل على جميع المستويات، وتتقدم عليه في حبها للأمن والسلام ورفض العنف، واستهجان السلوك الخشن.

المشكلة الأساس، ان الفقهاء يعتقدون ان الأحكام شُرعت دفعة واحدة، ولم تُشرع لمعالجة واقع معين. بينما الحقيقة ان الأحكام في غير العبادات جاءت لمعالجة واقع كان يعيشه الفرد والمجتمع آنذاك، وجميعها من هذه الزاوية تعتبر آنئذٍ قفزات انسانية وحضارية قياسا بما سبقها. فالمرأة التي حكم الشرع لها في ضوء دورها ومكانتها بنصف الإرث مثلا كانت قبل التشريع لا تتقاضى شيئا، بل كانت كمية مهملة في خدمة الرجل ووعاء لشهوته وشبقه، فنصف الارث في وقتها يتناسب مع دورها ومسؤولياتها، اما اليوم فالامر مختلف. وكذلك بالنسبة للرق وأحكامه قياسا لما كانوا يعانونه على يد اسيادهم قبل التشريع، وايضا كثير من الأحكام الأخرى كالقصاص والحدود. لكن اليوم بعد مرور 1400 عام صار ينطبق على بعض الأحكام صفة الغل والإصر، كما ان بعضها الآخر لا موضوع له كي يكون فعليا.

والأهم سيكتشف الفقهاء عند مراجعة اطلاقات الاحكام عدم فعلية جملة منها، وانما ذكرت قرآنيا كتاريخ من سيرة النبي الكريم وما واجهه، وليس المقصود تشريعا ملزما للمسلمين بعده.

ولو اعاد الفقهاء النظر في الجهاد وموضوعه لاكتشفوا ان موضوعه الدين والرسالة، التي انتصرت بصريح القرآن: (اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا)، وقوله تعالى: (اذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله افواجا فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان توابا). (وقد كتبت عن هذا الموضوع تفصيلا في كتابي: تحديات العنف). بل كل الحروب بعد النبي الكريم لا يصدق عليها جهادا، وانما صراعات سياسية وتوسع بقرارات شخصية، يتحمل وزرها اصحابها. فلا فعلية اذا لآيات الجهاد لعدم فعلية موضوعه وانتفاء شرطه، اي الحرابة المُفضية لفناء الدين وانهيار الرسالة. والدفاع عن النفس والعرض والقيم والمبادئ والاوطان واجب على الجميع ولا يحتاج الى تحريض ديني، فلا تضللنا سيرة الخلفاء والسلاطين في ايجاد مبررات شرعية لكل حروبهم وغزواتهم من اجل تجنيد الطيبين من الناس وزجهم في معاركهم وفتوحاتهم، لانها حروب شخصية وسياسية. من هنا ينبغي للفقه الحذر في تعامله مع سيرة غير النبي الاكرم، إذ لا حجة شرعا الا لسيرته المتعلقة بالقرآن وأحكامه، حيث قال تعالى "ما آتاكم الرسول فخذوه".

نأمل ان يكون سلوك المتطرفين الاسلاميين والريبة التي تدور حول أحكام الاسلام دافعا لمراجعة مبادئهم ومتبنياتهم الاصولية والفقهية لتدارك الامر قبل فوات الآوان، ولانهم مسؤولون امام الله عزوجل: "فقفوهم انهم مسؤولون". ولا مسؤولية كمسؤولية الفتوى، فالفقيه اما ان يكون مجتهدا لا مقلدا لمن سبقه او يستقيل. وسنبقى بانتظار فقيه يقدم لنا قراءة جديدة للدين وآيات الأحكام، تفقه الكتاب والسيرة النبوية ضمن شرطهما التاريخي. قراءة شجاعة تاخذ بنظر الاعتبار فلسفة التشريع وتاريخ الأحكام، كي نلحق بركب الحضارة وننفض عنا غبار التخلف، كل ذلك في اطار مقاصد الشريعة وغاياتها، بعد تأسيس منهج جديد لتوثيق الروايات، ووضع قواعد اصولية تحقق اكبر قدر من اليسر والانفتاح.

وسيبقى حلال محمد حلالا الى يوم القيامة، وحرامه حراما الى يوم القيامة (كما يريدون) لاننا لا نبغي إلغاء اي حكم، وانما تنتفي الأحكام بانتفاء موضوعاتها تلقائيا، وما علينا الا التأكد من فعلية تلك الموضوعات.

واقصد بالقضايا المحرمة ما ثبت منه صريحا في القرآن، والا فان المحرمات اتخذت مسارا تصاعديا مع فتاوى الفقهاء، بينما هي قرآنيا محدودة، وواضحة، حيث يقول تعالى بالنسبة لحرمة بعض الاطعمة: (قل لاّ أجد في ما أوحي إليّ محرّما على طاعمٍ يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دما مّسفوحا أو لحم خنزيرٍ فإنّه رجسٌ أو فسقا أهلّ لغير اللّه به فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فإنّ ربّك غفورٌ رّحيمٌ) ﴿الانعام: 145).

وردا على من يقول: (أحكام الله لا تقاس بالعقل)، اقول: "لا فقه لاحكام الله الا بالعقل". ولولا العقل لما كلفنا الله بالامانة، ولولاه لما تحملنا مشقة المسؤولية. وليَعلم الفقهاء ان زمن الاصغاء ولى، ومع تطور العلوم المرتبطة بالنص صار بالامكان فقه ومعرفة مقاصده، اذاً، ليتداركوا الامر قبل فوات الآوان. والله المستعان.

***

ماجد الغرباوي - كاتب وباحث

15 – 10 – 2014م

تَعالتْ صفيراً

سَنا البَرقِ لونُها

تسَربَلتْ ناراً حمِئةً

تتهادى

تَهبُ الليلَ حلكَةً

شوهاءُ تلتهمُ الردى ..

شاحبٌ صدى أنينها

يتناسلُ دماً يلتهمُ البراءةَ

*

وانا المسجى بين حرفين

تبتكرُني الريحُ شراعاً

يُراقصُ ضوءَ أقبيتي

أترقبُ

خاوياً بينَ ضلوعي

يلفني التماهي

صمتاً

مطبقاً

*

مذهولاً أستردُ أنفاساً

تراودُ كلكامش في حُلمهِ

فيغمرَني الحنينُ

ينسابُ بين أصابعي

وتنسلُّ رايةٌ

تُصارعُ المدى

وذاك المُراقُ بين لهاثِ الدروبِ

دمي

***

بقلم: ماجد الغرباوي

7 - 10 - 2014م

لم يشهد التاريخ كذبة مدوية كـ "الانتماء الطائفي". كذبة استغلها رجلا الدين والسياسة، فكانت وقود الصراعات على طول التاريخ، حتى راح ضحيتها اعداد غفيرة من الناس الطيبين والبسطاء، بعد ان تمزقت شعوب كانت متماسكة لولا هذه الآفة البغيضة.

لا مشكلة ان ننتمي لطائفة معينة، نعتز بانتمائنا لها، ونفتخر بتاريخها ورموزها، ونتمسك بمذهبها العقائدي والفقهي، خاصة وان الدين بعد وفاة الرسول تشظى الى طوائف وفرق ومذاهب، كل له مبادئه وآراؤه، ومتبنياته العقائدية والفكرية، وانما المشكلة في وعينا لهذا الانتماء، عندما نعتقد اننا على حق مطلق وغيرنا على باطل مطلق، يحق لنا نبذه وتكفيره، وجواز قتله، باعتباره من اهل النار، مرتدا او منحرفا او مشركا او كافرا. لا يشاركنا في الحقيقة ولا بجزئها.

واعني بـ "الانتماء الطائفي"، شعور الفرد بالانتماء لطائفة بعينها على أساس أحقيتها، وامتلاكها الحقيقة دون غيرها، حتى تصبح الطائفة المقوّم الاساس لهويته، بل ان البعض لا يرى في هويته سوى انتمائه الطائفي، ويرى نفسه في اتحاد وتماهي كامل معها. من هنا راح كل من رجل الدين والسياسة يوظّف "الانتماء الطائفي" باتجاهين: داخلي، لتعميق الأواصر وخلق روح من التماسك والانسجام. وخارجي، للتحريض ضد الاخر الخصم والعدو. وبالتالي فالطائفي هو حطب معركة رجل الدين والسياسة وهو الخاسر الوحيد من خلال حجم التضحيات، التي تتناسب مع حجم ايمانه بثوابت ومقولات طائفته.

ويمتاز "الانتماء الطائفي" عن غيره من النوازع ببعده العقائدي، الفكري، الديني، وقدرته على تعبئة وتجييش المشاعر الفردية والجماعية، وهذا لا يتحقق حتى بالنسبة للانتماء القومي الا نادرا. فالشعور الطائفي أقوى وأقدر على استنهاض الهمم الدفاعية والقتالية. فقد يتنازل الانسان عن جزء من وطنه او يتراخى في الدفاع عنه، لكنه لا يتكاسل في الذب عن طائفته، والدفاع عن معتقداته، مهما كانت واهية وبسيطة.

