أقلام حرة

محمد حسين النجفي: تشغيل الأطفال.. قصة حميد الحمال

محمد حسين النجفييعتبر سوق الشورجة المركز التجاري الرئيسي لمدينة بغداد وعموم العراق. لذا يلجأ اليه الباحثون عن العمل سواء المهاجرين من القرى والأرياف وخاصة المناطق الجنوبية، أو المهاجرين من دول الجوار مثل إيران. وهناك طبعاً الأكراد الفيلية الذي يسكنون المناطق الحدودية الشرقية داخل حدود العراق وإيران.

كان لدينا في سوق الشورجة متجرين، الأول لتجارة الجملة ولخزن البضائع والمكتب، وموقعه في دربونة (زقاق) المعاضد، والثاني لتجارة المفرد في الدربونة المقابلة وهي دربونة حسين بن روح (مرقد وجامع). المهم ان سوق الشورجة مليئ بالحمالين (عتالين) الذين يساعدون المتسوقين لحمل ما تسوقوه الى سياراتهم. من بين هؤلاء الحمالين فتى أسمه "حميد"، عمره حوالي إثني عشر عاماً، كان مرابطاً أمام متجرنا في معظم الأوقات. شاب يجلب الأنتباه لشطارته وسرعته وطيبة لسانه، وقدرته البدنية. كان حميد يتطوع للمساعدة سواء في كنس او تنظيف المحل، او توصية شاي لزبائنا وما الى ذلك من الأمور البسيطة التي جعلته يتقرب الينا أكثر. كان اخي سعد يدير متجر المفرد وكان مكتبي في محل الجملة (الخان).

جاء ظرف كنا فيه بحاجة الى مساعد إضافي لأخي سعد. إتفقنا على ان نوظف حميد بشكل دائم معنا، بدلاً من ان يكون حمالاً نستخدمه وقت نشاء فقط. فرح حميد كثيراً، وشكرني عدة مرات لثقتنا به والأعتماد عليه. أظهر حميد نشاطاً ملفتاً للنظر، وحيوية وقدرة استيعابية غير طبيعية، ورغبة ملحة في تطوير نفسه معنا. سوق الشورجة وغيره من الأعمال التجارية لا تتحمل الطفرات السريعة، لذا كنت متأنياً في منحه صلاحيات البيع والأخذ والعطاء في التحصيل النقدي. كلما يراني حميد يقول لي: عمي كثير من الزبائن يأتون مبكرين، وسعد يأتي متأخراً، لو تعطيني المفاتيح أقوم بالواجب. طبعاً طلبه هذا واضح، وبدأت شكوكي تصل مناحي ثانية. مع ذلك ان بعض الظن أثمٌ، لذا لم اتصرف معه بنية مُغايرة.

عادة نغلق مكتب الجملة بحوالي ساعة قبل متجر المفرد. بعد ذلك أذهب الى متجر المفرد لمراجعة العمل مع أخي قبل إغلاقه. ولكن في احدى الأمسيات كان لدينا زبون متأخر، والبضاعة المشتراة في الخان. تبرع حميد بالذهاب، فأعطيته مفاتيح الخان. أنتبه أخي سعد على تأخر حميد أكثر من اللزوم، فطلبت منه اللحاق به ومعرفة سبب التأخير. تأخر سعد قبل ان يعود، وقال لي أنه من الأفضل ان أذهب الى الخان، فإن حميد قد فتح "القاصة"!!!!!!

يبدو أنني اعطيت حميد مجموعة المفاتيح التي بها مفتاح القاصة عن طريق الخطأ. ذهبت وكان حميد جالساً يبكي ويقول: عمي والله لم أسرق شيئ. ذهبت الى القاصة فحصتها لم ينقصها شيئ. حميد فتح القاصة، ولكن لم يعرف كيف يغلقها، ولايمكن سحب المفاتيح إلا بعد إغلاقها.  يحاول سحب المفتاح حينما اقدم عليه أخي سعد. طبعاً مما لا شك فيه حاول حميد ان يسرق، ولكنه أرجع ما سرق حينما فشل في غلق القاصة. سألته إذاً لماذا فتحتها؟ قال من باب الفضول فقط، لأعرف ما في القاصة.

كان الوقت متأخراً، سألته إن كان قد سرق منا أي شيئ، عليه ان يعترف لنا وإلا فسنسلمه للشرطة. حلف اليمين بعد الآخر، انه لم يسرق أبداً. طالبته بأن يأتي غداً مع ولي امره، ويجلب معه كل ما سرق منا وإلا سوف اسلمه الى الشرطة. جاء حميد في اليوم الثاني مع والدته، وهي إمراءة شعبية في أربعينياتها ومعها بعض البضائع التي نحن نرميها، لتقول هذا كل ما جلب لي حميد. أستمعت اليها جيداً، وقالت حميد مصدر معيشتنا لأن أباه قد تركنا وتزوج إمرأة أخرى. وحميد معيل لي ولأخوته. سألتها لماذا حاول سرقتنا، حلفت الأيمان انها لا دخل لها، وانه ألحق العار عليها، ورجوتني ان لا أحبسه وأتيمهم. قرار صعب كان لابد من إتخاذه، وكان الحكم كما يلي:

أنتِ مسؤولة أمام الله على تربيته، وعليك ان تتأكدي ان مصدر رزقه حلال.  سوف لن أسلمه للشرطة، ولن أعفو عنه. عليه أن لا يتواجد في مناطق عملنا، عليه ان يعمل في مكان آخر، ويتعلم الدرس، وإن وجدته ذات يوم هنا، سأسلمه للشرطة.

بقى حميد في ذاكرتي لهذا اليوم، لأنه فتى ذو إمكانات هائلة. وإني لمتأكد لو مُنحت له الفرصة في تربية عائلية افضل، وتعليم مهني لتمكن من تحقيق عيش أفضل. كان هذا في عصر "الزمن الجميل" كما يقولون، يا ترى كم حميد هناك في مجتمعاتنا المعاصرة، التي لا يحصل حتى خريجي الجامعات على وظائف مناسبة، ومن يحصل منهم على وظيفة، فإنه في معظم الحالات يدفع ثمنها نقداً او بالأنتساب لمجموعة لا يؤمن بها، تدفعه لاحقاً للقيام بأعمال غير قانونية او غير أخلاقية؟ لذا فإن الحماية الأجتماعية للعوائل دون معيل وللأطفال مهمة جداً، وفرص العمل والتوظيف على الكفاءة لا غير. أتمنى أن يكون حميد قد وجد الطريق الصحيح ولأخوته ولأمه المظلومة.

 

محمد حسين النجفي

 

 

في المثقف اليوم