أقلام حرة

علجية عيش: المقبرة وطنٌ..لمن لا وطن له؟

علجية عيش"هل يكفي أن نعلق على الحائط صورة من فقدناهم إلى الأبد لكي نتذكرهم ولا ننساهم طالما هم يسكنون في قلوبنا أو نشيد لهم معلما تذكاريا حتى نكون العلاقة بيننا وبينهم صلبة لا تحطمها رياح أو عواصف، أو نقيم لهم ضربحا في بيتنا لكي يصبح "قُرَّابَة" يؤمها الناس"، فعندما تفقد عزيزا عليك تنقلب حياتك فتصبح وحيدا ولا تعرف أين مخرج الطريق

حين تختلك علينا الأمور ونفقد نمط حياتنا تتشابك في ذهننا الأفكار، لست أدري.. ينتابنيشعور قويّ باليأس والإحباط كلما أحدق في صورة أمي وكأنها ترمقني بنظراتها، وتتدفق عليّ الأسئلة، سؤال يعقبه سؤال.. لماذا لم أعد اشعر بالإنتماء لهذا الوطن؟ لم أعد أدري إن كان لي وطنٌ أم هناك من أبعدني عنه قسرا، وإن كان هذا وطني لماذا اشعر بالغربة وبالضياع؟، ثم ماذا يؤثر وجودي داخل وطني طالما نحن غرباء ومن الدرجة الثانية، ولا أجد جوابا سوى الدموع أغسل بها أحزاني وأعزي بها نفسي،  ثم دعونا نسأل ماهو الوطن؟، هل هو حفنة تراب نمشي عليه؟، أو المساحة التي نعيش فوقها والمجموعات التي تحيط بنا، نسعى لكي نتفاعل معها حتى لو كانت لا تولينا اي اهتمام، لكن لا يوجد تواصل.

هي الغربة الحقيقية حين ترى الذين تحبهم ينقلبون عليك ويبتعدون أو يهجرونك، وينظرون إليك بنصف عين رغم أنه لا فارق بينك وبينهم سوى أنهم حظوا بفرصة ثمينة رفعتهم إلأى فوق وبقيت وحدك تتكلم عن القيم وعن مجد لم يصنعوه بايديهم  ز لم يقدموا تضحيات، حينها تجد نفسك تبحث عن شيئ جديد عن قوم آخرين، عن وطن يعترف بك كمواطن له كل حقوق المواطنة..، علمتني الحياة أن الهوية في بلادي تعني أنك فلان ابن فلان ذو الجاه والنفوذ وأنك تملك ورقة مكتوب عليها بطاقة التعريف الوطنية وتنتمي إلى العائلة الفلانية، والحقيقة أنه بالمال تمتلك كل شيئ، أنت من يضع القوانين ويصدر القرارات.

 بالمال تمتلك القوة والجاه والنفوذ ولا يهم من هو اصلك ونسبك وماهو ماضيك حتى لو كنت بلا هوية،  يصبح لك اسم، ينادونك بالسيّد فلان والسّي فلان،  أما إن كنت لا تملك المال والجاه والنفوذ، تشعر أنك بلا وطن تبحث عن وطن جديد، عن أناس جدد، يسمعون نبضك حتى لو كانوا لا يتكلمون..، مذ وفاة أمّي صرت اعشق الذهاب إلى المقبرة، اشعر بأنها هي وطني، أزور قبر امي كل جمعة دون ملل، أجلس بحانب القبرأقرأ ما تيسر من القرآن والدعاء،ثم ابدأ في الدردشة معها..، أحكي لها عن يومي كيف قضيته ومن سال عنّي ومن زارني، ومن هم الذين قاطعوني بعد رحيلها، أنقل لها كل شيئ حتى أحلامي المزعجة التي أراها في المنام والأصوات التي أسمعها في الليل وكأن البيت مسكون، كان الخوف في قلبي  لكنّني كنت "أتـَرَجَّلُ".

 وعلى عادة الأفلام الهندية أنتظر اللحظة التي تظهر لي الأشباح وأراهي، لا خوف من الأشباح طالما نحن في بلد تسيره الأشباح،   لم يعد بإمكتني النوم وأمي بعيدة عني، أشعل كل الأضواء ولكن البيت في عيني مظلم، أحاول أن أتاقلم مع وضعي الجديد،  لا يمكن لشوكة أو حجر أن يمسني طالما انا في حماية الله، وإن أصابني مكروه أختبئ في عباءته أمسك يدي بيده أنا الآن أشعر بالأمان..،با الهي كم أنى عظيمٌ..و كم أنت كريمٌ..و كم أنت رحيمٌ، وكم أنت حنانٌ وكم أنت منانٌ، استأنس بك في وحدذتي وغربتي كما يستأنس بك الأموات من المؤمنين في وحدتهم وغربتهم..، لم نعد نخشى الموت، لطالما كنا وما زلنا نموت ببطء في بلد يعبث حكامه بمصير مواطنيه، حكام داسوا على القوانين التي صنعهوها بأيديهم، بلد فقد فيه الشعب العدالة والأمان والإستقرار،  لولا الموت لكانت الحياة شيئ آخر..، لولا الموت لما خلق العالم الآخر.