و"الانتماء الطائفي" في مخاضه فكرة بسيطة ثم تتضخم بفعل تراكم التهويل والأوهام، وعادة يلجأ له المتصارعون سياسيا، للمحافظة على كيانهم السياسي، ثم يأخذ طابعا فكريا – عقائديا تُرسخ جذوره دينيا بمرور الزمن، حتى يتحول "الانتماء الطائفي" الى منظومة قيم ومفاهيم عقائدية – فكرية. ويبدأ التأسيس العقائدي من الرأس، من القائد والرجل الأول فتُنسج حوله حكايات وقصص، تمنحه بعدا اسطوريا، وتضفي على سلوكه شرعية مطلقة، وتصبح تحركاته (نجاحاته وانكساراته) مقدّرة في عالم الغيب. ثم بمرور الزمن يتواصل التراكم (معجزات، كرامات، مظلوميات، خوارق للطبيعة، علم بالغيب، عدالة مثالية، مناصب الهية ...)، فيغدو كل ذلك حقائق مطلقة ومقدسة، ترسم معالم هوية الانتماء الطائفي، وبالتالي عندما تتفحص اي انتماء طائفي تجده مليئا باساطير ترسخت بمرور الزمن فغدت حقائق في اذهان معتنقيها، فيستحيل التشكيك بها، بل وتصبح هي المعالم الحقيقية لهذه الطائفة او تلك. وتارة تصل الهشاشة في تلك المرتكزات العقائدية الى درجة ان اي مقاربة تاريخية تطيح بكل مقوماتها، لهذا يتفادى خطباء الطائفة ومتكلموها اي مقاربة خاصة ضمن المناهج العلمية في قراءة التاريخ والحوادث التاريخية.

والغريب رغم تناقض الافكار والمعتقدات بين الطوائف (السنة والشيعة) او (الكاثوليك والارذودكس) مثلا، الا ان كل طائفة تعتقد انها على حق مطلق، والاخر باطل مطلق، وكل طائفة تعتقد هي الفرقة الناجية يوم القيامة، والاخر مخّلد في النار. دون الالتفات الى حجم الأوهام والاكاذيب في منظومة القيم والمعتقدات. والمشكلة الحقيقية عندما تدفع تلك الأوهام باتجاه التنابذ والكراهية والاحتراب.

ان وعي الحقيقة بحاجة الى قدرات عقلية وجرأة تتحدى الممنوع والمقدس، وتتوغل في اعماق الفكرة والمعتقد بعد مقاربات تاريخية جادة، حينذاك سيكتشف الفرد حجم الوهم والأساطير في مساحة واسعة من معتقداته، وهذا كان اول خطوة على طريق التصالح بين الكاثوليك والارذودكس. لكن ما زال السيف يقطع وتين المخالف بين طوائف المسلمين بعد تكفيره، وهي مأساة ترتبط بالوعي والنوازع السيئة لرجل الدين ومن ثم رجل السياسة. ان الحقيقة التي يعتقد كل منتم ٍ لطائفته بانها حكرا عليه، لا وجود لها الا في ذهنه، وستتهاوى تلك الحقيقة عند اول اختباري نقدي. ليس هناك حقائق مطلقة، انما هي اوهامنا نضفي عليها ما يشبع حاجتنا للفكرة والمعتقد، خاصة تلك الافكار التي تعالج يأسنا واخفاقاتنا، وتمنحنا أملا كبيرا ولو مؤجلا. انها قراءات ووجهات نظر وتلفيقات تغدو حقائق ومقدسات.

وتبقى المشكلة اليوم عندما تجد نفسك محشورا في زاوية الطائفية خارج عن ارادتك، وعندما تجد نفسك مصنفا على هذه الطائفة او تلك وانت لا حول لك ولا قوة، ولا تستطيع الدفاع عن نفسك واستقلاليتك. وهو موقف صعب. ان الشعور بالاستقلالية يتناسب عكسيا مع عمق الانتماء الطائفي، حيث يصبح الفرد مسلوب الارادة، اداة بين رجل الدين والسياسة، يتوجس من مخالفتهما ما دام الامر مرتبطا بهويته وطائفته. انه يراها مسالة مصير، بين الحياة والموت، فهو مستعد لكل شي لاجلها، وهذا ما يريده رجلا الدين والسياسة ان ينقاد الشخص من حيث لا يشعر وفاء لمبادئه وقيمه، لذا تجدهما يعزفان على مخيال الشعب، ويناشدان مشاعره واحاسيسه دون ايقاظ عقله ووعيه.

لا عتب على الانسان العادي حينما يندفع ضمن العقل الجمعي، او ينساق لا اراديا تحت وطأة المخيال الشعبي، لكن ماذا نقول عندما نشاهد مثقفا او مفكرا يرفع راية الانتماء الطائفي، ويحشد لتعميقه؟ ألا يشعر بحجم المأساة، وحجم تداعيات الصدام الطائفي، وما يترتب عليه؟ فمتى نفيق؟؟؟

***

ماجد الغرباوي – باحث بالفكر الديني

1 – 9 – 2014م

 

 

أدمنت قارعة الطريق، اتصفح وجوها كالحة، ترمق السماء تارة، وأخرى تنظر منكسرة، حتى إذا هبط الليل أو يكاد، رأيت مذهولاً يسابق الناس، كمجنون يستفزهم بهذيانه. استهوتني متابعته، فرحت أعدو خلفه، كان يباعد بين خطواته، يتلفّت مرعوباً .. خفت أنْ يسلك طرقاً وعرة أو مجهولة لا أعرفها، فقررت العودة، وجدت نفسي مشدوداً إليه، كان غريباً في أطواره، حركاته، نظراته. كاد لشدة ذهوله أنْ يرتطم بجدار فصرخت في جوفي لولا أنْ يفيق فيتحاشى صدمة عنيفة.

 واصل مسيره والليل يلتهم ما تبقى من خيوط النهار، حتى بدا شبحاً، وأنا اقتفي أثره بصعوبة فائقة، كي لا أضل، أو أنزلق في منحدر أو نهر، يمنعني من اللحاق به.

تسلقنا جبلاً، هبطنا وادياً .. انعطفنا يميناً وشمالاً .. هو في ذهوله، وأنا أتلظّى غضباً او ندماً، مع كل مشهد يواجهني ..

***

كم مضى من الليل؟ .. سألت نفسي.

لا ادري، وصار الفجر أمنية تراودني. تمنيت لو يتمهّل أو ينظر لي كي أتحرى وجهته، لكن دون جدوى بعد أنْ شدّ من عزمه وراح يطوي المسافات ملهوفاً، حتى لاحت شجرة عالية، أغصانها كشراع يتماوج في يوم عاصف، فتهلل وجهي بعد أنْ أخذ التعب مني مآخذاً لعلنا نستريح، أو نهجع قليلاُ. أو ربّما أحظى بشربة ماء أطفئ بها لهيب عطشي. فلمّا اقتربنا، سمعت حفيف شجر كثيفٍ، وأصوات طيورٍ باغتها خوف قضّ مضاجعها، فاطمأن قلبي، لولا رعب تملكني عندما اكتشفت أنها غابة وحوش ضارية، فترددت في اقتحامها، وتمنيت لو أن بي قوة فآوي الى كهف، أو أعود أدراجي.

في لحظة ذهولٍ توارى عن ناظري، فتحيّرت .. ماذا أفعل؟ أردت أنْ أصرخ .. تجمّد صوتي فوق شفتَي، وصدر مني ما يشبه غمغمات متكسّرة. ولمّا لاح لي، هدأتْ سريرتي، وتابعته حذراً، خشية أنْ يختفي ثانية.

عاد مهرولاً كأنه وجد ضالته، رمق السماء بعينه، ثم تصفّح الأشجار واحدة واحدة .. ضبط عددها، كأنه يعرفها أو يبحث عن شيء ما، ثم راح ينظر ملياّ وهو يضرب بقدمه .. اجتاحته رهبة وهو يشير الى جهة اليمين، ثم انعطف شمالاً ليطوف حول شجرتين صغيرتين، وبصره ظل يلاحق شيئاً ما لا آراه لكنه يشعر به، لا يزيغ عنه .. ركّزت نظري جيداً .. ما هذا؟ كأنه يكلّمه او يوحي له، فسمعت نواحاً لا أعرف مصدره، أو خُيل لي.

 ربما فقدت صوابي، لا أدري ..

 أو شطحت مخيلتي، أو خالطني مسّ من الجنون ....

التقط عوداً ورسم بين الشجرتين الصغيرتين، كان يحرص أنْ يكون دقيقاً في تحديد أبعاد ما رسم .. أدهشني وهو منكب على عمله.

ما حلّ به؟

بدا غريباً .. يتزلزل .. انهمرت دموعه، وراح يصدر عنه ما يشبه البكاء، وأخذ يندب، ويشكو، ثم أفترش الأرض. سمعت صدى نشيجه يتردد في صدري، فتكسّرت عبرتي، تمنيت لو أقدر على شيء، لكن وجدتني عاجزاً، مذهولاً، ينتابني غثيان يخطف وعيي.

 وضعت رأسي بين ركبتي لاتماسك، وأنا أصغي اليه، يرفع صوته .. يصرخ  .. يصرخ حتى يتلاشى، ويبقى ما يشبه الأنين. 

عدت أنظر إليه هالني حزنه وبكاءه، كان يحتضن لوحة تُزيّنها زخرفات وبعض كلمات .. سقط على وجهه سمعت دويّه يتردد في أرجائي .. اقشعر بدني، وأُغشي عليّ.

فقت صباحا تذكرت ما جرى، عاودني الحزن، وفغرت فمي عندما عرفت:

 أن المرمّل كان:

.

.

.

