أقلام حرة

ضمائر في اجازة

يأتي المشهد الأخير من رائعة نجيب محفوظ (ثرثرة فوق النيل) ليعلن عن صحوة ضمير أحد ابطال العوامة الغارقة في الفساد حيث يظهر " أنيس زكي " ـ أحد ابطال العوامة ـ منتفضاً ويجري في الشوارع هاتفاً بما يشبه الهذيان (الفلاحة ماتت ولازم نســلمّ نفسنا) وهي اشارة الى صحوة ضمير واحد من رموز الفساد التي كانت وراء هزيمة مصر في حرب 1967 والتي رمز لها بموت الفلاحة في حادث السيارة التي كان يقودها مع شلة المساطيل . والدلالة التي نخرج بها من هذا المشهد هي ان للفساد نهاية، وهناك من بين الفاسدين من يتحلى بشجاعة الاعتراف بالخطأ والاقرار بما اقترفه من جرائم بحق الآخر،، كما ان هذا المشهد يعيدنا الى ما تعرضت اليه الحياة العراقية من هجمة متخلفة وتراجع في مختلف الميادين الاجتماعية والانسانية بسبب الفساد السياسي الذي مارسته النخب الحاكمة، فمنذ اكثر من ثلاثة عقود والحياة المدنية تشهد انحساراً واضحاً، ممثلا في نسبة الأمية والتخلف الفكري في صفوف قطاعات شعبية واسعة والتجاوز على الحريات وتعطيل العمل بالكثير من القوانين الكفيلة بالنهوض بالبلاد الى مصاف الدول المتحضرة وكذلك في مشاهد الفوضى الضاربة اطنابها في عموم المدن، ويمكن ان نلمس ذلك من خلال مشاهد البؤس والخراب التي تعيشانه المدن العراقية، ولعل بغداد هي الأبرز في هذا المشهد، فقد كانت قبل مسك الدكتاتورية برقبة السلطة في نهاية السبعينيات وبدء مرحلة الانهيار الشامل لمظاهر المدنية والتوجه لعسكرة المجتمع، كانت واحده من أهم مراكز الاْشعاع الفكري والثقافي في المنطقة ـ وعبر مراحل متعددة من تاريخها ـ وقد شهد جيلنا ذلك في مطلع سبعينيات القرن الماضي ـ حيث عاشت بغداد واقعاً حضاريا وثقافيا متميزاً، ممثلاً بالحراك الثقافي الدؤوب وفي مختلف الميادين، فالمسرح العراقي قدمّ أروع اعماله آنذاك وكان المواطن الذي يروم مشاهدة عرض مسرحي فهو محظوظ حينما يحصل على تذكرة دخول الى المسرح دون انتظار اسابيع لموعده وهو مؤشر على عافية الذوق ومستوى رقي الانتاج الفني وكذلك الحال لدور السينما في عروضها الجادة والندوات الفكرية ومعارض التشكيل وعموم الفعاليات الثقافية التي شهدتها بغداد آنذاك والتي لاقت اقبالًا كثيفا اثار قلق ومخاوف السلطة من التوجهات الجديدة التي أشرّت الى اتساع مساحة الوعي بين شرائح متعددة من المجتمع . وما ان اشرف عقد السبعينيات على النهاية حتى شرعت الدكتاتورية بالإجهاز على كل مظاهر الحياة المدنية والاستقرار السياسي، حيث بدأت حملتها الهمجية بمطاردة وتصفية القوى الوطنية وانتهاء بإدخال البلاد في حروب جلبت عليه الويلات، انطفأ خلالها ألق بغداد، فلا أبي نؤاس ظل مؤتلقاً بلياليه ولا المسرح الذي علمنا الكثير استمر بعطائه انما حل بديله المسرح الذي يضحك على الذقون، وكذلك الحال مع دور السينما التي تحولت الى صالات لإفساد الذوق وغابت الجدية في عمل وبرامج معظم المؤسسات الاكاديمية ذات التاريخ المعرفي العريق بعدما هاجرت العقول والكفاءات العلمية والابداعية الى خارج البلاد، وظل الحال في تردٍ مستمر حتى سقوط الدكتاتورية في عام 2003 التي كنا نأمل بزوالها سوف تسترد الحياة عافيتها وتعود بغداد الى سابق مجدها والقها الثقافي  ولكن ما شهدناه ونشهده اليوم يكاد يجهز على احلامنا فقد ازداد الواقع ترديا، فلا دور السينما استعادت عافيتها بل اغلقت تماما ولا استعاد المسرح ألقه السبعيني وكذلك حال الموسيقي والغناء فقد صارا من الكبائر، تبع كل ذلك جملة من القرارات الغريبة بغلق النوادي الاجتماعية والترفيهية اضافة الى الاساءات الكثيرة لمعالم بغداد الشاخصة في ذاكرة ابنائها . سنوات والحال يتردى من سيء الى اسوأ ولم نشهد خروج (انيس زكي) عراقي الى الشارع هاتفاً (لازم نسـلم نفسنا) ليبرئ ذمته امام شعبه ويتطهر من فساد العوامة القابع فيه .

***

ثامر الحاج امين

في المثقف اليوم