أقلام حرة

من حرق المصاحف والمساجد في إيران؟

المجتمع الإيراني لا يقلّ تدينّا عن بقية المجتمعات الإسلاميّة، إن لم يكن في مقدمتّها. فالإسلام وعلى الرغم من فرضه عنوة على الإيرانيين من خلال إحتلال المسلمين لها إثر معركة القادسيّة وجد له مكانا رحبا فيها، وهذا ما نستدلّ عليه من خلال العدد الكبير لرجال الدين الإيرانيين السنّة عندما كانت إيران سنيّة المذهب، أو الشيعة بعد تحوّل إيران الى المذهب الشيعي في العام 1501 للميلاد، أي بعد تأسيس الدولة الصفوية. وفي التاريخ شخصيّات إسلاميّة إيرانيّة أو من أصول إيرانيّة مرموقة من المذهبين، منهم مؤسسي مذاهب إسلامية ومراجع دينيّة أثّروا ولا زالوا في الفقه والفكر الإسلامي.

على الرغم من إنهيار الحكم القاجاري بعد خلع شاه أحمد قاجار وهو آخر شاه من العائلة القاجارية على يد الشاه رضا بهلوي أواخر العام 1925 وبدأ بناء إيران الحديثة، بقي الدين الإسلامي وبالأحرى المذهب الشيعي له حضوره الكبير في المجتمع الإيراني. وكان لرجال الدين إمتيازات إستثنائية في القانون، فمثلا لم تتم محاكمة الخميني وإدانته بعد تظاهرات الخامس من حزيران سنة 1963 والمعروفة إيرانيّا بتظاهرات خرداد التي خرجت في مواجهة البرنامج الإصلاحي الذي دعا اليه الشاه محمد رضا بهلوي والذي عُرف وقتها بالثورة البيضاء الذي واجهته رفض ملّاك الأراضي وطبقة رجال الدين له، والتي قاد الخميني تظاهرات ضدّها في بعض المدن الإيرانيّة منها طهران وقم. وكمخرج لإطلاق سراحه من المعتقل خوفا من زيادة وتيرة التظاهرات وسعتها، منحت الحوزة الدينية بشخص عدد من آيات الله فيها، صفة آيت الله للخميني وإعتبرته مرجعا دينيا ما دعا السلطات لإطلاق سراحه. وهذا الأمر إن دلّ على شيء فأنّه يدل على هيمنة العامل الديني في المجتمع الإيراني وإحترام المؤسسة الدينية فيها، والذي تحسب له السلطات حسابا كبيرا.

لقد ترسّخ المفهوم الديني في إيران بشكل أكبر من أي وقت مضى، منذ تحولّها الى جمهورية اسلامية في العام 1979 لليوم. فقد صبغ الدين الحياة الإجتماعية والقوانين والمناهج التعلمية والإعلام والجيش وجميع مناحي الحياة، بل صبغ حتّى أسماء المواليد فيها، حيث أصبحت أسماء والقاب أئمة الشيعة ونسائهم وبناتهم هي الأسماء الرائجة. فعلى سبيل المثال وعلى الرغم كون الشاه كان علمانيّا الّا أنّه وليتقرّب اكثر الى الشعب الإيراني أسمى ولديه برضا وعلي رضا.

لقد حوّل النظام الإسلامي في إيران منذ وصوله للسلطة لليوم وبشكل ممنهج الدين من إيمان وعبادات وأفكار ومعتقدات وقيم، الى وسيلة لإخضاع المجتمع لسلطته الثيوقراطيّة والتي تسببّت نتيجة فرضها بالقوّة والسيطرة المطلقة للدولة ممثلّة برجال الدين، بأسلمة المجتمع وعلى الأخّص حقلي الثقافة والتعليم، بل إنتهجت سبلا في الطقوس الدينية جعلتها تخدم مصالحها المباشرة. لقد كان القرآن ونهج البلاغة والأدعية الشيعية كدعاء كميل وأدعية الصحيفة السجّادية للإمام علي بن الحسين المعروف بالسجّاد ومناسبات ولادات ووفيات الأئمة الأثني عشر عند الشيعة والمراقد والمساجد، من الأمور المحترمة والمبجلّة ومقدّسات لا يجوز المساس بها أو إهانتها مطلقا، وبقي هذا الأمر قائما بشكل واسع حتّى مقتل الشابّة الإيرانية ذات الأصول الكوردية ژينا أميني والتي يتناقل الإعلام إسمها بمهسا أميني، الذي فجّر تظاهرات في عموم إيران ضد سلطة الدين وإستبداده لأسباب كثيرة تتعلق بالمشاكل القوميّة والاوضاع الإقتصادية السيئة والتفاوت الطبقي وإزدياد نسبة الفقر والبطالة وإنعدام الحريات وغيرها الكثير، ولم يكن مقتل الشابّة الكورديّة الإيرانيّة الا شرارة أضرمت النار في الشارع الإيراني التوّاق للتحرّر من نير الدين ورجالاته. 