قلبي

*** 

ماجد الغرباوي

 2014-04-27 

على شفا همساتِهِ اللاهثة

هوّمتْ آثامُ البراءةِ

تَستبيحُ صَومَعَتي

تُرفرفُ عاليا

لتُعانق قداسةَ أنفاسي

ثم تَدُسُ بينَ حَنايا صوتي

ما يُشبهُ اللحن

صَفيحا ترَهّلتْ أوتاره

*

لم يكن سِفاحاً ذلك الضوء

إنها طقوسُ مخالب الشمس

كادت تُعاقرُ صبابَة كأسٍ

موشى بحمرةِ ذنبٍ مُعتّقٍ

يَستغيثُ ...

يُصغي لصدى سمفونيَتهِ

يعلو أمواجَ الخطيئةِ

حتى إذا بَلغَ مَطلعَ الماءِ

تَوارى يَلتَهمُ عثَراته

*

ولما تَناهى ثامنُ الطيفِ

ذلك الوهمُ البابلي

أَسدَلتُ دونَه غِشَاوَةً

ورحتُ ألهو بسحائبَ الليل

حثيثا استعيدُ ذُبالةً

توقّدتْ نارُها

***

بقلم: ماجد الغرباوي

2014-02-16

شاهقا كان المدى

يتوسّدُ ناصية َالسماءِ

غارقا في هَذيانهِ

يَتَصَفحُ  جُرحاً

تقرَّحتْ زَفَراتُهُ العاتية

*

أي ذهولٍ ينتابُ شجرةَ الغِوايةِ ..؟

.

.

سرابا ارتدى

حُلْمُ المتاهاتِ القصيةِ

راح يتلو سورةَ الماءِ

وشيئاً من آياتِ الحطامِ

يستعيدُ بقايا موبقاتٍ

وثرثرات

*

مــا جدوى ضفائر الليلِ!!

خيوط شمسٍ

تَلعَقُ تَمتَماتٍ وَلهى

وأُخرى .. تستعرُ ناراً حاميةً

*

يــــالدهشة السؤال!!

.

.

آلهةُ المعابدِ الرُخامية

تركوا البابَ موارباً

فتسمّرَ الضوءُ!!!!

يعانقُ أوهامَ الحقيقةِ ..

ونبوءة المرمى الأخير

تُمزّقُ أكفانَهُ البالية

*

في مراياهم المُقَعَّرَةِ

ذَوَتْ مصابيحُ الحانةِ

فتلعثمَ الحرفُ

يشكو انبهار خيبته

وراحَ صفيرُ العاديات

يستبيحُ مأوى القداسةِ

ويستعيدُ مزماراً

سَرَقَتهُ نارُ الوشاية

***

بقلم: ماجد الغرباوي

2014-01-10

تمرّدت ذاكرتي، فساورتني شكوك بلهاء، أناخت بأحلامي المتعبة .. ليلا عقدتُ العزمَ وتسللتُ خلسة أطوف في أرجائها .. أتصفح عوادي الأيام حتى عثرت على أشلاءٍ موشّاة بحمرةٍ، أو بقايا بقع دمويةٍ .. أشلاء تعلوها ابتسامةٌ بليدة، بينما تَمَوَّجَ ظلُها فوق أرض رخوة، تصافح مطرا غاضبا.

كأني أعرفها، او التقيتها على قارعة الحياة. لا أدري أين؟ .. حاولت جاهدا لعلي أتذكر أطراف الحكاية.. هل قابلت تلك الأشلاء حقا؟ متى وكيف؟

دنوت حذرا يستبد بي رعبٌ مزلزلٌ، كأني على مشارف كابوس باغتني وأنا في نشوة حلم جنوني. حاولت ألمس تلك الأشلاء، تناثرت رمادا بين أناملي الذابلة، ثم رَسَمَتْ سبعَ دوائر تدور حول بعضها .. شغلتني السابعة .. لماذا راحت تطوف ببطء، تأخذني نحو عوالم غريبة، ثم تقودني الى نفق مجهول، تسرح فيه بقايا ذكريات، تُومئ نحو أفق بعيد حيث مطلع الشمس، فاستدير برأسي لعلي أتذكر أين التقيتها .. أي حزن يراود عينيها؟ كيف تجمّدت فوق شفتيها الباردتين ابتسامة باهتة؟ أي خطب ألمّ بها؟ أي فقدٍ أصاب أوصالها الممزقة.

حالت ظلمة الليل دون معرفة تفاصيلها، وظلت دوائرها السبع لغزا محيرا، أقترب في حلها تارة وأخرى أتيه في دلالاتها. وكلما دَنوتُ من السابعة شعرتُ بثقل جسدي يترنح على أرصفتها، حتى نفد صبري، وخارت قواي، وتبددت طاقتي، فرحتُ أندب حظي، لعل أحدا ينتشلني .. لكن أين التقيت تلك الأشلاء؟.

فقت قليلا ، أو كدت ..

ثم تذكرت فصرخت في عمق الليل

.

.

.

إنها أشلائي !!!!!

***

بقلم: ماجد الغرباوي

2013-12-05

على سَـفَـحِ الكلمات

تَدَحرجتْ همهماتٌ

صدى

خافق يخطف الطيرَ

في أحشاء الشفقِ الوردي

*

مُستَفَزَةٌ هذياناتُ الناي

تتهاوى

حطامُ دمك  .. يروي بيادقَ اللعبةَ الفينيقية

بأيَّ مرفأ سَتُرسي موناليزا تمثالك الخشبي؟

*

تستهويك الغوايةُ

طائرا

يستدرجهُ البحرُ سرابا

*

حَفيفُ جَناحَيك

يُشاغلُ

أوتارَ الوشايةِ

*

ترجّلْ ....

ساحرةٌ دُعابَةُ الليل

تُهدهدُ همسات النسيم

*

نجمةُ الصباحِ

حلمٌ مسفوحٌ

يراودُ قهقهات المطر

*

شعاعُ عينيك

يعانق أهداب الفجر

يختزلُ المدى

*

غثيانُ الحروفِ

شظايا

قصائد بلهاء

*

لن يتفجّرَ الحجر

صمٌ، بكمٌ،

 فهم لا يعقلون ...

***

بقلم ماجد الغرباوي

10 – 10 2013

عميقا تهادت أناملُ الشمسِ

تمزّق شرنقة الغرورِ

*

سُلّـمٌ يدي

تفتدي

سنا النيازك

*

توغّلْ .. توغّلْ

فلذيذُ الطعنات

آلامُها

*

سامقا تعاقرُ آلهة الحب

مترعة جداول الصباح

بذلك الضباب الرومانسي

*

توغّلْ .. توغّلْ

فلذيذ الطعنات

آلامُها

*

في مدياتك القصية حلمٌ

شاسعان جناحاك

حلقْ .. فلن تجدَ سوى الريح موطئا

*

تشدكَ ازرارُ اللهفة

وقود حناياك دمي

*

توغّلْ .. توغّلْ

فلذيذ الطعنات

آلامُها

*

آهات تساقطت، فراحت تـُلملم جـُرحَها،

ولمّا اقتحمت فناءكم، كان عليَّ أن اعتذر لكم جميعا

***

ماجد الغرباوي

5 – 7 - 2013

تململت في فراشها الوفير.. راحت تتابع الأفق يعلو ويهبط مع أنفاسها.. صغت لحديث روحها الهائمة.. نداء القلب تهاوى تحت وطأة خيباتها.. مخاوف جمة زلزلت وداعتها.. تنهّدت.. أغمضت عينيها.. أخذت تعدو خلف بقايا ذكريات موجعة.. أطلت بذهول على ربوع حديقتها الغناء. لاحت لها شجرة رابضة في الجانب الآخر.. شامخة.. وارفة الظل.. فارعة الغصون.. تزهو بخضرتها.. شغلتها هالتها عن رؤية ذبول أحد أغصانها.

ميامي التي ألفت لوحتها الجميلة، أصبحت تنقل نظرها الذاوي بينها وبين الشجرة، تمنت لو تحدّثها عن بعد ولو همسا، أو تصغي لآهاتها.  شعرت بانجذاب شديد وغريب نحوها، جرّبت أن تتشاغل عنها، أو تغيب يوما أو أكثر.. أفقد الفراق صوابها.. أرسلت حفنة أشواق معتقة. أجابتها الشجرة بباقة آهات حالمة، انتشرت كفراشات ملوّنة على سطح اللوحة الهامدة في زاوية الغرفة.

 شدّ انتباهها ظلال الكلمات.. حافات صارخة. اقتربت منها.. تراقصت أمامها.. راحت تداعب أحرفها.. ذهلت.. تراجعت.. خوفا أو دهشة.. تسمّرت أمام اللوحة ثانية.. تبدلت ملامحها، ارتبكت وهمسات الروح ظلت جاثية، يتدحرج ظلها فوق جسدها المتهالك. غدت الشجرة اماً تغفو في حضنها.. صديقة تبوح لها بمكنونات قلبها.. حبيبة تبعث الأمل في حطام الأيام. وغدت لوحتها منديل حرير ترتسم فوقه أحلامها، وتتبادل من خلالها مشاعر الحب. تشتبك مع الشجرة بخصام ودود، وتعانقها كلما شعرت بحاجة الى الحنان.

