أقلام حرة

وكل ما أخشاه أن يأتي الذئب

عصمت نصارلا أعلم على وجه الدقة متى قرأت قصة الطفل الكذوب، الذي راق له العبث بأهل القرية الأمنة؛ وذلك بصراخه مستغيثاً من الذئب الذي يهاجم قُطعان الغنم، فيهمُ أهل القرية بفؤوسهم وعصيياهم لدفع الخطر ومطاردة ذلك الذئب وإبعاده عن أغنامهم، غير أن تلك الحشود لم تجد سوى ذلك الطفل الكذوب؛ واقفاً خلف الأشجار يضحك ويسخر من هرولة الساعين إلى نجدته.

وللحكاية صورة أخرى تروي أن ذلك الطفل أعتاد أن يهبط إلى النهر ليصطاد بعض الأسماك أو للاستحمام، فراق له أن يلفت أنظار المحيطين به؛ ولم يجد سبيلاً إلى ذلك سوى ادعاء الغرق وراح يصرخ طالباً النجدة والعون. ولما هب أهل المروءة من السباحين لإنقاذه، وجوده واقفاً على الشاطئ ساخراً من هرولتهم. وقد اعتاد الطفل ممارسة تلك اللعبة السخيفة لشهور عديدة، فكان من حين إلى آخر يطلق صراخته (احذروا الذئب أو انقذوني من الغرق). ولما علم أهل القرية بكذبه لم يعبأوا بصراخته، ولم تثيرهم صيحاته، بل سمعوها كأنها واحدة من النكات العابثة. وذات يوم خرج أحد الذئاب من بين الأحراش؛ ليفترس الغنم فهرول هرول الصبي لإستنفار أهل القرية، غير أن جميعهم لم يخرج، وتعالت صرخات الصبي صدقوني صدقوني بلا جدوى، فأجهز الذئب على إحدى الأغنام وفر الصبي خائفاً مذعوراً.

ولاريب؛ فإن ما نجده من أجهزة إعلامنا على صفحات معظم الجرائد والكثير من القنوات والمدونات والفيس بوك من أخبار وتحليلات وتحقيقات تحاكي تلك القصة السخيفة. ولا نريد إلقاء الاتهامات على أولئك العابثين من الكتاب، فنصفهم بالعمالة والخيانة أو الجهل، ولا نسعى كذلك فضح بعض الأقلام المأجورة التي تصور المشاهد وتنقل الأنباء وتفبرك الوقائع، وفقاً لأغراض من يدفع الثمن، ولا ننشد كذلك تذكير الغافلين منهم، بأن ما يفعلونه هو إحدى آليات حرب المعلومات التي ترمي إلى تزييف الوعي الجمعي، وتضليل الرأي العام، وتثبيط الهمم، وانتشار الإحساس باليأس والشعور بالإحباط بين الشباب على وجه الخصوص، بل إن ما يفعلونه جريمة وسلوك شاذ يتعارض مع أدبيات وأخلاقيات المهنة. ولا نريد أيضاً تحريض السلطة السياسية على أولئك اللذين اعتلوا منابر التثقيف والتنوير والتوجيه وتربية الرأي العام دون استحقاق.

أجل ! لا نبغي كل ذلك، بل أننا نحذر من ذلك اليوم الذي يأتي فيه الذئب مرتدياً أي من العباءات فتنبري الأقلام للتحذير منه، فلا تجد من يلبي النداء. فإذا ما تسلل الريب والشك إلى مصادر الحقيقة وفقد الرجال مصداقيتهم وأثارهم في الجمهور، فإنّ مثل ذلك لن يوصل سوى إلى طريقين يتنافسان في السوق وهما الفوضى أو القمع.

فما أراه من أولئك العابثين لا ينتمي إلى النقد، ولا ينضوي تحت راية الباحثين عن الحقيقة، ولا ينحاز إلى الصالح العام، فإذا أحسنا الظن في أخبارهم، لوصفناهم بأنهم جامحين يبحثون عن الشهرة والإثارة، راكبين جياد المقامرة والمغامرة دون أدنى تعقل منهم للمقاصد والمألات.

كما أننا نعجب من تلك الأقلام وهاتيك الأبواق التي لا يُقرأ ولا يُنصت إليها ولا يشاهدها إلا خمسة في المئة من الرأي العام التابع؛ وذلك لأن الإعلاميين وأمراء المنابر الحاليين المتعالمين منهم لم يُفلحوا في شغل مكانة الطبقة الوسطى المستنيرة، التي أصيبت بالجنون والشلل والضعف والوهن منذ أخريات السبعينيات، الأمر الذي أنعكس بالسلب على تشكيل العقل الجمعي المصري الذي يحتاج دوماً إلى الأمانة في التوجيه، والصدق في الخبر، ونشر روح الوئام والأمل والمحبة والعمل والفكاهة والشجاعة والمروءة والتدين فيهم.

أجل إن حرب الكلمات التي نُطلق عليها الجيل الرابع من الحروب لها خطرها وأثرها، غير أن الدارس لطبيعة الشخصية المصرية سوف يدرك أن لديه خلايا استشعار تحفظ لهذه الأمة تماسكها وترابطها وتماسك مؤسساتها، ولا يرجع ذلك إلى الدين أو الأعراف أو التقاليد أو الوعي، بل يُرد إلى الجين الحضاري الأصيل في المصريين، وهو الذي يمنعها من السقوط ويحميها من الفوضى والشتات.

أعود وأحذر من خطرين أولهما طمع الذئب في الأغنام، وثانيهما عدم إصغاء السامعين. وذلك يوم يستحيل صرير الأقلام، وتكبيرات الآذان، وصرير الأجراس، ونغمات الألحان، وأنيم الشعراء، ونحيب المظلومين، وكذا نباح الكلاب إلى عالم هاديس الذي لا يسكنه إلا الأشباح والموتى.

 

بقلم د. عصمت نصار

 

في المثقف اليوم