 المقبرة هي الوطن الثاني لنا، نستأني بسكانها، هم صامتون لكنهم  يروننا حين نزورهم ويسمعون ما نقول، يتوقون لرؤيتنا لكي نشعرهم بأنهم في قلوبنا ولم ننساهم، كذلك نحن نتوق لرؤيتهم ولو في المنام، وبزيارتهم نربط حبل الوصال، هكذا نبحث عن الإنسجام الروحي معهم، فهل يكفي أن نعلق على الحائط صورة من فقدناهم إلى الأبد لكي نتذكرهم ولا ننساهم طالما هم يسكنون في قلوبنا ونحن نتوق للوصال معهم، من منّا سمع حديث القبور أو نداء الموتى؟،  ونحن هل نسمع حديثهم فيما بينهم ؟ كلما زرت قبر أمّي وأختي أو أحد أقاربنا، إلا ووجدت حفاري القبور منهمكون في تحضير المسكن الجديد لشخص توفي، هل نعلم أنه في اليوم الواحد فقط يرحل مئات الأشخاص إن لم نقل الآلاف منهم إلى مسكنهم الجديد ( القبر) أو كما يسمونه " الدّار الدايمة" .

و أنا أتأملهم وهم يقلبون التراب لتشكيل "الحُفْرة" ( حُفْرَة.. إنّها حفرة صغير قد تتسع وقد تضيق بصاحبها)  كلّ وما قدمت يميته، يذكرني حفارو القبور بكتاب روجيه غارودي وهو يتحدث عن الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها، في كتابه الذي عنونه بـ: " حفارو القبور"، استرجع فيه  بعض الأحداث الأليمة، المنقوشة في ذاكرة الشعوب، كسقوط غرناطة الجسر الأخير بين الشرق والغرب، وحرب الخليج التي انتهت بتقسيم العالم إلى نصفين وتدمير العراق التي كشفت عن استعمار جماعي متعدد الجنسيات و...و...الخ، تجعلنا نطرح السؤال الأهم: مامعنى الوطن؟، وما معنى الحياة؟ ولماذا نحن موجودون طالما الموت نهايتنا؟ وتجدنا نمشي في الطريق تائهين، شاردي الذهن، لأننا فقدنا إنسان عزيز علينا ولا أحد يمكنه أن يعوضنا عنه، نعم الأمّ هي الحضارة.. هي الحياة ومن فقد أمّه فقد لذة الحياة بل لا حياة له ولا حضارة، يعيش "اللامعنى" يسير في دروب شاقة،وعرة، مشوكة، بسودها الصمت لا يرى من حوله سوى صورة أمّه.

  تلتصق بذهنك الصورة الأخيرة لأمك وهي تحتضر.. تنظر إليك نظرة الوداع الأخيرة وكأنها تقول لك: "اعتني بنفسك"، لكنك لا تدري ولا تفهم لغة عيونها، هكذا هي الأم، مهما غضبت من أولادها فهي تفكر فيهم حتى  في لحظات الإحتضار  وفي آخر يوم من عمرها، وإن كان النسيان فطرة في الإنسان، فبعض الأحداث نعجز عن نسيانها  كفقدان الأب أو الأم والزوج حتى ولو طالت بنا الأيام والشهور والسنون، فهم نبراس حياتنا ولا تكتمل الحياة بدونهم، ربما نستفيد من الأشياء التي لا ننساها والتي تخلد بذاكرتنا، لأنها تمنحنا القوة على المقاومة والإستمرارية، فمن القبور نستلهم الدروس والعبر، والمقبرة وطنٌ أيضا هي المكان الأخير الذي نأوي إليه  ونستقر فيه.

 سؤال واحد يؤسرنا هو اين مخرج الطريق؟، هو السؤال الذي انشغل عنه البعض بسبب انشغالهم بالمال وملدات الحياة، يتكبرون ويتجبرون على خلق الله ويظنون أنهم خالدون ولكن هيهات..، فداخل القبر لا يوجد زرابي مبثوثة ولا سرير ولا فراش حرير ولا طاولة عليها لحم وفاكهة ولا يوجد  تلفاز ولا هاتف جوّال، ولا يوجد خدم وحشم  ولا أولاد ولا زوج أو زوجة ولا حبيب أو حبيبة تؤنسهم، وهل يوجد من عاد من القبر ورسم لنا صورة الحياة داخل القبور؟ في القبر لا يوجد سوى أعمال بني آدم التي كسبها في الدنيا "يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم" (صدق الله العظيم)، ولعلني أقف مع ما قاله روجي غارودي بأن المشكلة الأكثر عمقا لحياتنا وللمستقبل هي تلك الخاصة باختيار الاأداف النهائية أي أنها مشكلة دينية أو بالأحرى مشكلة إيمان لأن الأديان وحدها تبحث وتجيب عن الاهداف النهائية للحياة.

 

علجية عيش

 

في المثقف اليوم