ذات يوم جالت ببصرها.. حددت موقع الشجرة بدقة، تفقّدت غصونها، واحدا واحدا، هالها ذلك الغصن اللعين، راح يتدلى مودعا أنفاسه. هل ستموت الشجرة بموته؟؟ بكت.. شعرت أن جزءا منها ستفقده الى الأبد، راح الإحباط يبدد آمالها، عادت تجر أذيال الخيبة، تسمع نشيج وحدتها. ركزّت نظرها على تقاطعات لوحتها، جالت ببصرها في زواياها الأربعة، بدأت حناياها تتماوج.. منظر غريب.. بحيرة جميلة.. راحت أشعة الشمس تنعكس على حافاتها المنسدلة..  كان ماؤها ساكنا.. سوى موجات هادئة خلفتها رياح عابثة.. اقتربت من الشاطئ.. أمسكت بحجر ينوء بثقله.. ألقته في عمق البحيرة.. تلاحقت الأمواج.. شقت عباب الماء.. ارتطمت بضفاف البحيرة الشمالية. اندهشت حينما رأت كائنا هلاميا، حسبته بشرا يتوشّح سمرة خفيفة. هكذا تراءى لها للوهلة الأولى.

نظرت اليه، أومأ اليها. التمعت أساريرها. أرادت أن تحيي طلعته، لكنها أفاقت.. كبتت مشاعرها.. أغمضت عينيها، وكأنها تذكّرت عهدا قطعته على نفسها، أو قـَسَماً لا تريد أن تحنث به.

تراجعت، وقلبها ينصت لهمساته الغامضة. راحت تلاحق ظلال الشجرة، لاحت منها نظرة جديدة، رأت ذلك الغصن، وهو يودّع الحياة، تاركا فراغا كبيرا.

 شعرت برغبة جامحة لاكتشاف حقيقة ذلك القادم من بعيد. وكيف لها أن تتأكد من صدقه. شعر بقلقها رغم بعد المسافة، أشار لها.. التفتت الى الوراء، عادت ثملة، أسكرتها عذوبة الوهم، تأكد من جدوى لعبته.. عزف ألحانا أكثر جمالا، صبا لها قلبها أو كاد.. تخيلت أنفاسه الدافئة.. راحت تقتفي آثاره وهي محلّقة في عالمه.. تلاحق لهاثه المتعثر.. تستعير من الصمت لغة تتناغم مع وشائج قلقها.

أفرد جناحية، فرحت من أعماق قلبها، أوحى لها بشئ.. لم تصدقه.. تمنت لو يتحدث أكثر.. ظل مواربا في أجوبته، وراح صدى صوته يتغلغل في أعماق تنهداتها.

عادت تفكر ماذا تفعل، أنه حلم أشرق من شاطئ الشمال. هل ستساعده في تحقيق رغبته؟ أم  أكثر من ذلك تتعهده وتتبناه، وربما....

انها فرصة عظيمة.. لا تتكرر. أشاحت بوجهها مبتسمة: ليس مهماً ان اعرف من هو ما دام نبضه يتردد في شراييني.

 كلمتان راحتا تعبثان بها. إنه قرار صعب.. خطوة كبيرة.. مساران بين حياتين. أستبد بها التعب، ألقت بنفسها على سريرها، وهي تهذي.

آه ما أصعبه من قرار!.. هنا حقيقة الشجاعة.. لكن هل دائما يخضع الإنسان في قراراته لشروط الحياة، أم يكتفي بهيام قلبه ورعشات أنفاسه؟.

تسمّرت.. راحت تتقصى تلافيف روحها. هل....؟

 لا يعقل ذلك، كيف أتجرد.. أتخلى.. إنها مواثيقي..عهودي،  كيف أخلعها لمجرد ومضة أمل مجهول.

آه كم أحببتها.. همتُ بها.. لكنها صماء.. خاوية لا تروي عطشي تلك الشجرة.. مشاعري تتوق لقطرات الندى.. ساحطم أغلال الانتظار.

عادت تتهجى ما على اللوحة من كلمات.. صعقت.. وتملّكها الخوف. اللوحة غاضبة.. حروفها تزمجر.. تحذّر.. تتوعد.. ارتبكت، لكنها صممت على تحدى قلاع العذاب.

هل هو قرار نهائي...؟

يا لصعوبة الموقف، لا أفقه هذه الاسئلة.. إنني أذوي.. أتهاوى.. لا مفر من المغامرة.

عادت تنظر الى لوحتها، لا أحد يفهم ما تقول تلك الحروف الهامدة الا هي.. قرار مصيري.. الشجرة ما عادت تملأ عينيها. أرادت ان تلقي نظرة خاطفة، كي تستعيد ثقتها بتلك الفروع الشامخة، لم تر سوى ذلك الغصن اللئيم يتدلى. صكت وجهها وصرخت: إذاً سأكون له.

 لا.. لا.. لا.. لا. إني اجازف، إنه قرار خطير، كيف لي أن أضمن كل شي. القرارات الكبيرة قوامها الحكمة والتروي والبصيرة.. اما أنا فأتلخبط.. قلقت أنا.. سأكتفي بمساعدته. وليصارع الحياة بنفسه.

ما الفرق بين هاتين الكلمتين او المفهومين؟ حقا سؤال سخيف، أو جوهري.. لا ادري.

أي عذاب تبعث فينا اللغة، تتشابك حروفها ونضيع في لجج معانيها. اللغة أداة الغواية.. أداة الضلال.. محنة الإنسان مع خالقه.. مع الغيب، مع رجل الدين، مع رجل السياسية وحتى رجل المال.

اضطهدتني اللغة، كيف أختار؟ هل هو ضياع بين كلمتين؟ أم خيار بين حياتين؟ لكن لماذا أهتم به وأنا أجهل حقيقته؟ هكذا صعقتها هواجس العقل، الا انها لاذت بسذاجتها.

رددت تلك الكلمتين بشغف.. دققت في حروفهما، أحاطت علما بالمتشابه منها.. بحثت عن فوارقها.. دلالاتها.. معانيها. استنجدت بكل مصادر اللغة.. إنها مسافة شاهقة. هكذا أدركت بعد حيرة طويلة، وقلق تلاشت معه ابتسامتها المشرقة.

إذا سأنصت له ثانية وثالثة حتى أكتشف حقيقته، كي اتخذ قرارا حاسما. ظلت تترقب ظهوره، سهرت الليال.. أتعبها الأرق.. تركت نفسها تحلم.. تتمنى لحظة العناق، بعد أن ذابت شوقا على ايقاع همساته، حتى رقّ قلبها، وشرعت نوافذه.

ولما أطل ذات يوم صرخت بقوة: سـ.. سـ.. سـ...!! لاحت منه علامات الرضا والحبور.

أعدّت عدتها.. استرخت سرائره وهو يشاهد همّتها.. راح يرقص، وعيونها تزف له الفرح.. لكنها لم تنس الشجرة.. ألقت عليها نظرة الوداع.. تفقّدت أغصانها جيدا، رأت تقادم السنين وما فعلتها من شقوق بجذعها المتهالك، ركّزت جيدا. بات الغصن يتدلى، يقترب من الأرض، يلتقط أنفاسه الأخيرة، شدّت من عزيمتها، وخاضت غمار البحيرة.. فاجأها القلق.. خلعت رداء الشك ومضت.

تحركا معا.. وحلم اللقاء يتراقص فوق أهدابها. وبين فرحة وشهقة، كانت خطواتهما تقترب، تتهامس.. ولما ترنحت أقدامهما فوق الماء.. باغتتها الدهشه.. جفلت.. مشهد غريب...

التفتت الى الشجرة

ارهقتها حنايا أغصانها.

عادت لتصحبه

امتلأت قبضتها شوكا!!!

 ***

بقلم: ماجد الغرباوي

2013-06-27

الى المعدمين .. صبرا

كثمل ٍ ترنحتُ .. اقاوم ريحا عاتية .. هبت في يوم قائظ .. انعدمت معها الرؤيا الا قليلا.

كان قريبا مني .. هزني منظره .. نحيف .. طاعن .. حاسر الرأس .. يتصبب عرقا.

لا أملك سوى قنينة ماء، أُطفئُ بها حرارة جوفي الملتهب. أشرت إليها .. شكرني واعتذر .. لأنه كان صائما.

بهرني صبره .. كدت أصرخ لولا ذهوله عني، كأنه ينتظر قادما مهما، أو صديقا حميما ..كل ما استرعى اهتمامه مبنى متواضع .. قابع في إحدى زوايا الشارع .. يأمّه الناس بلهفة ..

فجأة هرول الشيخ الكبير، تاركا عمله، وهو يردد: وصل ... وصل...

استفهمت منه: مَنْ ..؟ .. مَنْ..؟

التفت إليّ وقد زاغ بصره:

انه رجل ....

ثم أردف يردد كلمات تلاشت مع لهاث انفاسه المتسارعة، غير أني التقطت من كل واحدة حرفها الأول، فوجدت نفسي أعدو خلف لغز محيّر. ماذا يعني:

رجل (د ...)، (د ...)، (د ...)، (د ...)،

تقاذفتني الشكوك .. جالت بي الأوهام .. أقتفيت أثره .. توترت حينما رأيت امرأة تحمل على كتفها الهزيل طفلا .. مريضا .. شاحبا .. قد دلفت الى ذات المكان ..

شاب يجر أذيال الخيبة طأطأ رأسه ودخل هو الآخر، غير مكترث لحيرتي وذهولي.

أضحى الشارع مقفراً، سوى لهيب شمس حارقة، ودمدمة ريح عاصف، وهمهمات تصدر من داخل المبنى.

باغتتني رعشة .. لم أفهم سببها .. كاد الخوف يسحقني لولا بقايا جرأة، ورغبة ملحّة لاكتشاف معنى دالاته الأربعة ..

