أقلام حرة

الطيّبون لا يرحلون

منير لطفيالآن عرفْتُ موضع الراحة في قولهم: "الموت راحة".. فلعلّها الراحة من ألمٍ للفقد يعتري الأحياء حال خسارتهم لأحبّة شاركوهم المُهج كما يتشارك الناس الهواء، وما أقساه من ألم حين يأتي الفقد على صورة موتٍ للفجأة يلتاع منه الفؤاد وتحترق الأحشاء ولا يدع فرصة لأدنى وداع..رحمة الله تغشاك  يا أبا رهوى، وجنّة الله مثواك يا (عليّ) في الدنيا (عليّ) في الآخرة إن شاء الله.

في أسوان القَصيّة حيث وُلد قبل خمسة وخمسين عاما، وأثناء إجازة له لم يتبقّ منها سوى بضعة أيام يعود بعدها خطيبا وإماما في سلطنة عمان حسبما تقول تذكرة طيران موثّقة الذهاب والإياب، قضت المقادير لأخي الشيخ علي حسين المَطْعني بحادث سير مروِّع ذهب ضحيّته صباح اليوم، صحبة أحد عشر شهيد يعلم الله مَن يتحمّل جريرة هرسهم بين شاحنة وميكروباص، الطرق أم السيارات أم السائقون، ولا رادّ للقضاء.

إن رثيتُه صديقا يتفقّدني، فكيف لا أرثيه شيخا علّمني. وإن رثيتُه داعية حمل إلى الناس نور الهدى ومشعل العلم، فكيف لا أرثيه مريضا هادئا وقورا طالما تردّد في العيادة عليّ ولا أراه في كلّ مرّة إلّا وجها للسماحة وصفحة من رضا.

لأكثر من خمس عشرة سنة، عرفتُه كأنبل ما يكون رجالات الصعيد؛ جادًّا غير هازل، وحَيِّـيًّا يَألف ويُؤلف، ومتواضعا يخفض جناحه للقريب والبعيد، وتراه في الملمّات صاحب رأي ينتصر فيه للحقّ غير هيّاب ويتذرّع بالحكمة دون رعونة هوجاء. ويَشهد الله أنّي ما وجدتُه إلّا أزهريا من طراز رفيع حاملا للواء العمامة في ربوع السلطنة؛ هنا يُحفّظ الناشئة القرآن بحدب الأب، وهنا يمنح الإجازات في قراءات عشر يتقنها علاوة على أربعة زائدة، وهنا يعتلي المنبر ويخطب في الناس بصوت جهوري صادق وعلم راسخ، وهنا يُلقي على مسامع الأئمة دورة إرشادية فيما يخصّ الدعوة والداعية.

قبل سبع سنوات مرّت كبعض يوم، جلسْتُ بين يديه لإجازتي برواية حفص، فحثّني على إلحاقها برواية شعبة لِما بينهما من اتحاد فيما يُسمّى في علم القراءات بالفَرش، وبعد الانتهاء منها في قرابة شهر، وضعْت في جيبه خلسة بعضا من المال علمْت بعد ذلك أنه ثلث ما يستحقّه، ولكنه -وهو المعِيل لأسرة كبيرة- لم ينظر فيه ولم يُشر إلى ذلك من قريب أو بعيد. وحين قصدتُه لإجازة أحد أبنائي، بادر باختباره سريعا، ولمّا وجده في حاجة إلى المزيد من إتقان الأحكام، اعتذر عن إجازته، واكتفى بإقرائه وفاءً للأمانة وإبراءً للذمّة.

أخبرتُه يومًا برغبة فاعل خير في بناء مسجد، ولكن المبلغ لا يكفي سوى البناء، فدبّر متبرّعا بالأرض في أقل من أسبوعين، وحمل عنّي مؤونة البناء على مدار عام حتى أتمّه الله على أكمل وجه وبات صرحا دعويا وخيريا يستضئ به في قبره ويَشهد له يوم الدّين.

وأذكر أنّي كتبْت مقالا عن كُتّاب القرية قبل نحو شهر، فلامس وتره وهو ابن الأزهر وربيب الكُتّاب وربّ عائلة قرآنية كلّها قوارير تحفظ كتاب الله العزيز، وعلى أثره راسلني معلّقا بلغة رصينة وعقل راشد: "إبحار في الماضي، وذكريات نتوق لعيشها كما كانت، جزى الله بالخيرات عنّا أئمة لنا نقلوا القرآن عذبا وسلسلا، بوركْت يا دكتور، وجُزيت الجنّة"..ولا تعليق لي سوى دمعة أذرفها ويعجز  القلم عن كتابتها، مع دمعة ثانية على ابنته (رهوى) التي تخرّجت في الجامعة قبل أيّام وأبت إلّا مرافقته إلى أعالي الجنان في الحادث المأساوي ذاته، مع ثالثة تُدعى (جَنى) على وشك التخرّج في كلية الهندسة وخُطبت قبل أسبوع، وها هي عالقة الآن بين الحياة والموت، ويا لها من فاجعة لا دواء لها سوى قول ربّ العزّة والجلال: "إنّما يُوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب".

ارقد بسلام أيّها الأخ الحبيب فالطيّبون لا يرحلون، وقسَمًا لن أنساك بالدعاء ما حَييت، ولن أنسى وصيتك لي بالشروع في ختمة جديدة كلّما أَتممْتُ  للقرآن ختمة، وذلك  بقراءة الفاتحة وبعضا من البقرة ، حتى إذا سبق الأجل، كتب الله لي –على حدّ قولك- أجر تلك الختمة التي بدأتُها ولم يمهلني القدر لأُتمّها.

***

د. منير لطفي - مصر

طبيب وكاتب

 

في المثقف اليوم