أقلام حرة

غدر الزمان

ضياء محسن الاسديثلاث فتيات في عمر الزهور عشن بكنف والعائلة معززات برعاية الوالدة الحنونة التي تفيء عليهن بالدفء والحنان إلا أن الزمان دار بهن بعجالة عكس عقارب الساعة وخطف الموت منهن الصدر الحنون مبكرا وهن صغيرات أخذت تتلاقفهن أمواج الحياة الصعبة ورياح الأيام تحت ظل خالتهن الحقودة التي استطاعت أن تحل محل الوالدة ضنا من الوالد أنها ستحل محل أختها وبذات المواصفات وأسرعت الساعات والأيام وجرين كالشلال الهادر لكن سعيه كان مخيبا لآمال بناته حيث استطاعت الخالة أن تُنسيه بناته وزوجته الراحلة وحلت محلها من غير حنان ولا عطف ولا رعاية ومرت الأيام والفجوة تزداد بين الخالة والبنات أخذت تفكر في كيفية التخلص منهن بزواجهن المبكر فقد رُزقن بأزواج وحياة هادئة إلا الصغيرة منهن لم يكن موفقا كان  زوجها مدمن ومعاقر للخمر زرع في قلب زوجته (سحر) الفتات الجميلة النقية الرقيقة الرعب واليأس فقد كان فاشلا بامتياز بكل المقاييس وظلت الأخت الصغرى تكابد الأمرين من زوجها المدمن للخمر لا يكاد يصحو من سكرته صباحا ومساءا حتى ذاقت منه الويل مما زادها حزنا بدت أكبر من سنها خلال سنتين ومما زادها حزنا أنها أنجبت بنتين جميلتين على مواصفات أمها وكان يهددها ويخيرها إما الولد أو الطرد أو التخلص من البنت القادمة وكل الخيارات صعبة عليها فكانت حذرت من الإنجاب جدا وتتجنب هذا الأمر خوفا من الزوج الظالم كان الزمن لها بالمرصاد بوقفته ندا لها حيث كان يقسو عليها يوميا وهي صابرة محتسبة لله تعالى . وفي ليلة من الليالي الباردة أيقضت سحر زوجها وهو في شبه غيبوبة الخمر ونشوتها على ألم الطلق والولادة لم تجد منه إلا السباب والشتائم والتذمر والعربدة لكنه في الآخر أستسلم للأمر وقاد زوجته إلى القابلة المأذونة في الشارع المجاور حاملة أوجاعها وآلامها وحسراتها وخوفها من المستقبل المجهول الذي ينتظرها من الزوج لما تحمله في أحشائها وبعد معانات طويلة مع الطلق كانت المفاجئة طفلة جميلة كالزهرة المتفتحة طبق الأصل من أمها التي غادرها جمالها وفتنتها من غير رجعة التي طالما تباهت به أمام أقرانها في مرحلة الطفولة والشباب قبل أن تسقط في شباك الزوج وتذبل أوراقها أخذت دموعها تُغرق محاجرها وخديها من غدر الزمان تتلاطم أمام عينيها ومخيلتها الحلول ماذا تفعل بهذه الطفلة والخيارات تتقافز أمامها وكل الخيارات صعبة عليها وقاسية حملت سحر الطفلة بين أذرعها المتهاوية من التعب تحث الخطى في الطرقات تفكر في الحل بمن تضحي بالطفلة أو الطلاق وفقدان العائلة بأكملها أو التخلص من المولودة فاختارت بغفلة من اللاوعي حين قررت تركها عند عتبة باب الجامع وسط علبة من الكارتون تلفها قطعة من القماش تحميها من البرد ووضعت في جيدها قلادتها الذهبية التي ورثتها من والدتها مع أخواتها والتي كانت تتشابه وتكمل أحدها الأخرى دلالة لمعرفتها في المستقبل ووقفت أمامها تذرف الدموع والحسرة على فراق فلذة كبدها مرغمة طائعة لغدر الزمان وجوره عليها والفؤاد يعتصر ألما كم كان هذا القرار صعبا عليها تركتها قافلة إلى بناتها حاملة الآهات والحزن احتضنت بناتها وهن يذودان بها ويلتحفنهن  بأذرعهن عندما رأينها تبكي أخبرتهن أن الطفلة قد ماتت وهي عائدة من دفنها توا . وفي اليوم التالي أسرعت مبكرة إلى باب الجامع لتتقصى عن الطفلة فلم تجد سوى طفلا في الرابعة عشر من العمر يبيع العطور والسبح للمصلين أخذت تسأله بشوق عن طفلة كانت ملقاة بالأمس عند عتبة باب الجامع وأنها تريد أن تتبناها وأن يدلها على إمام الجامع كونه صاحب الشأن والقلادة هي الدليل الوحيد لمعرفة أبنتها وبعد التقصي والبحث توصلت أن أبنتها قد كفلتها عائلة ميسورة من زوجين طبيبين لم ينجبا فقد كان الله تعالى بحكمته ورعايته زرع البسمة مجدد في قلب الطبيبة العاقر وأطفأ النار المتوقدة في فؤادها .