قاومت ضعفي ودخلت خائفا .. وجلاَ .. أتلفت .. لم أجرؤ على اقتحام الباب الثاني ..

نفحات هواء تتسرب ثقيلة .. نتنة، مع بقايا ضوء خافت، يتلاشى كلما توغّلت في ظلمة ذلك الفناء. رحت أنظر عبر شق الباب .. صمت رهيب يخيم على المكان .. وجوه خاشعة تترقب .. تحلّقتْ حول شخص حجبت تلك الدالات ملامحه. كان الشيخ الطاعن مبهورا به، يجلس بين يديه بخشوع .. يتودد له .. يتوسله بعينين ذاويتين، أرجوك .. صدقني .. هذا كل ما لديّ ..

رحت أصغي لحديثهما لعلي اكتشف إحدى الدالات، او أفهم تناسقها.

كان (السيّد الجليل) كما رددوا اسمه، وسيماً، ذا عينين نرجسيتين، ولحية مسترسله، طافحا بالحيوية والعافية، ينظر لمن حوله بجفون مسدله ..  يتحدث بوقار وسكينة .. انشغلت شفتاه بتمتمات غامضة، أدمن عليها منذ زمن بعيد، وعينه على ولده الصبي، تردع عنه انفاس جلسائه.

أخذ (السيّد الجليل) يتلو مواعظه الملغومة بالوعيد .. صعق لسماعها الرجل الطاعن، أقسم أنه صادق .. اضطر لشراء قرصين من الخبز، فنقص من المبلغ درهم. فأكّد له (السيّد الجليل) انه جرم، متى كان ذلك من حقك؟ قلوب حرّى تنتظره، (وبطون لا طمع لها بالقرص منذ ايام).

ثم سأل الرجل الكبير، أنت ماذا تعمل؟

تصاعدت الآهات من صدره، تبعتها حسرات موجعة .. ازاول عملا بسيطا، يؤمّن لي رزقا كفافا، تارة لا يكفي لسد رمق عيالي، وما يفيض منه الا نادرا، وها آنذا أتيت بحقه اليك .. أرجو ان تقبله مني، وتغفر لي.

شاح (السيّد الجليل) بوجهه عنه، ثم نظر له بشزر، هل تعلم ماذا يعني نقصانك  درهما منه؟ .. ظل يتأفف بمكر .. يهز رأسه .. يقلّب بصره ذات اليمين وذات الشمال .. ارتعدت فرائص الشيخ، انكب على يده يقبّلها ويتوسل إليه.

مشهد عصيب .. مددت يدي إلى جيبي، لعل درهما أهمله النسيان أنتشل به كرامة الشيخ الطاعن وأحفظ ماء وجهه .. بحثت في كل زاوية ثم خرجت يدي بيضاء للناظرين.

انسحب الرجل الطاعن بعد أن لاحت علامات الرضا على محيّا (السيّد الجليل)، فاقترَبتْ منه المرأة، تحمل ولدا عليلا .. شكت له حالها .. أعرض بوجهه عنها .. ارتبكت عندما أحالها على الرزّاق العليم. وراح يُبعد ولده عنها، ويؤكد: تمنيت لو بمقدوري مساعدتك. وما بيدي سوى مال لا يحق لي التصرّف به.

كان الشاب يصغي لما يدور حوله .. ينتظر دوره في الحديث معه. وعندما همّ بالكلام، هبّ (السيّد الجليل) مع ولده تاركا خلفه عيونا حيرى، وآهات أرعبها الفقر والخوف.

ذهلتُ من هول المشهد، صارعتني ارادات شتى، أي سطوة لهذا الشخص على الناس؟ .. تبعْتُهُ، وهم يتدافعون من حوله، يتبركون بتقبيل يديه، حتى إذا خلا الشارع إلا منه، تعالى صوت الصبي وهو يتمرد على ارادة أبيه، ويصرّ على شراء لعبته، فما كان من (السيّد الجليل) إلا الرضوخ لرغبة ولده!!!!

 عدت ادارجي باحثا عن ورقة بيضاء ألقي عليها وزر حيرتي .. كتبت الدالات الأربعة كما هي:

(د ...)، (د ...)، (د ...)، (د  ...)

ثم علا صوتي متجهما: عرفت أي رجل هذا،

إنه:

رجل  (د) (د + د + د) 

بات الارهاب باسم الدين والاسلام خطرا حقيقيا يهدد أمن العالم وسلامة الامم، وصارت الحركات الاسلامية المتطرفة عبئا اثقل كاهل العاملين والمصلحين. ففي كل يوم تفيق الشعوب على جريمة نكراء، يذهب ضحيتها  النساء والرجال والاطفال. وكلما حاولت الذاكرة نسيان الماضي ايقظها انفجار هنا او جريمة هناك. وكلما ارتكز الانسان الغربي الى التسامح في التعامل معنا جرته دماء الابرياء الى التعصب والانكماش والرفض، وكلما اعتذر المسلمون عن جريمة افسدتها جريمة اكبر. ان ما تقوم به الحركات الاسلامية المتطرفة يتطلب مزيدا من التنقيب في الاسس الفكرية والعقدية التي يصدر عنها العمل الارهابي، ولا يكفي الانشغال بدراسة وتحليل الاسباب الظاهرية للحدث، فثمة سبب اعمق يدفع الفرد باتجاه التضحية بالنفس. لا نريد التقليل من اهمية الاسباب النفسية والسياسية والاقتصادية، الا انها اسباب ثانوية. اما السبب المحرك فهو سبب ايديولوجي، ديني. فعقيدتي ان الاتجاهات الاسلامية تحركها دوافع دينية ايديولوجية، او دينية – سياسية، وليست سياسية خالصة. واذا لم تصدق هذه الرؤية على التيارات الاسلامية الجديدة، فانها لا شك تصدق على التيارات السلفية والتكفيرية والحركات الاسلامية المتطرفة. نعم ربما تستغل هذه الروح من قبل قادة التنظيم او غيرهم، الا ان الحافز الحقيقي لتضحيات القواعد والافراد تبقى حوافز عقدية دينية.

وعندما ينتسب الارهابيون الى التيار الاسلامي، نكون قد وضعنا ايدينا على مصادر العقيدة الاسلامية، وهما الكتاب والسنة، اضافة الى تاريخ طويل من الحروب والمعارك التي جرت باسم الدين والاسلام، بدءا من الصحابة حتى يومنا هذا. وهنا بالذات تبدأ المشكلة، مشكلة النص الديني وقدرته الفائقة على تلبية حاجة الايديولوجيات والاتجاهات الفكرية والسياسية. النص الديني يتصف بمرونته العالية، ومراوغته، وسهولة الوقوع في شراكه. لذا فكل الاحداث الدامية التي مر بها المسلمون جرت باسم الدين، وكل الويلات التي ذاقتها شعوبنا كانت باسم الاسلام. نشبت الحروب باسم الدين، واريقت الدماء باسم الدين. شرعنة القتل، ومصادرة الحقوق، والاستحواذ على السلطة، وتكفير الآخر المخالف، بل حتى تكفير الآخر الداخلي الذي ينتمي الى ذات الاسلام، كل ذلك جرى ويجري باسم الدين. فلا حجة اقوى من الدين، ولا سلطة اكثر فاعلية كسلطة الدين، فكان الدين وما يزال ملاذا لتبرير الممارسات الارهابية، والسياسات التعسفية. من هنا كان النص الديني اكثر النصوص حاجة الى منهج علمي رصين، يلاحق مناسبات الحكم والموضوع، ويحدد دلالات النص قياسا الى نصوصه الاخرى. سيما بالنسبة الى القرآن الكريم، الذي تميّز على غيره من الكتب السماوية، بكثافة نصوصه التحريضية على القتال والحرب، او الارهاب بالمنطق الحديث. والسبب ان القرآن دخل المعركة الى جانب الرسول، فكان الموجه، والهادي، والمخطط، والامر، والناهي. وكان يتابع فصول الدعوة، ويلاحق مشاهد المعركة بين الاسلام والكفر. فضبط لنا النص تفاصيل الغزوات والمعارك التي خاضها المسلمون بمعية الوحي الالهي. وهي احداث مرتبطة بعصر الرسالة، ومن خصوصيات الرسول، كما هو واضح في كثير من الاوامر الموجه الى شخص النبي (ص). وكان الخلفاء الراشدون يعلمون ذلك، لذا اعترض الخليفة الثاني على حروب ما يسمى بحروب الردة، وساءل ابا بكر عن مبرراتها الشرعية!! بينما تنحى الامام علي جانبا. الا ان السياسية ومتطلبات الحكم كانت المبرر الاساس  لتوظيف النص وتفعيله ثانية رغم خصوصياته. والمؤسف ليست هناك محاكمة صريحة وعلنية لمرحلة الخلفاء، وليس هناك من يناقش في شرعية المعارك والحروب التي جرت باسم الدين والاسلام. بل العكس اصبحت سيرة الخلفاء حجة شرعية يستدل بها على شرعية قتال الآخر، لاي سبب كان!!.

اذن اضافة الى مشكلة النص، التي هي مشكلة ذاتية، هناك مشكلة الاتجاهات  والنفعية، التي وظفت النص لخدمة مصالحها السياسية والأيدلوجية. وربما كتاب معالم في الطريق لسيد قطب مثالا واضحا لهذا الاتجاه. فقد ألهب الكتاب مشاعر الشباب المتدين المؤمن وزجهم في اتون المعركة باسلوب ادبي اخـّاذ. فلم يختر سيد قطب من النصوص سوى ما يخدم هدف الكتاب. وهو الثورة المستمرة ضد الآخر، ايا كان اتجاهه. وفق معادلة تضع الانسان امام خيار واحد، لضمان مرضاة الله تعالى، وهو الشهادة في سبيل الله.

