أقلام حرة

عِلم ضار

اختراعات شملت كل الميادين، تكنولوجيا جبارة، بكبسة زر صار من السهل الوصول لأي شيء والولوج لأي ميدان، اتصال سريع، قرية واحدة تجتمع تحت لواء شاشة زرقاء، معلومات تصب من كل ناحية، تسوق الكتروني، تداوي عن بعد، ربوتات تعمل بدل البشر، لكل داء دواء، علوم عقلية فاقت كل التصورات، ذكاء اصطناعي فاق قدرة البشر ... ماذا بعد؟

هو العلم، الكل يجتمع تحت مسمى واحد: العلم، ولا غير العلم. ثورة وثروة.

لقد أحدث العلم الحديث ثورة في جميع مجالات الحياة، لم يترك ميدانا إلا ومر عليه. كل هذا بفضل العقل، عقل الإنسان الذي لا يعترف بحدود في البحث عن سر الأسرار، عقل باحث عن الجمال في الكون المحيط به بتغيراته وإشكالياته.

نعم، هي حلاوة التنقيب ورعشة الوصول إلى المعرفة هي التي تجعل الفرد هائما في الوجود متسائلا عن أسراره، متفانيا في البحث والتجريب، منتقلا من نظرية لأخرى ومن تجربة لغيرها حتى يولد: الإختراع.

إختراع غير حياة البشر حتى صار هوسا، عالم مهووس بالفكرة، فكرة استعباد البشر للبشر أو ربما الآلة للبشر. فكرة تناحر القوى، فكرة قوي يأكل الضعيف، قوي بماذا؟ بالعلم.

العلم: سلاح ذو حدين. حد ايجابي لا غبار عليه؛ سهل التواصل بين البشر، أتاح الشفاء للعديد من المرضى، قضى على الجهل في عديد البقاع من العالم، سهل على الإنسان الكثير من أمور حياته اليومية حتى أدق تفاصيلها ... فضائل لا تعد ولا تحصى ...

حد سلبي، عبارة قد لا يستوعبها الكثير من الذين لا يرون سوى الجانب الايجابي للعلم نتيجة حرمانهم من الكثير من فضائله التي قد لا يجدونها في بلدانهم، لكنه حقيقة، حقيقة العلم السلبية، الجانب المظلم منه.

العلم وليد العقل، عقل يميل للتسلط والسيطرة، اخترع السيف والبندقية، بداية لحماية نفسه ثم كانت الحروب ولازالت مستمرة باستمرار الخيال الشاسع، حروب لم تخلف سوى البؤس والخراب، أطفال تعيش رعب الحرب ولاجئون فقدوا البيت، البيت الذي هو الأمان والاستقرار، لا تفتأ تهدأ بؤرة حتى تندلع في أخرى، وصولا إلى توقع نشوب حرب عالمية ثالثة تأتي على الأخضر واليابس.

بشر لا يملكون فعل شيء في ظل كل هذا، لا يستطيعون ايقاف الحرب ولا حتى التحكم بمصيرهم، بشر ذهبوا ضحايا لتجارب حرب أحيانا، أرقام تعلنها قنوات الإعلام عن ضحايا حرب، هي بالنسبة لهم أرقام لكن بالنسبة لأهل الضحايا ألم وفراق وتيتم وهجر وضياع وحسرة، هي فقدان الأمان والسلم، هي العيش في كنف الظلم والحرمان الذي لا يرويه الاعلام بل يكتفي بذكره كأرقام وتحليله استنادا لحسابات سياسية وحتى اقتصادية لكن أبدا نفسية روحية.

العلم سلاح ذو حدين.

حد سلبي، لم يأتي فقط على الإنسان، بل على الحيوان والطبيعة. مناخ مضطرب، تصحر وجفاف، ثلوث بيئي، لم يعد الهواء نقيا، ولا الماء صافيا، ولا الأكل صحيا.

شاشات فقط، واقع افتراضي، ولا حياة واقعية، تصدع أسري، تباعد زوجي، بسبب شاشة زرقاء جعلت من العالم قرية واحدة ومن العائلة عالما متباعدا، نعيش تحت سقف واحد ولا أحد يعيش مع الآخر سوى جسديا، جسد حاضر وروح هائمة في فضاء افتراضي تستأنس به لأنه لا بديل لديها في عصر صار فيه تلاقي الأحبة يحدث صراع الاعداء.

ثم تأتي النوستالجيا، نوستالجيا لزمن جميل كان فيه المثقف يستمتع بلمس الجريدة والكتاب وهو يقرأ ثم صار يقرأ على شاشة بقدر ما سهلت له الوصول للمعلومة بقدر ما انتزعت منها كل جمالية، حتى اللهفة اختفت، لهفة الحصول على الكتاب النادر، لهفة انتظار صدور الجريدة والمجلة الشهرية، حتى لهفة الحصول على الأشياء البسيطة اختفت.

نوستالجيا المقاهي التي لم يبق منها سوى ذكريات لأناس ملؤوها بأحاديثم الراقية وضحكاتهم العفوية وحرارة اللقاء لتتحول إلى أماكن نجلس فيها لنحتسي قهوة أو شايا ونحن غارقون في شاشاتنا غير آبهين بالعالم المحيط بنا، عالم ملىء بالأمراض والأوبئة التي أنجبها العلم، منها الجسدية ومنها النفسية.

إن العلم إذا ما استغل في شقه الايجابي وباعتدال يصبح أجمل وانفع.

***

لامية خلف الله/ كاتبة من شرق الجزائر

 

في المثقف اليوم