تحرك قلب الوالدة بحنان الأمومة الرباني فلم تشعر بيدها وهي تطرق باب دار الطبيبين طالبة  العمل كمربية ومدبرة منزل عسى أن يقبلوا بها لتكون قريبة منها فكون الطبيبين مشغولين بالعمل ليلا ونهار قبلا عرضها في العمل كخادمة للمنزل كي تكون قريبة من طفلتها ودارت الأيام والسنين والطفلة تكبر أمام والدتها التي أعطتها كل الاهتمام والرعاية والطفلة تزداد تعلقا بها وشاءت الأقدار أن تضع بصمتها وتشيح بوجهها ثانية عندما توفيت الطبيبة تاركة طفلتها برعاية زوجها لوحده وسار نهر الحياة بالاتجاه المعاكس لحياة سحر ودق مسمارا آخر في صدرها لتفترق ثانية عن أبنتها حين قرر الدكتور مغادرة البلاد إلى دولة مجاورة هروبا من الطائفية والقتل الممنهج للكفاءات الطبية والعلمية عام 2005وعام 2006 ميلادية وبقيت سحر تكابد وتتألم لفراق أبنتها وتوفي زوجها عنها وبقيت تصارع الحياة لوحدها مع بناتها على معاش زوجها التقاعدي واستطاعت بقوتها وصلابتها وعزيمتها أن تقف بوجه الزمن الذي ما أنصفها يوما وأكملت المسيرة بتربيتهن وتزويجهن باختيار موفق وعوضن أمهن عن أيامها الماضية وأسسن بيتا صغيرا لها وعاشت سحر بكنف بناتها وأزواجهن لكن سحر لم تترك الأمل والتعلق بأذيال القدر بأمنية عاشت معها لسنين طويلة في أمل اللقاء مع أبنتها ثانية .وأستمر بسحر ألم الفراق وهي ترمق بيت الطبيب بين الحين والآخر عسى أن يعودوا ويعود الشمل بينهما ثانية ومرت السنين سريعا والأم تزداد شوقا وحرقة الفؤاد والنوم جفى عيونها والتفكير أثقل رأسها وفي يوم من الأيام كعادتها مرت بالبيت ونظرت إلى الدار قفز قلبها فرحا كالعصفور هاربا من قفصه حين رأت قفل الباب مفتوحا وأن أبنتها قد عادت لها وبين دموع الفرح والحزن والشوق لامست أصابعها جرس الباب لتخرج لها أبنتها ببهائها ورقتها المعهود الخلاب كنسخة أجمل منها صبية جميلة تسر الناظرين حيث أصبحت أكثر شبها بها لم تمسك أحساسها حين تشابكت الأذرع وهي تضمها إلى صدرها بقوة والدموع تتناثر بين خديهما والعناق يطول على عتبة الدار وأبنتها تحدثها عن الغربة وصعوبتها والآن قد عادت لها الفرحة مجددا ورجعت سحر للعمل في خدمة أبنتها إلا أن بناتها رأين مدى الاهتمام بالفتاة أخذن يصرن على ترك العمل في بيتها كخادمة وخيروها بين العمل وبينهن ووصل الحال إلى حد لا يطاق من الضغط المتواصل رضخت الوالدة إلى الإفصاح عن الحقيقة المرة التي كانت تختبئ في قلب الوالدة لسنين طويلة وعلى مضض فكانت الصدمة كبيرة لبناتها وبعد هدوء العاصفة التي أحدثتها عرفن كم كانت المعانات التي عاشتها والدتهن ومقدار التضحية في سبيلهن فطلبن الاعتراف بالحقيقة والاجتماع مع أختهن كأسرة واحدة تحت جناح الأم التي تركت مغريات الدنيا . وأخيرا حطت الأيام الحزينة رواحلها وأناخت ضعنها على أعتاب قلب الوالدة وعادت سحر إلى أحضان بناتها لتكلل بظلال شجرتها عليهن لما تبقى من العمر.

***

ضياء محسن الاسدي

 

في المثقف اليوم