وبعبارة اوضح، ان الخطاب الديني اعاد تشكيل العقل الحركي على اساس هجاء الحياة وعشق الموت، كراهية الآخر وتمجيد الذات، اهمال الدنيا وتعمير الآخرة، كسب رضا الله تعالى بالتضحية والفداء لاي سبب كان. فلم يثقف الخطاب الديني قواعد الحركات الاسلامية على تبني العفو والرحمة والتسامح والمغفرة مع الآخر، وانما تثقف على كره الآخر، والتخطيط لقتله واستئصاله. ولم يتثقف الفرد على سعة رحمة الله ومغفرته، وانما تثقف على ان الله جبار السماوات والارض، لا يمكن ادراك رحمته بالايمان والعمل الصالح، وانما بالتضحية والشهادة في سبيله. فالفرد الحركي ليس مخلوقا لاعمار الارض، وادارة الحياة، وانما مخلوق للآخرة، يتمنى كل يوم ان يرزقه الله الشهادة ليتخلص من عبء المسؤولية وينال رضا الله ويحظى بالنعيم الابدي. ليست الدنيا سعادته، وانما الآخرة، وليست المرأة انسه، وانما الحور العين. وليس الانسان رفيقه وانما الملائكة المقربون. انها ثقافة لا تمت الى القيم الانسانية التي نادى بها القران بصلة. بينما تؤكد النصوص على فوز الانسان في الآخرة من خلال اعمار الارض، والاهتمام بالحياة، والنجاح في تجربة الدنيا، والنجاح في كيفية تحول مفاهيم الخير الى قيم حقيقة بين الناس، وكيف يكون الانسان المؤمن اول من يتحلى بالروح الانسانية، ويحترم قيم الانسان، لا ان يستهين بحياته وحياة الآخرين، ويستسهل قتل العزل والابرياء.

  بهذا الطريقة تشكل العقل الحركي، فحافزه الى الموت هو كسب رضا الله تعالى. فيكون عنوان الشهادة بذاته مطلبا دينيا لضمان مرضاة الله، بقطع النظر عن جدوى الموت بهذه الطريقة، وجدوى العمليات الانتحارية، وما هي تداعياتها، وكيف ينعكس الموقف على الجاليات الاسلامية المنتشر في انحاء العالم، وكيف سينظر المجتمع الدولي لنا. كل هذا ليس مهما امام الجهاد وخوض المعركة ضد الآخر المختلف دينيا. والذي يساعد كثيرا على تنشيط العمليات الانتحارية ويستقطب اعدادا كثيرة، هو وجوب طاعة اولي الامر، وعدم جواز مناقشتهم او التمرد على اوامره (يا ايها الذين امنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الامر منكم). فالخطوة الاولى على الطريق ان يتحول الداعية الى دمية بيد قائد الخلية، ويرتهن اليه مصيره ومستقبله. وهي صفة اساسية طالما اكد عليها قادة التنظيمات الدينية المتطرفة، بل هي رأس مال هذه الحركات. شاب مؤمن بالشهادة في سبيل الله، ومطيع لامر القيادة الى حد الخضوع والتذلل. سيما هو يعتقد حقا انما يطيع الله تعالى باطاعة هؤلاء، لذا لا شك بصحة ما ينقل من ابتهاج وفرح وبكاء قبل وبعد العمليات الانتحارية، فمن لم ينتدب لعملية قتالية، يبكي ويتألم ويعتقد ان الله تعالى ساخط عليه، فلم يوفقه للشهادة، بينما يفرح ويبتهج عندما يكلف بمهمة، فانه دليل الفوز بالجنة. انها مشكلة الوعي ومشكلة تمييز الحقيقة، ومعرفة الصواب. للاسف ان المؤمن ادمن التقليد والانصياع فينفذ ما يملى عليه رجل الدين، وقادة التنظيم.

فكيف نعالج هذا النمط من التفكير، والنص الديني مستعد لتلبية كل الطلبات، حينما يتعامل معه الفرد بطريقة انتقائية تخدم مصالحه الايديولوجية؟. وهل ستنفع فتوى التحريم؟ اعتقد حتى الافتاء بحرمة هذا العمل لا ينفع، لان اصحابها مدانون بنظر الحركات الاسلامية المتطرفة، بل متقاعسون عن الجهاد يستحقون العقاب. وليس صعبا عليهم اقناع قواعدهم بذلك، بل النص الديني زاخر بالتقريع والوعيد لكل من يتخلف عن الجهاد!!. كما ان فتاوى دينية جاهزة لتبرير العمليات القتالية في أي وقت ومكان، و لا يبقى على الحركة سوى اقناع الداعية بفعلية الموضوع. فهل يا ترى ينفع اجماع مئة وثمانين عالما دينيا على حرمة هذه الاعمال في المؤتمر الاسلامي الاخير المنعقد في الاردن؟ كلا، لا ينفع لكن ربما يساهم في زيادة الوعي مستقبلا. ان هؤلاء وجدوا في العلميات الانتحارية فرصة تاريخية طالما راودتهم في احلامهم. والشهادة جاءتهم اليوم على طبق من ذهب، سيما اذا كانت ضد المصالح الغربية، الذي ساهم الخطاب الاعلامي الديني والوطني في تشويه جميع معالمه، حتى بات شرا مطلقا يجب القضاء عليه اجلا ام عاجلا.

من هنا ينبغي الاسراع في بلورة ثقافة دينية جديدة، ترسم حدود الاحكام الشرعية في القرآن، وتحدد ما هو مختص بحياة الرسول، وتبين متى وكيف يكون الحكم مطلقا في كل زمان ومكان. وهل جميع ما في القرآن فعلي. ثم يجب تكثيف الحديث عن النسخ، وهل صحيح ان آية السيف نسخت كل رحمة وعفو ومغفرة بالقرآن؟ يجب علينا اكتشاف حقيقة مسألة النسخ، يجب علينا كشف الاهداف السياسية وراء ترسيخ مفهوم نسخ آيات الكتاب. يجب التعامل مع المسلمين الاوائل باعتبارهم بشرا لهم مشاعرهم واحاسيسهم وغاياتهم واهدافهم السياسية. يجب الاطاحة بالساتر التاريخي الكبير بيننا وبين الوقائع، يجب ان نبدأ بالخلفاء الراشدين لنتبين مدى رشدهم، نكتشف اهدافهم وغاياتهم وخططهم. لقد تحول التاريخ الى حجة شرعية وهو بعد لما يكتسب شرعيته. يجب ان نفضح كل الذين وظفوا الدين والنص الديني من اجل مصالحهم السياسية والاجتماعية. بهذا الاسلوب فقط يمكن انتشال ما تبقى من قواعد الحركات الاسلامية المتطرفة. ونثقف ابناءنا على مفاهيم قرآنية تنتمي الى ثوابته وغاياته ومقاصده.

لا شك ان شرائح واسعة من الحركات الاسلامية اليوم بدأت تعي الواقع وتكتشف ملابساته، واخذت تسير بطريق آخر بعيدا عن العنف وثقافة الموت، وهو نقلة نوعية في تفكير الحركات الاسلامية، لكن تبقى وظيفة الوسط الثقافي والاعلامي مواصلة خطاب الوعي حتى يعود المتطرفون الى رشدهم ويعوا الحقيقة، ويكتشفوا اهداف قادة التنظيمات المتطرفة، وبهذا الاسلوب يمكن تحجيم العنف ثم القضاء عليه، لكن متى؟ نحتاج الى خطط فورية واخرى طويلة الامد ربما تستمر لسنين طويلة تطال الكتب والمدارس والمؤسسات والاعلام والتبليغ الديني، وتلاحق الوعي في كل مكان بغية القضاء عليه في مهده، لكن دائما باسلوب سلمي يقارع الحجة بالحجة والدليل بالدليل ومن داخل المنظومة الفكرية الدينية وليس من خارجها.

 ***

المقال منشور في ايلاف بتاريخ

الجمعة 8 يوليو GMT 5:00:00 2005 

..............................................

ملاحظة هامة

كتب الكاتب الامريكي (Charles Paul Freund | July 30, 2005) مقالا بعنوان: Nailed to the Mosque Door  

تحدّث فيه عن افكار الكاتب ماجد الغرباوي حول الحركات الاسلامية والارهاب، معتمدا بشكل كامل على هذا المقال، لكن للاسف الشديد تقوّل الكاتب الامريكي على الكاتب الغرباوي ما لم يقله لذا اقتضى التنبيه، من اجل الحقيقة فقط

للاطلاع على المقال باللغة الانكليزية.

http://reason.com/blog/2005/07/30/nailed-to-the-mosque-door

خرج على غير عادته .. تتبع حركة السواقي والأنهار .. بهرته الطبيعة بسحرها .. استدرجته .. حتى غاص في أعماق الحقول المجاوره، وتغلغل في أحراشها العالية.

كان الجو صحوا، والشمس ترسل أشعتها ندية.. تنعكس على صفحة أحلامه، فيحلّق مع ميامي، وتأخذه نشوة الحديث معها.