ليس من عادة وليّ الفقيه علي خامنائي التعليق على حادث وفاة أو مقتل متظاهرين ضد سلطته، الّا أنّه خرج هذه المرّة ونتيجة شدّة التظاهرات ليقول خلال حضوره مراسم تخرّج طلّاب الأكاديميات العسكرية في طهران، وفق موقعه الرسمي أنّ " حادثة وفاة الشابّة الإيرانيّة كانت مريرة وأحرقت قلبي. لكنّ رد الفعل دون أي تحقيق كان غير طبيعي. الرد لا يكون بأن يزعزع بعضهم الأمن في الشوارع ويحرقوا المصاحف ويخلعوا حجاب السيدات المحجبّات، ويضرموا النيران في المساجد والمصارف وسيّارات الناس"!!

لو تركنا الكلام الإنشائي لخامنائي حول قلبه الذي إحترق بمقتل الشابّة ژينا/ مهسا أميني وكأنّ نظامه ليس بقاتلها وغيرها مئات الآلاف من أبناء الشعوب الإيرانية، ولو قبلنا بحديثه حول عدم حرق المصارف وسيارات الناس ومباني الدولة والذي يجري أثناء الإضطرابات والتظاهرات في مختلف دول العالم، وكذلك خلع حجاب المحجّبات كونه تعديّا على الحريات، فإننا سنقف أمام سؤال مشروع وهو: من حرق المصاحف والمساجد ..؟

إنّ حرق المصاحف والمساجد من قبل الجماهير المنتفضة ضد سلطة رجال الدين، هذا إن كانت الجماهير هي فعلا من حرقت المصاحف وليس أجهزة النظام المخابراتية نفسها كما فعلها البعثيون في العراق ستينيات القرن الماضي، هو ردّ فعل طبيعي على الرغم من تديّن المجتمع الإيراني كما ذكرنا قبل قليل، على الحيف والقهر والإستبداد الذي جاء به الدين كأداة قمع وليس كعبادة وقيم وأخلاق كما يجب أن يكون، عن طريق السلطة الدينية وميليشياتها وأجهزتها النظامية والمخابراتية القمعية التي تتحكم بالبلاد منذ ما يربو على الأربعة عقود. أنّ وزن كل أمر في إيران بميزان الدين، جعل الدين في مرمى سهام الجماهير الإيرانيّة. فحرق المصاحف والمساجد والسلطة لا زالت بيد رجال الدين، تشير الى ما سيحدث لهما أي المصاحف والمساجد ومعهما مراقد مقدّسة عند الشيعة من أخطار حالما ينهار النظام الإسلامي. فالدولة الإسلاميّة لا تستطيع مقاومة تطلعات الناس وسعيها للحياة بشكل أفضل ممّا تعيشه اليوم، كما ولا تستطيع البقاء الى الأبد. فالإمبراطورية الفارسيّة التي حكمت مصر في وقت ما، والإمبراطورية الرومانيّة ومثلها الأمويّة والعبّاسيّة والعثمانيّة والإتحاد السوفيتي في العصر الحديث، إنهارت لظروف مختلفة،  وسلطة الدين في إيران اليوم ليست إستثناءا بالمرّة الا أنّ إنهيارها سيشعل الحسّ القومي والعلماني للإيرانيين، لكنّ هذا الحس سوف يُترجم خارج سياقاته المنطقية. فالحقد على النظام الإسلامي سوف لا يقتصر على حرق المصاحف والمساجد، بل ستحرق الجماهير وكثأر ممّا تعرضت له من ظلم وإضطهاد على يد السلطة الدينية أضرحة عديدة وتدمرّها، وعلى رأسها أضرحة قادة دينيين وهذا ما يتناقله مئات الآلاف من الإيرانيين في أحايثهم الخاصّة داخل وخارج إيران. ومن الجدير بالذكر أنّ السلطات الإيرانية ساهمت أو غضّت النظر عن نبش وتخريب قبور المئات من المعارضين لها والذين تمّ إعدامهم فترة ثمانينات القرن الماضي، وهذا ما سيدفع الجماهير هي الأخرى على الردّ بالمثل للأسف الشديد. ومن غير المستبعد ونظرا لطبيعة المجتمع الإيراني وردّة فعله على إستبداد المؤسسة الدينية، أن يكون الإسلام والتشيّع نفسهما تحت طائلة العشرات من الأسئلة المحرجة التي ستهمّش دورهما على الصعيدين الإجتماعي والرسمي.

أنّ من حرق المصاحف والمساجد في إيران هم رجال الدين أنفسهم بسياساتهم القمعية ومصادرتهم للحريّات وعدم حل المشاكل القومية بالبلاد وإفقار الملايين من أبناء الشعوب الإيرانيّة، وليس الجماهير التي تطالب بالحرية والحياة الأفضل لأبناءها في بلد يمتلك كل مقوّمات الحياة بكرامة... 

***

زكي رضا - الدنمارك

في المثقف اليوم