فجأة تلبّدت السماء، وأضرمت غضبها، فهطل المطر، بعد أن زمجرت وأبرقت، لتعلن عن بداية عاصفة هوجاء.

بحث عن ملاذ .. ضاقت به الأرض بما رحبت. همّ بالفرار .. خذلته إرادته. هرول ليحتمي بظل شجرة عارية .. دمدم الرعد، وراح سنا البرق يملأ الحقول والبساتين. وهو يتلفت مرعوبا، ينظر الى دواب الأرض كيف تلجأ الى جحورها. نزلت صاعقة مدوية فأحرقت كل ما حوله .. بهت مذعورا، يا إلهي ....

لم تمهله السماء طويلا، فصعقت ثانية، إلا أنها أحرقت نصف جسده الأيسر.. فظل مشدوها، فاغرا فاه، متشبثا بنصفه الثاني، لا يدري ماذا يفعل. راح يلملم جراحه، ويشد من أزره بارتباك .. ملتحّفا بخوفه وترقبه.

 ماذا يفعل..؟ .. تساءل وهو في الرمق الآخير من الحياة.

عجز عن الكلام، غير أن علامة استفهام ارتسمت على صفحة حيرته، واندهاشه.

كيف يعيش بنصف جسد لو قدر له أن يعيش؟

علامة استفهام أخرى، طفت .. لكن هذه المرة على مساحة واسعة من الأفق .. كاد ان يحدد نهايتها، فارتد بصره خاسئا.

عاد يتلفّت .. لم ير الا أعمدة دخان، بعد أن أتت النار على كل شي، سوى نصفه الأيمن.

انتصب بما تبقى من جسده .. نظر الى نصفه الآخر ..  وانهمرت دموعه شلالا من الأسى،.. لم يجد شيئا من معالمه، الا عينا، وشبح أطراف، وصدرا عاريا، وبضع كلمات.

نظر الى السماء .. راحت الغيوم تجر أذيالها، بعد ان أنهت مهمتها، والشمس أذنت بالمغيب، الا خصلات ذهبية، أضفت لمسة سحرية على ذكريات ميامي الجميلة. لكنها سرعان ما توارت، خلف أمله التعيس، ليبقى فريسة سهلة للظلام الزاحف بلا روية ولا رحمة.

عاد تحت هول الصدمة، ينظر لنصفه الأيسر، يتأمله، يدقق فيه. كان أول ما لفت نظره تلك الكلمات .. حاول أن يقرأها، فاستفزه صوت جسده بعد أن هبط الليل بثقله.. كان مرعوبا، لا يسمع سوى اصطكاك أسنانه العارية، وأنين الموتى القادم من أعماق الأرض .. ولا يرى سوى احشائه المتدلية، فلاح له سؤال حيّره، هل نصفه الأيسر أحترق، أم اختطفه ضوء الصاعقه فصيّره رمادا؟

كانت حيرة فهمه للسؤال أصعب عليه من الاجابة .. ما الفرق في ذلك؟ .. جسده الان ملقى، بعد أن انتزعت النار كل معالمه. لكن يبدو هناك لغز يتوقف على فهمه لهذا السؤال اللعين. سؤال محيّر فعلا، أين يعثر على شفرته؟

وسرعان ما جرفه سيل الأسئلة .. أين احشاؤه .. قلبه .. رئته؟  هل ما زالت هناك، حيث يرقد نصف جثته المتفحم؟.

ثم راح يتأمل فاجعة الإنسان بعد موته، ماذا يتبقى منه؟ كيف خمد جانبه الأيسر بلا حراك، وماذا لو كان مات كله، من سيكون الشاهد على مأساته؟ .. مغرور هو الإنسان، هل كل ما تبقى من جانبي الأيسر بضع كلمات؟ آه يا لحسرتي .. ربما هي كل ما تبقى مني .. من يدري، يلفنا الغيب من كل جانب، ولا نبالي. تحاصرنا الدنيا من كل زاوية، ولا نفكر بما هو آت.

آه يا إلهي .. اراد ان يصرخ، يستغيث، يتشبث بصدى صوته، لكن حيرة الدهشة والسؤال عقدت لسانه الثاوي.

جانبه الأيسر، كان نابضا بالحياة، كان قلبه يعزف موسيقى الصباح .. يدندن كل يوم أغنية جديدة. كانت ميامي لا تأنس الا به .. بايقاعه .. بنبضه. هل ستعود ميامي الى أحلامه أم اختطفها سنا البرق الأهوج؟؟ .. سؤال آخر فاجأه بينما بدأ الليل يجهز عليه، ولم تبق سوى نقاط بعيده من الضوء، لا تبعث على التفاؤل اطلاقا.

هل يرحل ..؟ .. كيف يترك نصفه الأيسر؟

سمع صوتا خافتا ينبعث من النصف المحطّم .. حاول ان يصغي له جيدا، لكن دون جدوى. عليه الاقتراب ولو قليلا.

كيف يقترب بنصف جسد خائر القوى؟. كيف يقطع المسافه بينه وبين نصفه الثاني؟

انها بضع خطوات.

لا .. لا .. لا .. ليست بضع خطوات، إنه القدر حينما يطاردني.

ليس من حيلة .. ألقى نفسه على الأرض .. زحف تحت جنح الظلام، سمع أصواتا غريبة .. ارتعدت فرائصه .. استلقى بجانب نصفه الآخر يرتجف، نظر اليه مليا، استغرب وجود تلك الكلمات .. حاول ان يصغي ثانية .. ركّز بكل جوارحه .. لم يسمع سوى صداها المحيّر .. تارة تتقاطع وآخرى تنتظم، أو ترسم عمودا من النور.

في غمرة تأمله، وحيرته، عاد يتساءل: كيف يعيش  بنصف جسد لو قدر له أنْ يعيش؟ وكيف يواصل حياته؟ وماذا عن احلامه مع ميامي؟

أفاق على أنين ميت قريب، أو كائن لم يفهم كنهه. تخيله يزحف اليه، اجتاحته قشعريره .. حاول أنْ يتجلد .. أنْ يتمالك نفسه، لكنه فشل.

استسلم للرقاد، او كاد ..  أرعبته الاصوات ثانية.

التف بحيرته، ليس معه سوى نصف جسد متفحم .. انه جسده، وعينه اليسرى، وأربع كلمات، تتخذ أشكالا مختلفة.

ماذا يفعل؟؟

كان من الصعب ان يمسك بما تبقى من جسده، كان خائر القوى .. أصوات مخيفه. آه يا الهي .. تخيّل ان ذلك الأنين يصدر عن جثث أخرى. من يدري .. ربما هو لرجل عظيم، أو امرأة صالحة..

إنه الموت، يخاتلني، يسلبني روحي، أنظر من حولي، لعلي أتحرر من مخالبه، ولو لبرهة. يا له من حدث مرعب ذلك الموت الذي يتحكم بقدرنا.

ماذا تبقى من نصفي الأيسر، سوى بضع كلمات. ما قدرها. نصفي الأيسر ذلك الكائن الجميل، الذي أرهق حياتي ..

لم يمكث طويلا حتى رأى طيرا أسود، عرفه من حفيف جناحيه .. حالت حلكة الظلام دون معرفة  فصيلته، أخذ يحوم حولها، وينظر اليَّ بعين حمراء متوقدة، كجمرة في يوم شتائي قارص. أقترب من الجثة الهامدة، كتمثال أهمله تمادي القرون الطويلة، ثم أرتفع، فدنا... فكان قاب قوسين او أدنى .. تمتم بأصوات غير مفهومة، ارتبكت جثتي،  ثم تجهّمت وأشتد غضبها حين خطف الطير إحدى الكلمات وحلق عاليا.

رأيت عيني اليسرى، كيف أجهشت بالبكاء .. توسلت بقواي كلها،  لأقترب أكثر، وأصون ما تبقى منها. كنت أرتجف .. أصرخ .. استغيث، لا أجد لصدى دموعي سوى جثة هامدة، ولما اقتربت منها، سمعت صوتا هامسا:

أنتبه ..

هذا ..

سر نجاتك!!

***

بقلم: ماجد الغرباوي

01 / 05 / 2012

 

لها ... لكم ...

للاقلام النيرة التي اصدرت 2000 عدد


***
وقفت في ساحة العرض، اختارت نقطة الوسط تماما، نظرت الى جميع الاتجاهات، لاحت لها كوة صغيرة، قالت: اذن هنا سيعلن عميد القرية عن اسماء المتفوقين .. انتشت قليلا، خطت خطوة الى الامام، تصورت فرحتها وهي تستلم الجائزة، ثم تراجعت، جفلت واغمضت عينيها .. قالت: وماذا لو تقدّم عليّ فلان وفلان؟.. ماذا لو كنت الثالثة او الرابعة في قائمة الفائزين؟ ماذا سيقول عني ابناء القرية؟ .. آه .. يا الهي، لماذا تراودني الأوهام؟ لا .. لا .. عليّ ان أتريث، أعمالي أشاد بها الجميع وانا واثقة من نفسي، فلماذا ينتابني القلق؟

هكذا رددت الكلمات بارتباك .. وحيرة

ثم اردفت:

لكنه صارم، لا يجامل .. أعرفه جيدا، هذا ما اخشاه، حقا سيسحق غروري اذا تجاهلني.

***

حينما اقتربت الساعة الرابعة عصرا، تجمع ابناء القرية .. الكل ينتظر، يترقب، سمعتهم يتهامسون .. فلان هو الفائز الاول، وآخر يقول فلان، وثالث يقول: كل توقعاتكم خاطئة. ولاحت من بعضهم  نظرات مريبة، فكاد ان يغشى عليها، لكنها تماسكت حينما طل من كوته، وبيده اوراقه العتيدة، ومعه بعض رجاله وحاشيته.

نظر الى الجميع، شاهد الرجال والنساء، كل يترقّب. اتخذ مكانا مرتفعا .. ثم بدأ نائبه يتلو الاسماء الفائزة واحدا بعد الآخر، وهي تصغي بلهفة، حتى اذا همّ باعلان الاسم التالي قالت: انا، انا (س ع ا د)..

لكنه وهم .. وهم .. لست من الفائزين. فماذا انتظر ..  هذه هي الحقيقة ..

***

عادت الى بيتها منكسرة، مذهولة .. تحاصرها نظرات الشامتين، وتطاردها كلمات المستهزئين، فودّت لو انها توارت، او ابتلعتها الارض. كان موقفا صعبا .. محرجا، لم يكن متوقعا مطلقا.

آفاقت من هول الصدمة، وقالت بغضب:

سانتقم ..

سانتقم ..

سيعرف من انا. ساحطّم كبرياءه. ساجعله يندم ..

ثم راحت تقلب فنون المكر، وتفكر بحيل النساء، فصاحت بصوت مرتفع: وجدتها .. عليّ ان اكون اكثر حنكة، الامر ليس هينا، عميد القرية يتحصّن خلف رجال أشداء، أقوياء، فكيف أجد من ينافسهم ويتحداهم في مهنتهم. هذه هي الخطوة الاولى في معركتي معه. أن أعثر على رجل يجعل عميد القرية يغيّر قناعته .. لكن هل بمقدورنا ان نصنع انسانا كما نريد؟؟ ..

 لنجرب ..

استبد بها صمت عميق، استغرقت في تفكيرها وهواجسها، ثم قامت فجأة، واخذت تتحرك بأناة ورويّة، فجمعت قطعا من حديد ونحاس.. أوقدت عليها نار غضبها، وصهرتها بجمر احشائها، واضافت لها رماد حقدها الدفين، حتى لانت لها، فصيّرت منها تمثالا جميلا، قصير القامة، دعج العينين، ينظر شزرا، ولحية طويلة. وشقت في داخله قناة، تعلوها ثقوب اربعة، يمكنها التحكّم بها.

ولما نفخت فيه من روحها الشريرة، بدى وجهه متجهما. ابتسمت حينما نظرت اليه، وقالت: ما علينا الا ان نصّدق اوهامنا، ونجد من يدافع عنها، حينئذٍ ستكون هي الحقيقة في أعين الناس .. أليس أصدق الحقائق أكذبها؟؟

وهذا ما سأفعله، ساجعلهم يغيّرون قناعاتهم، ويعترفون بابداعاته وإن كانت مزيفة. لذا ارتدت أفخر ثيابها، ووضعت أبهى زينتها، ثم اشارت لبعض صعاليك الرجال بكلمات منمقة، واغراءات ساحرة، فجاءوا يتهافتون، رجالا لبقين، يرتلوّن كلاما منافقا، أمرتهم ان يصطفوا واحدا تلو الاخر، ثم طلبت منهم ان ينفخوا في قناة التمثال ويصفّقون له، فصدر منه صفير، راحت تتحكم به عبر الثقوب الأربعة. فاضفت على اصواتهم موسيقى باهتة.. وكلما انتهى أحدهم من مهمته جلست تضحك، تتباهى، تعلوها ابتسامة صفراء، وهي تردد:

سترى .. سترى.

ثم أفاقت فجأة، وماذا لو انكشفت اللعبة؟؟

نظرت الى نقطة بعيدة، تطوي الافق في عينيها، وابتسمت:

وماذا عن جوقة المطبلين؟ .. هكذا اجابت بثقة عالية.

ولما حان وقت التحدي، ارادت ان تحمله، لكن ...

 صعقها خواء حلمها.

*** 

ماجد الغرباوي

 

كان يحرصُ على الجلوس قريبا من منبر الخطيب، يصغي اليه بروحه، يتابعُ حركاته، يتطلع الى حديثه بشغفٍ، تنهمر دموعه، وهو يسمع كلماته ترن في اذنَيّه، يحلق معه في عوالم غريبة.

يعود الى بيته، يستبد به سبات روحي عميق، يطيل النظر بصمت، يتوهج في داخله سؤال ملح، أين انا من رفاق الدرب الطويل، يراجع نفسه، يؤنبها، ثم يخاطب ربه، رباه ارحمني، لا أبغي إلا رضاك، لا أُريد البقاء هنا، ولي رفاق، يخوضون الصعاب، من أجل قضايانا. من أجل قيَّمِنا ومبادِئِنا، من اجل اهلنا ووطننا.

ثم يتذكر رفاق دربه، ويتصورهم كيف يتسلقون الجبال، ينامون بين الصخور، ويتوقعون الموت في كل لحظة، لكن إرادتهم لا تلين، وعزمهم كالحديد، يستأنسون بالموت، ويتوقعونه في كل لحظة.

تذكر حديث احمد البصري، عندما كان يحدثه عن مواقف بطولية، عن عمليات قتالية محدودة، عن مواجهات دامية. كان يذكره باصدقائه سعيد وكاظم وسالم، ويحدثه طويلا عن نوري جواد، ذلك الرمز الذي هجر الأهل والأحبة كي يلتحق برفاق دربه، ويواجه الموت بنفسه.

اه يا الهي، سوف لن ابقى ساعة واحدة، سأرحل مع أقرب قافلة، سألتحق بهم، مهما كانت المهمة صعبة.

وبالفعل تحققت امنيته ذات يوم عندما التقى بأحمد البصري ثانية، سأله بلهفة:

احمد متى سفرك؟

لماذا تسأل يارعد؟ هل ترغب بالمجيء معنا؟

بالتأكيد، وهذا قرار نهائي لا رجعة فيه. هكذا اجاب رعد وفورا..

ولكن.. قال احمد

ولكن ماذا؟ سأله رعد

احمد: وماذا عن موافقة والديك؟ انا اعلم انت الولد الوحيد، ومن الصعب جدا ان يوافقوا على ذهابك.

اجاب رعد: اطمئن، هذا قرار نهائي، وافقوا ام لم يوافقوا، وقررت أن لا اخبرهم بشي، هم يعلمون أنا بحاجة الى سفرة ترفيهية، وقد حان موعدها.

اذن: موعدنا غدا صباحا، اجابه احمد.

بقي رعد يفكر تلك الليلة، تصور لقاءه الاول مع نوري جواد، ماذا سيقول له عندما يصافحه؟ هل سيشاهد انسانا مثلنا؟ ام ملاكا يمشي على الارض؟ تصوره بهالة نورانية، واخرى تصوره يمشي والملائكة تحيط به من كل جانب. وثالثا تصوره، اشعث الراس، نحيلا، وجهه مكفهر من التعب، والسهر، وقساوة الطبيعة. تصوره بِعِدَّةِ السلاح، وملابس القتال، تصوره بمختلف الاشكال.

ظل على تلك الحالة طوال العشرة ايام التي قطعوا فيها الطريق، ناموا على الارض، واجهوا مخاطرَ جمة، ارعبه الليل في تلك الوديان القاحلة، والطرق الجبلية الملتوية، كان يمشي بحذر شديد، يترقب، يخشى كل طارق، انهكه التعب، كان يبدد خوفه بذكر الله، ويمني نفسه بلقاء رفاقه، فكانت اياما طويلة، مرهقة، متعبة، لكنهم بعد نهار طويل مليء بالمفاجآت وصلوا مدينة نائية كي يستريحوا عدة ايام ثم يواصلوا طريقهم الى مواقع الرفاق.

وحين مرورهم بشوارع المدينة توقفوا امام بناية عالية، تحيطها حدائق غناء، وتنيرها مصابيح الكهرباء بكثافة، اشار احمد الى رجلٍ واقفٍ هناك، يحمل ملازم كتبه بيده، ببدلةٍ انيقةٍ، قد بدت عليه ملامح الترف، فسأله رعد من هذا؟

انه نوري جواد، يارعد

لم يصدق نفسه، راح رعد يسلم عليه بحرارةٍ، ودموعه تجري على خديه، رهبةً وفرحاً، حاول ان ينطق بأي كلمة، فلم يتمكنْ، ظل صامتاً، ويده ممسكة يد نوري جواد.

هدأ نوري جواد من روعهِ، عندما ابتسم له، وسلم عليه. ثم قال رعد له:

لقد كنت اتذكرك في كل خطوة اخطوها في ذلك الطريق الوعر، كنت لا تغيب عن بالي أبداً؟ ما ينقله الأخوان عنك من قصص كانت تؤجج شوقي لرؤيتك،

كيف استطعت الصمود كل هذهِ الفترة؟ سأله رعد ببراءة واعجاب.

فاجاب نوري جواد بهدوء:

لا يا رعد انا عادة أأتي من الطرف الاخر بواسطة سيارة، ولا اكابد اي مشقة في الطريق.

فغر رعد فاه، وسأل نوري جواد، هل يعني انك لم تلتحق برفاق دربك؟

وقبل ان يجيب نوري جواد على سؤاله

لاحت لرعد لوحة كبيرة فوق البناية كتب عليها

قسم الدراسات العليا!!!!

***

ماجد الغرباوي

الجمعة 07/01 /2011

الصفحة 1 من 2